التفكير في الحرب هو الأصل في الاشتغال على السلام ؛ لأن الحرب تقمصت عبر الزمان والمكان ألف وجه ووجه ، فهي " الحرباء " كما وصفها البعض ، لصعوبة تحديدها أو التعرف على هويتها ؛ فهي الغائبة الحاضرة دوما حضورا كليا .
الحرب ليست ظاهرة عسكرية فحسب ، بل هناك من يراهن من خلالها على التطورات الكبرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تشكل التاريخ البشري . فلا مجال من مجالات العمل الإنساني تبدو لها غريبة. لهذا يمكن ان تعتبر " ظاهرة اجتماعية كلية " على غرار ما يصف به مارسيل موس " ظاهرة الهبة " أو إميل دوركايم " ظاهرة الانتحار " .
الحرب صاحبت الإنسانية منذ أصولها ، أنشأت الامبراطوريات وأفنتها ، أغنت الممالك وأفقرتها ، ألهمت بناء المعايير القانونية والأخلاقية والدينية ثم هدمتها. ساهمت في تطوير الفنون والتقنية أحيانا نحو الأفضل ، غير أنه في الغالب الأعم نحو الأسوأ .
إذا كان هذا هكذا ألا يمكن القول أن الحرب وثيقة الصلة بالطبيعة الإنسانية، إن كانت هناك طبيعة إنسانية فعلا ؟ فبقدر ما كان الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل Russell يدافع عن السلام ، بقدر ما رأى الجماهير سنة 1914 متحمسة للحرب ، مبتهجة بتوقعها ، مستمتعة لنشوبها ، مما رأى فيه أن في طبيعة الإنسان نزعة عدوانية تجد متنفسا لها في الحرب ، وبالتالي تقف كعائق دون إنشاء عالم موحد يعمه السلام .
لمَ الحرب إذن؟ هو ذا السؤال الذي طرحه أينشتين على فرويد، في رسالة دعاه إلى التحاور عن دوافع الحرب ومعالجتها. ونظرا لأهميتها ، ولقلة تداولها بين القراء ، عكس رد فرويد عنها ، إليكم الرسالة.
رسالة من ألبير أينشتين إلى فرويد بتاريخ 30 يونيو 1932
سيدي وصديقي العزيز
لقد غمرتني السعادة لما اقترح علي المعهد الدولي للتعاون الفكري بباريس أن أناقش بكل حرية الموضوع الذي أريده ، ومع الشخصية التي أختارها ، فكان هذا الاقتراح فرصة ثمينة للتحاور معك حول مسألة بدت لي من الأهمية بمكان ، في نظام هذه الحضارة ، وهي : هل من وسيلة لتحرير الناس من تهديد الحرب ؟
وعلى العموم ، فإننا نعترف اليوم بأن التقدم التقني قد جعل من مثل هذا السؤال مسألة حيوية بالنسبة للإنسانية المتحضرة . ومع ذلك ، فإن الجهود الحماسية التي بذلت لحل هذا المشكل قد باءت كلها ، وإلى حد الآن بالفشل الذريع .
أعتقد أنه من بين أولئك الذين انشغلوا بهذا المشكل عمليا واحترافيا ، قد ظهرت عندهم ، نتيجة الإحساس بنوع من العجز ، الرغبة في طلب المشورة بصدد هذه النقطة ، من أشخاص وضعتهم علاقتهم العادية بالعلوم في منأى عن كل مشاكل الحياة . أما فيما يتعلق بي ، فإن التوجه العادي لتفكيري ليس ممن يشعل أضواء في أعماق الإرادة والإحساس الإنسانيين ؛ لذلك ، ومن خلال الآراء التي أبديها هنا ، فإنني قلما أتصور فعل شيء أكثر من وضع المشكل ، وأن أتجنب مقدًّما كل محاولات الحلول الخارجية ، حتى أمنحك الفرصة لتوضيح المسألة من زاوية معرفتك العميقة بالحياة الغريزية للإنسان . إنني على قناعة بأنك ستدل كذلك على وسائل تربوية غريبة إلى حد ما في مسارها عن السياسة ، وستكون ذات طبيعة تزيح العوائق السيكولوجية ، بحيث يمكن للجاهل بالمادة أن يرتاب منها ، غير أن ليس في استطاعته تقدير صوابها وتنوعها.
أما بالنسبة لي ، فأنا إنسان متحرر من الأحكام الوطنية المسبقة [الشوفينية] ، وهي الواجهة الخارجية للمشكل – في هذه الحالة هي عنصر التنظيم – وتبدو لي بسيطة : تخلق الدول سلطة تشريعية وقضائية لإخماد كل الصراعات التي يمكن أن تنشب بينهم . فيلتزمون بالخضوع للقوانين التي وضعتها السلطة التشريعية، ويلتجئون إلى المحكمة في كل الحالات الخلافية، ويخضعون دون تحفظ لقراراتها، وينفذون كل الإجراءات التي رأت المحكمة ضرورتها، ضمانا لتطبيقها. ها هنا أضع أصبعي على مكمن الصعوبة الأولى: يمكن للمحكمة باعتبارها مؤسسة إنسانية أن تبدو أكثر مرونة في قراراتها أمام ضغوطات غير قانونية، وذلك لعدم توفرها على القوة الكافية لفرض أحكامها بصرامة. هذه واقعة لابد وأن تؤخذ في الحسبان: هناك رباط وثيق لا ينفصم بين الحق والقوة، وتقترب أحكام الهيئة القضائية في المجتمع من مثال العدالة؛ فالنطق بالحكم يتم باسم المجتمع وفي مصلحته، وذلك إلى الحد الذي يمكن لهذا المجتمع أن يجمع القوى الضرورية ليفرض احترام مثال عدالته. غير أننا في الوقت الراهن أبعد ما نكون عن أن نتوفر على منظمة تعلو على الدول، قادرة على منح سلطة غير قابلة للطعن لمحكمتها، وتضمن الخضوع المطلق لتنفيذ أحكامها. وإليك في نظري المبدأ الأول الذي يفرض نفسه: إن الطريق الذي يؤدي إلى الأمن الدولي يحتم على الدول أن تتخلى دون قيد أو شرط، عن جزء من حرية حركتها، وبعبارة أخرى ، أن تتخلى عن جزء من سيادتها ، ومن الأكيد الذي لا يشوبه شك هو أننا لا يمكن أن نعثر على طريق آخر نحو هذا الأمن .
إن إلقاء نظرة بسيطة على فشل جهودٍ، من الأكيد أنها كانت مخلصة ، في العشر سنوات الأخيرة ، تسمح لكل منا أن يدرك أن هناك قوى سيكولوجية شديدة تشل تلك الجهود . بعض تلك القوى تدرك بكامل السهولة؛ منها ظهور الرغبة في السلطة عند الطبقة الحاكمة في دولة ما ، فتتعارض مع الحد من حقوقها السيادية . هذا " الميل السياسي إلى السلطة " يجد زاده في أطماع فئة أخرى ، حيث يتجلى في المجهود الاقتصادي بصورة مادية. أفكر هنا خاصة في تلك الجماعة التي نجدها في كل شعب ، ورغم عددها القليل إلا أنها هي التي تقرر ، ومن النادر أن تبالي بالمنفعة العامة أو بالعوامل الاجتماعية ؛ وهي تتكون من أفراد لا تمثل الحرب وصناعة الأسلحة والاتجار فيها شيئا آخر سوى مناسبة للحصول على الامتيازات الخاصة ، وتوسيع مجال نفوذهم الشخصي.
ليست هذه الملاحظة البسيطة سوى الخطوة الأولى على درب معرفة الظروف . هناك سؤال يفرض نفسه في الحين : كيف حدث أن تمكنت هذه الأقلية من أن تسخر من أجل جشعها السواد الأعظم من الشعب الذي لا يجني من الحرب سوى الألم والفقر ؟ ( عندما أتحدث عن السواد الأعظم من الشعب ، لم تكن لدي نية لاستبعاد أولئك الجنود من جميع الرتب ، الذين جعلوا من الحرب مهنة ، بقناعة السعي من أجل الدفاع عن المصالح الثمينة لشعبهم ، وبفكرة أن أفضل وسيلة للدفاع أحيانا هي الهجوم ) . ها هو ، في نظري أول جواب يفرض نفسه : هذه الأقلية الحاكمة الآن ، تضع تحت يدها المدرسة والصحافة ويكاد يكون دائما الجمعيات الدينية . فبهذه الوسائل تهيمن وتوجه مشاعر السواد الأعظم من الشعب حيث تجعل منها أداتها العمياء .
بيد أن هذه الإجابة لم تفسر بعدُ تسلسل العوامل الحاضرة ، مما يفرض طرح تساؤل آخر : كيف يمكن للجماهير ، وبالوسائل التي أتينا على ذكرها ، أن تنقاد حماسة إلى درجة الجنون والتضحية ؟ لا أرى من جواب سوى هذا : يوجد في الإنسان حاجة للحقد والهدم . ويوجد هذا الاستعداد في الأيام العادية في حالة كمون ، ولا يظهر إلا في الفترات غير العادية . إلا انه يمكن أن يستيقظ بكامل السهولة ويتحول إلى دُهان جماعي . ها هنا يكمن الإشكال الأساسي والسري لهذه المجموعة من العوامل . هذه هي النقطة التي يمكن للعارف الكبير بالغرائز الإنسانية وحده أن يسلط الضوء عليها .
هكذا نصل إلى السؤال الأخير : هل من إمكانية لتوجيه نمو الجهاز النفسي للإنسان بصورة تجعله أكثر تسلحا ضد دهان الكراهية والدمار ؟ وحاشى أن يتجه فكري هنا فقط إلى الذين غير متعلمين . لقد تمكنت من الاختبار بنفسي أن من يُسمًوْن "بالنخبةّ " هي بالأحرى من تجد نفسها بسهولة فريسة للأفكار الجماعية الهدامة ، إذ لم تتعود على أن تنهل من معين الحياة المعيشية ، وإنما من المطبوعات والمنشورات ، فتنقاد وراءها بيسر وسهولة .
ولكي أنتهي ، هناك شيء آخر : لم أتحدث إلى الآن إلا عن الحرب بين الدول ، بعبارة أخرى عن الصراعات التي يطلق عليها دولية . لا أجهل أن العدوان البشري يظهر أيضا بصور أخرى ، وفي ظروف أخرى ( مثلا الحرب الأهلية التي كانت في الماضي بسبب دوافع دينية ، وهي اليوم بدوافع اجتماعية – كذلك اضطهاد الأقليات .. ) . بيد أني تعمدت إبراز شكل الصراع الأكثر شرارة في المجتمعات البشرية ،إذ انطلاقا من هذا الشكل ، سنكتشف أسهل الطرق لمنع نشوب الصراعات المسلحة .
أعرف أنك قد أجبت في أعمالك إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن الأسئلة التي تمس هذا المشكل الذي يهمنا وباستعجال . لكن ستكون الفائدة أكبر عندما نراك تحلل مشكل السلام العالمي على ضوء أبحاثك الجديدة ، إذ من الممكن ان يكون مثل هذا العرض مصدر جهود مثمرة .
مع خالص الشكر
أ. أينشتين
تقديم وترجمة: محمد بوتنبات
الحرب ليست ظاهرة عسكرية فحسب ، بل هناك من يراهن من خلالها على التطورات الكبرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تشكل التاريخ البشري . فلا مجال من مجالات العمل الإنساني تبدو لها غريبة. لهذا يمكن ان تعتبر " ظاهرة اجتماعية كلية " على غرار ما يصف به مارسيل موس " ظاهرة الهبة " أو إميل دوركايم " ظاهرة الانتحار " .
الحرب صاحبت الإنسانية منذ أصولها ، أنشأت الامبراطوريات وأفنتها ، أغنت الممالك وأفقرتها ، ألهمت بناء المعايير القانونية والأخلاقية والدينية ثم هدمتها. ساهمت في تطوير الفنون والتقنية أحيانا نحو الأفضل ، غير أنه في الغالب الأعم نحو الأسوأ .
إذا كان هذا هكذا ألا يمكن القول أن الحرب وثيقة الصلة بالطبيعة الإنسانية، إن كانت هناك طبيعة إنسانية فعلا ؟ فبقدر ما كان الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل Russell يدافع عن السلام ، بقدر ما رأى الجماهير سنة 1914 متحمسة للحرب ، مبتهجة بتوقعها ، مستمتعة لنشوبها ، مما رأى فيه أن في طبيعة الإنسان نزعة عدوانية تجد متنفسا لها في الحرب ، وبالتالي تقف كعائق دون إنشاء عالم موحد يعمه السلام .
لمَ الحرب إذن؟ هو ذا السؤال الذي طرحه أينشتين على فرويد، في رسالة دعاه إلى التحاور عن دوافع الحرب ومعالجتها. ونظرا لأهميتها ، ولقلة تداولها بين القراء ، عكس رد فرويد عنها ، إليكم الرسالة.
رسالة من ألبير أينشتين إلى فرويد بتاريخ 30 يونيو 1932
سيدي وصديقي العزيز
لقد غمرتني السعادة لما اقترح علي المعهد الدولي للتعاون الفكري بباريس أن أناقش بكل حرية الموضوع الذي أريده ، ومع الشخصية التي أختارها ، فكان هذا الاقتراح فرصة ثمينة للتحاور معك حول مسألة بدت لي من الأهمية بمكان ، في نظام هذه الحضارة ، وهي : هل من وسيلة لتحرير الناس من تهديد الحرب ؟
وعلى العموم ، فإننا نعترف اليوم بأن التقدم التقني قد جعل من مثل هذا السؤال مسألة حيوية بالنسبة للإنسانية المتحضرة . ومع ذلك ، فإن الجهود الحماسية التي بذلت لحل هذا المشكل قد باءت كلها ، وإلى حد الآن بالفشل الذريع .
أعتقد أنه من بين أولئك الذين انشغلوا بهذا المشكل عمليا واحترافيا ، قد ظهرت عندهم ، نتيجة الإحساس بنوع من العجز ، الرغبة في طلب المشورة بصدد هذه النقطة ، من أشخاص وضعتهم علاقتهم العادية بالعلوم في منأى عن كل مشاكل الحياة . أما فيما يتعلق بي ، فإن التوجه العادي لتفكيري ليس ممن يشعل أضواء في أعماق الإرادة والإحساس الإنسانيين ؛ لذلك ، ومن خلال الآراء التي أبديها هنا ، فإنني قلما أتصور فعل شيء أكثر من وضع المشكل ، وأن أتجنب مقدًّما كل محاولات الحلول الخارجية ، حتى أمنحك الفرصة لتوضيح المسألة من زاوية معرفتك العميقة بالحياة الغريزية للإنسان . إنني على قناعة بأنك ستدل كذلك على وسائل تربوية غريبة إلى حد ما في مسارها عن السياسة ، وستكون ذات طبيعة تزيح العوائق السيكولوجية ، بحيث يمكن للجاهل بالمادة أن يرتاب منها ، غير أن ليس في استطاعته تقدير صوابها وتنوعها.
أما بالنسبة لي ، فأنا إنسان متحرر من الأحكام الوطنية المسبقة [الشوفينية] ، وهي الواجهة الخارجية للمشكل – في هذه الحالة هي عنصر التنظيم – وتبدو لي بسيطة : تخلق الدول سلطة تشريعية وقضائية لإخماد كل الصراعات التي يمكن أن تنشب بينهم . فيلتزمون بالخضوع للقوانين التي وضعتها السلطة التشريعية، ويلتجئون إلى المحكمة في كل الحالات الخلافية، ويخضعون دون تحفظ لقراراتها، وينفذون كل الإجراءات التي رأت المحكمة ضرورتها، ضمانا لتطبيقها. ها هنا أضع أصبعي على مكمن الصعوبة الأولى: يمكن للمحكمة باعتبارها مؤسسة إنسانية أن تبدو أكثر مرونة في قراراتها أمام ضغوطات غير قانونية، وذلك لعدم توفرها على القوة الكافية لفرض أحكامها بصرامة. هذه واقعة لابد وأن تؤخذ في الحسبان: هناك رباط وثيق لا ينفصم بين الحق والقوة، وتقترب أحكام الهيئة القضائية في المجتمع من مثال العدالة؛ فالنطق بالحكم يتم باسم المجتمع وفي مصلحته، وذلك إلى الحد الذي يمكن لهذا المجتمع أن يجمع القوى الضرورية ليفرض احترام مثال عدالته. غير أننا في الوقت الراهن أبعد ما نكون عن أن نتوفر على منظمة تعلو على الدول، قادرة على منح سلطة غير قابلة للطعن لمحكمتها، وتضمن الخضوع المطلق لتنفيذ أحكامها. وإليك في نظري المبدأ الأول الذي يفرض نفسه: إن الطريق الذي يؤدي إلى الأمن الدولي يحتم على الدول أن تتخلى دون قيد أو شرط، عن جزء من حرية حركتها، وبعبارة أخرى ، أن تتخلى عن جزء من سيادتها ، ومن الأكيد الذي لا يشوبه شك هو أننا لا يمكن أن نعثر على طريق آخر نحو هذا الأمن .
إن إلقاء نظرة بسيطة على فشل جهودٍ، من الأكيد أنها كانت مخلصة ، في العشر سنوات الأخيرة ، تسمح لكل منا أن يدرك أن هناك قوى سيكولوجية شديدة تشل تلك الجهود . بعض تلك القوى تدرك بكامل السهولة؛ منها ظهور الرغبة في السلطة عند الطبقة الحاكمة في دولة ما ، فتتعارض مع الحد من حقوقها السيادية . هذا " الميل السياسي إلى السلطة " يجد زاده في أطماع فئة أخرى ، حيث يتجلى في المجهود الاقتصادي بصورة مادية. أفكر هنا خاصة في تلك الجماعة التي نجدها في كل شعب ، ورغم عددها القليل إلا أنها هي التي تقرر ، ومن النادر أن تبالي بالمنفعة العامة أو بالعوامل الاجتماعية ؛ وهي تتكون من أفراد لا تمثل الحرب وصناعة الأسلحة والاتجار فيها شيئا آخر سوى مناسبة للحصول على الامتيازات الخاصة ، وتوسيع مجال نفوذهم الشخصي.
ليست هذه الملاحظة البسيطة سوى الخطوة الأولى على درب معرفة الظروف . هناك سؤال يفرض نفسه في الحين : كيف حدث أن تمكنت هذه الأقلية من أن تسخر من أجل جشعها السواد الأعظم من الشعب الذي لا يجني من الحرب سوى الألم والفقر ؟ ( عندما أتحدث عن السواد الأعظم من الشعب ، لم تكن لدي نية لاستبعاد أولئك الجنود من جميع الرتب ، الذين جعلوا من الحرب مهنة ، بقناعة السعي من أجل الدفاع عن المصالح الثمينة لشعبهم ، وبفكرة أن أفضل وسيلة للدفاع أحيانا هي الهجوم ) . ها هو ، في نظري أول جواب يفرض نفسه : هذه الأقلية الحاكمة الآن ، تضع تحت يدها المدرسة والصحافة ويكاد يكون دائما الجمعيات الدينية . فبهذه الوسائل تهيمن وتوجه مشاعر السواد الأعظم من الشعب حيث تجعل منها أداتها العمياء .
بيد أن هذه الإجابة لم تفسر بعدُ تسلسل العوامل الحاضرة ، مما يفرض طرح تساؤل آخر : كيف يمكن للجماهير ، وبالوسائل التي أتينا على ذكرها ، أن تنقاد حماسة إلى درجة الجنون والتضحية ؟ لا أرى من جواب سوى هذا : يوجد في الإنسان حاجة للحقد والهدم . ويوجد هذا الاستعداد في الأيام العادية في حالة كمون ، ولا يظهر إلا في الفترات غير العادية . إلا انه يمكن أن يستيقظ بكامل السهولة ويتحول إلى دُهان جماعي . ها هنا يكمن الإشكال الأساسي والسري لهذه المجموعة من العوامل . هذه هي النقطة التي يمكن للعارف الكبير بالغرائز الإنسانية وحده أن يسلط الضوء عليها .
هكذا نصل إلى السؤال الأخير : هل من إمكانية لتوجيه نمو الجهاز النفسي للإنسان بصورة تجعله أكثر تسلحا ضد دهان الكراهية والدمار ؟ وحاشى أن يتجه فكري هنا فقط إلى الذين غير متعلمين . لقد تمكنت من الاختبار بنفسي أن من يُسمًوْن "بالنخبةّ " هي بالأحرى من تجد نفسها بسهولة فريسة للأفكار الجماعية الهدامة ، إذ لم تتعود على أن تنهل من معين الحياة المعيشية ، وإنما من المطبوعات والمنشورات ، فتنقاد وراءها بيسر وسهولة .
ولكي أنتهي ، هناك شيء آخر : لم أتحدث إلى الآن إلا عن الحرب بين الدول ، بعبارة أخرى عن الصراعات التي يطلق عليها دولية . لا أجهل أن العدوان البشري يظهر أيضا بصور أخرى ، وفي ظروف أخرى ( مثلا الحرب الأهلية التي كانت في الماضي بسبب دوافع دينية ، وهي اليوم بدوافع اجتماعية – كذلك اضطهاد الأقليات .. ) . بيد أني تعمدت إبراز شكل الصراع الأكثر شرارة في المجتمعات البشرية ،إذ انطلاقا من هذا الشكل ، سنكتشف أسهل الطرق لمنع نشوب الصراعات المسلحة .
أعرف أنك قد أجبت في أعمالك إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن الأسئلة التي تمس هذا المشكل الذي يهمنا وباستعجال . لكن ستكون الفائدة أكبر عندما نراك تحلل مشكل السلام العالمي على ضوء أبحاثك الجديدة ، إذ من الممكن ان يكون مثل هذا العرض مصدر جهود مثمرة .
مع خالص الشكر
أ. أينشتين
تقديم وترجمة: محمد بوتنبات