في مثل هذا اليوم من عام 1965، نفّذت إحدى أكبر الجرائم في تاريخ المغرب الحديث: خطف المهدي بن بركة أمام "براسري ليب" في باريس. أكثر من نصف قرن مرت ومصير الجثة مازال مجهولا. أربعة وخمسون عاما ولا جديد: المناسبة صارت تشبه "عيدا وطنيا" باهتا، بعد أن تخلى الرفاق عن القضية، وقلبوا المعاطف وغيروا العواطف، وقايضوا المبادئ بالكراسي والحقائب، وضاعوا في دروب السياسة الضيقة… المهدي أصبح مجرد شارع في الرباط، وساحة في باريس، وصورة على صفحات الجرائد ومقرات الحزب، و"براسري ليب" تحولت الى معلمة سياحية، يضعها المغاربة في برنامج زيارتهم عندما يذهبون الى عاصمة الأنوار، جنبا لجنب مع "لاتور ايفل" و"ديزني لاند" وساكري كور" و"نوتردام"… يلتقطون الصور بالقرب منها وهم يبتسمون. هذا كل ما تبقى من "الاختيار الثوري". وقريبا سيأتي يوم تسأل فيه الشباب عن المهدي بن بركة فيقولون لك انه شارع في حي الرياض أو مركب ثقافي في حي المحيط، والأكثر اطلاعا سيشرح لك انها ساحة صغيرة في سان-جيرمان-دي-بري، تحاذي ساحة جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار… لا أحد سيتذكر أن الرجل، قبل كل شيء، جثة بلا قبر وجريمة بلا عقاب !
لم يتاجر السماسرة والسياسيون والمشعوذون والحقراء في جثة مثلما تاجروا بجثمان المهدي بن بركة. على امتداد هذه العقود الطويلة، كان كل مرة يخرج دجال كي "يكشف عن مصير الجثة": ذوبوها في حوض الأسيد، طمروها في الإسمنت المسلح، دفنوها في فيلا بضواحي باريس، حرقوا الجسد ولفوا الراس في ورق الألومنيوم… دون الحديث عمن ظلوا يرفعون صوره في التجمعات الانتخابية، وبمجرد وصولهم إلى السلطة، رموها مع المتلاشيات.
وإذا كان أقسى ما يمكن ان يتعرض له الشهيد هو ان يتحول الى ميت تبكيه أسرته الصغيرة فحسب، فإن أكبر جريمة ارتكبت في حق بن بركة، بعد الاختطاف، هي التخلي عنه من طرف رفاقه. كثيرون اعتقدوا ان وصول عبد الرحمان اليوسفي الى السلطة، نهاية القرن الماضي، سيفك اللغز ويكشف المستور، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، رغم محاولات القضاء الفرنسي اعادة فتح التحقيق، ورغم ان وزارة العدل كانت لمدة طويلة بيد الاتحاديين. بل ان عبد الواحد الراضي، حين كان وزيرا للعدل قبل عشر سنوات، بذل جهدًا جبارا كي يعرقل المذكرة التي اصدرها قاضي التحقيق الفرنسي پاتريك راماييل للاستماع الى بعض الأطراف المعنية بالقضية. اليوسفي وأصحابه لم يفعلوا شيئًا للكشف عن مصير رفيقهم القديم، ايّام كان في يدهم القرار السياسي، وعندما تقاعدوا خلدوا الذكرى الخمسين لاختفائه، على سبيل إراحة الضمير، هذا ما سيذكره التاريخ !
لن أنسى نقاشا قديما مع أحد الوزراء الاتحاديين، الذين وصلوا الى الحكومة بضربة حظ مجنونة عام 1998. استضفناه وقتها في لقاء تنظمه "الشبيبة الاتحادية"، أيام كان هناك "حزب" و"شبيبة"، وبعد ان ألقى عرضه، جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وكم كانت صدمتنا كبيرة عندما سمعناه يعبر عن استغرابه، لأن جيلنا "ما زال يتغنى بمارسيل خليفة والشيخ إمام"، قبل ان يضيف انه "من غير المعقول ان تظل صور بنبركة وبنجلون تتصدر لقاءات الحزب بعدما اصبح يسيّر الشأن العام"، وأوصانا بالانفتاح "على شرائح اجتماعية جديدة، خصوصا منهم الشباب الذين يدرسون في ديكارت وليوطي"… رغم ان الكلام صعقنا فقد ضحكنا من الوزير الذي سقط في غرام ديكارت وليوطي رغم فرنسيته الرقيعة، حتى انه اضطر لأخذ دروس مكثفة بعد تعيينه وزيرا، لاتقان حد ادنى من لغة موليير، يجنبه بعض المواقف الحرجة اثناء تأدية مهامه!
بعد عشرين سنة تحقق مخطط الوزير المتسلق: كُنست صور بن بركة وبنجلون ودهكون وگرينة من مقرات حزب القوات الشعبية، ولم نعد نسمع أغاني مارسيل خليفة والشيخ امام وسعيد المغربي وصلاح الطويل في مؤتمرات "الاتحاد"، حلت مكانها أغاني "البيگ الخاسر"… وخسر الحزب كل شيء: تاريخه وشهداءه وهويته ومبادئه وحاضره ومستقبله!
عندما تفجرت قضية المهدي بن بركة عام 1965، كتب اليساري الفرنسي دانيال غيران: "هذا الميت سيعيش طويلا، هذا الميت ستكون له الكلمة الاخيرة". الشق الاول من النبوءة تحقق تقريبا: بنبركة مازال حيا، في الوقت الذي مات فيه كل مجايليه من الوطنيين والسياسيين والتقدميين والرجعيين والأمنيين والرفاق والمخبرين والمناضلين والجلادين… والشطر الثاني من النبوءة سيتحقق آجلا ام عاجلا، لان رسالة بنبركة مازالت تتناقلها الأجيال، إلى أن تسمع البلاد "كلمته الاخيرة". في انتظار ذلك سنظل نردد مع الشاعر الرائع عبد الرفيع جواهري هذه الأبيات الرفيعة:
السلام على قامةٍ ما انحنتْ
عندما ركعتْ جوقةُ الراكعينْ
السلامُ على صرخة علّمتْ قولَ "لا"
أمَّة الرافضين
السلام على جمرةٍ
ما نزال على نارها قابضينْ
السلام على فكرة لاتزال إذا ذُكِرتْ
تُفزِع الحاقدينْ
ما طوينا الكتابْ
صفحةً، صفحةً
لا نزال لها حافظينْ
ما طوينا الكتابْ
كيف نطوي دماً
لا نزال على هدره شاهدينْ؟
دمُه بيننا
كيف ننسى دماً
كيف ننسى دم الرائعينْ؟
ما طوينا الكتاب
والسطور دمٌ
خَطَّها خنجرُ الغادرين!
جمال بودومة
صحفي وكاتب عربي من المغرب
لم يتاجر السماسرة والسياسيون والمشعوذون والحقراء في جثة مثلما تاجروا بجثمان المهدي بن بركة. على امتداد هذه العقود الطويلة، كان كل مرة يخرج دجال كي "يكشف عن مصير الجثة": ذوبوها في حوض الأسيد، طمروها في الإسمنت المسلح، دفنوها في فيلا بضواحي باريس، حرقوا الجسد ولفوا الراس في ورق الألومنيوم… دون الحديث عمن ظلوا يرفعون صوره في التجمعات الانتخابية، وبمجرد وصولهم إلى السلطة، رموها مع المتلاشيات.
وإذا كان أقسى ما يمكن ان يتعرض له الشهيد هو ان يتحول الى ميت تبكيه أسرته الصغيرة فحسب، فإن أكبر جريمة ارتكبت في حق بن بركة، بعد الاختطاف، هي التخلي عنه من طرف رفاقه. كثيرون اعتقدوا ان وصول عبد الرحمان اليوسفي الى السلطة، نهاية القرن الماضي، سيفك اللغز ويكشف المستور، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، رغم محاولات القضاء الفرنسي اعادة فتح التحقيق، ورغم ان وزارة العدل كانت لمدة طويلة بيد الاتحاديين. بل ان عبد الواحد الراضي، حين كان وزيرا للعدل قبل عشر سنوات، بذل جهدًا جبارا كي يعرقل المذكرة التي اصدرها قاضي التحقيق الفرنسي پاتريك راماييل للاستماع الى بعض الأطراف المعنية بالقضية. اليوسفي وأصحابه لم يفعلوا شيئًا للكشف عن مصير رفيقهم القديم، ايّام كان في يدهم القرار السياسي، وعندما تقاعدوا خلدوا الذكرى الخمسين لاختفائه، على سبيل إراحة الضمير، هذا ما سيذكره التاريخ !
لن أنسى نقاشا قديما مع أحد الوزراء الاتحاديين، الذين وصلوا الى الحكومة بضربة حظ مجنونة عام 1998. استضفناه وقتها في لقاء تنظمه "الشبيبة الاتحادية"، أيام كان هناك "حزب" و"شبيبة"، وبعد ان ألقى عرضه، جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وكم كانت صدمتنا كبيرة عندما سمعناه يعبر عن استغرابه، لأن جيلنا "ما زال يتغنى بمارسيل خليفة والشيخ إمام"، قبل ان يضيف انه "من غير المعقول ان تظل صور بنبركة وبنجلون تتصدر لقاءات الحزب بعدما اصبح يسيّر الشأن العام"، وأوصانا بالانفتاح "على شرائح اجتماعية جديدة، خصوصا منهم الشباب الذين يدرسون في ديكارت وليوطي"… رغم ان الكلام صعقنا فقد ضحكنا من الوزير الذي سقط في غرام ديكارت وليوطي رغم فرنسيته الرقيعة، حتى انه اضطر لأخذ دروس مكثفة بعد تعيينه وزيرا، لاتقان حد ادنى من لغة موليير، يجنبه بعض المواقف الحرجة اثناء تأدية مهامه!
بعد عشرين سنة تحقق مخطط الوزير المتسلق: كُنست صور بن بركة وبنجلون ودهكون وگرينة من مقرات حزب القوات الشعبية، ولم نعد نسمع أغاني مارسيل خليفة والشيخ امام وسعيد المغربي وصلاح الطويل في مؤتمرات "الاتحاد"، حلت مكانها أغاني "البيگ الخاسر"… وخسر الحزب كل شيء: تاريخه وشهداءه وهويته ومبادئه وحاضره ومستقبله!
عندما تفجرت قضية المهدي بن بركة عام 1965، كتب اليساري الفرنسي دانيال غيران: "هذا الميت سيعيش طويلا، هذا الميت ستكون له الكلمة الاخيرة". الشق الاول من النبوءة تحقق تقريبا: بنبركة مازال حيا، في الوقت الذي مات فيه كل مجايليه من الوطنيين والسياسيين والتقدميين والرجعيين والأمنيين والرفاق والمخبرين والمناضلين والجلادين… والشطر الثاني من النبوءة سيتحقق آجلا ام عاجلا، لان رسالة بنبركة مازالت تتناقلها الأجيال، إلى أن تسمع البلاد "كلمته الاخيرة". في انتظار ذلك سنظل نردد مع الشاعر الرائع عبد الرفيع جواهري هذه الأبيات الرفيعة:
السلام على قامةٍ ما انحنتْ
عندما ركعتْ جوقةُ الراكعينْ
السلامُ على صرخة علّمتْ قولَ "لا"
أمَّة الرافضين
السلام على جمرةٍ
ما نزال على نارها قابضينْ
السلام على فكرة لاتزال إذا ذُكِرتْ
تُفزِع الحاقدينْ
ما طوينا الكتابْ
صفحةً، صفحةً
لا نزال لها حافظينْ
ما طوينا الكتابْ
كيف نطوي دماً
لا نزال على هدره شاهدينْ؟
دمُه بيننا
كيف ننسى دماً
كيف ننسى دم الرائعينْ؟
ما طوينا الكتاب
والسطور دمٌ
خَطَّها خنجرُ الغادرين!
جمال بودومة
صحفي وكاتب عربي من المغرب