عبد السلام الزغيبي - لا تذم ولا تشكر إلا بعد سنة وست أشهر

نقابل أشخاصا للمرة الأولى ونضع فيهم ثقتنا، ونكيل لهم المديح والإطناب، ثم مع مرور الزمن نكتشف أننا وضعنا ثقتنا في غير محلها، بعد أن ظهرت لنا شخصيتهم الحقيقية، وتكون الصدمة الكبرى.

هناك أمثال وحكم ومقولات كثيرة تحدثت عن معرفتنا بالأشخاص ومدى قربنا منهم، وتختلف مقاييس معرفة الأشخاص وتحديد طباعهم حسب أهواء ومعتقدات كل فرد منا، وأحيانا مدى احتياجنا الشخصي لوجوده في حياتنا، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، ولا يستطيع أن يحيا بمفرده.

في علم النفس، هناك شيء اسمه قاعدة الانطباع الأول، بمعنى لو رأيت أحدا في مناسبة حزينة ستكون تصرفاته كئيبة، وهو في حقيقة الأمر غير ذلك، ومن الممكن أيضا أن تراه فرحان في مناسبة سعيدة وهو في حقيقة الأمر أيضا عكس ذلك، مؤكدة أن الانطباع الحقيقي يأتي بالمعاشرة، لأن العشرة والتعايش في جميع المواقف هما ما يوضحان شخصية الإنسان الحقيقية، مثل متى يغضب ومتى يثور، وهل هو بخيل أم كريم، صادق أم كاذب.

مع الأيام والتعايش تتضح أمور كثيرة لا يدركها التعامل السطحي أبدا، لأن الأصل بين الناس هو التعارف والتعامل وحسن النية إلى أن يثبت العكس، ولا يجب أن نتوقع سوء النية في بداية التعامل مع الأشخاص. حتى لو كان هذا الشخص يعيش بشخصية أخرى وبعد سنوات نكتشف صفاته الحقيقية؟ وعلى رأي المثل: عرفت فلان؟ آه.. عاشرته؟ رافقته.. لأ.. هذا يعني أنك لم تعرفه جيدا.

تحديد معدن الشخص لا يظهر أبدا مهما كان كريما واجتماعيا إلا إذا تعامل مع الأقل منه، مثل العامل البسيط، البائع في محل، النادل في المقهى، لو تعامل معهم بود وأدب واحترام فهو بنسبة كبيرة جدا جدير بالثقة، ونستطيع أن نعرفه أكثر من خلال المواقف الحياتية اليومية، إذا كنا نتعامل معه بشكل دوري ومتكرر.

يقول ابن قتيبة في عيون الأخبار: حدثني أبو حاتم، عن الأصمعي، عن العمري قال: قال رجل لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إن فلانا رجل صدق، قال: سافرت معه؟ قال لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا، قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد

في لسان العرب: «لا تهرف بما لا تعرف»، قال الميداني: «الهرف» الإطناب في المدح. يضرب لمن يتعدى في مدح الشيء قبل تمام معرفتهز

والهرف: مجاوزة القدر في الثناء والمدح والإطناب في ذلك، حتى كأنه يهدر. وفي الحديث: أن رفقة جاءت وهم يهرفون بصاحب لهم ويقولون: ما رأينا يا رسول الله مثل فلان، ما سرنا إلا كان في قراءة ولا نزلنا إلا كان في صلاة؛ قال أبو عبيد: يهرفون به أي يمدحونه ويطنبون في الثناء عليه. وفي المثل: لا تهرف بما لا تعرف، وفي رواية: قبل أن تعرف، أي لا تمدح قبل التجربة، وهو أن تذكره في كلامك ولا يكون ذلك إلا في حمد وثناء.

ويقول ابن مسعود، رضي الله عنه: «لا تعجلوا بمدح الناس ولا بذمهم، فلعل ما يسركم منهم اليوم يسوؤكم غدا». إذن؛ لا تستعجل في مدح أو ذم أي إنسان، ولنترك الفرصة للأيام، ولمزيد من المواقف كي نتخذ قرار المدح أو الذم والحكم على ظاهر الأمور، وهو يضرب فيمن يتسرع بالمدح قبل التجربة.

طالعت لبعض الوقت الكثير من الأمثلة العربية الشعبية في كتب متفرقة، فوجدت الكثير من التشابه بينها، وهي أمثال شعبية تعكس التراث الشعبي وتعكس أيضا ثقافة مجتمعاتنا.

هناك مثل مصري شهير يقول «لا تذم ولا تشكر إلا بعد سنة وست أشهر» أي: لا تذم ولا تمدح إلا بعد سنة وستة أشهر؛ أي: إلا بعد تجربة زمنية محددة، وهو مثل اعتدنا سماعه ويعبر عن الشخص الذى يتسرع فى إصدار أحكامه على البشر منذ الوهلة الأولى، ومع إن الانطباع الأول يدوم -كما يقال- إلا أنه بالتأكيد ليس نهاية المطاف.

ويقول المثل الشعبي الليبي «اللي تشكره عقبله شوي من القريضة»، أو «المشكور مذموم، واللى تشكره عقبله قرعته من القريضة».. و«اللي تشكره يصعب عليك ادمه».

المعنى أنك حين تكثر من الشكر والمدح والثناء على شخص ما، حاول أن تترك شيئا بسيطا، تركنه لتذمه إن لزم الأمر. وهذا معنى «عقبله قرعته» والقريضة هي الذم.


ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...