طه جعفر - الزيارة..

مكانه يطرح مفارقة جارحة في ذهنك عندما تراه لأول مرة، المكان بناء من طوابق ثلاث مبنية بالطوب الأحمر، الأبواب الخشبية للمبني ضخمة و عظيمة التفاصيل لكل باب خشبي داخلي توأم من حديد سميك علي الجزء الخارجي للباب، الأعمدة الحديدية الأسطوانية ، عوارض الثبيت المستطيلة في الأعلي و في الوسط بالضبط و بالأسفل حازمة و قوية الملامح.النوافذ شامخة العلو الجزء الأسفل من النافذة مستطيل و الجزء الأعلي قوس برأس حاد. سمك الحائط المبني من الطوب موزون الحواف ترك للمصمم فرصة إضافة شباك حديدي يمسك بالنمليات و شباك زجاجي و ثالث خشبي يفتح صوب الداخل كما تتوسط جسم النافذة أعمدة حديدية اسطوانية الشكل أصغر قليلا من تلك التي علي أبواب المداخل الخارجية بعوارض التثبيت المستطيلة في الاعلي ، الوسط و الاسفل. للبناء أربعة مداخل مدخل جنوبي ، مدخل غربي، مدخل شمالي و مدخل شرقي. معمار البناءالعام خليط بين معمار مكتبة جامعة الخرطوم و مسجد فاروق. في الطابق الأسفل للمبني أبهية وغرف أبوابها مشرعة علي بهو داخلي أكثر إتساعا و رحابة. يتسوط هذا المبني فناءً تنتشر فيه الأشجار و المربعات الخضراء بعشب محتجز بحواف أسمنتية قصيرة و راسخة،علي جانبي كل ممر أعمدة إضاءة حديدية بحوامل مصابيح نحاسية تغير لونها بفعل الشمس و المطر فضرب سواد لونها نحو حمرة قاتمة. التصميم إجمالا دقيق التفاصيل و شديد البذخ.
يمتليء الفناء الخارجي في ليالي الصيف بالذاكرين و في الشتاء يؤمون الأبهاء الداخلية للطابق الاسفل. يكون الشيخ عادة في أحد هذه الأبهاء الداخلية بنوافذها العالية و أعمدتها المستديرة العاتية، يجلس الشيخ و أحيانا يتمدد علي فرش (عنقريب) بسيط و هو نفس الفرش الذي سيحمل عليه إلي المقبرة المجاورة. العنقريب جوار نافذة تتراص في قبالته من كل جانب أطقم الجلوس القديمة بكراسيها الخشبية و وسائدها القطنية ، الأثاثات جميعها ملتصقة بالحوائط الداخلية لهذا الجزء من البهو مما ترك مساحة واسعة في الوسط تغطيها قطع السجاد العجمي و فرشات الصوف بالوانها الاشقر ، البني و الاسود مفارش من صوف الاغنام و وبر الجمال و تبروقات من السعف الدقيق و فروات من جلود الثيران و الخراف، علي الحوائط صور مكبرة واحدة للمسجد النبوي و أخري للحرم المكي و خمسة لوحات زيتية كبيرة في كل واحدة رسم لقبة عرفت منها قبة الشيخ ادريس ود الارباب بالعيلفون و رسم بالوان الماء لمسجد السيد الحسن اب جلابية في جبل التاكا بكسلا.
كنت عندما حياني هذا الشاب مشغولا بإبتلاع تفاصيل المبني و الفناء الخارجي و كانت بعيوني ألوان الطوب منطفئة الحمرة و خضرة العشب الريانة، في أذني حفيف الأشجار و هي تنعصف للريح بطواعية شديدة الغنج بأنفي خليط من رائحة بخور اللبان و رائحة مفارش الصوف، سألني الشاب هل أنت فلان؟ فقلت له نعم ، لم اشأ أنْ أسأله من أنت و إكتفيت بترديد التحية معه كما هو مطلوب و أكثر. بدأ الشاب بالكلام قائلا كأننا التقينا، ثم قال \" انا خريج هندسة كهرباء من جامعة الخرطوم و أعمل الآن إداريا صغيرًا في جامعة القاهرة فرع الخرطوم و أذكر إنني رأيت شبابا يشبهونك في الجامعة \". لم أهتم كثيرًا و اكتفيت بكلمات المجاملة الواجبة فقط ثم قال الشاب \" سنعمل معاً و أستطرد بالقول في الآونة الأخيرة ظهرت بعض المثالب من حضور جلسات الذكر فاقتنع أفراد أسرة ابونا الشيخ بإكتراء موظفين يقومون بتنظيم تلك الأماسي و في الأيام العادية يقومون بمهام يكلفهم بها الشيخ، انت و انا سنكون هذين الموظفين\". تواصل بيننا حديث رتيب و كنت وقتها افكر فقط في كيف سينقضي هذا الزمن ثم اعود الي بيتي و اسرتي . علي نحو وقت غروب الشمس خرج الشيخ من الداخل الي مكان من الفناء الخارجي هو في الحقيقة جزء من مربع عشبي مفارش الصلاة و خطوات المصلين حولته الي مربع من تراب صلب و خشن. دعانا الشيخ للاقتراب فجلسنا كما جلس الآخرون. كان الشيخ في اثواب بيضاء، توب ، عراقي خفيف وسروال، التوب يلتف علي أعلي جسده و علي رأسه طاقية بيضاء من قماش قطني ليست بها اي نقوش، الشيح نحيل و طويل القامة، حليق الشارب و اللحية في عينيه بريق المثابرة و علي جبينه نور الصبر ، خفة حركته و وضوح صوته تعطيانك إحساسا بمجد عريق، كلماته محدودة و موجهة مباشرة لموضوع الحديث. أثناء جلوسي لاحظت وجود تمساحين من البلاستيك في مكان ما بجوار إبريق الوضوء الذي وضع ليحتجز الفضاء بين الشيخ و اتجاه الشمال، سيكون تمساحي البلاستيك هذين علي يمينه لحظة انجاز الصلاة. واحد من هذه التماسيح البلاستيكية يشبه تمساح النيل برأسه المدبب و فمه الضيق و بلونه الاخضر الموشي بالغبرة و السواد. التمساح الاخر فمه اوسع ملامحه لم تدلني علي مكانه.
سألني الشيخ بعد أن سأل العديدين عن أحوالهم و عما ماذا يقرأون هذه الايام، كانت كلمات الشيخ بعد كل تعليق او حكاية تختزن في تلافيف حروفها جوهرًا حفيةً من الحكمة و التجربة. كان سؤاله لي عماذا أقرأ هذه الايام؟ قلت له اقرأ عدة كتب و ليس بينها ما هو أهم من زياراتي للعم عزيز بنجامين من قومية بلندة في بحر الغزال و العم عزيز هو والد صديقي جورج و زوج حاجة التومة. قال الشيخ مالذي وجدته عند عمك عزيز؟ قلت للشيخ انه يحكي لي عن معاش قومية بلندة و عاداتها و الأعراف التي تنظم حياتهم فكلمني عن انهم ورثوا من اسلافهم مهنة صيد الافيال فلقد كانوا يصيدون الأفيال احيانا للإتجار في عاجها و جلودها و اطعام عشائرهم بلحومها و لقد قال لي ان اسلافهم كانوا من فرط جسارتهم يصيدونها حية و يبيعونها كاملة لمن اراد الشراء. قال الشيخ\" كل ميراث الشجاعة و المغامرة الذي عندنا الان هو من عند اؤلئك الناس و امثالهم لقد كان في الزمان البعيد اهلنا يصيدون الكواسر و يبعونها لدول الاغيار فيفيدون كثيرا من تلك الحيوانات و استطرد الشيخ بالقول كما تعلمون لقد كانت الأفيال عند بعض الجيوش في العالم القديم تماما كالدبابة اليوم و لقد كان اهلنا يصيدون هذه الافيال و يدربونها علي الحرب ثم يبيعونها للدول الاخري\". اندهش الحضور من تلك الإفادات لكني لم أندهش فقلد كنت عليما بحياة اسلافنا المرويين و مازلت أشك في ان السور العظيم او ما يعرف بالحوش الكبير في المصورات هو احد الامكنة التي كانت تدرب بها الافيال علي القتال. لاحظ الشيخ انني احتفظ بسفة تمباك بين شفتي السفلي و اسناني فقال لي \"اخرج كيس التمباك و ضعه امامك\" ففعلت ثم اتخذت تلك السانحة لاذهب و اغسل فمي من طعم التمباك. إنصرف الشيخ لاحاديث أخري مع الحضور و في تلك الاثناء جاءت فتاة بتنورة قصيرة جدا هي في الحقيقة رداء جينز قصير و علي اعلي جسدها بلوزة انيقة تظهر جمال جسدها الفتي ،كانت نهايتي البلوزة من الامام معقوداتان مباشرة اعلي مكان الزرارة في اعلي رداء الجينز، تنكشف اجزاء من بطنها عندما تشير الفتاة بيدها، خلعت الفتاة حذائها ثم وطئت الفرش المجهزة للصلاة وقفت قبالتي مباشرة ثم ادارت وجهها نحو الشيخ قائلة \" محجوب يا ابوي الشيخ عاوز تمباك\" أشار الشيخ إلي مكان كيس التمباك الخاص بي فانحنت الفتاة لتأخذه و حملته بالفعل ثم همت بالانصراف فقلت موجها كلامي إليها ارجو ان تعيدي الكيس فانني سأحتاجه! رد عليّ الشيخ قائلاً \" حتي اذا لم تعده فسنرجعه منها\" و ابتسمت ملامحه في وجه الفتاة.
دارت احاديث كثيرة كان الناس يحكون و الشيخ يقول رأيه. ثم قال الشيخ موجها كلامه لي \" ما زلنا نعرف بعض الأمور لقد ورثناها في الحقيقة من اسلافنا العظماء و هي مثل المقدرة علي الكلام مع الكواسر و اظنك تعرف حكاية الشيخ الطيب راجل ام مرّحي مع الأسد في حضرة علماء الشرع من رجال الأزهر الشريف\" فقلت للشيخ نعم. حل صمت بين الجميع البعض مندهش من الفتاة بردائها القصير و حسن تعامل الشيخ معها و البعض في إنصراف مع شئونه الخاصة و البعض يفكرون في حكاوي الشيخ و كلماته. عرفت ان الفتاة هي زوجة ابن الشيخ الاصغر الذي أكمل دراسة الفنون الجميلة في بريطانيا و هو من رسامي الخرطوم المعروفين و عرفت ان الفتاة نفسها فنانة تشكيلية و هي من تجلب تلك الدمي البلاستيكية للشيخ. وضع الشيخ دميتي التماسحين البلاستيكيتين أمامه ، ثم رفع حجرا عن الارض و ضرب التمساح بالملامح النيلية، كانت الضربات متوسطة القوة ثم صب ماء ً من الابريق علي ظهر التمساح البلاستيكي الصغير بالضبط علي مكان الضربات ، تحرك التمساح و مرّ الي جواري باحثا عن طريقه نحو النهر، لم اندهش فقط بل احسست بتضعضع المكان تحتي و احسست بأنني جالس علي كومة من القطن المنفوش و انني راحل في عالم ابيض و كسيح القواعد، ناداني الشيخ بأسمي فعادت للارض صلابتها تحتي و ارتحل ذلك العالم الابيض كسيح القواعد. حمل الشيخ حجرا ثانِ ثم تناول التمساح الآخر و ضربه علي ظهره ثم صب علي مكان الضربات ماء من نفس الابريق و للمرة الثانية تحرك التمساح حيا و نشيطا ، كان في حركة التمساح الثاني نوع من عدم المعرفة بالمكان ، ليس كالتمساح الأول الذي عرف طريقه دون تردد، قبل ان يهتاج التمساح الصغير الذي لا تبدو عليه ملامح التماسيح النيلية، تحرك الشيخ و تكلم معه بعبارات محدودة مثل \" من هنا \" و \" بي جاي \" و دل التمساح علي طريق النهر فغادر التمساح مكاننا و حمل معه رائحة تلك الفتاة التي حملت كيس التمباك الخاص بي إلي زوجها و لقد إنمحت من ذاكرة ذلك البعض الذي مازال يتذكرها آخر ملامحها. بحثت عن كيس التمباك الخاص بي في جيبي فلم أجده و عندما نظرت أمامي كان الكيس بين ركبتي المطويتين، فردت ركبتي و ثبت نظرة علي وجه الشيخ دخلت عبرها الي رأسي رسائل متعدد الاغراض كانت أهمها فكرة ان الامور ليست كما تبدو لك دائماً.

طه جعفر


* الراكوبة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...