ذلك ليسَ وجهي؛ إنهُ فقط آخر امتداد للموت.
إسمي لا يَرُوقني، ومع أنه مأسوي بعض الشيء فهو لا يتماشى مع مأساتي أنا بالذات، لعله يناسب مأساة البرجوازيين مثلا.
لا أعرف من أين جاء به أبي، لعلَّه شاهده في فيلمٍ ما ..
صحيح أن ساقي سوداء و مزرية من فرط الحفاء لكنني ماأزال أحلم بحذاء العيد “مكشوف الأصابع” كما كل عام وأحلم بأن أجرب على أظافري الخشنة الطلاء النبيذي.
جسدي ليس منحوتًا ككل النساء اللّواتي تكسلتم على أكتافهن الليلة البارحة، لكنني لا أستطيع أن أُحصي عدد المرات التي حلمت فيها أنني أرتدي فستانا عاري الكتفين بنقوش الورد.
شفتاي ليستا مغريتين مطلقا، بل إنهما لا تصلحان حتى للقبل العابرة ولا لتلك التي تجيء على مهل لكن لا بأس أن أجرب أحمر الشفاه يوما .. ولابأس أن يحبني أحدهم فيغمض عينيه ويقبلني؛ لا مشكل عندي إن تخيل حينها أي امرأة أخرى في العالم، المهم أن أعرف لمرة يتيمة في عمري مذاق القبل.
حسنا، أنا لا شهادة لي غير معلقات الإبتدائي التي طواها أبي ورماها تحت قش الكراسي مذ صار علي أن أعتني بالأرض مثله، لكنني قضيت نصف عمري تحت لهيب الشمس وخيالي يجيء بصورتي تحت السَّبورة و أصابعي تدون بالطبشور الأبيض حروف الجر.
حروف الجر هي كل ما أذكر من الدراسة ومن عالمي الطفولي الضاحك: ” من /إلى /عن/ على/ في/ ب /….؟ ” ثم ماذا ؟ نسيت البقية ..
ملعون أبوك أيها النسيان ..
وما شأن ذاكرتي و حروف الجر كي لا تسهو عنها .. ؟
خلايا ذاكرتي عليها فقط أن تحفظ عدد دجاجات أبي وتحصيها قبل الخروج فجرًا و عند الرجوع مساءً.
أنا لا أذكر حتى عمري ! ..
أستطيع أن أعد على أصابعي عدد المرات التي ضحكت فيها، لكن لا قدرة لي على عد عمري و خيباتي.
هنا في قريتي يحسب عمر الفتاة بالمفردات فيقولون “كبرت و ما تزوجت” .
أما أنا فلحسن حظي لا أحد يهمه أمري، “لست صالحة للزواج” كما يقولون، أنا معتوهة و أنسى الأشياء سريعًا ولا أعرف الطبخ و تنعتني أمي ب”غلطة عمرها”.
لماذا أخطأت أمي ؟
وهل يعاقبها الرب ؟
وماشأني وأخطاءها، كل واحد هنا سيحمل وزر ذنوبه وحده.
أنا أيضا لست جميلة ، معالمي الجسدية مضحكة كما تقول جدتي، إنها صادقة في هذه النقطة بالذات رغم أنها في العادة لا تجيد سوى الثرثرة وتلفيق الأكاذيب..
حين كنت طفلة أخبرتني جدتي أن من تقص ظفائرها ليلة إكتمال القمر يطول شعرها أكثر وأكثر، لكنني مذ قصصت جديلتي و أنا ألعن هرطقاتها وأبكي ظفيرتي الضائعة.
ومع كل ذلك العبث فإن في فلسفة جدتي حكمة ما ..
كأن نتعود على فقدان الأشياء الثمينة ..
لكنني لا أملك أشياء ثمينة هنا، سوى مرآتي ..
يروقني النظر إليّ في المرايا، لا أحد ينظر لي سِوَاي ..
أمام المرايا أجرب الضحك و البكاء و القهقهة و الحزن و الإبتسامة..
لو أن أحدهم أبصرني حقًا لرأى أنني لست بكل ذلك القبح الذي يصفونه..
لدي شامة مغرية جدًا أسفل عنقي، و .. ؟ وماذا أيضا ؟
لا شيء ..
فقط شامة سوداء مغرية و عنق طويل …
أمام المرايا أجرب الجنون أيضا، أخرج لساني و أصرخ و أضحك و أهدأ ..
حتى الخوف يحلو أمام المرايا .. ؛ أجرب مثلا أن أحتضن صدري و أهذي متخيلة كل الأمراض التي ستصيبني بعد عقدين من الزمن و تهلكني؛ ماتت عمتي بورمٍ في ثدييها وماتت خالتي بورمٍ في الرأس وأنا كما تقول جدتي “منحوسة” ولا أرث في جيناتي سوى المصائب ..
أنظر في المرايا ..
أتخيل؛ قبلتي الأولى، أول عناق ستنصهر فيه أحزاني بالدمع، آخر محطة لي مع الجرح ..
يصيح أبي، ينقطع الخيال، تتهشم المرايا، تنكسر الأوهام، أعود إلى بشاعتي المألوفة ..
-ريتا هلايلي-
www.intelligentsia.tn
إسمي لا يَرُوقني، ومع أنه مأسوي بعض الشيء فهو لا يتماشى مع مأساتي أنا بالذات، لعله يناسب مأساة البرجوازيين مثلا.
لا أعرف من أين جاء به أبي، لعلَّه شاهده في فيلمٍ ما ..
صحيح أن ساقي سوداء و مزرية من فرط الحفاء لكنني ماأزال أحلم بحذاء العيد “مكشوف الأصابع” كما كل عام وأحلم بأن أجرب على أظافري الخشنة الطلاء النبيذي.
جسدي ليس منحوتًا ككل النساء اللّواتي تكسلتم على أكتافهن الليلة البارحة، لكنني لا أستطيع أن أُحصي عدد المرات التي حلمت فيها أنني أرتدي فستانا عاري الكتفين بنقوش الورد.
شفتاي ليستا مغريتين مطلقا، بل إنهما لا تصلحان حتى للقبل العابرة ولا لتلك التي تجيء على مهل لكن لا بأس أن أجرب أحمر الشفاه يوما .. ولابأس أن يحبني أحدهم فيغمض عينيه ويقبلني؛ لا مشكل عندي إن تخيل حينها أي امرأة أخرى في العالم، المهم أن أعرف لمرة يتيمة في عمري مذاق القبل.
حسنا، أنا لا شهادة لي غير معلقات الإبتدائي التي طواها أبي ورماها تحت قش الكراسي مذ صار علي أن أعتني بالأرض مثله، لكنني قضيت نصف عمري تحت لهيب الشمس وخيالي يجيء بصورتي تحت السَّبورة و أصابعي تدون بالطبشور الأبيض حروف الجر.
حروف الجر هي كل ما أذكر من الدراسة ومن عالمي الطفولي الضاحك: ” من /إلى /عن/ على/ في/ ب /….؟ ” ثم ماذا ؟ نسيت البقية ..
ملعون أبوك أيها النسيان ..
وما شأن ذاكرتي و حروف الجر كي لا تسهو عنها .. ؟
خلايا ذاكرتي عليها فقط أن تحفظ عدد دجاجات أبي وتحصيها قبل الخروج فجرًا و عند الرجوع مساءً.
أنا لا أذكر حتى عمري ! ..
أستطيع أن أعد على أصابعي عدد المرات التي ضحكت فيها، لكن لا قدرة لي على عد عمري و خيباتي.
هنا في قريتي يحسب عمر الفتاة بالمفردات فيقولون “كبرت و ما تزوجت” .
أما أنا فلحسن حظي لا أحد يهمه أمري، “لست صالحة للزواج” كما يقولون، أنا معتوهة و أنسى الأشياء سريعًا ولا أعرف الطبخ و تنعتني أمي ب”غلطة عمرها”.
لماذا أخطأت أمي ؟
وهل يعاقبها الرب ؟
وماشأني وأخطاءها، كل واحد هنا سيحمل وزر ذنوبه وحده.
أنا أيضا لست جميلة ، معالمي الجسدية مضحكة كما تقول جدتي، إنها صادقة في هذه النقطة بالذات رغم أنها في العادة لا تجيد سوى الثرثرة وتلفيق الأكاذيب..
حين كنت طفلة أخبرتني جدتي أن من تقص ظفائرها ليلة إكتمال القمر يطول شعرها أكثر وأكثر، لكنني مذ قصصت جديلتي و أنا ألعن هرطقاتها وأبكي ظفيرتي الضائعة.
ومع كل ذلك العبث فإن في فلسفة جدتي حكمة ما ..
كأن نتعود على فقدان الأشياء الثمينة ..
لكنني لا أملك أشياء ثمينة هنا، سوى مرآتي ..
يروقني النظر إليّ في المرايا، لا أحد ينظر لي سِوَاي ..
أمام المرايا أجرب الضحك و البكاء و القهقهة و الحزن و الإبتسامة..
لو أن أحدهم أبصرني حقًا لرأى أنني لست بكل ذلك القبح الذي يصفونه..
لدي شامة مغرية جدًا أسفل عنقي، و .. ؟ وماذا أيضا ؟
لا شيء ..
فقط شامة سوداء مغرية و عنق طويل …
أمام المرايا أجرب الجنون أيضا، أخرج لساني و أصرخ و أضحك و أهدأ ..
حتى الخوف يحلو أمام المرايا .. ؛ أجرب مثلا أن أحتضن صدري و أهذي متخيلة كل الأمراض التي ستصيبني بعد عقدين من الزمن و تهلكني؛ ماتت عمتي بورمٍ في ثدييها وماتت خالتي بورمٍ في الرأس وأنا كما تقول جدتي “منحوسة” ولا أرث في جيناتي سوى المصائب ..
أنظر في المرايا ..
أتخيل؛ قبلتي الأولى، أول عناق ستنصهر فيه أحزاني بالدمع، آخر محطة لي مع الجرح ..
يصيح أبي، ينقطع الخيال، تتهشم المرايا، تنكسر الأوهام، أعود إلى بشاعتي المألوفة ..
-ريتا هلايلي-
ذلك ليس وجهي - ريتا هلايلي -
ذلك ليسَ وجهي؛ إنهُ فقط آخر امتداد للموت. إسمي لا يَرُوقني، ومع أنه مأسوي بعض الشيء فهو لا يتماشى مع مأساتي أنا بالذات، لعله يناسب مأساة البرجوازيين مثلا.