محمود الورداني - من يتذكر د. حسين فوزي؟

ربما كانت هيئة قصور الثقافة إحدى الهيئات القليلة جدا والنادرة من هيئات وزارة الثقافة، التي نجت من استراتيجية رسمها ونفذها بدأب شديد، على مدى ثمانية عشر عاما، الوزير(الفنان) فاروق حسني، وما زالت وبعد مرور سبع سنوات على خروجه وخروج غيره من الوزراء والمتنفذين بعد ثورة يناير 2011، تنفذ حتى الآن بحرص شديد، وهي استراتيجية إقامة المهرجانات والاحتفالات الفارغة من المضمون في الغالب، أي ثقافة الافتتاحات للمباني الخاوية، والمهم أن تلمع أضواء الفلاشات، وتنشر الأخبار وتدبج الموضوعات ويثار الغبار.

المثير للدهشة أن تلك الاستراتيجية ما زالت غالبة، والضجيج الفارغ هو السمة البارزة، على الرغم من أن أي معركة جادة وحقيقية ضد الإرهاب، في جوهرها معركة ثقافية وفكرية مثلما هي معركة بالسلاح، ولنعترف بأن الفكر الإرهابي والرجعي ما زال يجد له مؤيدين من البسطاء، ولا نلمس تأثيرا حقيقيا لمحاولات ما يسمى بتجديد الفكر الديني أو إبراز الإسلام الوسطي وما إلى ذلك.

أظن أن هذه المقدمة ضرورية لتحية الدور الذي تقوم به هيئة قصور الثقافة في مجال النشر تحديدا، وهو دور يتم القيام به في هدوء شديد وبلا احتفالات أو افتتاحات ولا تلمع في أجوائه أضواء الفلاشات. تصدر الهيئة مثلا عددا من السلاسل، ومن أهمها سلسلة ذاكرة الكتابة التي يرأس تحريرها عالم جليل هو د. أحمد زكريا الشلق، وتغوص السلسلة في تاريخنا الحديث لتستخرج الدرر من إنتاج مفكرينا وأدبائنا، وتنفض عنها غبار السنين، وتعيد نشرها بثمن رمزي، وتتيحها للأجيال الجديدة التي تتطلع للمستقبل.

وعلى سبيل المثال أصدرت السلسلة أخيرا كتابين، بل سفرين، لا يقتصر دور كل منهما على متعة المعرفة والفهم فقط، بل هما ضروريان لتكوين شخصية الشباب بلا أي مبالغة، وأغلب الظن أنهما غائبان عن بال دور النشر منذ عدة سنوات طويلة. الكتابان للدكتور حسين فوزي، وأغلب الظن أن الأجيال الجديدة تجهل حتى اسمه، وبالطبع لا ذنب لهذه الأجيال في جهلها بقامة شامخة في حجم حسين فوزي، والذنب يقع على عاتق الأجيال السابقة التي سمحت بهذا التقصير المخزي، ونست أو تناست هذا المفكر والعالم الكبير.

أحد الكتابين هو "سندباد مصري .. جولات في رحاب التاريخ"، وهو واحد من أكثر الكتب شمولا ودقة عن تاريخ مصر منذ الدولة الفرعونية القديمة وحتى عام 1956، على الرغم من أن عدد صفحاته يقترب من 400 صفحة فقط.

وسأركز هنا على الكتاب الثاني" سندباد في رحلة الحياة" لأنه عبارة عن سيرة ذاتية لأحد أبناء ثورة 1919، بل واحد من أهم من أنجبتهم هذه الثورة، ويكشف عن كيف قامت بهدم المجتمع القديم، وأحلّت مكانه مجتمعا جديدا، على الرغم من فشلها في تحقيق هدفها الرئيس وهو تحقيق الجلاء وطرد الاستعمار الإنجليزي. المتعة في الكتاب هي لغة الكاتب المتحررة من تقاليد ذلك الزمان والقريبة من لغة حواري القاهرة. المتعة هي حكاياته عن كلية الطب التي التحق بها، وعن ثورة 1919 والاعتصام لأيام وليال في الجامع الأزهر، ووقوف الأقباط والمسلمين معا. وتستمر السيرة الذاتية لما بعد تخرجه واشتراكه مع مجموعة من شباب الأدباء في تأسيس المدرسة الحديثة وضمت يحي حقي وأحمد خيري سعيد وطاهر لاشين وكانت انفجارا أدبيا أطاح بمن سبقها، وتكشف السيرة الذاتية عن انتقاله في بعثته إلى فرنسا من دراسة الطب إلى العلوم، ثم تأسيسه لكلية العلوم وقسم علوم البحار الذي تحول إلى معهد الأحياء المائية، كما شارك في رحلة بحرية علمية استمرت ثلاث سنوات وجابت البحرين الأحمر والأبيض على متن السفينة مباحث التي اشترتها الحكومة المصرية. ودرس الموسيقى وعزف على الفيولينة وقدم حتى عام 1966 نحو ألف حديث إذاعي يشرح فيه السيمفونيات العالمية.

كل هذا وغيره يحكيه لنا حسين فوزي الذي رحل عن دنيانا في مثل هذه الأيام عام 1988، ولدي يقين أن مثل هذه الكتب حوائط سد لا تقاوم الإرهاب فقط بل والاستبداد أيضا.
التفاعلات: فائد البكري
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...