كنتُ في الشتاء، أجلسُ على مصطبةِ القش في غرفة جدتي بهية، فوقنا لمبة مصفرة الإضاءة وطبّاقة الخبز معلقة في السقف.
كانت جدتي قد سقطتْ من فوق سطحِ الدار، على نحوٍ غامض، وباتتْ شبه قعيدة. وكنتُ صبيًا في فضاءٍ قروي محدود.
الجدة التي أُرغمتْ على الجلوس طويلًا، كانت ذاتَ عينينِ كحيلتين سوداوين، وشعرٍ أسود ناعم تتخلله شعرات بيض طويلة. وكان لها فمٌ دراميٌ تخرجُ منه أصواتُ الجن والبشر.
في حكايات جدتي كان لابد للخيرِ أن ينتصرَ. وهذا ليس بالأمرِ المهم لي. بل المصطبة السحرية التي تحملُنا ـ أنا وجدتي ـ إلى الماضي البعيد.. تطيرُ وتحطُ بنا في أماكنَ كثيرة، حيث حكايات الناس وأساطير الجن والعفاريت. مرة نسمعُ عروسَ البحر وهي تنادي على الأمهات ليلًا، كي تريهن أطفالَهن بين ذراعيها، ثم تطلبُ أن يذهبنَ إليها، لأخذِهم. ومرة أخرى نراقبُ ذلك الرجل الجوّاب في ليل المقابر.
كان البدنُ يقشعر لحكايات الجدة، والروح ترتجف.
قررتُ يومًا جمع رفاقي كي ألعبَ معهم دور جدتي بهية.
ومن الصفحات البيضاء المتبقية من كراريس المدرسة، قمتُ بتجميع دفتري الخاص، كي أسجلَ ما أعتبره قصصًا. كانت في حقيقتهاـ خلاصةَ الأفلام التي شاهدتُ.
في دكان أبي، ولساعاتٍ طويلة كنتُ أرقب الناس. أرى الرائحين والغادين. من يذهب في الصباح ليس كمن يعود في المساء، فلابد أنه قد عاد بحكاية ما.
في أرضنا، ووسط الحقول الشاسعة، حيث الأبقار والكلاب والحمير والطيور والأسماك.. هذا المجتمع الكوني الساحر، كان ـ بالنسبة لي ـ حافلًا بالألغاز والحكايات السرية، أسمعها في حفيفِ أوراق الذرة صيفًا، ورائحةِ ووشوشة الصفصاف والكافور، للنهر.
يروق لي تصدير جوناثان غوتشل لكتابه "الحيوان الحكاء": "خلق الربُّ الإنسانَ، لأنه يحب الحكايا"، ويضيف بأننا مولعون بالقصة، حتى حين يخلد الجسدُ للنومِ، يظل العقلُ مستيقظًا طوال الليل، يروي القصصَ لنفسِه.
آنذاك، لم يحدث أنني قررتُ أن أصبحَ كاتبَ قصةٍ قصيرة، فليس في بيتِنا الريفي مكتبة. لا أحد من أفراد أسرتي حفزني على الكتابة. لا أحد في الفلاحين يعرفُ ما القصة القصيرة!
فقط أورثتني "ستي بهية" تعويذةَ الحكاية.. فقط رأيتُ حكايات عالقةً في كتابِ الكون من حولي. كأن يموتُ رضيعُ البقرة، فيقوم أعمامي بحشو جلده وإيقاف هيكلِه على قوائمِ الجريد، كي تراه فتشم رائحتَه وتحسبه ابنها حيًا. كان في الأمرِ خدعة، كذبة حزينة موجعة، لكنها قصة.
هكذا تجلي الوجودُ لي: "قصة" وليس كقصيدة، ولا رواية.
في القصيدة موسيقى أعلى صوتًا من موسيقى الكون. وفي الرواية امتدادٌ، وإحكام، أكثر من إحكامِ الواقع ذاته.
قد تُعطي الرواية الحقَ لنفسِها كي تنتهي نهايةً سعيدة. وإن كانتْ الحياةُ نفسها لا تمنحنا بالضرورة مثل هذا الترف.
تُعطي نفسها فرصةَ الامتداد ومتابعة المصائر. لكنني رأيتُ الحياة مبتورةً من خلف دكان أبي.. لا أعرف إلى أين ذهبَ العابرُ.. ولا ماذا فعلتْ به ساعاتُ الغياب!
القصةُ قصيرةٌ، ليس لأن كلماتها قليلة، بل لأنها تتلصصُ الوجودَ، وتبديه هشًا، مبتورًا، ناقصًا، عالقًا عند حافةِ السؤال.
ربما كاتب الرواية مهندسُ عمارةٍ شاهقة، أما كاتبُ القصة فهو ثاقبُ لؤلؤة.
روحي القلقةُ، لا تحتمل حسابات الرواية وانضباطها. روحي متلصصة، اعتادتْ مراقبةَ الهامشي والمنسي عبر دكان أبي.. عبر شاشة السينما.
نحن لا نستطيع أن نعيش ما لم نأكلْ ونشرب، لكنّ أفعالَنا الغريزية كلها لا تكفي لتفسير وجودِنا، ولا تفسير طموحِنا في الوجود. لذلك عندما نمارس الحكي نحاول أن نفهم ذواتنا، أفضل وأعمق. نطمح أيضًا أن نفهم لغز العالم، وتاريخ الألم واللذة.
كان القرارُ يتبلورُ واعيًا في داخلي، منذ المرحلة الثانوية، أنني أريد أن أصبح حكّاء.. أن أكون المستقبلَ لماضي جدتي، وأحتفظَ بروحِ الطفل الهائمة على مصطبة القش والخيال.
بحثتُ حولي عن كتب. ليست كُتبًا لأحدٍ بعينه. فقط هي غريزة النهم للحكاية ومضاعفة وجودي من خلالها.. مررتُ بالمنفلوطي ورومانسياته المبكية، وتمرد طه حسين على أيامه، وذكاء توفيق الحكيم الرهيف في الحوار، وصولًا إلى دوستويفسكي ونجيب محفوظ وصرخة "قلب الليل" الكامنة: "أنا أتمرمغ الآن فى الترابِ ولكني فى الأصلِ هابطٌ من السماء".
اكتشفت بالصدفة نسخةً عتيقة من "ألف ليلة وليلة" في بيت جدي القديم. كانت كنزًا أرشدني إلى أن الحكاية تظل تلدُ حكايةً إلى ما لا نهاية.
كتبتُ في دفتري وصفًا تفصيليًا لزملائي وزميلاتي في المدرسة الثانوية. سجلت يومياتي الجامعية في "مفكرة". بدأتُ الذهاب إلى أنديةِ الأدب لأتعلمَ من الكتاب المحترفين، الطريقةَ المُثلي لتدوينِ الحكاية.
هذه الرحلة استغرقتْ مني أكثر من ثلاثين عامًا، ولا أظنني تعلمتُ الكثير. ولا أثقُ بما تعلمتُ. أصدرتُ خلالها سبعَ مجاميع قصصية، إضافة إلى كتبٍ أخرى. حاولت خلالها تجريبَ أشكال كتابة مختلفة، لكن ظلتْ القصةُ هي الغرام البكر. هي الأكثر ملائمة للطريقةِ التي أرى بها الحياةَ. رغم ذلك الشعور الغامض الذي يأكلنا جميعًا، بأننا لم نكتب بعدُ النص الذي نحلمُ به.
أحببتُ الكتب التي تُنظر لهذا الفن مثل "الصوت المنفرد" لأوكونور، و"فن القصة القصيرة" لرشاد رشدي. لأنها علمتني، أن القصة ذات طريقةٍ خاصة، وحسّاسة، في اكتشافِ اللغة؛ فكلمةٌ واحدةٌ ليستْ في موضعها، قد تهدمُ مبنى الحكايةِ كلِّه.
إنها ليستْ مجرد حكايةٍ من حكايات "ستي بهية"، بل طريقة في رؤيةِ الحياة وتصميمها. وما النصُ إلا فضاء تجريبي تتجسدُ فيه هواجسي، أحلامي، كوابيسي، استيهاماتي اللذائذية، نوازعي الشريرة التدميرية، ونبرة السخرية والفتنازيا التي تغلف نظرتي إلى الوجود.
قادتني كتب التنظير إلى كُتابها العظام: تشيخوف، موبسان، إدجار ألن بو، وكافكا.. ومن العرب يوسف إدريس، زكريا تامر، عبد الحكيم قاسم، إبراهيم أصلان، محمد البساطي، وإدوار الخراط.
تكرر كثيرًا الموعد مع الجوائز.
الجوائز ـ خصوصًا عند مقتبل العمر والكتابة ـ كانت تجيب عن سؤالنا الأزلي: هل نحنُ موهوبون حقًا؟
ونوعًا ما، تجيب عن سؤال آخر أكثر
كانت جدتي قد سقطتْ من فوق سطحِ الدار، على نحوٍ غامض، وباتتْ شبه قعيدة. وكنتُ صبيًا في فضاءٍ قروي محدود.
الجدة التي أُرغمتْ على الجلوس طويلًا، كانت ذاتَ عينينِ كحيلتين سوداوين، وشعرٍ أسود ناعم تتخلله شعرات بيض طويلة. وكان لها فمٌ دراميٌ تخرجُ منه أصواتُ الجن والبشر.
في حكايات جدتي كان لابد للخيرِ أن ينتصرَ. وهذا ليس بالأمرِ المهم لي. بل المصطبة السحرية التي تحملُنا ـ أنا وجدتي ـ إلى الماضي البعيد.. تطيرُ وتحطُ بنا في أماكنَ كثيرة، حيث حكايات الناس وأساطير الجن والعفاريت. مرة نسمعُ عروسَ البحر وهي تنادي على الأمهات ليلًا، كي تريهن أطفالَهن بين ذراعيها، ثم تطلبُ أن يذهبنَ إليها، لأخذِهم. ومرة أخرى نراقبُ ذلك الرجل الجوّاب في ليل المقابر.
كان البدنُ يقشعر لحكايات الجدة، والروح ترتجف.
قررتُ يومًا جمع رفاقي كي ألعبَ معهم دور جدتي بهية.
ومن الصفحات البيضاء المتبقية من كراريس المدرسة، قمتُ بتجميع دفتري الخاص، كي أسجلَ ما أعتبره قصصًا. كانت في حقيقتهاـ خلاصةَ الأفلام التي شاهدتُ.
في دكان أبي، ولساعاتٍ طويلة كنتُ أرقب الناس. أرى الرائحين والغادين. من يذهب في الصباح ليس كمن يعود في المساء، فلابد أنه قد عاد بحكاية ما.
في أرضنا، ووسط الحقول الشاسعة، حيث الأبقار والكلاب والحمير والطيور والأسماك.. هذا المجتمع الكوني الساحر، كان ـ بالنسبة لي ـ حافلًا بالألغاز والحكايات السرية، أسمعها في حفيفِ أوراق الذرة صيفًا، ورائحةِ ووشوشة الصفصاف والكافور، للنهر.
يروق لي تصدير جوناثان غوتشل لكتابه "الحيوان الحكاء": "خلق الربُّ الإنسانَ، لأنه يحب الحكايا"، ويضيف بأننا مولعون بالقصة، حتى حين يخلد الجسدُ للنومِ، يظل العقلُ مستيقظًا طوال الليل، يروي القصصَ لنفسِه.
آنذاك، لم يحدث أنني قررتُ أن أصبحَ كاتبَ قصةٍ قصيرة، فليس في بيتِنا الريفي مكتبة. لا أحد من أفراد أسرتي حفزني على الكتابة. لا أحد في الفلاحين يعرفُ ما القصة القصيرة!
فقط أورثتني "ستي بهية" تعويذةَ الحكاية.. فقط رأيتُ حكايات عالقةً في كتابِ الكون من حولي. كأن يموتُ رضيعُ البقرة، فيقوم أعمامي بحشو جلده وإيقاف هيكلِه على قوائمِ الجريد، كي تراه فتشم رائحتَه وتحسبه ابنها حيًا. كان في الأمرِ خدعة، كذبة حزينة موجعة، لكنها قصة.
هكذا تجلي الوجودُ لي: "قصة" وليس كقصيدة، ولا رواية.
في القصيدة موسيقى أعلى صوتًا من موسيقى الكون. وفي الرواية امتدادٌ، وإحكام، أكثر من إحكامِ الواقع ذاته.
قد تُعطي الرواية الحقَ لنفسِها كي تنتهي نهايةً سعيدة. وإن كانتْ الحياةُ نفسها لا تمنحنا بالضرورة مثل هذا الترف.
تُعطي نفسها فرصةَ الامتداد ومتابعة المصائر. لكنني رأيتُ الحياة مبتورةً من خلف دكان أبي.. لا أعرف إلى أين ذهبَ العابرُ.. ولا ماذا فعلتْ به ساعاتُ الغياب!
القصةُ قصيرةٌ، ليس لأن كلماتها قليلة، بل لأنها تتلصصُ الوجودَ، وتبديه هشًا، مبتورًا، ناقصًا، عالقًا عند حافةِ السؤال.
ربما كاتب الرواية مهندسُ عمارةٍ شاهقة، أما كاتبُ القصة فهو ثاقبُ لؤلؤة.
روحي القلقةُ، لا تحتمل حسابات الرواية وانضباطها. روحي متلصصة، اعتادتْ مراقبةَ الهامشي والمنسي عبر دكان أبي.. عبر شاشة السينما.
نحن لا نستطيع أن نعيش ما لم نأكلْ ونشرب، لكنّ أفعالَنا الغريزية كلها لا تكفي لتفسير وجودِنا، ولا تفسير طموحِنا في الوجود. لذلك عندما نمارس الحكي نحاول أن نفهم ذواتنا، أفضل وأعمق. نطمح أيضًا أن نفهم لغز العالم، وتاريخ الألم واللذة.
كان القرارُ يتبلورُ واعيًا في داخلي، منذ المرحلة الثانوية، أنني أريد أن أصبح حكّاء.. أن أكون المستقبلَ لماضي جدتي، وأحتفظَ بروحِ الطفل الهائمة على مصطبة القش والخيال.
بحثتُ حولي عن كتب. ليست كُتبًا لأحدٍ بعينه. فقط هي غريزة النهم للحكاية ومضاعفة وجودي من خلالها.. مررتُ بالمنفلوطي ورومانسياته المبكية، وتمرد طه حسين على أيامه، وذكاء توفيق الحكيم الرهيف في الحوار، وصولًا إلى دوستويفسكي ونجيب محفوظ وصرخة "قلب الليل" الكامنة: "أنا أتمرمغ الآن فى الترابِ ولكني فى الأصلِ هابطٌ من السماء".
اكتشفت بالصدفة نسخةً عتيقة من "ألف ليلة وليلة" في بيت جدي القديم. كانت كنزًا أرشدني إلى أن الحكاية تظل تلدُ حكايةً إلى ما لا نهاية.
كتبتُ في دفتري وصفًا تفصيليًا لزملائي وزميلاتي في المدرسة الثانوية. سجلت يومياتي الجامعية في "مفكرة". بدأتُ الذهاب إلى أنديةِ الأدب لأتعلمَ من الكتاب المحترفين، الطريقةَ المُثلي لتدوينِ الحكاية.
هذه الرحلة استغرقتْ مني أكثر من ثلاثين عامًا، ولا أظنني تعلمتُ الكثير. ولا أثقُ بما تعلمتُ. أصدرتُ خلالها سبعَ مجاميع قصصية، إضافة إلى كتبٍ أخرى. حاولت خلالها تجريبَ أشكال كتابة مختلفة، لكن ظلتْ القصةُ هي الغرام البكر. هي الأكثر ملائمة للطريقةِ التي أرى بها الحياةَ. رغم ذلك الشعور الغامض الذي يأكلنا جميعًا، بأننا لم نكتب بعدُ النص الذي نحلمُ به.
أحببتُ الكتب التي تُنظر لهذا الفن مثل "الصوت المنفرد" لأوكونور، و"فن القصة القصيرة" لرشاد رشدي. لأنها علمتني، أن القصة ذات طريقةٍ خاصة، وحسّاسة، في اكتشافِ اللغة؛ فكلمةٌ واحدةٌ ليستْ في موضعها، قد تهدمُ مبنى الحكايةِ كلِّه.
إنها ليستْ مجرد حكايةٍ من حكايات "ستي بهية"، بل طريقة في رؤيةِ الحياة وتصميمها. وما النصُ إلا فضاء تجريبي تتجسدُ فيه هواجسي، أحلامي، كوابيسي، استيهاماتي اللذائذية، نوازعي الشريرة التدميرية، ونبرة السخرية والفتنازيا التي تغلف نظرتي إلى الوجود.
قادتني كتب التنظير إلى كُتابها العظام: تشيخوف، موبسان، إدجار ألن بو، وكافكا.. ومن العرب يوسف إدريس، زكريا تامر، عبد الحكيم قاسم، إبراهيم أصلان، محمد البساطي، وإدوار الخراط.
تكرر كثيرًا الموعد مع الجوائز.
الجوائز ـ خصوصًا عند مقتبل العمر والكتابة ـ كانت تجيب عن سؤالنا الأزلي: هل نحنُ موهوبون حقًا؟
ونوعًا ما، تجيب عن سؤال آخر أكثر