أتذكر دائما الليالي ولا أتذكر من النهارات إلا استثناءات مثل يوم 18 يناير/كانون الثاني عام 1977 حين تركت غرفتي المفروشة أيام الشباب، لأتناول إفطاري في محل ألبان في حي ديرالملاك، حيث كنت أسكن، فوجدت الشوارع مكتظة بالمظاهرات وكان نهارا لا مثيل له إلا نهار يوم 28 يناير عام 2011.
النهار يمر تقليديا في عمل أو إنجاز مطالب عائلية، والليل يمكن أن يكون كذلك، لكنه يختلف في حالة كثير من المبدعين. في حالتي هو حياتي الحقيقية ففيه كتبت رواياتي وقصصي، وعشت مع أبطالها فملأوا النهار حولي، وسببوا لي كثيرا من الحرج وأنا أنادي أحيانا الناس بأسمائهم. في شبابي لم أكن أعود إلى البيت إلا بعد أن يملا أذان الفجر الفضاء حولي بالسكينة والأمل، خاصة وأصوات المؤذنين زمان كانت حلوة وعذبة ومؤثرة.
في رحلات الليل هذه كان لي أصدقاء رحل منهم من رحل، وأمد الله أعمار من بقي، وكانت القاهرة القديمة هي الليل المتسع لسنوات طويلة تلك الأيام. كثير جدا مما رأيته في الليل كان مدادا لأعمالي الأدبية. كل ما رأيته كان يبدو غريبا ومدهشا لأنه كان يحدث في وقت متأخر، وكانت القاهرة في السبعينيات مليوني نسمة، ومن ثم كانت تخلو بعد منتصف الليل إلا من المهمشين أو من يختارون الهامش أو أخرجهم الوجع يصرخون في الفراغ هاتفين «يا رب» فيتقطع قلبي مع هتافهم. يحتاج الليل إلى كتاب كبير أملأه بالذكريات، لكن كثيرا منه كما قلت تسلل إلى أعمالي. ومما لم يتسلل ليال كثيرة لسنوات كنت أمضي الليل فيها مع الفنان صلاح عناني، وفنان لم أعد أقابله للأسف هو عادل الجيلاني، أمضينا تلك الليالي نجوب شوارع الحسين حتى الصباح، ونعود مشيا إلى بيوتنا، وفي جولتنا التي لم نملها أبدا كنا ندرس العمارة الإسلامية. كنا سعداء تمشي السعادة أمامنا، رغم أننا غير متوافقين مع ما يحدث حولنا من أحداث سياسية أيام السادات ومبارك. قبل ذلك كنت في شبابي بعد أن عشت في القاهرة أعيش في دير الملاك، كما قلت، وفي حدائق القبة بل وروكسي واتنقل من شقة إلى شقة وكانت صحبة الليل مع المخرج المسرحي الراحل سامي صلاح، أو مع مديري في العمل ذلك الوقت وكان اسمه إبراهيم الطبلاوي رحمه الله. هذه الليالي تسللت إلى رواياتي القليلة عن القاهرة. وطبعا أعطاها الفن أبعادا أعمق وأضاف إليها. ومن نوادر تلك الأيام أنني حين كنت أصل إلى ميدان «عبده باشا» ومعي سامي صلاح أو وحدي، كثيرا ما أجد شخصا جالسا في حزن وحده علي الرصيف. كنت أتقدم إليه أقدم له أحيانا المال البسيط فيرفضه أو يقبله، وأحيانا اسأله لماذا هو وحده فلا يرد. وفي يوم ما كتبت مقالا بعنوان «مجنون في ميدان عبده باشا» تخيلت أنني تحدثت مع رجل في هذا الميدان فقال لي إنه «التاريخ» وإنه جالس يبكي على ما يحدث في مصر، فكل عمل للرئيس يعتبر تاريخيا رغم إنه عادي وكل هدف للاعب مشهور يعتبر تاريخيا، وكل لقاء فني يعتبر تاريخيا، رغم أن من يتقابلون فنانين عاديين. إنه جالس يبكي لأن التاريخ «اتبهدل أوي» في مصر.
ومن الصدف العجيبة عام 1999 تقريبا أن أصدر الكاتب الراحل إدريس علي رواية «انفجار جمجمة» وأعجبتني جدا وبحثت عنه لأخبره فلم يظهر في «نص البلد» فرحت اشتري نسخا من الرواية أعطيها للنقاد ليكتبوا عنها وعرف إدريس وقابلني وحكي لي كيف إنه كان حزينا لأن لا أحد يعلق على الرواية، وإنه يشعر بالاضطهاد منذ كتب رواية «دنقلة» وكتبت عنها صحيفة أدبية أنها رواية عنصرية ـ هو نوبي ـ وحكى لي حكايات لم تحدث مثل، إنهم في السجل المدني شطبوا بياناته الشخصية بعد ما كُتب عن الرواية، ولم يعد قادرا علي استخراج بطاقة هوية أو شهادة ميلاد. طبعا هذا لم يحدث لكن إدريس كان يهوِّل الأمور جدا، حتى إنه حاول الانتحار أكثر من مرة في النيل وتم إنقاذه. من غرائب الصدف إنه حكي لي كيف جلس وحيدا في ميدان عبده باشا يبكي وسط الليل، فتقدم منه شخص ووضع في يده نصف جنيه فقام خلفه وأعاده إليه. ضحكت لأني فعلت ذلك كثيرا مع من رأيتهم يبكون مثله وسط الليل. حكايات كثيرة عن الليل كما قلت تحتاج كتابا أو كتبا، لكنني أتذكر دائما قصيدة «الليل» لأحمد فؤاد نجم. وهي قصيدة غير مشهورة شهرة قصائده السياسية، التي حين قرأتها أصابتني الدهشة من الصور الشعرية الرائعة.
ومشيت في الليل
خجلان مكسوف
إكمن الليل عريان مكشوف
أفراح الناس
وجراح الناس
على صدر الليل عناقيد وصفوف
وعيون الليل والظلمة جبال
فاردين على وش السما غربال
ألماظ مبدور
في كاسات بنور
يفرش للنور ع الأرض خيال
وفي مقطع منها يرى شخصا جالسا في بار يضع أمامه كأسين يقول فيه:
شوف دا اللي هناك
قدامه كاسين
مع إنه لوحده
ما هوش اتنين
والناس بيبصوا
ومش فاهمين الكاس دا لمين
والكاس دا لمين
أهودا اللي بنظرة عين
شبكوه
وفاتوله كاس مليان
وفاتوه
وحكايته طويلة
وهمه تقيل
وح اقول لك إيه وأعيد لك إيه
رايح يملا عيونه بحلم جميل
بياع السهد ملا له عنيه
قتلتني القصيدة ودارت الأيام وقابلت نجم في دار ميريت وأخبرته عن عظمة هذه القصيدة فنظر لي مندهشا وسعيدا، ولم أقل له ما في نفسي من أن بعض من يتحدثون عن المباشرة والسياسة في شعره المشهور لا يدركون حجم موهبته العظيمة، لأنهم للأسف لم يقرأوا هذه القصيدة. وسألته هل يذكر وقت كتابته للقصيدة فقال، كان ذلك بعد أن كتب قصيدة «بيان هام» عن السادات ـ مشهورة أحيانا بشحاتة المعسل ـ وصار مطلوبا القبض عليه فأخفاه الأصدقاء في عزبة النخل في ما يذكر وهي مكان بعيد جدا عن وسط القاهرة. وفي ليلة شعر بالضيق فنزل مختفيا إلى وسط البلد ورآه خاليا فعاد وكتب هذه القصيدة الرائعة، بل شديدة الروعة. من عجائب الصدف أنني كنت حاضرا في جامعة القاهرة في كلية الآداب وكان نجم مدعوا ليلقي شعره. ذهبت مع الراحل غالب هلسا واستمعنا إلى قصيدة «بيان هام «وضحكنا مع غيرنا وبعدها عرفنا إنه مطلوب القبض على نجم، وإنه اختفى ووسط هذا الاختفاء كتب أروع قصائده. الليل.. التي قرأتها متأخرا جدا والتي إلى جوار روعتها الشعرية تذكرني بكل ليالي العمر.
النهار يمر تقليديا في عمل أو إنجاز مطالب عائلية، والليل يمكن أن يكون كذلك، لكنه يختلف في حالة كثير من المبدعين. في حالتي هو حياتي الحقيقية ففيه كتبت رواياتي وقصصي، وعشت مع أبطالها فملأوا النهار حولي، وسببوا لي كثيرا من الحرج وأنا أنادي أحيانا الناس بأسمائهم. في شبابي لم أكن أعود إلى البيت إلا بعد أن يملا أذان الفجر الفضاء حولي بالسكينة والأمل، خاصة وأصوات المؤذنين زمان كانت حلوة وعذبة ومؤثرة.
في رحلات الليل هذه كان لي أصدقاء رحل منهم من رحل، وأمد الله أعمار من بقي، وكانت القاهرة القديمة هي الليل المتسع لسنوات طويلة تلك الأيام. كثير جدا مما رأيته في الليل كان مدادا لأعمالي الأدبية. كل ما رأيته كان يبدو غريبا ومدهشا لأنه كان يحدث في وقت متأخر، وكانت القاهرة في السبعينيات مليوني نسمة، ومن ثم كانت تخلو بعد منتصف الليل إلا من المهمشين أو من يختارون الهامش أو أخرجهم الوجع يصرخون في الفراغ هاتفين «يا رب» فيتقطع قلبي مع هتافهم. يحتاج الليل إلى كتاب كبير أملأه بالذكريات، لكن كثيرا منه كما قلت تسلل إلى أعمالي. ومما لم يتسلل ليال كثيرة لسنوات كنت أمضي الليل فيها مع الفنان صلاح عناني، وفنان لم أعد أقابله للأسف هو عادل الجيلاني، أمضينا تلك الليالي نجوب شوارع الحسين حتى الصباح، ونعود مشيا إلى بيوتنا، وفي جولتنا التي لم نملها أبدا كنا ندرس العمارة الإسلامية. كنا سعداء تمشي السعادة أمامنا، رغم أننا غير متوافقين مع ما يحدث حولنا من أحداث سياسية أيام السادات ومبارك. قبل ذلك كنت في شبابي بعد أن عشت في القاهرة أعيش في دير الملاك، كما قلت، وفي حدائق القبة بل وروكسي واتنقل من شقة إلى شقة وكانت صحبة الليل مع المخرج المسرحي الراحل سامي صلاح، أو مع مديري في العمل ذلك الوقت وكان اسمه إبراهيم الطبلاوي رحمه الله. هذه الليالي تسللت إلى رواياتي القليلة عن القاهرة. وطبعا أعطاها الفن أبعادا أعمق وأضاف إليها. ومن نوادر تلك الأيام أنني حين كنت أصل إلى ميدان «عبده باشا» ومعي سامي صلاح أو وحدي، كثيرا ما أجد شخصا جالسا في حزن وحده علي الرصيف. كنت أتقدم إليه أقدم له أحيانا المال البسيط فيرفضه أو يقبله، وأحيانا اسأله لماذا هو وحده فلا يرد. وفي يوم ما كتبت مقالا بعنوان «مجنون في ميدان عبده باشا» تخيلت أنني تحدثت مع رجل في هذا الميدان فقال لي إنه «التاريخ» وإنه جالس يبكي على ما يحدث في مصر، فكل عمل للرئيس يعتبر تاريخيا رغم إنه عادي وكل هدف للاعب مشهور يعتبر تاريخيا، وكل لقاء فني يعتبر تاريخيا، رغم أن من يتقابلون فنانين عاديين. إنه جالس يبكي لأن التاريخ «اتبهدل أوي» في مصر.
ومن الصدف العجيبة عام 1999 تقريبا أن أصدر الكاتب الراحل إدريس علي رواية «انفجار جمجمة» وأعجبتني جدا وبحثت عنه لأخبره فلم يظهر في «نص البلد» فرحت اشتري نسخا من الرواية أعطيها للنقاد ليكتبوا عنها وعرف إدريس وقابلني وحكي لي كيف إنه كان حزينا لأن لا أحد يعلق على الرواية، وإنه يشعر بالاضطهاد منذ كتب رواية «دنقلة» وكتبت عنها صحيفة أدبية أنها رواية عنصرية ـ هو نوبي ـ وحكى لي حكايات لم تحدث مثل، إنهم في السجل المدني شطبوا بياناته الشخصية بعد ما كُتب عن الرواية، ولم يعد قادرا علي استخراج بطاقة هوية أو شهادة ميلاد. طبعا هذا لم يحدث لكن إدريس كان يهوِّل الأمور جدا، حتى إنه حاول الانتحار أكثر من مرة في النيل وتم إنقاذه. من غرائب الصدف إنه حكي لي كيف جلس وحيدا في ميدان عبده باشا يبكي وسط الليل، فتقدم منه شخص ووضع في يده نصف جنيه فقام خلفه وأعاده إليه. ضحكت لأني فعلت ذلك كثيرا مع من رأيتهم يبكون مثله وسط الليل. حكايات كثيرة عن الليل كما قلت تحتاج كتابا أو كتبا، لكنني أتذكر دائما قصيدة «الليل» لأحمد فؤاد نجم. وهي قصيدة غير مشهورة شهرة قصائده السياسية، التي حين قرأتها أصابتني الدهشة من الصور الشعرية الرائعة.
ومشيت في الليل
خجلان مكسوف
إكمن الليل عريان مكشوف
أفراح الناس
وجراح الناس
على صدر الليل عناقيد وصفوف
وعيون الليل والظلمة جبال
فاردين على وش السما غربال
ألماظ مبدور
في كاسات بنور
يفرش للنور ع الأرض خيال
وفي مقطع منها يرى شخصا جالسا في بار يضع أمامه كأسين يقول فيه:
شوف دا اللي هناك
قدامه كاسين
مع إنه لوحده
ما هوش اتنين
والناس بيبصوا
ومش فاهمين الكاس دا لمين
والكاس دا لمين
أهودا اللي بنظرة عين
شبكوه
وفاتوله كاس مليان
وفاتوه
وحكايته طويلة
وهمه تقيل
وح اقول لك إيه وأعيد لك إيه
رايح يملا عيونه بحلم جميل
بياع السهد ملا له عنيه
قتلتني القصيدة ودارت الأيام وقابلت نجم في دار ميريت وأخبرته عن عظمة هذه القصيدة فنظر لي مندهشا وسعيدا، ولم أقل له ما في نفسي من أن بعض من يتحدثون عن المباشرة والسياسة في شعره المشهور لا يدركون حجم موهبته العظيمة، لأنهم للأسف لم يقرأوا هذه القصيدة. وسألته هل يذكر وقت كتابته للقصيدة فقال، كان ذلك بعد أن كتب قصيدة «بيان هام» عن السادات ـ مشهورة أحيانا بشحاتة المعسل ـ وصار مطلوبا القبض عليه فأخفاه الأصدقاء في عزبة النخل في ما يذكر وهي مكان بعيد جدا عن وسط القاهرة. وفي ليلة شعر بالضيق فنزل مختفيا إلى وسط البلد ورآه خاليا فعاد وكتب هذه القصيدة الرائعة، بل شديدة الروعة. من عجائب الصدف أنني كنت حاضرا في جامعة القاهرة في كلية الآداب وكان نجم مدعوا ليلقي شعره. ذهبت مع الراحل غالب هلسا واستمعنا إلى قصيدة «بيان هام «وضحكنا مع غيرنا وبعدها عرفنا إنه مطلوب القبض على نجم، وإنه اختفى ووسط هذا الاختفاء كتب أروع قصائده. الليل.. التي قرأتها متأخرا جدا والتي إلى جوار روعتها الشعرية تذكرني بكل ليالي العمر.