متى يأتي الصباح ويحل النور محل الظلام وتدب الحياة من جديد، يستيقظ الناس من نومهم وينتشرون على الأرض شيئا فشيئا حتى ترى الأفواج منهم تأخذ وجهات متفرقة ومختلفة؛ العمال إلى معاملهم والموظفون إلى مكاتبهم والحرفيون إلى محلاتهم والطلبة والتلاميذ إلى مؤسساتهم، وأكون أنا واحدا منهم متجها إلى المشفى الجامعي طلبا للعلاج من أمراض احتلت هذا الجسد وترسبت فيه بالتدريج عبر مراحل العمر نتيجة فقر ومجموعة من الأخطاء المقصودة وغير المقصودة. غير أن هذا الليل قد طال جدا، وبات لا يبرح المكان.
عندما يحل الليل يساورني قلق رهيب، أشعر بنفسي أنقطع عن العالم، وتتسرب إلى أعماقي وحشة قاتلة، أهو الخوف من المجهول الذي قد يفاجئني في أي لحظة بفعل هذا المرض الخبيث؟، أم هي الهواجس التي أصبحت تصيبني منذ معرفتي بالمرض. لازال بيني وبين الصبح ساعات طوال، صمت كئيب ينشر سكونه على الدنيا، لا يسمع شيء، ولا حتى مواء القطط، أو نباح الكلاب، أو صوت أحد السكارى وقد قذفت به بعض الحانات في هذا الوقت المتأخر، يؤلمني المرض، وتصدر بعض الوخزات المؤلمة من جهة الرجل اليسرى، وتنتشر بعد ذلك في باقي أنحاء الجسم المتعب، اتصبب عرقا بفعل الألم الرهيب والمخيف، وبعد لحظة يرتخي رأسي إلى الأمام كأنني في غيبوبة تامة، أعود من حالتي الجنائزية بعد وقت قد يكون قصيرا في أغلب الأحيان، وأتحسس الأشياء حولي كأنني أسأل نفسي عما يقع. في هذا الوقت أحتاج إلى من يكون بجانبي، يواسيني بكلمات تخفف الألم، أحتاج إلى الأم لتقويني ولتضع يدها على الجرح حتى يندمل، لكن هيهات هيهات، وأنى لي بهذا وقد غادرت إلى عالم لا رجوع منه. الصمت لايزال سيد المكان والزمان، والليل ينشر جناحيه على المكان، جاثما بجسده على الفضاء المنتشر، ومتأهبا للدفاع عنه كأنه نسر مستعد للعراك من أجل فراخه أو طريدته.
تلامس أصابعي يدي رجلي اليسرى، تتحسس تلك النتوءات التي ظهرت وانبثقت من داخل الجلد إلى خارجه، أشعر بقشعريرة ويليها ألمُ شديد لا أستطيع مقاومته، فيرتفع صراخي ثم ينخفض أنين تعبيرا عن الضعف الذي أعاني منه أمام هذا المرض الفاتك بالجسد. يتحول الأنين إلى نبرة موسيقية حزينة كأنها صادرة عن ناي يرثي موتا. تتوالى الدقائق بخطى ثقيلة جدا ومباعدة فيما بينها، كأن الليل لا يريد أن يبرح المكان، أو أنه يشارك الألم في تعذيب هذا الجسد الذي أصبح لا يقوى على شيء سوى النين، وتستمر الليلة بين وجع وفترات قصيرة للراحة من ألم الجراح وعذابها. أستأنس ببعض الأصوات في سكون الليل البهيم، فهذا كلب يطارد قطة لإبعادها عن حدود مملكته التي رسمها بعد خلو المكان من المارة، وهذا أحد المتشردين يغني بعض الأغنيات المشهورة هذه الأيام بصوت متثاقل غلبت عليه حالة التخدير، ويرمي بين قوافي صوته الأجش ببعض الكلمات النابية، ثم يذوب صوته في سكون الليل.
آذان الفجر يرتفع في هذا السكون الذي طال ليله: "الله أكبر الله أكبر"، أسمع بعض الخطى على قارعه الطريق ثم تتلاشى بين الأزقة، يسعل أحد الذاهبين إلى المسجد لصلاة الفجر، ويعم بعد ذلك الهدوء من جديد. هل تحل نوبة ألم أخرى أم أنها ستمنحني فترة استراحة حتى أصلي ولو بعينين فقط، لكن يكاد يكون ذلك مستحيلا حين تبدأ حصة جديدة من العذاب ممهدة بوخز جديد، دائما، من الرجل اليسرى، ومنتشرا بتدرج في كل أنحاء الجسم.
بين الألم والإحساس بالراحة يتسرب النوم إلى جفنيَّ، وأدخل في نوم عميق دون دراية مني. وأرى في منامي أمي وقد لبست ثوبا أبيض، وقد افترت عن أسنانها ضاحكة، وتدعوني إلى المجيء والاقتراب منها. حملقت في وجهها كثيرا ثم مشيت إليها، لكن كنت كلما اقتربتُ منها تراجعت بخطوات وابتعدت. تبتسم لذلك وتضحك بأعلى صوتها الذي يبقى يتردد كأنه رجع الصدى. عندما استيقظت من غفوتي هذه وجدت الوقت قد تقدم، سمعتُ صوت المؤذن في واضحة النهار، إنه آذان الظهر يدعو الناس إلى الصلاة.
الدارالبيضاء 07 ـ 07 ـ 2017
عندما يحل الليل يساورني قلق رهيب، أشعر بنفسي أنقطع عن العالم، وتتسرب إلى أعماقي وحشة قاتلة، أهو الخوف من المجهول الذي قد يفاجئني في أي لحظة بفعل هذا المرض الخبيث؟، أم هي الهواجس التي أصبحت تصيبني منذ معرفتي بالمرض. لازال بيني وبين الصبح ساعات طوال، صمت كئيب ينشر سكونه على الدنيا، لا يسمع شيء، ولا حتى مواء القطط، أو نباح الكلاب، أو صوت أحد السكارى وقد قذفت به بعض الحانات في هذا الوقت المتأخر، يؤلمني المرض، وتصدر بعض الوخزات المؤلمة من جهة الرجل اليسرى، وتنتشر بعد ذلك في باقي أنحاء الجسم المتعب، اتصبب عرقا بفعل الألم الرهيب والمخيف، وبعد لحظة يرتخي رأسي إلى الأمام كأنني في غيبوبة تامة، أعود من حالتي الجنائزية بعد وقت قد يكون قصيرا في أغلب الأحيان، وأتحسس الأشياء حولي كأنني أسأل نفسي عما يقع. في هذا الوقت أحتاج إلى من يكون بجانبي، يواسيني بكلمات تخفف الألم، أحتاج إلى الأم لتقويني ولتضع يدها على الجرح حتى يندمل، لكن هيهات هيهات، وأنى لي بهذا وقد غادرت إلى عالم لا رجوع منه. الصمت لايزال سيد المكان والزمان، والليل ينشر جناحيه على المكان، جاثما بجسده على الفضاء المنتشر، ومتأهبا للدفاع عنه كأنه نسر مستعد للعراك من أجل فراخه أو طريدته.
تلامس أصابعي يدي رجلي اليسرى، تتحسس تلك النتوءات التي ظهرت وانبثقت من داخل الجلد إلى خارجه، أشعر بقشعريرة ويليها ألمُ شديد لا أستطيع مقاومته، فيرتفع صراخي ثم ينخفض أنين تعبيرا عن الضعف الذي أعاني منه أمام هذا المرض الفاتك بالجسد. يتحول الأنين إلى نبرة موسيقية حزينة كأنها صادرة عن ناي يرثي موتا. تتوالى الدقائق بخطى ثقيلة جدا ومباعدة فيما بينها، كأن الليل لا يريد أن يبرح المكان، أو أنه يشارك الألم في تعذيب هذا الجسد الذي أصبح لا يقوى على شيء سوى النين، وتستمر الليلة بين وجع وفترات قصيرة للراحة من ألم الجراح وعذابها. أستأنس ببعض الأصوات في سكون الليل البهيم، فهذا كلب يطارد قطة لإبعادها عن حدود مملكته التي رسمها بعد خلو المكان من المارة، وهذا أحد المتشردين يغني بعض الأغنيات المشهورة هذه الأيام بصوت متثاقل غلبت عليه حالة التخدير، ويرمي بين قوافي صوته الأجش ببعض الكلمات النابية، ثم يذوب صوته في سكون الليل.
آذان الفجر يرتفع في هذا السكون الذي طال ليله: "الله أكبر الله أكبر"، أسمع بعض الخطى على قارعه الطريق ثم تتلاشى بين الأزقة، يسعل أحد الذاهبين إلى المسجد لصلاة الفجر، ويعم بعد ذلك الهدوء من جديد. هل تحل نوبة ألم أخرى أم أنها ستمنحني فترة استراحة حتى أصلي ولو بعينين فقط، لكن يكاد يكون ذلك مستحيلا حين تبدأ حصة جديدة من العذاب ممهدة بوخز جديد، دائما، من الرجل اليسرى، ومنتشرا بتدرج في كل أنحاء الجسم.
بين الألم والإحساس بالراحة يتسرب النوم إلى جفنيَّ، وأدخل في نوم عميق دون دراية مني. وأرى في منامي أمي وقد لبست ثوبا أبيض، وقد افترت عن أسنانها ضاحكة، وتدعوني إلى المجيء والاقتراب منها. حملقت في وجهها كثيرا ثم مشيت إليها، لكن كنت كلما اقتربتُ منها تراجعت بخطوات وابتعدت. تبتسم لذلك وتضحك بأعلى صوتها الذي يبقى يتردد كأنه رجع الصدى. عندما استيقظت من غفوتي هذه وجدت الوقت قد تقدم، سمعتُ صوت المؤذن في واضحة النهار، إنه آذان الظهر يدعو الناس إلى الصلاة.
الدارالبيضاء 07 ـ 07 ـ 2017