منى يسري - تاريخ الفقر بين انتهازية الإنسان وظلم الدولة

“الجزء الأول”

إذا أردنا أن نعرف ما هو الفقر، علينا الرجوع لتاريخه.
يبدو العالم أكثر ثراء من أي وقت مضى، بل وأكثر فقرًا من أي وقت مضى.

تخيل إنسانا في عصر ما قبل التاريخ، حيث لا تكنولوجيا، ولا موارد حديثة، الكل متساوون، أنت فقط وسط الغابة والحيوانات البرية، حين تجوع يقوم والدك باصطياد حيوان لتأكله، أو يقطف بعض ثمار الأشجار ليطعمك.
يأتي التساؤل: متى بدأ الفقر؟
إذا أردنا الإجابة علينا الرجوع إلى الهيكل الاقتصادي الذي بدأت البشرية حضارتها من خلاله، ويتضمن المراحل التالية:
“الصائد الجامع”:

وهي أكثر مراحل البشرية عدالة اجتماعية، تلك التي لم تتكرر ثانية، فالإنسان لا يبذل جهدًا للحصول على الطعام أو احتياجاته الأساسية، وعلى الرغم من ملائمة هذا النظام للطبيعة البشرية، إلا أنه كان نظاما غير آمن للحياة، فبقدوم العصر الجليدي تجمدت أنت وعائلتك ليأتي المستكشفون ليكتبون عنك وعائلتك، وعن هذا المسكين الذي مات متجمدًا من البرد.
وحين أتى العصر الجليدي، انتهى كل من على كوكب الأرض، ولم يبق سوى الأقوى.
نقتص جزءًا كبيرًا من التاريخ لا نعلم أين ذهب! حيث حضارات العالم التي نعرفها اليوم، وكل شيء فقير، عدا قصور الملوك والزعماء الذين شيدوا قصورهم فوق أجساد الفقراء، حيث الفقر يسود بين الأغلبية العظمى من الشعب، فلا يوجد ما يكفي احتياجاتك الأصلية.
الفن ودوره في تقبُل المجتمع للفقر:
تطالعنا من التراث الإغريقي، المسرحية الأكثر شهرة في التاريخ القديم “الفقر”، وتحكي قصة رجل قبيح، يهجم على القرية، فيجتمع عليه أهل القرية لقتله، فيقول مدافعًا عن نفسه: لن تجدوا من يخيط ثيابكم، ولا من ينظف بيوتكم.

ليترسخ لدى المجتمع مبدأ قبول الفقر بشكل عام، وأهميته في استمرار المجتمع والحياة بشكل عام، وبشكل خاص الأنظمة الحاكمة، فالفقر وحده ما يجعل الأغنياء أغنياء، كما أنه وضع في مركز آلية عمل النظام كمحرك للنظام، فيجعلنا -بغض النظر عن بشاعة الفقر وقبحه- ننظر إليه كأمر لابد منه، لا نستطيع تجنبه لاستمرار الحضارة البشرية بهذا النظام.

الدين ودوره في ترسيخ مبدأ تقبُل الفقر لدى المجتمع الإنساني:
في أعقاب ظهور الأديان بشتى توجهاتها، فإنها دعت للعطف على الفقراء وترسيخ مبدأ “الإحسان”، وهو منح الفقراء من الأموال باعتبارها ملكية خاصة، وهو ما رسخ للفقر كضرورة حياتية، بل استحباب وجوده لنيل الثواب من الله حين يعطي الغني من ماله للفقير.

“الحكيم والسعيد بالإحسان يصبح سعيدًا في الآخرة” بوذا.
لم تكن الأديان السماوية ما رسخت لمبدأ العطف على الفقراء، وإنما الأديان غير السماوية كذلك حضت عليه، وأسست لمفهوم الطبقية، فالناس طبقات وليسوا سواسية في توزيع الدخل والثروة.
أوروبا المظلمة وبداية عصر النهضة:

أمضت أوروبا قرونا من الزمان في حالة لا يرثى لها من الفقر المدقع، حيث كانت مليئة بالقلاع والحصون، وحالات من الحرب الدائمة، أوقعت المواطنين في شرك الفقر.

وفي الممالك القديمة، وُجد ما يسمى بـ “بيوت الفقراء”، والتي آوت العديد من المواطنين الفقراء، ولكن تحت إشراف الكنيسة، التي حولتهم إلى أيادي عاملة تشارك في الانتاج، ومع زيادة أعداد الفقراء، تحولت هذه البيوت إلى ما سمي بالبيوت الرحيمة، حيث آوت العجزة والنساء والأطفال، وأصحاب الإعاقات الجسدية، وقد كتب الروائي البريطاني “تشارلز ديكنز” في رائعته “أوليفر تويست” عن نموذج لهذا البؤس الذي عاشته أوروبا قرونا، ولا يمكن أن نغفل دور الثورة الفرنسية في عتق أوروبا من فقرها الذي فتك بها لسنوات.

وبتوجيه النظر إلى باريس، أهم مدن أوروبا وأكبرها على الإطلاق، يتبين لنا الدور الهام الذي لعبته الكنيسة في إدارة الدولة، وملائمته لمصلحة الأسرة الحاكمة، فمن خلال الكاتدرائيات كان يتم توزيع المعونات على من سموهم “أبناء المسيح” لنجد أن الرهبان المنظمون لصفوف الفقراء هم أنفسهم من ينتظرون المعونات، حتى ظهرت الدومنيكان، والتي دعت إلى الزهد في الحياة الدنيا وإيثار الغير على النفس من أجل المسيح، وقد تغير الحال في أوروبا نسبيًا.

وبتحّول نظرنا إلى أفريقيا الغنية آنذاك، بالماء والأراضي الخصبة، والموارد الطبيعية، والمعروفة بارتفاع إنتاجيتها الزراعية، نجد أن الأوروبيين قد صوبوا نظرهم نحوها، حيث تميزت المجتمعات الأفريقية في القرون الوسطى، بالذكاء الاقتصادي الأول في التاريخ، فكما يميز الاقتصاديين، بين الميزة النسبية لكل دولة، فقد عرف الأفارقة ميزتهم النسبية والتي كانت في الإنتاج الزراعي، وهو ما بدأ معه عصر جديد من التاريخ، وهو عصر الاحتلال الأوروبي لقارة أفريقيا، ولم تكتف أوروبا بالاحتلال الأفريقي فحسب، بل شملت أيضا أمريكا اللاتينية.
أفريقيا المنكوبة وعبودية السود: احتلت أوروبا القارة الأفريقية كاملة نظرًا لارتفاع الإنتاجية الزراعية، فنهبت الموارد، وتوجهت إلى جنوب شرق آسيا، الاي قام الأوروبيين بنهب ثرواتها، لكن كان لأفريقيا النصيب الأكبر من العبودية، فأوروبا لم تكتف بنهب الثروات الاقتصادية فحسب، بل استعبدت السكان، فتم استعباد الآلاف من السكان الأفارقة للعمل في المعسكرات أو نقلهم إلى الساحل الأوروبي، في ظروف غير إنسانية للعمل تحت وطأة التعذيب، وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي “روجيه غارودي” في كتابه “صراع الحضارات”: (إن ما صنعه الأوروبيون بحق إخوانهم الأفارقة، ليس سوى جريمة إنسانية مكتملة الأركان، فالخراب الذي حل بأفريقيا، من المستحيل إصلاحه، بعد قتل واستعباد خيرة العقول والأجساد، لم يتبق في هذه القارة المنكوبة سوى المجاعات والأوبئة، والنزاعات الطائفية بين مجموعات بشرية لم تدخل التاريخ الحديث بعد.

إن ما أشعر به تجاه ما فعله الأوروبيون هو شعور بالخزي من الإنسان الأبيض، الذي استباح لنفسه كل شيء)
وإذا استعرضنا الأمر جغرافيًا، سنجد أن أفريقيا بطبيعتها الجغرافية تتعرض للجفاف بشكل دوري من 15 إلى 20 عاما، هذا الجفاف لم يصبها أبدا بهذه المجاعات التي أفتعلها الأوربيون بحق السود، لا لشئ سوى اختلاف لون البشرة.
(يتبع)


المصدر: أوراق بحثية من جامعة واشنطن، للاقتصادي الأمريكي “جوزيف ستيجلتس”




* منقول عن موقع زائـــ18ـــد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...