في بغداد والكاظمية مقاه كثيرة لم يبق منها الان الا القليل وكان بعض تلك المقاهي مثابة للشعراء والادباء والصحافيين، اذكر منها المقهى الصيفي الذي يقع عند الجسر القديم من جهة الكاظمية وكان من ابرز رواده الشاعر الكبير معروف الرصافي حين كان يجمع اوراق شيخوخته ليعلن الرحيل، فقد كنا نشاهده في سنة 1944م عند الغروب وهو يعبر الجسر مشيا من الاعظمية حتى يصل فيستقر على تخت وحده
وقد ارتدى العباءة الصيفية واعتمر الكوفية البيضاء والعقال، وقد نجلس اليه بعد الاستئذان- ونسأله عن شؤون الادب والشعر فيجيب بايجاز ولقد كان في جلسته وحديثه وضخامة تاريخه الادبي يفرض علينا ان نهابه ونحترمه.
ومن رواد ذلك المقهى الكاتب الصحافي الراحل يوسف رجيب، واخرون ومازلت اذكر لحظة اهتزاز الشجر من حولنا والكراسي تحتنا بسبب هزة حدثت للارض في صيف سنة 1946 م وكنا جالسين في ذلك المقهى نستمتع بشاطئ دجلة.
وفي الكرخ مقهى البيروتي وهو يطل على دجلة عند الجسر وقد انتهى وهدم ودخل في الساحة الكبيرة وكان من رواده بعض الادباء والمحامين اذكر منهم الشاعر محمد الهاشمي والشاعر الصديق عبدالحسين الملا احمد والمحامي الكاتب توفيق الفكيكي وكلهم ودعوا الحياة ومقهى الحاج خليل القيسي وهو يطل على شارع الرشيد قبالة شارع المتنبي وكان من رواد هذا المقهى الشاعر الراحل جميل احمد الكاظمي والشاعر كمال نصرة وغيرهما من الادباء وكان صاحبه الحاج خليل يرحب بالقادمين ويعنى بهم. ونترك مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي ومقهى البلدية ومقهى الدفاع وغيرها في الرصافة، ومقاهي الكرخ والصالحية فالحديث عن هذه يطول ولكننا نقتصر الحديث على مقهى (البرلمان) او (مقهى الرشيد) كما سمي بعد ذلك، وهذا المقهى يقع في شارع الرشيد قبالة جامع الحيدرخانة وقد عمر اكثر من اربعة عقود فقد افتتح في اوائل الحرب العالمية الثانية واغلق قبل سنوات وقد انشأه الحاج حسين فخر الدين وهيأ له من اسباب الراحة والتسلية ما ينبغي ان يكون ، وفرش تخوته بالسجاد ليدرأ به برد الشتاء وجمع فيه النرد والشطرنج والدومينو الى جانب الشاي والقهوة والبوارد، واذكر اني دخلت هذا المقهى اول مرة في خريف سنة 1940م وكنت ازور بغداد ثالث زيارة فرأيته على سعته مزدحما بالرواد وبخاصة يوم الجمعة، وقد اعتاد القادمون من النجف ومدن الفرات الاوسط ان يلتقوا فيه ولاسيما الشيوخ والنواب والتجار والادباء وكان صاحبه الحاج حسين فخر الدين، وهو من اسرة نجفية معروفة- على صلة بهؤلاء القادمين فقد كان ينظر اليه بوصفه من الوجهاء لا بوصفه صاحب مقهى.
وكنت ارى في هذا المقهى وجوها كثيرة من انحاء العراق فهذا احد ابناء الشيخ شعلان ابو الجون وذاك السيد كامل ابو طبيخ بوجهه الصبوح وثيابه الجميلة، وبالقرب منا صديقنا الراحل عزيز الظالمي بعباءته وكوفيته البيضاء، وذاك صديقنا الراحل جعفر الاعسم جاء لبعض اشغاله وقد يبتسم حين نستعيد الى الذاكرة نبأ اعتقالنا في النجف وقد وجهت الينا تهمة تحريض العشائر على الثورة وفي مقدمتنا الشاعر محمد صالح بحر العلوم، وهذا الصحافي الاديب جعفر الخليلي- يعتمر السدارة- وقد جاء من النجف يبحث عن ورق لجريدة (الهاتف).. وذاك (نائب) جاء ليعلن عن فوزه في كرسي النيابة، وصوت النرد والدومنة يملأ الاذن قبل صوت المتحدث القريب الا حين تذاع اخبار الحرب وقد تلوح البهجة على الوجوه حين يذاع نبأ عن انتصار دول المحور فقد كان العراقيون يكرهون الانكليز ويتمنون هزيمتهم في الحرب ماعدا الظالعين معهم.. والصديق الراحل الشيخ عبدالباقي العاني امام جامع العاقولية بعمته وجبته جاء يريد قصيدة لمجلة (الناشئة الاسلامية) ولابأس من التسلية بلعبة النرد فقد كان يتجدر فيها.. وكذلك الكاتب الاديب سليم طه التكريتي وهو يبتسم بعد ان تكون مواد جريدة (الرأي العام) قد صارت الى المطبعة والشاعر محمد صالح بحر العلوم يجلس الى نفر من الشباب وعيناه تتحديان القادمين والذاهبين وكان يكره الانكليز والالمان على السواء وربما كان له عذر في ذلك فالانكليز يحتلون العراق والالمان اعلنوا الحرب على الاتحاد السوفيتي.
وقد يكون من الرواد صديقنا المؤرخ الراحل السيد محمد علي كمال الدين وقد اعتمر الصدارة التي كانت شائعة انذاك ويده تداعب خرز السبحة، وقد نرى الشاعر الراحل عبدالرزاق محيي الدين يجلس بالقرب من صاحب المقهى ومعه الاديب الراحل عبدالكريم الدجيلي. وفي مكان قريب يجلس الكاتب يوسف رجيب ودخان (النرجيلة) يملأ رئتيه ولعبة النرد تستبد بوقته. ويتكئ الى النافذة الاديب عبدالحميد الدجيلي ولعله يفكر في اللغة والنحو، وكانت على الجدار صورتان وفي اول مايس من سنة 1941 تغيرت احداهما وانتهى شهر مايس فعادت القديمة الى مكانها وطويت الصورة الطارئة، وقلت للحاج حسين: احتفظ بالاطار فقد تتغير الصورة مرة اخرى، فقال: وما يدريك فقد تتغير الصورتان معا.
نحن في اوائل العقد السادس من هذا القرن والمقهى مازال مزدحما بالمرتادين والحاج حسين يجلس الى صندوقه عند الباب والكهل الطيب (وهل) يفترش الرصيف قرب باب المقهى وقد نشر الصحف والمجلات وهو في كل صباح ومساء يطوف داخل المقهى ويوزع الصحف على الراغبين في قراءتها ويأخذ من كل واحد اجرا لايتجاوز عشرة فلوس. انتقل بعضهم الى مقاه اخر، وبقي رواد الشطرنج والنرد والنرجيلة ، والاصدقاء مازالوا يبتردون صيفا او يستدفئون شتاء في اوقات الراحة ومنهم خاشع الراوي وفؤاد عباس والمحامي محمد نجيب الجبوري وعبدالقادر رشيد الناصري وهؤلاء الادباء الشعراء ودعوا الدنيا الى ظلام القبور. ولكنني مازلت ارى الشاعر شفيق القيماقجي يأخذ مكانه الى جانب خضر العباسي، وقد يرتاد المقهى الصحافي المتنوع عبدالقادر البراك فينتحي جانبا مع عشيقته (النرجيلة) وهو يحيي عارفيه بابتسام وتواضع. والشاعر بلند الحيدري يسلم ويجلس وهو يمزج الضحكة الخفيفة بالانفعال والتذمر من فراغ الجيب ولكنه لاينسى الحديث في الشعر واللغة ولعله كان يوافقني في الرأي ان الشاعر بلا لغة كالجندي بلا سلاح وكثيرا ما يدخل الشاب النحيل بدر شاكر السياب وهو يتهادى في مشيته ويتأبط كتابا فيجلس ويشارك في الحديث. وفي مقعد قريب يجلس الشاعر حسين مردان والسيجارة لاتفارق شفتيه واحاديثه في الشعر والنقد. والشيخ علي البازي شاعر المؤرخين جاء من الكوفة ليجدد العهد ببغداد وقد جلس و(النارجيلة) الى جواره. والشاب المسكين الذي وعده المرشح ان يجد له عملا بعد الفوز بكرسي النيابة ولكن ذلك المرشح لم يوف بوعده، قلت للشاب: لابأس فهذه رسالة الى صديق وجاء الشاب بعد اكثر من ساعة وهو مستبشر فقد وجد له الصديق عملا مناسبا.
نحن في سنة 1959م وهذا بدر شاكر السياب يخرج من المقهى وكنت قادما اليه فيسلم وقد امتص المرض دمه وزاده شحوبا على شحوب، قلت: الى اين بدر؟ فقال: لست ادري، ولعله كان يعاني ازمة تصطرع في اعماقه فلا يدري الى اية جهة يصير، وسألته ما رأيك في اتحاد الادباء الجديد؟ فقال: لا ادري فقلت له: اتشارك فيه؟ فقال: ها.. لا ادري.. كان السياب يحب ان اتحدث اليه ويتحدث الي وفي تلك الاثناء طلبت منه ان يرافقني الى زيارة الصديق الاستاذ ذنون ايوب فاجاب طلبي بلا تردد وكنت اسعى الى ان يكون لبدر شأن في اتحاد الادباء وذهبنا الى مكتب الاستاذ ذنون في (السراي) وكان اذ ذاك مديرا للرعاية وقبل ان يستقر بنا المكان قلت: يا ابا ثائر ها هو ذا بدر بجسمه النحيل وشاعريته الضخمة ورحب بنا الاستاذ ذنون وتمنى ان يحتل بدر مكانه في الاتحاد.
ولكن السياب كان ساكتا لايدري مايقول سوى ابتسامة تعبر عن حيرة وشرود فكر، وافترقنا على غير ما اتفاق، ثم غاب بدر وهو يصارع ازمته ومرضه واغتاله الموت بعيدا عن محبيه.
وفي السنين القريبة جاء شاب من النجف كان من المأمول ان يكون له شأن في دنيا الشعر وكنت استمع اليه وهو ينشدني قصائده الرقيقة ويسمع مني الاطراء والثناء ولكنه اخذ يرتاد مقهى الرشيد وقد لعبت به الشمول، ولم ينفع معه النصح فمات وهو شاب، انه عبدالامير الحصيري، وثقلت رجلاي عن ارتياد مقهى الرشيد فصرت لا ازوره الا لماما بل لقد اثرت البعد عنه فكنت امر ولا اتلفت واذا تلفت فالمقاعد خالية من الاصدقاء الا القليل فقد انطفأت شموع وغابت كواكب واستبد التراب بالكثيرين.
وفي يوم من نهاية المطاف مررت مجتازا بباب المقهى فاذا شخص يسرع الى الخارج ويدعوني الى الجلوس انه الصديق الراحل المحامي محمود العبطة فلم يكن بد من الاستجابة لدعوته ولقد كانت الزيارة هي زيارة الوداع للصديق العبطة وللمقهى الذي كان يصارع القدر في ساعة احتضاره .
م. افاق عربية 1983
www.almadasupplements.com
وقد ارتدى العباءة الصيفية واعتمر الكوفية البيضاء والعقال، وقد نجلس اليه بعد الاستئذان- ونسأله عن شؤون الادب والشعر فيجيب بايجاز ولقد كان في جلسته وحديثه وضخامة تاريخه الادبي يفرض علينا ان نهابه ونحترمه.
ومن رواد ذلك المقهى الكاتب الصحافي الراحل يوسف رجيب، واخرون ومازلت اذكر لحظة اهتزاز الشجر من حولنا والكراسي تحتنا بسبب هزة حدثت للارض في صيف سنة 1946 م وكنا جالسين في ذلك المقهى نستمتع بشاطئ دجلة.
وفي الكرخ مقهى البيروتي وهو يطل على دجلة عند الجسر وقد انتهى وهدم ودخل في الساحة الكبيرة وكان من رواده بعض الادباء والمحامين اذكر منهم الشاعر محمد الهاشمي والشاعر الصديق عبدالحسين الملا احمد والمحامي الكاتب توفيق الفكيكي وكلهم ودعوا الحياة ومقهى الحاج خليل القيسي وهو يطل على شارع الرشيد قبالة شارع المتنبي وكان من رواد هذا المقهى الشاعر الراحل جميل احمد الكاظمي والشاعر كمال نصرة وغيرهما من الادباء وكان صاحبه الحاج خليل يرحب بالقادمين ويعنى بهم. ونترك مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي ومقهى البلدية ومقهى الدفاع وغيرها في الرصافة، ومقاهي الكرخ والصالحية فالحديث عن هذه يطول ولكننا نقتصر الحديث على مقهى (البرلمان) او (مقهى الرشيد) كما سمي بعد ذلك، وهذا المقهى يقع في شارع الرشيد قبالة جامع الحيدرخانة وقد عمر اكثر من اربعة عقود فقد افتتح في اوائل الحرب العالمية الثانية واغلق قبل سنوات وقد انشأه الحاج حسين فخر الدين وهيأ له من اسباب الراحة والتسلية ما ينبغي ان يكون ، وفرش تخوته بالسجاد ليدرأ به برد الشتاء وجمع فيه النرد والشطرنج والدومينو الى جانب الشاي والقهوة والبوارد، واذكر اني دخلت هذا المقهى اول مرة في خريف سنة 1940م وكنت ازور بغداد ثالث زيارة فرأيته على سعته مزدحما بالرواد وبخاصة يوم الجمعة، وقد اعتاد القادمون من النجف ومدن الفرات الاوسط ان يلتقوا فيه ولاسيما الشيوخ والنواب والتجار والادباء وكان صاحبه الحاج حسين فخر الدين، وهو من اسرة نجفية معروفة- على صلة بهؤلاء القادمين فقد كان ينظر اليه بوصفه من الوجهاء لا بوصفه صاحب مقهى.
وكنت ارى في هذا المقهى وجوها كثيرة من انحاء العراق فهذا احد ابناء الشيخ شعلان ابو الجون وذاك السيد كامل ابو طبيخ بوجهه الصبوح وثيابه الجميلة، وبالقرب منا صديقنا الراحل عزيز الظالمي بعباءته وكوفيته البيضاء، وذاك صديقنا الراحل جعفر الاعسم جاء لبعض اشغاله وقد يبتسم حين نستعيد الى الذاكرة نبأ اعتقالنا في النجف وقد وجهت الينا تهمة تحريض العشائر على الثورة وفي مقدمتنا الشاعر محمد صالح بحر العلوم، وهذا الصحافي الاديب جعفر الخليلي- يعتمر السدارة- وقد جاء من النجف يبحث عن ورق لجريدة (الهاتف).. وذاك (نائب) جاء ليعلن عن فوزه في كرسي النيابة، وصوت النرد والدومنة يملأ الاذن قبل صوت المتحدث القريب الا حين تذاع اخبار الحرب وقد تلوح البهجة على الوجوه حين يذاع نبأ عن انتصار دول المحور فقد كان العراقيون يكرهون الانكليز ويتمنون هزيمتهم في الحرب ماعدا الظالعين معهم.. والصديق الراحل الشيخ عبدالباقي العاني امام جامع العاقولية بعمته وجبته جاء يريد قصيدة لمجلة (الناشئة الاسلامية) ولابأس من التسلية بلعبة النرد فقد كان يتجدر فيها.. وكذلك الكاتب الاديب سليم طه التكريتي وهو يبتسم بعد ان تكون مواد جريدة (الرأي العام) قد صارت الى المطبعة والشاعر محمد صالح بحر العلوم يجلس الى نفر من الشباب وعيناه تتحديان القادمين والذاهبين وكان يكره الانكليز والالمان على السواء وربما كان له عذر في ذلك فالانكليز يحتلون العراق والالمان اعلنوا الحرب على الاتحاد السوفيتي.
وقد يكون من الرواد صديقنا المؤرخ الراحل السيد محمد علي كمال الدين وقد اعتمر الصدارة التي كانت شائعة انذاك ويده تداعب خرز السبحة، وقد نرى الشاعر الراحل عبدالرزاق محيي الدين يجلس بالقرب من صاحب المقهى ومعه الاديب الراحل عبدالكريم الدجيلي. وفي مكان قريب يجلس الكاتب يوسف رجيب ودخان (النرجيلة) يملأ رئتيه ولعبة النرد تستبد بوقته. ويتكئ الى النافذة الاديب عبدالحميد الدجيلي ولعله يفكر في اللغة والنحو، وكانت على الجدار صورتان وفي اول مايس من سنة 1941 تغيرت احداهما وانتهى شهر مايس فعادت القديمة الى مكانها وطويت الصورة الطارئة، وقلت للحاج حسين: احتفظ بالاطار فقد تتغير الصورة مرة اخرى، فقال: وما يدريك فقد تتغير الصورتان معا.
نحن في اوائل العقد السادس من هذا القرن والمقهى مازال مزدحما بالمرتادين والحاج حسين يجلس الى صندوقه عند الباب والكهل الطيب (وهل) يفترش الرصيف قرب باب المقهى وقد نشر الصحف والمجلات وهو في كل صباح ومساء يطوف داخل المقهى ويوزع الصحف على الراغبين في قراءتها ويأخذ من كل واحد اجرا لايتجاوز عشرة فلوس. انتقل بعضهم الى مقاه اخر، وبقي رواد الشطرنج والنرد والنرجيلة ، والاصدقاء مازالوا يبتردون صيفا او يستدفئون شتاء في اوقات الراحة ومنهم خاشع الراوي وفؤاد عباس والمحامي محمد نجيب الجبوري وعبدالقادر رشيد الناصري وهؤلاء الادباء الشعراء ودعوا الدنيا الى ظلام القبور. ولكنني مازلت ارى الشاعر شفيق القيماقجي يأخذ مكانه الى جانب خضر العباسي، وقد يرتاد المقهى الصحافي المتنوع عبدالقادر البراك فينتحي جانبا مع عشيقته (النرجيلة) وهو يحيي عارفيه بابتسام وتواضع. والشاعر بلند الحيدري يسلم ويجلس وهو يمزج الضحكة الخفيفة بالانفعال والتذمر من فراغ الجيب ولكنه لاينسى الحديث في الشعر واللغة ولعله كان يوافقني في الرأي ان الشاعر بلا لغة كالجندي بلا سلاح وكثيرا ما يدخل الشاب النحيل بدر شاكر السياب وهو يتهادى في مشيته ويتأبط كتابا فيجلس ويشارك في الحديث. وفي مقعد قريب يجلس الشاعر حسين مردان والسيجارة لاتفارق شفتيه واحاديثه في الشعر والنقد. والشيخ علي البازي شاعر المؤرخين جاء من الكوفة ليجدد العهد ببغداد وقد جلس و(النارجيلة) الى جواره. والشاب المسكين الذي وعده المرشح ان يجد له عملا بعد الفوز بكرسي النيابة ولكن ذلك المرشح لم يوف بوعده، قلت للشاب: لابأس فهذه رسالة الى صديق وجاء الشاب بعد اكثر من ساعة وهو مستبشر فقد وجد له الصديق عملا مناسبا.
نحن في سنة 1959م وهذا بدر شاكر السياب يخرج من المقهى وكنت قادما اليه فيسلم وقد امتص المرض دمه وزاده شحوبا على شحوب، قلت: الى اين بدر؟ فقال: لست ادري، ولعله كان يعاني ازمة تصطرع في اعماقه فلا يدري الى اية جهة يصير، وسألته ما رأيك في اتحاد الادباء الجديد؟ فقال: لا ادري فقلت له: اتشارك فيه؟ فقال: ها.. لا ادري.. كان السياب يحب ان اتحدث اليه ويتحدث الي وفي تلك الاثناء طلبت منه ان يرافقني الى زيارة الصديق الاستاذ ذنون ايوب فاجاب طلبي بلا تردد وكنت اسعى الى ان يكون لبدر شأن في اتحاد الادباء وذهبنا الى مكتب الاستاذ ذنون في (السراي) وكان اذ ذاك مديرا للرعاية وقبل ان يستقر بنا المكان قلت: يا ابا ثائر ها هو ذا بدر بجسمه النحيل وشاعريته الضخمة ورحب بنا الاستاذ ذنون وتمنى ان يحتل بدر مكانه في الاتحاد.
ولكن السياب كان ساكتا لايدري مايقول سوى ابتسامة تعبر عن حيرة وشرود فكر، وافترقنا على غير ما اتفاق، ثم غاب بدر وهو يصارع ازمته ومرضه واغتاله الموت بعيدا عن محبيه.
وفي السنين القريبة جاء شاب من النجف كان من المأمول ان يكون له شأن في دنيا الشعر وكنت استمع اليه وهو ينشدني قصائده الرقيقة ويسمع مني الاطراء والثناء ولكنه اخذ يرتاد مقهى الرشيد وقد لعبت به الشمول، ولم ينفع معه النصح فمات وهو شاب، انه عبدالامير الحصيري، وثقلت رجلاي عن ارتياد مقهى الرشيد فصرت لا ازوره الا لماما بل لقد اثرت البعد عنه فكنت امر ولا اتلفت واذا تلفت فالمقاعد خالية من الاصدقاء الا القليل فقد انطفأت شموع وغابت كواكب واستبد التراب بالكثيرين.
وفي يوم من نهاية المطاف مررت مجتازا بباب المقهى فاذا شخص يسرع الى الخارج ويدعوني الى الجلوس انه الصديق الراحل المحامي محمود العبطة فلم يكن بد من الاستجابة لدعوته ولقد كانت الزيارة هي زيارة الوداع للصديق العبطة وللمقهى الذي كان يصارع القدر في ساعة احتضاره .
م. افاق عربية 1983
مقهى الرشيد (البرلمان) كما عرفته - ملاحق جريدة المدى اليومية
ابراهيم الوائلي في بغداد والكاظمية مقاه كثيرة لم يبق منها الان الا القليل وكان بعض تلك المقاهي مثابة للشعراء والادباء والصحافيين،