عاطف عبد الله - سوزان.. قصة قصيرة

أغلق حاج الطاهر الخزانة الحديدية الضخمة القابعة خلف طاولة مكتبه بعد أن إطمأن على محتوياتها من أوراق خضراء وحمراء، .. لملم بعض الرسائل من على ظهر الطاولة، وضعها بعناية داخل درج مكتبه، تحسس سلسلة مفاتيحه تأهبا للخروج . عدل وضع العمامة على رأسه، مسح على لحيته، حمل شاله الحريري المخطط في يد والمسبحة في اليد الأخرى وغادر مكتبه وهو يتمتم ويهمهم بأوردة وأدعية ألف قولها كلما هم بالخروج أو الدخول لمكتبه، عبر الردهة الواسعة ذات المكاتب المتفرقة، ودعه الجالسين من ورائها وهم يرسمون على وجوههم ابتسامة الرضا.

مع السلامة يا حاج -

مع السلامة -

لحقته سكرتيرته الوضيئة الفاتنة وهي تزيح بيدها خصلات شعرها الحريري المنساب أمامها ..

يا حاج حترجع المكتب تاني -

بتسألي ليه ؟؟ -

لأني ممكن أطلع بدري شوية .. -

ثم استدركت سريعا:

أصلو الليلة الأحد. -

طيب يا سوزان.. الشغل المعاك بعد ما تخلصيه أديه لي عباس وقول ليه لازم يرسله -
الليلة بالبريد السريع عشان البضاعة تصل في مواعيدها ، أنا ماشي البنك ولو اتصلت الحاجة خليها تكلمنى على الموبايل.

طيب يا حاج -

غادر مكتبه واستغل المصعد إلى الطابق الأرضي، وبصعوبة سببتها بطنه المترهلة, ولج داخل سيارته الفاخرة، أدار المحرك وقبل أن يختتم دعاء السفر كان فكره قد هام وراء طيف سوزان.. لقد استحوذت على لبه وملكت تفكيره منذ لحظة دخولها المكتب لأول مرة تبحث عن وظيفة .

يومها قابلها عباس، بلحيته المتشعثة وجلبابه الذي يبين كعبي قدميه المسلولتين. حاول صرفها قبل أن يراها الحاج، ليس فقط بسبب ملابسها غير المحتجبة، بل ذلك الصليب الذهبي الذي يتدلى على صدرها. حينها لم يتوان في أن يدعي بإن الشركة ليست بها وظائف شاغرة وأشاح بوجهه عنها متأففاً وهو يشير لها بطرف سبابته بالخروج، فذكرت له الإعلان المنشور في الصحيفة ، إلتفت إليها وزجرها بصوت عال وهو يأمرها بمغادرة المكان؟ سمعه الحاج وخرج من مكتبه ، ومن أول نظرة بهره بهائها وحسنها ولم ينزعج عند رؤية الصليب على عنقها ، بل على العكس فلشئ في نفسه سر به .. فقد كان منذ زمن يبحث عن مدخل, بعيدا عن السماسرة والوسطاء للمتاجرة في بيوت وأراضي الأقباط المهاجرين ويعلم أن الكثيرين من رفقائه قد جمعوا ثروات طائلة من تلك المزارع والأراضي والبيوت التي خلفها الأقباط المهاجرين والمهجرين. وهاهي إحداهن تأتيه بقدميها، جميلة وفاتنة. لم يتردد في منحها الوظيفة الشاغرة . وهي لم تلبث إلا بضعة أشهر حتى أصبحت من أهم العاملين بالشركة، ليس بفضل جمالها وحسنها بل بفعل نشاطها وكفاءتها. فهي تجيد التعامل مع الحاسوب وتتقن الطباعة ومسك الدفاتر المحاسبية وإعداد البيانات المالية كما كانت تتحدث وتكتب الإنجليزية كما يتحدثها ويكتبها أهلها..



قبل قيام الانتفاضة الشعبية التي أزاحت حكم الطاغية نميري لم يكن أسم حاج الطاهر فتح الباب معروفا سواء في دنيا السياسة أم عالم المال، وقتها كان موظفا صغيرا ومغمورا في إحدى المصارف الحكومية، وخلال الديمقراطية الثالثة بدأ الاسم يلمع في صفوف الإسلاميين. وحينما جاء حكم الإنقاذيين برز أسم الحاج في عالم المال ، ففي عهدها فُتِحَ عليه فتحا مبينا كأنما هبطت عليه الثروة من السماء، دخل دنيا التجارة من أوسع أبوابها، امتدت مكاتبه وتشعبت أعماله من الخرطوم لبورتسودان ومن كسلا إلى الفاشر، ومن القاهرة إلىبروكسل ومن لندن إلى كوالالامبور وأصبح رقما لا يستهان به في دنيا المال والاقتصاد.



أما عامله عباس فقد نشأ وترعرع في أحدى أحياء المدن الفقيرة، أكمل تعليمه الأوسط ومثله والآلاف وجد نفسه يواجه مصاعب الحياة دون أن يكون مسلحا بعلم ينتفع به أو مهنه يقتات منها، ولكن رغم ذلك كان عباس مثله مثل غيره من شباب الحي يحتسي العرقي كلما وجد مجلس للشرب، ويسف السعوط بانتظام ، يستمع إلى ما يتيسر له من أغاني الحقيبة ووردي وزيدان إبراهيم ، ويدخن السجائر كلما وجد له سبيلا ويتقاسم أنفاسه مع أنداده في الحواري والأزقة الضيقة فيما يعرف بـ " التخميسة "، كما كان أيضا مثلهم يحرص على أن لا تفوته صلاة الجمعة في مسجد الحي الصغير. ويحلم بالوظيفة وبناء الأسرة والبيت، وعندما أتى حكم الإنقاذيين وذاق الناس شظف العيش وضيق المعايش كان لابد لعباس أن يشق له سبيل وان يجد له موطئ قدم في غابة الأرزاق التي صارت حكرا لفئة صغيرة من الناس. الأمر لديه بدأ كمزحة حينما أطلق لحيته وسماها "دعوني أعيش"، لم يكن في تصوره أبدا أن ينتهي به الحال إلى ذاك المآل، كان يعرف الحاج الذي تربطه به صلة قرابة أسرية ظلت فاترة منذ أن وعى الدنيا، علاقة لا يدرك كنهها، أنضم لتنظيم الإسلاميين حتى يوثق من عراها ، فكان له ما أراد . حيث التحق بالعمل معه، وانضم عباس حسب نصيحة الحاج له إلى فوج المجاهدين الأوائل الذين عرفوا بالدبابين، وحتى تلك اللحظة لم يكن الأمر يعني بالنسبة له أكثر من ما تحمله الشعرات النابتة بإهمال على صفحة وجهه من معنى. لكن شيئا فشيئا جذبه ذلك العالم الذي صور له أن الزمن قد عاد للوراء وأن عصر الخلفاء الراشدين قد هلَ على الدنيا من جديد، وعما قريب سيرعى الحمل مع الذئب وسيسود العدل ويعم الرخاء ، وصارت الحرب تعني له ما كانت تعنيه غزوات المسلمين الأوائل الجهاد والاستشهاد ووعود بالحور العين، تغيرت الأسماء والأشياء والمعاني والأغاني عنده، فصار هو يدعى بأبي الفضل وأصدقاءه هم أبو الدرداء وإبن حنيف وأبو دجانة وشقيقاته من أخوات نسيبة هن خولة وأم حجيلة أما من ألأغاني فصار لا يهتز إلا عند سماع " في حماك ربنا .. في سبيل ديننا" ، و لا تمتلأ أوداجه وينتفخ صدره غبطاً إلا عند غناء "يا أمريكا لمي جدادك ... وما شابهها " شارك مع الأبرار وخرج في لواء الأخيار وبعد عودته من كل جهاد ضد ما يسميهم بالمشركين وعملاء الصليبيين في الجنوب وفي الشرق يعود لعمله وهو أكثر تزمتا وأكثر تبعيةً ووفاءاً وإخلاصاً لواليه ووليه الحاج، لكنه كان لا يمكث طويلا بعمله ، فما أن تمر عليه عدة أيام في المدينة إلا ويخرج للجهاد كلما تنادى له، والحاج لا يبخل عليه بشئ، كان راضيا عن سير حياته ومطمئنا على دنياه وعلى آخرته إلى أن جاءت سوزان.



أول تغيير كيفي في حياة عباس بعد تحوله لأبي الفضل كان حينما طلب منه الحاج أن يتخلى عن الجلباب ويرتدي البنطلون والقميص حتى تتناسب هيئته مع المستوى الذي آلت له الشركة، يومها قال له الحاج مازحا:

أنت موظف يا أخي مش مداح -

كان الأمر صعبا علي عباس، ظن أن مشروعه الحضاري في خطر، ولكنه تقبل أوامر الحاج على مضض خاصة بعد أن رآه بعد ذلك يأتي إلى المكتب وهو يرتدي البدلة الكاملة وربطة العنق والحذاء اللامع بدلا عن الجلباب والعمامة والمركوب.



كان الحاج متزوجا من ابنة عمه، أولاده وبناته يدرسون في أوروبا وأمريكا، ولم يتزوج من زوجته إلا لأنها ابنة عمه " غطى قدحه " . تزوجها حين كان لا يزال موظفا صغيرا. حينها كانت تناسبه تماما، ولكن السؤال الذي أخذ يلح عليه مؤخرا أو بالأصح بعد ظهور سوزان في حياته هو هل مازالت تناسبه؟ طوال السنوات السابقة لم يكن هذا الأمر يشغل تفكيره، ولم يكن يعيره أي أهمية، كان يظن أن هذه هي سنة الحياة وطبيعة الأشياء، لم يفكر يوما بأن يتزوج عليها، أو يتخذ له خليلة بواسطة الزواج العرفي أو السري "الموضة المنتشرة في السنوات الأخيرة " والذي نصحه به كثير من أصدقائه خاصة بعد انتشار المكاتب المتخصصة في تسهيل مثل هذه العلاقات بين أمثالة من الأثرياء الجدد وطالبات الأقاليم الفقيرات اللاتي يحضرن للعاصمة من أجل الدراسة الجامعية، ويواجهن ظروفا اقتصادية صعبة لا يقدرن على مواجهتها ولا يملكن إلا خياري ترك الدراسة والعودة من حيث أتين, أو ممارسة الرذيلة مباشرة بالدعارة أو مستترة بالزواج العرفي.



والزوجه امرأة مثلها مثل سائر النساء ممن هن في وضعها، اكتنزت لحما و امتلأت شحما، لا يهمها حين يحضر زوجها للبيت إن كانت تفوح منها رائحة الثوم أو البصل فهو على حد علمها لا يكره الثوم ولا يتأفف من البصل، لا تعرف السياسة ولا تهتم بها ولكن قيل لها تحجبي فتحجبت وتديني فتدينت، وكل زينتها ذهب يغطي اليدين والرأس والصدر, يكفي لفتح محل للذهب في سوق الصاغة.



أما سوزان فقد كانت قبطية حسناء في العشرينيات من عمرها، معظم أفراد أسرتها بما فيهم أشقاؤها هاجروا في السنوات الأخيرة إلى كندا وأمريكا ودول الغرب. والدها متوف, أمها رفضت الهجرة، فضلت البقاء حتى تظل قريبة من قبر زوجها ومدافن آبائها التي كانت تزورهم بانتظام بعد كل قداس. ظلت سوزان قرب أمها على الرغم من أن الأخيرة طلبت منها مرارا وتكرارا اللحاق بإخوتها وأخوالها في المهجر وأن تدعها هي لتحرس القبور. وكانت تطمئنها بأن ما تبقى لها من أهل وجيران لن يتخلوا عنها ولن يشعروها بالوحدة. لكن سوزان لم تكن أبدا ترى أي سبب كي تهاجر, رفضت الفكرة كما رفضت أن تتركها وحيدة خاصة بعد أن تكالب عليها المرض ووهنت قواها.



عباس يمقت سوزان، يكفيه أن ينظر لذلك الصليب الملتصق على صدرها ليزداد كرها لها. رأسه محشو بالأفكار عن مؤامرات مجلس الكنائس العالمي ودول الاستكبار، وهي لم تكتف بإعلان مسيحيتها على الملأ فقط, بل أيضا دكت ثوابته التي ألفها وحمى واحتمى بها من هاجس الفكر والتفكير. فهو يؤمن بأن مثيلاتها من الفتيات يعشن كالأنعام في إباحية وعدم انضباط خلقي ولا يسردن إلا فاحش القول ، ليس لديهن وازع أو رادع أو دين. ولكن سوزان كانت تبدو مختلفة عن تلك الصورة التي في ذهنه، كانت كثيرة الاعتداد بنفسها وثقافتها و دينها، وأنها على خلق ومثل وقيم ومبادئ ، يا للعجب !! لسانها عفيف لا يقول إلا الصدق، تعمل بكد وجد وأمانة، وتواظب على حضور الصلاة في الكنيسة ظهر كل أحد، وأكثر ما كان يغيظه والأمر الذي لم يقدر أن يتقبله أو يفهمه أبدا هو ادعاؤها أنها تحب وتعشق السودان.

لكن عباس بفطنته ودهاء الأعرابي فيه ظل يشك في مسلكها، وتوصل لفكرة أراحته كثيرا في أنها جاسوسة للأعداء، أرسلتها إحدى دول الاستكبار أو ربما مجلس الكنائس العالمي حتى تتمكن من الحاج وتقوض من خلاله مشروع البلاد الحضاري. فأخذ يرصد حركتها, ينتظر اللحظة التي يسقط عنها قناع العفة وتبين حقيقتها "كالأنعام " حتى ينتصر لثوابته أولا وثانيا يخرجها من حياة الحاج الذي ظل يشكل له المثال الأعلى والنموذج الذي يجب أن يقتدي به. ولم يتردد بأن نقل هواجسه تلك للحاج الذي لم يكتف بالسخرية منه بل وبخه أيضا، ولكن عباس وكلما كان يراها يذكرها بما ينتظرها من عذاب في القبر وفي يوم القيامة. وعندما يكون الحاج خارج مكاتب الشركة يردد على مسمعها بعضا من تلك الأناشيد التي حفظها عن ظهر قلب في معسكرات الجهاد .." الله أكبر ياهو دي .. دفاعنا الشعبي ياهو دي " ضاربا بيده على صدره مشيرا لذاته ، يذكرها بأنه هنا حاضرا لإحباط مؤامرات مجلس الكنائس العالمي ودول الاستكبار التي أرسلتها.



أما الحاج فتح الباب فكان لا يعبأ كثيرا بتوجهات عباس الحضارية أو هواجسه التكفيرية التي يعلم أنه لا حد لها، كان شغله الشاغل هو سوزان بعد أن سحره جمالها وبهاؤها، كلما كان يريده هو أن يحصل عليها. فكر كثيرا أن يطلبها للزواج، ولكن أمران جعلاه يتردد, الأولاد وحديث الناس. فارق السن يسقط أمام ما يملك من ثروة، خوفه من ردة فعل الأولاد وما سيقوله الناس عنه كان يزعزعه، لو قبلت أن تتزوجه سرا .. إن قبلت سيكون قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد التجارة في ممتلكات الأقباط من أراضي ومزارع ، كما يمكن أن يعتمد عليها أكثر في إدارة أعماله، ويأتمنها أكثر على أسراره ثم الأهم من كل ذلك هو إشباع شهوته فيها ، فقد كان يرغب فيها أكثر من أي شئ آخر ، وكانت شهوته تفضحه يوما بعد يوم ، وفي كل يوم يبدو أنه أكثر استعدادا لسداد ثمن تلك الرغبة التي تملكته.



ظلت سوزان على حالها، غير عابئة بمضايقات عباس الذي ظل يتنصت ويرصد عليها أنفاسها، أو باهتمام الحاج بها وسعيه الدؤوب للنيل منها. كانت وحيدة تنؤ بحملها ولكنها أمامهم كانت تبدو باردة كجبل الثلج، كأن الأمر لا يعنيها، كان جل همها هو تؤدي عملها وأن تجد من الوقت مايكفي لترعى أمها المريضة، تلك الأم التي لم تصمد طويلا بعد وفاة أبو سوزان، تدهورت حالتها سريعا ووافتها المنية وسكنت روحها للأبد بجوار زوجها.

بعد أن صارت سوزان وحيدة ظن الحاج أنها صارت له وأن الجو قد خلا له. في البدء عرض عليها الزواج في السر وحين رفضت قال لها سيطلبها في العلن وتكرر رفضها، وفي يوم حضر مبكرا على غير عادته وطلبها في مكتبه وعرض عليها ما يسيل له لعاب أي فتاة في عمرها وهو أن يسجل الشركة باسمها، وقال يترجاها:

كل أموالي ستكون تحت أمرك -

لا يهمني المال -

أعلم بمضايقات عباس لك.. سوف أخلصك منه، فعباس ليس سوى آله أنا صنعته -
ا وأعرف كيف أوقفها عند الضرورة .. سأرسله إلى الجنوب أو الشرق أو الغرب وأضمن لك أن لا يعود أبدا فقط أرجو الموافقة ......

إلا أنه فوجئ ليس فقط برفضها الاقتران به بل بتركها العمل معه وقرارها اللحاق بأشقائها وبقية أفراد أسرتها في المهجر.

حينها كان عباس يواصل مهمته المقدسة في التنصت والتجسس على سوزان. صعق حينما سمع كلمات الحاج، الحاج الذي يعني له الأبوة الروحية والمثال والقدوة في لحظه اكتشف أنه لم يكن يعني لديه سوى آله صماء يحركها كيفما يشاء ويوقها متى ما أشاء !! وأن الأمر كله ليس سوى أكذوبة. انهار حينما انهارت الأكذوبة أمام عينيه. خرج من الشركة دون أن يشعر به أحد وعاد قبل أن ينتصف النهار يحمل سلاحا ناريا وعيناه تقدحان الشرر وأخذ يطلق الرصاص على من حوله وهو يهلل ويكبر.. وحتى بعد أن تناثرت الأشلاء من حوله ظل يهلل ويكبر، يكبر ويهلل حتى فرغ سلاحه من الذخيرة، بعدها جثا على الأرض وكور جسده ملتفا حول ذاته وتكور متخذا شكل الجنين داخل رحم أمه ثم أخذ ينتحب.



كان الخبر على صدر الصفحة الأولى للصحيفة " رئيس الجمهورية يحتسب رجل الأعمال المعروف الحاج الطاهر فتح الباب ........"

تفاصيل الخبر منشورة في ركن قصي بإحدى الصفحات الداخلية " معتوه يطلق النار في إحدى المؤسسات الاستثمارية الخاصة ويصيب عدة أفراد, الشرطة تؤكد موت أربعة من العاملين ونقل الجرحى إلى المستشفى، ثلاثة منهم في حالة خطرة ........."

اتكأت سوزان للوراء كمدا وهي تضغط الصحيفة التي تمزقت أطرافها بين راحتيها. أتاها صوت الميكرفون داخل الطائرة " تعلن الخطوط الجوية البريطانية عن قيام رحلتها رقم 705 المتجهة إلى لندن، الرجاء من جميع الركاب ربط الأحزمة والامتناع عن التدخين ...." أغمضت عينيها وعاد التفكير المشوش يعتصر ذهنها، تجمعت الخطوط والأحداث تحت جفني عينيها المسبلتين، الصور تتداخل والكلمات كقرع الطبول تطرق أذنيها ، ، كم مضي عليها من ليالي لم تذق فيها طعم النوم، لم تستطع أن تهرب من ألمها طويلاً فاستسلمت له، ففتحت أذنيها لأزيز الطائرة حتى تسكت أصوات الكلمات بداخلها واستغرقت في إغماءة متقطعة لم تفق منها إلا على صوت المضيفة وهي تسحب عربة الطعام من ورائها وتسألها إن كانت تحبذ عصير البرتقال أم الكوكاكولا مع الوجبة الخفيفة التي وضعتها أمامها... طلبت منها سوزان كوبا من الماءِ، ألغت بالصحيفة ودمعتان ترقرقان في عينيها الفاتنتين ثم التفتت لتلقي نظرة الوداع على المدينة التي خلفتها ورائها والطائرة تشق جوف السماء. ولكن انعكاس شمس الظهيرة على مرآة النيل مع درجة ميلان الطائرة البريطانية جعلها كأنما تنظر لفوهة بركان، فقد كانت المدينة المتوهجة ترقد على كتلة هائلة من اللهب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...