ها هي أمامك بوجهها الفاتن.. دفنت نصفها الأسفل في كومة التبن وصدرها البارز يتحداك.. لماذا تسمرت في مكانك؟ أليست هي اللحظة التي حلمت بها؟ ومن قال إن حبيبتك »وديدة» ستعرف وترفض الزواج منك؟
هي مِلكك الآن.. انظر كيف تفرد ذراعيها وابتسامتها العذبة تزغرد لك.. الجو مهيأ تمامًا لتغرق في بحار اللذة.. الشُّونة التي تضمكما مزدحمة بأكوام التبن وجريد النخل اليابس.. الحقول حولكما ساكنة.. الجميع يقضون فترة القيلولة في النجوع البعيدة.. النخلة الطويلة ــ خارج الشونة ــ ترقبكما في سعادة.. جريدها يتلاعب في الهواء ويصدر أصواتًا كالزغاريد.
ما هذا؟ ابتسامتها ضاعت، وعيناها ترميانك بنظرة غضب؟ إياك أن تجعلها تنقلب عليك.. لا تنسَ أنها استعصت علي أخيك الأكبر غير الشقيق.. هذا يعني انتصارك عليه رغم مباهاته بالأراضي الزراعية التي تملكها أمّه.. أجل اخلع الجلباب هكذا، ولتبق بالقميص والسروال الطويل وليكن هجومك كاسحًا.
ما هذا الذي تسمعه؟ شخص يعطس؟ هل يوجد إنسان بالحقول في هذا الوقت؟
أخرجت نفسها بسرعة من أكوام التبن وارتدت الثوب الأسود الفضفاض في ارتباك.. نسيت القميص فيما يبدو ووضعت كفيها فوق صدرها تخفي فتحة الثوب العُليا.
يا للفضيحة.. ضَبة باب الشونة تصدر عنها أصوات تشبه فرقعات الرّعد.. دخل أخوك الأكبر غير الشقيق.. وقف يُنَقّل بصره بينك وبينها وفمه مفتوح عن آخره.. صرخ بأعلي صوته:
الحقونا يا أهل البلد.. يا فادي الرُّوح.. انجدونا يا خلق هوووه.
واصلت ضبّة الباب فرقعاتها وازدحمت الشُّونة برجال أكثرهم يحملون المناجل.. يحركون أعناقهم يمنة ويسرة وعيونهم جاحظة.. أخوك يواصل صياحه بينما جريد النخلة الطويلة يتحرك بعصبية مثل أذرع النساء في المآتم.
***
سألَتك أُمك وصدرها يعلو ويهبط:
ــ أبوك.. عرف؟
ــ حلف أن يعلقني من قدميّ في سقف البيت.
أطلقت ثلاث صرخات فامتلأ البيت بالنساء والأطفال.. قالت بصوت عالٍ:
زوجي الظالم يريد قتل ولدي بأوامر من زوجته المغرورة بأطيانها.
زنُّوبة الغازية أغوت ولدي وجرجرته إلي الشُّونة. أخوه الذي يكرهنا هو الذي سلطها عليه! والله العظيم.. أُقسم برأس أبي في قبره.. أحرق بالنار كل من يمد يده إلي ولدي.. يا فاطمة.
ــ نعمين يا خالتي
ــ أسرعي إلي نجع (القراقير).. قولي لهم ابنتكم وولدها في خطر!
لم تمض لحظات حتي جاء خمسة من (القراقير) أقارب أمّي.. يحملون النبابيت وأحدهم في يده حربة.. تبدو عليهم السعادة وهم يسمعون أمّي تستنجد بهم.. أهل بلدنا يقولون: (القراقير) يفرحون باليوم الذي يدخلون فيه معركة مثلما يفرح الناس بيوم العيد!
جاء أبي بجسده العملاق، عليه جلباب أسود وعلي رأسه عمامة ضخمة.. يبدو أنه فوجئ بالرجال الخمسة.. أخذ يوجّه إليهم نظرات نارية دون أن يُلقي بالسلام.. أدار عنقه ناحيتي وقال بلهجة صارمة:
ــ اطلع قّدّامي يا ولد.
دارت أمي بساعديها حول عنقي من الخلف وصرخت:
ــ لن يستطيع جنس بني آدم أخذ ولدي مني.
دار ببصره علي الرجال الخمسة وقال لها: يعني تحتمين بأقاربك؟
ــ أقاربي أرجل ناس في البلد.
ــ هذا ولدي.. لا يستطيع أحد منعي من أخذه.
قال أحد الرجال بلهجة حاسمة: حمدان وأمه أمانة في أيدينا!
قالت أمي وقد بدا عليها السرور: خذه من (القراقير) لو تقدر.
مضت لحظة وهو يدير بصره بين أمي وبين أقاربها قبل أن يقول بلهجة من يهوي علي رأسها بنبّوت الشُّوم:
ــ انت طالق.
>>>
البيت يغص بالنساء يواسين أمك.. وجهها الصبوح بدا شاحبًا وسط الخمار الأسود.. إحدي الجارات انخرطت في البكاء وهي تقول لها:
ــ ربنا لن ينساك.
جارة أخري أشارت إليك وقالت:
ــ هي لن تحتاج إلي أحد وعندها حمدان.. أصبح رجلاً الآن.. ينفق علي نفسه وعلي أمّه.
تساءلت إحداهن: وما العمل الذي يصلح له حمدان؟
ــ يزرع مع أبيه.
ألم تقولوا إن بعضهم عرض علي أبيه أن يعمل معه في الزرع علي أن ينفق عليه وعلي أمه فرفض الأب.. قال لن أنفق عليها مليمًا واحدًا؟
ــ يعمل مع أحد المزارعين.
أجير؟ ابن عطية العسران.. صاحب السّواقي والأطيان.. يعمل أجيرًا علي آخر الزمن؟
ــ يعمل بالتجارة.
التجارة تحتاج إلي خبرة ورأس مال.
ــ بسيطة.. يذهب إلي حقل الحاج صالح.. فهو يبيع الطماطم التي برع في زراعتها للأولاد الذين يسرحون بها في النجوع.
ــ حمدان.. يسرح بالطماطم في النجوع مثل المقاطيع؟!
ــ لا داعي للنجوع.. يبيعها لتُجار البندر.. ربحها أقل لكنها أكرم.
الحوار يدور حولك وأنت مشغول في تحسُّس نصل الحربة القصير الذي صنعه لك الحداد وغرسه أسفل عصاك الشُّومية.. تتمني لو طعنت به صدر عمتك التي تكره أمك.. سمعتها تقول في شماتة: »ما أن طلقها أخي حتي تحولت إلي امرأة مسكينة.. تعيش في بيت مثل زريبة الدجاج بعد أن كانت تقيم في بيت يشبه السّراي.
آه.. هل وصلت هذه الأخبار إليك يا وديدة؟ هل سأسقط في نظرك يا حبيبتي، حينما أتحول إلي شخص يسرح بقفص طماطم مثل أبناء الذين لا يملكون أرضًا ولا مالا؟
***
قفص الطماطم أتعبك.. رُبع نهار وأنت تحمله علي رأسك.. المشوار إلي بندر كوم إمبو طويل.
ساعدك تاجر البندر في إنزاله وتأملك قليلاً قبل أن يقول باسمًا:
ــ إذا كان كل رأس مالك قفص طماطم.. من أين جئت بهذه الجلابية بقيطانها الفاخرة، وهذا الصديري الحريري، مع العمامة من قماش الكريب الرقيق مرتفع الثمن؟
ــ وأنت مالك؟!
ــ يا ساتر.. إنت زعلت؟
ــ خُذ الطماطم وهات لي فلوسي وانت ساكت!
ــ أعوذ بالله.. ما هذه الأخلاق الشرسة!
حمل القفص الفارغ واتجه إلي المقهي الذي يرتاده أبناء قريته.
آخر مرّة جئت إلي البندر علي صهوة فرسكم (عبلة) وأصحاب الدكاكين يتطلعون إليك في إعجاب.. أشار إليك أحد المارة ــ من أبناء البندر الذين يتعالون علي أبناء القُري ــ وقال لزميله: أراه دائمًا يركب هذه الفرس اللطيفة.. أظنه ابن عُمدة.
أُنظر إلي حالك اليوم وأنت تحمل هذا القفص الفارغ.. لو كانت أُسرة والدتك أحسن حالاً لزرعت مع خالك واحتفظت بقيمتك.
لمح ابن العُمدة يجلس في أحد أركان المقهي وحوله عدد من أصحابه.. منهم صديقك طه ابن شيخ البلد، وصديقك الآخر مرقص ابن التاجر سمعان.. المفروض أن تنضم إليهم كسالف الأيام.. أنت الآن من طبقة أقلّ شأنًا.. هذا العمود العريض يفصلك عنهم فاجلس خلفه.
وضع القفص علي الأرض وفوقه العصا ذات الحربة في أسفلها.. أشار علي صبي المقهي وقال: شاي تقيل يا عبدالحافظ.
ــ حاضر يا شيخ العرب.
شيخ العرب؟ هذا كان زمان.. أنت أول من سيعاملني بفتور عندما تختفي الإكراميات.
ها هو الولد ثقيل الظل »ركابي المحمودي» يقترب منك بثيابه الرثّة وقدميه الحافيتين.. عليك أن تعامله بجفاء كي لا يطيل جلسته.
ــ يا أهلاً وسهلاً بك يا حمدان.. كيفك يا خوي؟
ــ زين!
وضع القفص الفارغ الذي يحمله علي الأرض وفوقه عصاه الغليظة وقال: مالك يا حمدان؟
ــ مالي؟
ــ لماذا أنت زعلان؟
ــ وأنت مالك؟
ــ يا سلام؟ أسألك عن أحوالك فترد بقلّة أدب؟!
ــ امش من هنا!
ــ عجايب.. إياك تظن إنك ما زلت ابن عطية العسران؟ أفق لنفسك.. الحكاية اتساوت الآن.. أنا بائع سريح وانت بائع سريح.
طعنه بالعصا فدخل نصلها الحاد في صدره.. سقط علي الأرض يتخبّط في دمه.. التفّ حوله رواد المقهي فحجبوه عنه.. ارتفع ضجيجهم وصاح أحدهم: ــ هاتوا كوب ماء.
ارتفع صوت آخر: أي ماء؟ الولد مات.
اندفع يجري بأقصي سرعته.. تجنّب الطرقات المزدحمة وسط القيصريات بدكاكينها المتراصة ومضي يركض بجوار السُّور الذي يفصل السكة الحديد عن المدينة.. في إحدي فتحات السُّور صعد الدرجات القليلة ليجد نفسه علي رصيف المحطة.. جال بعينيه خوفًا من أن يراه أحد أبناء قريته.. سأل أحد الواقفين: ماذا أفعل لكي أسافر إلي مصر؟
قف في هذا الطابور.. وحين تصل إلي الشباك اقطع نصف تذكرة.
>>>
أحسّ بالأمان والقطار يتحرك به.. جاءت جلسته بجوار رجلين يرتديان الجلاليب والعمائم.. أحدهما بدين والآخر نحيل.. مظهرهما يوحي بأنهما من قُري أسوان.. جاء الكمساري وفحص تذكرته.. قال بلهجته القاهرية:
ــ لابد من تذكرة كاملة.
ــ أنا صغير السن.. قالوا لي اقطع نصف تذكرة.
ــ أنت كبير.. تذكرة كاملة أو تنزل
تدخّل الرجل البدين: هذا ولد صغير يا حضرة الكمساري.. وواضح انك رجل طيب.
ــ ليس بالصغير.. وجهه فقط يشبه وجوه الأطفال.
تضاحك البدين: أنت قُلتها بنفسك يُشبه الأطفال.. هذا يدل علي عقلك الكبير.. اتركه لوجه الله.
ــ من ناحيتي مستعد أتركه.. لكن المفتش سيعمل لي مشكلة.
ــ حينما يأتي حضرة المفتش نتكلم معه وربنا يخلّي لك أولادك.
عاد الكمساري من حيث أتي وهو يزمجر.. أنت الآن في مأزق.. لو عثر عليك أهل القتيل لذبحوك.. ولو قبضت عليك الحكومة لشنقتك.. كل هذا البلاء تسببت فيه (زنوبة) زوجة الأجير الغريب صغيرة السن.. استعصت علي أخيك الأكبر غير الشقيق واستجابت لك فكانت فضيحة الشُّونة.. كيف ستعيش أُمك الآن وهي التي لا تملك غير بضعة قراريط يزرعها أخوها؟ يجب عليك أن تبحث عن الرجل المُسمي بعبد الغني العجيلي.. يُقال إنه يسكن في شارع اسمه الظاهر.. هذا الرجل يتردّد اسمه كثيرًا مصحوبًا بالشتائم.. تزوج من امرأة غريبة وقاطع أهل بلدنا في الداخل والخارج.. هذا من حُسن حظّك.. يُدبر لك عملاً في السّر فلا يسمع بك أحد.
عاد الكمساري وبصحبته المفتش.. أشار إليه وقال: هذا هو يا ريّس.
قال المفتش: لابد تقطع تذكرة كاملة.. هيا ادفع الفرق.
أخرج ما في جيبه من نقود أحصاها المفتش وقال: لا تكفي ولا حتي لمحطتين قادمتين.. لابد من تسليمك إلي بوليس القطار.
تدخّل الرجل البدين: هو صغير السن يا حضرة المفتش.. والواجب تشفق عليه.
ــ أنا سأسلّم في محطة أسيوط ويأتي مفتش آخر.. ماذا يقول عني؟
ــ سيقول كل خير إن شاء الله.. اعف عنه لله وربك يستر.
نفخ المفتش وعاد من حيث أتي، وانهمك الكمساري في فحص تذاكر المقعد التالي
ابتسم الرجل البدين وهو يسأله: ما حكايتك يا بني؟
ــ أنا.. أنا مسافر مصر!
ــ نحن عارفون.. لكن لماذا أنت مسافر إليها؟
ــ أنا؟!.. آه أنا أبي غني جدًا!.. عطية العسران.. شيخ العرب.. ضروري تعرفونه! أعطاني أموالاً كثيرة وقال لي تفسّح في مصر علي راحتك وعُد إلينا في الوقت الذي يعجبك!
تبادل الرجلان نظرة ولاذا بالصمت.
>>>
هاله الضجيج في محطة مصر.. رأي مجموعة من العساكر حُمر الوجوه فسأل شخصًا يرتدي جلبابًا صعيديًا: من هؤلاء؟
نظر إليه الرجل باستغراب وقال: هؤلاء عساكر الإنجليز.
ــ ومن الإنجليز؟
ضحك الرجل وقال: الذين يحتلون مصر.
هذه أول مرة يسمع فيها أن هناك أقوامًا اسمهم الإنجليز يحتلون برّ مصر.
ــ لكن أين أعثر علي شارع الظاهر؟
ــ اِمش في هذا الشارع.. وحينما تراه انقسم إلي فرعين، أُدخل في الفرع الشمال.
>>>
هذا هو إذن عبدالغني العجيلي الذي يشتمه أهل بلدنا.. قصير القامة.. متين البنيان.. عليه جلباب أبيض وعلي رأسه عمامة صغيرة.. يجلس علي دكة أمام عمارة عالية.. تطلّع إليه وسأله: ابن مَنْ أنت؟
ــ ابن عطية العسران.
كثرت الخطوط تشق جبهته كأنه سمع اسم عدو: وما الذي جاء بك؟
ــ ابحث عن عمل.
ــ ولماذا لم تزرع مع أبيك؟
ــ حصلت مشاكل بيننا فقررت السفر.
أزاح عمامته إلي الوراء وقال: أبوك رجل ظالم!
ضايقته الكلمة لكنه كظم غيظه.
>>>
فرحت به زوجة عبدالغني العجيلي.. لهجتها تنتمي إلي إحدي مديريات الصعيد.. أشارت إلي غرفتها.. تحت السلم وقالت:
ــ بيتنا نوّر بوجودك يا حمدان.
جلسوا حول الطبلية يتناولون طعام الغداء ومعهم ابنتها ــ التي في مثل عمره ــ عائشة.. قرّبت منه طبق الفاصوليا وقالت: علي حظك.. إحدي الساكنات في العمارة أهدتنا إياه.. أهلاً وسهلاً بك يا حمدان.. أنت أول واحد يزورنا من بلدكم.
وأشارت إلي زوجها: قُلت لعبدالغني لابُد تعرفنا بأهل بلدك فقال لي: سيحدث هذا يوم القيامة.
>>>
صعد به عبدالغني العجيلي إلي الطابق الثاني من العمارة.. قاده إلي شقة واسعة استقبلتهم فيها سيدة وقور في الخمسين ترتدي ثوبًا حريريًا أسود له ذيل طويل.
هذا هو الخادم الذي طلبتيه مني يا ست هانم.
ثم أشار إلي ذيل الثوب الطويل وابتسم له: بُس ثوب الستّ هانم يا حمدان.
ــ ماذا تقول؟
صاح به كمن يهدده: امسك بطرف الثوب وضعه علي شفتيك.
ــ أنا؟
ــ من غيرك؟
ــ ابن عطية العسران.. شيخ العرب.. يبوس ثياب النسوان؟
ــ هذا الكلام هناك.
ــ وهنا.
صرخت المرأة وهي تشير إلي الباب:
ــ خّذ هذا الولد الشرس وغُر أنت وهو في داهية!
جلس العجيلي علي الدكة الخشبية في مدخل العمارة وتركه واقفًا أمامه.. قال له بصوت مخنوق:
ــ كدت تقطع عيشي.. الست هانم هذه هي صاحبة العمارة.
ــ حتي لو كانت بنت السُلطان.
عقد ما بين حاجبيه وقال: أبوك الذي تقول عنه شيخ العرب، عملت معه سبعة أيام في حقله، أعطاني أُجرة خمسة وأكل مني يومين.
ــ أبي لا يأكل أجرة أحد.
ــ يعني أنا كذاب؟
ــ لم أقل هذا.
جاءت زوجة عبدالغني علي صياحهما.. قالت وهي تلملم ملاءتها:
ــ مالكم؟ ماذا حدث بسم الله؟
ــ حضرة جنابه رفض يعمل عند أصحاب العمارة.
ــ لا داعي للعمل عندهم.. فليشترِ الأشياء للسكّان ويحصل علي البقاشيش ويقيم في إحدي حجرات السطح.. أنت نفسك تبحث عن واحد مثله.
ــ أخلاقه سيئة.
ــ أبدًا.. هو ابن حلال.. خلّه معنا يا بو عائشة.. سينفعنا.
ــ ربما لا يوافق.
ــ وافق يا حمدان.. من أجل خاطري.
ــ موافق يا خالة.
>>>
أسبوع مضي عليك في هذا العمل الحقير.. تشتري الخضروات وأصناف البقالة لسكان العمارة ــ وجميعهم من الخواجات ــ نظير قروش، ولا تعرف شيئًا عن مصير أُمك.. هل الحكومة تضايقها في بحثها عنك؟ وهل أهل القتيل يتحرشون بها؟ وكيف تعيش؟ ليس أمامها إلا أن تبيع قراريطها البسيطة قيراطًا وراء آخر إلي أن يفرجها الله.. أول أمس لمحت شخصًا من قريتك فاضطربت.. لو رآك لأبلغ عنك الحكومة لتشنقك، أو أبلغ المحاميد أهل القتيل ليقتلوك.. الترفيه الوحيد هو أن تجلس بين الحين والآخر في المقهي القريب لتتناول كوبًا من الشاي.. هذا المُسّمي بعبد الغني العجيلي يكرهك، ولولا زوجته لتخلّص منك.. يبدو أن المرأة تخطط لتزوجك من ابنتها.. علي كل حال عائشة مليحة وجريئة.. كلما رأت غفلة من أمها رمقتك وابتسمت.. ذات مرة تلامس كفاكما فضغطت علي يدها.. عَضّت شفتها السُفلي ثم ابتسمت في وجهك.. أمها تردد دائمًا: أنا فرحانة بوجودك معنا يا حمدان.. هي لا تعرف علاقتك بوديدة.. آه يا حبيبتي.. ماذا تقولين عني بعد أن عرفت أنني قتلت »ركابي المحمودي»؟ هل تحولت في نظرك إلي قاتل، أم عرفت بأنني لم أقصد قتله؟ وقطعا أخبروك عن حادثة الشُّونة وفضيحتها، فماذا قلت عني لحظتها يا حبيبتي؟ هل سيأتي يوم أراك فيه أم سأُحرم منك إلي الأبد كما حُرمت من بلدي وأهلي وناسي؟
امتلأت شوارع القاهرة فجأة بعساكر الإنجليز.. سأل أحدهم فقال:
ــ الحرب قامت بينهم وبين الألمان.
ــ ومَن الألمان؟
ــ أناس لهم دولة قوية مثل الإنجليز لكنهم جدعان!
جلس في المقهي كعادته.. تناول رشفة من كوب الشاي عندما دخل رجل يُوحي مظهره بأنه من موظفي الحكومة، يرافقه جندي يحمل بندقية.. قال يخاطب الجالسين: يا شباب مصر.. الإنجليز وعدونا، إذا حاربنا معهم الألمان بأن يغادروا بلدنا ــ مصر العزيزة ــ تطوعوا للحرب لكي تُصبح مصر دولة حُرة وغنية مثل دولة الإنجليز.. هذا بيان لكم من أفندينا السُلطان حسين كامل حفظه الله.. ومن يتطوع منكم فسوف يحصل علي راتب كبير جدًا يجعله من الأغنياء في أشهر قليلة.. نحن في انتظاركم بمبني القلعة.. لا تتأخروا عن التطوع لكي تُعيدوا إلي مصر عزّتها!
>>>
أنت في قمّة السعادة الآن لأنك ستحمل السلاح لتقاتل الناس الذين يسمونهم بالألمان.. ما دام الإنجليز سيغادرون بر مصر فيصبح جميع أهله أغنياء، وأنت أوّلهم! ثم إنك ستحصل علي مبالغ كبيرة جدًا من المال ــ كما قال الموظف ــ وما يأتي عن طريق القتال أشرف مما يأتـي عن طريق سكان عمارة عبدالغني العجيلي الخسيس.
لكن ما نوع السلاح الذي سوف تحمله؟ هل هو السّيف أم الحربة أم الخنجر؟ أم أنهم يقتتلون بالبنادق؟
>>>
ها هو مبني القلعة.. ياله من مكان مرتفع كأنه يراقب المدينة.. رأي موظفًا يجلس خلف مكتب يسجّل أسماء المتطوعين والزحام حوله شديدً.. بجوار الموظف يجلس ضابط إنجليزي علي كتفه علامات تبرق كالذهب.. قال له حينما جاء عليه الدور:
ــ إنت واحد وَلد صغير في السنّ.
ــ أنا كبير قوي.
ــ إنت يقول كلام موش مضبوط وَلد.
ــ والله العظيم يا كبير الإنجليز نحن في أسوان لا نزيد عن هذا الطول!
ابتسم الضابط وأومأ إلي الموظف برأسه فسأله الآخر: ما اسمك؟
ــ حمدان العسران.
نهره قائلا: اسمك بالكامل.
صاح بأعلي صوته:
ــ حمدان عطية عبدالواحد حسين عبدالله العسران.
ابتسم الرجل وقال: ماذا كنت تعمل؟
ــ أزرع مع أبي.
ــ تعال ابصم.
>>>
وجد نفسه في شاحنة وسط حشد من الشباب القاهري والسكندري والبحيري والصعيدي.. لكن أبناء الريف ــ البحري والقبلي ــ عليهم حراسة وفي أيديهم قيود حديدية.. سأل شخصًا يُلاصقه فأجاب:
ــ الصعايدة والبحاروة رفضوا التطّوع فأحضرتهم الحكومة غصبًا عنهم!
>>>
حطّ الرحال في أرض يسمونها بلاد فلسطين، بالقرب من مدينة يُقال لها (غزّة).. أوقفوهم في صفوف بعضها يضم أبناء المدن كالقاهريين والسكندريين، وبعضها يضم أبناء القُري وكان منهم.. أجبروا الجميع علي خلع ملابسهم وأعطوا كلاً منهم قميصًا وبنطلونًا ــ من قطعة واحدة ــ وقالوا لأبناء المدن سنتخذ منكم نجارين وحدادين وسمكرية، وأحضروا لأبناء القُري فؤوسًا ومقاطف وقالوا لهم:
ــ استعدوا للعمل.
صاح حمدان: أي عمل؟
ــ تحفرون الخنادق للجيش الإنجليزي
ــ أنتم قُلتم سنسلمكم سلاحًا لتقاتلوا الألمان.
ــ وهل تصلحون لهذا يا حيوانات؟!
وجد نفسه يحفر بفأسه مع الجموع، فوق رؤوسهم يقف أفراد يسمّونهم (الملاحظين) يحملون العصي الرفيعة ويعاملونهم بقسوة.. ما أدهشه أنهم ليسوا من الإنجليز.. لهجتهم تدل علي أنهم من القاهريين.. لا يخاطبونهم إلا بقولهم (يا ولد) ينطقونها »ولا».. كل أوامرهم مصحوبة بالشتائم.. تُكال للأمهات والآباء ويقولون لهم لا تنسوا أنكم »زبالة» البلد!
>>>
وقف في طابور المساء.. مرّبع كبير من ثلاثة أضلاع.. أمامهم »الملاحظ» يحمل خيرزانة وحوله ثلاثة من العساكر من بلاد يُقال لها »الهند» يحملون البنادق.. تقدم رجلان طويلان يقودان شابًا ووقفا به وسط ضلع المربع الناقص.. أمسكاه بطريقة شلّت حركته بعد أن أمالا نصفه الأعلي إلي الأمام، وكشفا عن ظهره.. تقدم رجل مفتول العضلات يحمل سوطًا انهال به علي ظهر الشاب الذي راح يقول بلهجة بكاء:
ــ حرام عليكم.. إيه اللي أنا عملته؟ بشويش سايق عليك النبي.
حين توقف الضرب سحبوا الشاب بعيدًا وصاح الملاح يخاطب الطوابير:
ــ سنجلد أي واحد لا يطيع الأوامر.. وإذا مات نرميه للكلاب!
>>>
شدّوا الرحال إلي أن توقفوا قبالة مدينة اسمها »يافا» رأي معسكرًا كبيرًا يدور عليه سلك شائك داخله مئات الجنود في ملابس رثّة يبدو عليهم الهزال.. تساءل:
ــ من هؤلاء؟
ــ عساكر أتراك أسرهم الإنجليز.
وهل الإنجليز يحاربون الأتراك أم الألمان؟
ــ يحاربون الاثنين.
تلفت حوله فرأي البحر المالح ومعسكرات الجيش الإنجليزي من ناحية.. وغابات التّين الشوكي ــ لا نهاية لها ــ من النواحي الثلاث الأخري.. سأل زميلاً سبقه في المجيء:
ــ إذا أراد الواحد أن يهرب.. متي يصل إلي برّ مصر؟
ــ يقولون بعد شهرين ثلاثة.. لكن الذين هربوا عثروا علي جثثهم في غابات التّين.
>>>
قامت صداقة بينه وبين أحد زملاء الخيمة التي ينام فيها.. كان يقيم في القاهرة، لكنه أصلاً من مديرية قنا اسمه (متولي).. يتبادلان السخط علي الإنجليز وعلي أفندينا السلطان حسين كامل.. خدعوهم بأنهم سوف يحملون السلاح فإذا بهم يحفرون الخنادق ويُعاملون كأنهم حشرات.
ــ تهرب معي يا متولي؟
ــ أنصحك بعدم الهرب.
ــ كلمة »واحدة».. تهرب معي أم لا؟
ــ جرّبت الهرب قبلك وقبضوا عليّ وجلدوني.
>>>
تسلّل في منتصف الليل إلي غابة التّين الشوكي.. بعد قليل فوجئ بثلاثة من العساكر الهنود يحيطون به وكأنهم في انتظاره.. معهم شخص يتكلّم اللهجة القاهرية قال له:
ــ تهرب يا روح أُمك؟
قادوه إلي ضابط إنجليزي قال له: انت لازم ياخُد واحد جَلد وَلد.
عاد إلي حمل الفأس والحفر في الخنادق رغم آلام الجَلد.. في الليل قال له صديقه متولي القناوي، أنا أبلغت عنك!
ــ أنت؟!
ــ خفت عليك.. جميع الذين دخلوا غابات التين الشوكي ماتوا فيها.
ــ لن أسامحك علي هذا.. والأحسن لي ولك لا تكلمني بعد اليوم ولا أكلمك.
ــ اسمع أنا انضممت إلي جماعة تسرق السلاح من الإنجليز هل تنضم إلينا؟
ــ هل ستقاتلون الإنجليز بهذا السلاح لكي تهربوا؟!
ــ اصرف مسألة الهرب من دماغك لأنها مستحيلة.
ــ وماذا ستفعلون بالسلاح؟
ــ نبيعه للعرب.
ــ أي عرب؟
ــ أُناس يشترونه لحساب الأمير فيصل.
ــ فيصل من؟
ــ ابن الشريف حسين.. ملك الحجاز.
ــ وهل سيحارب الإنجليز؟
ــ لا.. ولكنني سمعت من بعض الزملاء الذين يفهمون في هذه الأمور بأنه يحشد جيشه لكي يستولي علي مدينة كبيرة جدًا اسمها (دمشق) ويقيم لنفسه مملكة فيها، بعد طرد الأتراك منها.
ــ وهل يقدر علي الأتراك؟
ظهر الضيق في صوت متولي القناوي:
ــ لماذا تكثر من الأسئلة.. هل تنضم إلينا أم لا؟
ــ أنضم.
>>>
زعيم الجماعة ــ التي تسرق السلاح ــ شاب قاهري مفتول العضلات اسمه (ماجد البولاقي).. والجماعة تضم الصعيدي والبحيري لكن غالبيتها من القاهريين والسكندريين.. جميعهم يقيمون في خيمة واحدة باستثناء متولي وحمدان.. يطلقون علي أنفسهم اسم (عصابة الجِدعان).
تسللوا في منتصف الليل إلي مخزن السلاح.. وجدوا أمامهم حارسًا من بلاد الهند.. تبادل معه أحدهم ــ اسمه سيد الإسكندراني ــ بضع كلمات بالإنجليزية.. ومن ابتسامات الحارس وهزّات رأسه المتتالية أحسّ حمدان بأن علاقته بالجماعة وطيدة.. ناول الزعيم ماجد البولاقي الحارس مبلغًا من المال ودخلوا مخزن السلاح .. سور كبير من الصاج مقام علي مساحة واسعة من الأرض.. البنادق من مختلف الأشكال والألوان.. بعضها موضوعة علي حوامل ومربوطة بسلاسل رفيعة وغالبيتها مكدّسة في فوضي علي أبسطة من المشمّع، وثمة صناديق ضخمة قيل إنها مملوءة بالذخيرة.
أشار الزعيم ماجد البولاقي إلي أحد الأركان فأخرجوا منه عددًا من أبسطة المشمّع، فرش كل منهم بساطًا ووضع فوقه ما يقدر علي حمله من البنادق، لفّها بالبساط ووضعها فوق كتفه وخرجوا.
ساروا في ظلام دامس إلي طريق غابة التين الشوكي.. دخلها ماجد البولاقي وهم وراءه.. بعد فترة من السير سمعوا صوتًا يهمس بلهجة الشوام: تعالوا يا إخوان.
ــ أهلاً يا أبو تمام.
حينما اعتادت عيناه الظلام رأي أمامه بضعة رجال يضعون العقالات علي رؤوسهم، تسلّموا البنادق وناول أبو تمام مبلغًا من المال للزعيم البولاقي وهو يقول:
ــ لا تؤاخذونا.. كنا نود نعزمكم علي العشاء لكن ما باليد حيلة.
ــ ولا يهمك.
ــ تشكروا يا وطنيين.
قال لصديقه متولي القناوي: لماذا لا نذهب إلي مخزن السلاح كل ليلة؟
ــ يا ريت.. نحن لا نذهب إلاّ في ليلة الأحد حيث ينشغل الإنجليز فيها بشرب الخمر.. وفي الليالي التي يغيب فيها القمر فقط.
>>>
وهو يسير بجوار معسكر الأسري الأتراك.. أشار إليه أحدهم فاقترب منه والسلك الشائك يفصل بينهما:
ــ إنت سوداني؟
ــ مصري.
ــ من أسوان؟
ــ نعم.
ــ أنا جائع.. هل تستطيع أن تحضر لي رغيفًا؟!
ــ أقدر.
ــ تشكرات.. سأنتظرك هنا.
أفضي بهذا إلي صديقه متولي القناوي، وما لبث الخبر أن وصل إلي زعيم جماعة الجدعان ماجد البولاقي.. واتفق هذا الأخير مع العمال المصريين الذين يتولون شئون الطعام علي أن يمدوهم بأكبر عدد يقدرون عليه من الأرغفة.. حملتها الجماعة في ظلام الليل واقتربت من السلك الشائك.. في المرة الأولي وجدوا الجندي التركي وحده.. وفي المرات الأخري كانوا يجدون عددًا كبيرًا منهم.. يطوّحون لهم بالأرغفة من فوق السلك الشائك وينسحبون وهم يسمعون همساتهم اللاهثة:
ــ أهل مصر أحسن ناس.. تشكرات كثيرات.. عفارم عليكم.. الله كريم.
>>>
وقف في طابور المساء يشاهد الرجل مفتول العضلات يجلد شابًا صعيديًا وهذا الأخير يصيح بعد كل جلدة:
ــ نهاركم مطيّن بإذن الله.. يا أنا يا أنتم في البلد.. الصبر طيّب يا أولاد الكلب!
وصاح الملاحظ في مفتول العضلات:
ــ اضرب جامد.
فأخذ هذا يهوي عليه بكل قوته إلي أن خَفَت صوته ثم انقطع، وسرت همهمة بين الصفوف: مات.. قتلوه.. ضاع.
ثم عم الصمت كأن قلب الكون توقف عن الخفقان.
>>>
يتعجب حمدان لأن عساكر الإنجليز عددهم قليل بالمقارنة إلي العساكر الهنود والأفارقة السود,, يرطنون بكل لسان.. حين سأل زعيم الجدعان ماجد البولاقي الذي يُقال إنه تلقي شيئًا من العلم في صباه أجاب:
ــ هؤلاء من بلاد يحكمها الإنجليز.. يأتون بهم غصبًا عنهم.
>>>
فوجئ بسيد الاسكندراني ــ زميل عصابة الجدعان الذي يرطن مع الحراس ــ يشتبك في عراك مع شاب قاهري وسط خيام العمال.. سيد الاسكندراني نحيل الجسد، ظهرت عليه علامات الهزيمة أمام لكمات الآخر فأخذ يترنّح.. هجم حمدان علي الشاب القاهري وأدار ساعده حول عنقه، من الخلف، فشل حركته.. حاول الآخر أن يخلص نفسه فلم يستطع.. قال حمدان:
ــ إذا تركتك هل تغور في داهية؟
ــ ماشي.
أطلقه فانسحب وأخذ سيد الاسكندراني يمسح الدماء التي سالت من أنفه ويشكر حمدان.
منذ هذا اليوم أصبح سيد الاسكندراني من أعز أصدقائه.. يأتي إليه كل ليلة في الخيمة التي يرقد فيها ويتسامر معه هو وصديقه متولي القناوي وبقية زملاء الخيمة.. مع الأيام عرف منه بأنه في الأصل »ميكانيكي».. أغروه بأنه سوف يعمل في نفس صنعته مقابل مبلغ كبير.. فرح بهذا لأن الإنجليز سوف يخرجون بعدها من مصر.. لكنه فوجئ بالمعاملة السيئة فحاول الهرب.. عاقبوه بالجَلد ثم ألحقوه بحملة الفؤوس وحرموه من الإجازات.. ذات يوم قال إنه حزين لأنه لا يعرف شيئًا عن والدته المريضة وبقية أسرته التي يعولها.. سيما وأن المال الذي ادخره سُرق منه.. قال ذلك وانخرط في البكاء.. حمدان ومتولي أقرضاه مبلغًا من المال، عرفوا أسماء أخوته.. رشيدة وربيع الأول وربيع الثاني.. والأخيران توأم ولدا في شهر ربيع فأطلقوا عليهما اسمه.. عرفوا أيضًا أنه من أسرة سكندرية لكن أصولها ترجع إلي مديرية المنيا.. جدهم جاء إلي الإسكندرية وتزوج منها وانقطعت صلته بقريته لدرجة أن أحفاده لا يعرفون اسمها.. وفي لحظات الصفاء يقول: يا حمدان أنت ومتولي لابد تحضرا عندي في إسكندرية، بعد أن يفك الله حبسنا من »السُّلطة».. هناك الأعمال كثيرة وسوف أكون معكما.
>>>
في طابور المساء خرج شاب قصير القامة من الصف وهجم علي (الملاحظ) بسكين طويلة وجهها إلي عنقه.. سقط الملاحظ علي الأرض ثم وقف وأخذ يتلفّت حوله في ذهول والدماء تسيل من عنقه علي ثيابه.. بعدها تطوح ثم هوي علي الأرض وأخذ يتخبط في دمه مثل الذبيحة التي لم يُحسن صاحبها ذبحها.. بينما انطلق الشاب القصير في اتجاه غابات التين الشوكي فابتلعته.
بعد فترة من الذهول حدث هرج ومرج في الصفوف، وانطلقت الصفارات تدوّي.. وصل جنود إنجليز وهنود وأفارقة وانطلقوا ببنادقهم في اتجاه غابات التين.. جاء ثلاثة أشخاص عليهم ثياب مرسوم عليها صليبً أحمر، حملوا جثّة الملاحظ في محفّة وذهبوا بها.
>>>
دار الحديث في سهرتهم الليلية عن (الملاحظ) القتيل.. قال سيد الاسكندراني: ــ الإنجليز لم يعثروا علي القاتل الذي دخل غابة التين الشوكي.
وقال متولي القناوي:
ــ هذه ثاني مرة أري فيها أحد الملاحظين وهو يُقتل بنفس الطريقة ويهرب قاتله.
فقال سيد الإسكندراني:
ــ لا تظنوا الذي يدخل غابات التين الشوكي يخرج منها حيًا.
ــ ولماذا يدخلها إذن؟
ــ لو سلّم نفسه للإنجليز سيقتلونه.. الهروب أفضل.. ربما هناك أمل في النجاة.
>>>
نام زملاء الخيمة وبقي مستيقظًا.. يبدو أنك لن تخرج من هذه المحنة حيًا.. عمل شاق طوال النهار غير الشتائم والإهانات.. قطعًا سيأتي عليك يوم تحمل فيه سكينًا طويلة وتقطع عنق الملاحظ ثم تموت في غابات التين.. ومن يدري.. ربما ارتكبت خطأ ما وفاضت روحك تحت وقع السياط.. علي كلٍ هذه الفترة الرهيبة لم تخل من فائدة.. المبالغ التي يعطونها لك ــ كراتب ــ ما زالت معك وفوقها المبالغ التي تحصل عليها من بيع السلاح.. إذا خرجت من هنا سالمًا تستطيع أن تصبح صاحب تجارة محترمة وتكون حُرًا لا تعمل عند أحد.. لكن أين تقيم هذه التجارة وأنت مطارد من الحكومة ومن المحاميد؟! هل تعود إلي هذا الرجل الذي يكرهك المسمي بالعجيلي؟ ليس هناك غيره.. المكان الوحيد الآمن لمقاطعته أهل البلد.. تستأجر دكانة بجواره تبيع فيها أصناف البقالة.. زوجة العجيلي ستخفّف من كراهيته لك.. ستُرحب بك طمعًا في الزواج من ابنتها.. كيف أتزوجها وأنسي وديدة؟ آه يا وديدة.. هل أمرُّ بخاطرك مثلما تعيشين في داخلي؟ هل تذكرين يوم عيد الأضحي الماضي؟ ذهبت لزيارة خالتي فوجدتك عندها ومعك أربع بنات.. عليكن جلاليب الحرير الجديدة وشيلان القطيفة.. البنات نفرن لحظة دخولي.. قالت أطولهن: »هيا بنا يا بنات».. تحركن للخروج لكنك بقيت.. قالت الطويلة: »هيا بنا يا وديدة»، فقلت: »أنا قاعدة شويّة عند عمتي!».. خرجت البنات وهن يتغامزن.. هل سأراك ثانية يا وديدة؟
ــ مالك يا حمدان؟
ــ لا شيء يا متولي.
ــ لماذا تجلس هكذا؟
ــ لا رغبة لي في النوم.
ــ وراءنا عمل شاق في الصباح.. أرقد.
>>>
قال الملاحظ في طابور المساء وهو يشير إلي موظف يقف بجواره:
ــ من يسمع اسمه يستعد للإجازة.
أخذ الموظف يقرأ من الدفتر الذي يحمله، وكل من يسمع اسمه يصيح بأعلي صوته »أفندم».. فتساءل حمدان هامسًا: هذه ثالث مرة ولم أسمع اسمي.
قال له زميل قديم: اتضح أن الذين يحصلون علي إجازات، هم من تطوّعوا برغبتهم، أما الذين أحضروهم مقيّدين بالحديد فلا إجازات لهم.
ــ لكنني جئت برغبتي.
ــ من حقك إجازة.. إلا إذا كنت حاولت الهرب.
خيام (الميس) مزدحمة كالعادة.. عُمالها يتعاملون معنا بقسوة مع أنهم أولاد عرب مثلنا.. فيهم المصري والشامي.. نتناول منهم الطعام وكأننا نتسوّل منهم.. كبيرهم رجل إنجليزي مدني ــ اسمه مستر سيما يأتي في الصباح الباكر
ممتطيًا فرسه.. يمر علي عمال (الميس) ثم يجلس في الخيمة التي اتخذ منها مكتبًا.. يا للهول.. من هذا الذي يقف في الطابور أمام (الميس). إنه »مرجان الفيل» بقامته الطويلة ومنكبيه العريضين.. ابن نجعك الذي يماثلك في العُمر.. لو رآك الآن لأبلغ عنك الحكومة أو دلّ عليك المحاميد.. يجب أن تنسحب فورًا قبل أن يقع نظره عليك.. لكن لا.. هو لن يشي بك لأنه من رعاياك! صبيان النجع كانوا يضربونه ــ قبل أن يفطن إلي قوته ــ فكنت تدافع عنه وتثأر له منهم.. يعاملك كزعيمه ويؤمن بك وينفّذ كل ما تطلبه منه.. حقًا إنه ساذج لكنه طيب القلب.
ــ إزيك يا مرجان؟
اتسعت عيناه وألقي بنفسه في أحضانك وهو يلهث: حمدان؟ أخوي؟إنت هنا والبلد مقلوبة عليك؟
ــ مقلوبة؟
بحثوا عنك في البنادر والقُري وفي النهاية ظنوا إنك غرقت في بحر النيل!
ما هذا الكلام الذي بلا رأس ولا قدمين؟.. كيف ظنوا أني غرقت في بحر النيل بعد أن قتلت ابن الكلب؟ المفروض أن يتخيلوا هربي إلي بلد بعيد ويبحثوا عني.. مرجان الفيل ما زال حمارًا ــ كعادته ــ ولم يستطع أن يصف ما حدث بالضبط.. عليك أن تغيّر الموضوع:
ــ ما الذي جاء بك إلي هنا يا مرجان؟
ــ عمدة بلدنا.. سلّمني مع آخرين إلي مركز البوليس.. وهناك وضعوا في أيدينا الحديد وجاءوا بنا إلي هنا.
يا للكوارث.. هو ليس وحده.. معه أشخاص من بلدنا.. قطعًا فيهم أقارب للقتيل.. أنت الآن في مأزق حقيقي:
ــ تقول معك ناس من بلدنا؟
ــ نعم.. وسأخبرهم حالاً.. سيفرحون بك!
ــ لا.. لا.. لا تخبرهم.
ــ لماذا؟
ماذا تقول لهذا الحمار الذي وصل به الغباء إلي درجة أنه نسي أن المحاميد يتربّصون بك والحكومة تبحث عنك؟ يجب أن تنهره كما كنت تفعل في النجع.. فهو رغم قوته البدنية الخارقة يخشاك.
ــ هي كلمة.. قلت لك لا تخبرهم يعني لا تخبرهم.. فاهم؟
ــ حاضر.. حاضر.. لكن...
ــ اقفل الموضوع.
ــ خلاص.. لن أخبرهم.
امتلأ وجهه بتعبيرات طفل ارتكب ذنبًا ويخشي من ضرب أبيه له.. لكن عليك أن تبعده عنهم بأية طريقة.. أو تجعله تحت جناحك بصفة دائمة.
ــ اسمع يا مرجان.. نحن نسرق السلاح من الإنجليز ونبيعه للعرب.. لابد تشترك معنا.
قال بصوته الأجش الذي يشبه صوت من يغالب النوم:
ــ حاضر.. أي حاجة تقول عليها أنا موافق.
فرح به زعيم جماعة (الجدعان) ماجد البولاقي.. فهو يحمل من البنادق ثلاثة أمثال ما يحمله أقواهم، ويرضي بالقليل!
قال لهم أبو تمام بلهجة أسف وهم يسلّمونه البنادق في غابة التين: أنتم إخواننا.. لابد تتحملونا.
ــ ماذا تقصد؟
ــ المال قليل معنا.. سنعطيكم نصف المبالغ التي كنا نعطيها لكم.
ــ ولا يهمّك.. خلّ عنك نهائيًا.
ــ هذا عشمنا فيكم يا إخوان.. عاشت مصر ورجال مصر.
ثم ناول ماجد البولاقي صُرّة قماشية كبيرة ملفوفة حول إناء ضخم وقال:
ــ علي قدر جهدنا.
ــ ما هذا؟
ــ لا نستطيع أن نعزمكم عندنا.. هذا عشاء متواضع.
لن ينسي حمدان هذه الوجبة الرائعة.. اللحم المشوي والأرز وأرغفة الخبز البيضاء وفاكهة البرتقال.
وقال سيد الإسكندراني وهو يتجشّأ:
ــ لا ينقصنا إلا النّسوان!
>>>
فوجئوا بحارس هندي جديد علي مخزن السلاح.. كانوا يتعاملون مع أربعة قبله بسلاسة فمن أين جاءهم هذا؟
قبّل سيد الإسكندراني رأسه وهو يرطن معه بالإنجليزية، والآخر يضع معصميه فوق بعضهما ويمدهما إلي الأمام ويردّد:
ــ نُو.. نُو.. أنا كالابُوش.
مرجان الفيل دار خلفه وأمسك رأسه بكفّه اليسري، وقبض علي عنقه بكفه اليمني، وسمعوا طقطقة عظام رقبة الحارس المسكين قبل أن يتهاوي ويفحص الأرض بقدميه ثم يهمد.
غادروا المكان في الحال دون أن يدخلوا مخزن السلاح.
>>>
طوال الليل والصفارات تدوّي والعساكر الإنجليز والهنود والأفارقة يهرولون بأسلحتهم هنا وهناك.. بعضهم يفتش الخيام، وبعضهم يتجه نحو الغابات، بينما اسم (أبو تمام) يتردد بلغات كثيرة.
>>>
قال لك زعيم الجماعة ماجد البولاقي ــ وهو ينتفض غضبًا ــ في لقائهم اليومي عند (الميس):
ــ كل هذه المصائب سببها هذا الحمار الذي عرّفتنا به.
ــ مرجان الفيل غشيم.. لم يكن يقصد قتل الهندي البائس.. أراد أن يشلّ حركته فإذا برقبته تنكسر بين يديه.
ــ لا تريني وجهه مرة أخري.
>>>
في السهرة الليلية تساءل حمدان:
ــ لماذا أسمع اسم أبو تمام يتردد كثيرًا؟
قال سيد الإسكندراني: الإنجليز يعتقدون أنه هو الذي قتل الحارس ليسرق السلاح.
ــ وكيف عرف الإنجليز أن هناك شخصًا اسمه أبو تمام؟
ــ الله أعلم.. يبدو أنه زعيم كبير.
فوجئوا بزعيم الجماعة ماجد البولاقي يزورهم.. قال:
ــ الإنجليز ينتصرون في كل المعارك.
تساءل متولي القناوي: هل سيتركون برّ مصر بعد انتصارهم؟
ــ لا أعتقد.. الإنجليز مراوغون.. حرموني من الإجازات لمحاولتي الهرب.
جاء شخص وقال بصوت عال:
ــ أفندينا السلطان حسين كامل مات.. وتولّي مكانه سلطان جديد اسمه فؤاد.
التف حوله غالبية من في الخيمة وتساءل حمدان:
ــ هل السلطان الجديد أحسن من القديم؟
قال ماجد البولاقي: من يعرف؟.. لو جاء لإنقاذنا يكون أحسن، لكنني لا أظنه يُحس بنا.
>>>
تحرك معسكرهم وتوقف إلي جوار مدينة يسمونها (عكّا).. ثم تحرك أكثر من مرة إلي أن انتهي بهم المطاف إلي قرب مدينة اسمها (بيروت).. أشار متولي القناوي إلي طريق تسير فيه المركبات والخيل والجمال وتساءل:
ــ هل صحيح أن هذا الطريق يؤدي إلي المدينة الكبيرة جدًا التي يسمونها (دمشق)؟
أجاب زعيم عصابة الجدعان ماجد البولاقي: نعم.. ودمشق الآن أصبحت عاصمة الأمير فيصل ابن الشريف حسين ملك الحجاز.. أقام لنفسه مملكة قوية فيها ويطمح أن يكون ملك جميع العرب.. لكن بمعاونة الإنجليز.
تساءل متولي: ولماذا يتعاون مع الإنجليز وهم أعداء لنا؟
قال الزعيم ماجد: هذا ما لا أفهمه.
>>>
كم من السنوات مرّت علي حمدان وهو في هذا العذاب؟ كل الذي يعرفه أنه ازداد طولاً وامتلأ جسده قليلاً، وأصبحت له عضلات مفتولة، لكن الإحساس بأنه سجين لم يفارقه.. اللحظة العذبة الوحيدة التي تمر بحياته، حين يتذكر جلساته مع وديدة.. ذات مرة شكت له من أخيها غير الشقيق الذي يكبرها بعشرين عامًا (جعفر الحكمدار) قالت إنه ضربها بحبل غليظ من الليف.. حين خنقها البكاء وهي تحكي له، أحاطها حمدان بذراعيه وضمها إلي صدره.. لحسن الحظ لم تر خالته ــ التي اجتمعا في بيتها ــ هذا المنظر.. كانت مشغولة في غرفة الموقد.. أين أنتِ يا وديدة؟
>>>
في طابور المساء.. صاح الملاحظ الجديد فيهم:
ــ سنعود الآن إلي فلسطين، استعدوا للرحيل.. من يتأخر منكم أو يتكاسل يتعرّض للجَلد.
ازدحم المعسكر بالشاحنات وبراكبي الجمال، وقال سيد الإسكندراني يخاطب زعيم عصابة الجدعان ماجد البولاقي: سمعت ضابطًا إنجليزيًا يقول لأحد زملائه إن الإنجليز يتركون سوريا ولبنان لأن الفرنساوية سوف يحلّون محلهم.
تساءل حمدان: من هم الفرنساوية؟
فكر سيد الاسكندراني قليلا قبل أن يجيب: أولاد عم الإنجليز!
بعد رحلة شاقة وجد نفسه يدور مع الجموع حول بحيرة كبيرة يسمونها بحيرة طبريّة.. وأقيمت المعسكرات علي مقربة من قريتين واحدة اسمها (سمخ) والأخري اسمها (جعُونة) وعلي مبعدة مدينة يُقال لها (صَفد).
ساقوه مع مجموعة من أفراد خيمته، منهم متولي القناوي، ليحفروا حُفرة دائرية كبيرة.. فوق رؤوسهم يقف الملاحظ ــ وحوله جنديان هنديان بالسلاح ــ يتلاعب بخيرزانته ويصرخ: بسرعة يا بهائم!
بعد أن انتهوا جاءت محفاّت كثيرة تحمل فوقها عمالاً ملفوفين في ملابسهم.. ظن حمدان أنهم مرضي سيذهبون بهم إلي الخيمة الكبيرة التي يسمونها المستشفي.. فوجئ بمن يحملون المحفّات يقذفون بهم في الحفرة، وجاء آخرون رشوا عليهم موادً كيماوية وطلبوا منهم أن يهيلوا عليهم التراب!
ــ ما هذا؟
ــ ماتوا.. هناك وباء يجتاح المعسكر.
ــ يعني لو متنا.. سيلقون بنا هكذا؟
صاح الملاحظ وهو يضرب الهواء بخيرزانته:
ــ امنعوا الكلام يا بَقر!
>>>
انطلقت صيحات الملاحظين وسط الخيام:
ــ استعدوا.. سنجمعكم ونذهب بكم إلي المستشفي لكي (يطعِّموكم).. من يتأخر يتعرض للجلد.. ونحن يهمنا أن تتأخروا لكي تغوروا ونخلص منكم!
>>>
وقف في طابور طويل داخل الخيمة الضخمة.. أحد الممرضين الهنود يحمل إبرة كبيرة تشبه (المخرز).. يضرب بقسوة ذراع كل من يأتي عليه الدور ويصيح بالإنجليزية: نيكستْ؟
سأل سيد الإسكندراني: ما معني نيكست؟
ــ يعني »اللي بعده».
تذكر الرجل العملاق الذي يحمل إبرة تشبه الخنجر (يطَعِّم) بها البقر والعجول في قريته بنفس الطريقة الفَظّة!
دخل رجل عليه قميص وبنطلون فوقهما معطف أبيض.. راح يرطن بلهجة غاضبة.. بدا الارتباك علي الممرضين من مصريين وشوام وهنود، فسارعوا بإشعال وابور جاز ووضعوا فوقه إناء به ماء ألقوا فيه بالإبر الفارغة.. ثم رطن للممرض الذي يضرب الحقنة فغيّر هذا من طريقته القاسية، وأخذ يغرس الإبرة في الأذرع برفق.. بعدها يضع الإبرة في الماء الذي يغلي ويتناول غيرها.
جاء الدور علي حمدان.. اقترب منه صاحب المعطف الأبيض وسأله بلهجة قاهرية باسمًا: من أسوان؟
ــ نعم.
ــ أي بلد؟
ــ العصفورية.. بجوار كوم امبو.
ــ أهلاً بك.. أنا عشت في أسوان لفترة.. كان أبي موظفًا هناك.. إذا احتجتم لأي شيء، إنت واخوانك، تعالوا إلي هنا واسألوا عن الدكتور جرجس غبريال.
ــ ربنا يبارك فيك يا حضرة الدكتور.
>>>
وقف ذاهلاً.. رأي فرسهم الشابة (عبلة) يمتطيها أحدهم ويسير بها في طريق يشق المزارع.. هل هي (عبلة) يا حمدان أم جري لعقلك خلل؟ إنها هي بشعرها الأشقر اللامع وبطريقة سيرها الواثقة.. صاح بها »عا..بْلا..ه».
توقفت والتفتت ناحيته ثم أدارت رأسها يمنة ويسرة لكي تراه بكل عين علي حدة، كمن تتأكد منه.. هرول ناحيتها وهو يتعثر بسبب الماء الذي يغمر الأرض.. صاح في راكبها:
ــ إنها فرسنا.. من أين جئت بها؟
لكن الآخر شدّ لجامها وضرب جنبيها بالركاب فانطلقت به، وحمدان يتابعهما لاهثًا.
صاح الملاحظ في طابور المساء:
ــ الحرب خلصت.. بعد يومين نشحنكم إلي بلادكم ونرتاح من وجوهكم العكرة!
هذه سهرة من أجمل السهرات في حياته.. تجمع فيها رجال عصابة (الجدعان) في مجموعة الخيام التي يطلقون عليها اسم (الميس) حيث قرر عمالها أن يسهروا حتي الصباح.. وقال متولي القناوي وهو يعدل جلبابه علي جسده المدملج:
ــ كل واحد فيكم يعطيني عنوانه ويكتب عنواني عنده.. لابدّ نلتقي بعد أن نعود إلي بلادنا بالسلامة.. هذه عشرة عُمر.
وقال سيد الإسكندراني: أنا في انتظاركم يا أصحاب.. لأن الأعمال في إسكندرية كثيرة.. خذوا عنواني.
اختلي بابن نجعه مرجان الفيل وقال له: ــ حينما تذهب إلي البلد إياك أن تقول إنك رأيتني.
ــ لماذا؟ ألا تسافر معي؟
يا لغباء هذا الفيل.. كيف أذهب إلي البلد لتنهال علي رأسي نبابيت المحاميد وحرابهم؟ أو يسلمني العمدة للحكومة لكي تشنقني؟
ــ سأعطيك مبلغًا من المال.. تعطيه لأمي بينك وبينها.. قُل لها حمدان بخير وكوني مطمئنة من ناحيته.. وحينما أستقر في مكان أبعث لها سرًا لكي تأتي لزيارتي أو الإقامة معي.
ــ ولماذا تأتي هي؟ الواجب تسافر إليها لكي تفرح بك.
ــ يا مرجان أفق لنفسك.. كيف أدخل البلد بعد الذي حدث؟
ــ وماذا حدث؟
وبعدها في هذا الجُرم الهائل الذي ما زال بعقل طفل؟
ــ ألم تسمع بأنني قتلت ــ دون قصد مني ــ الولد ركابي المحمودي؟.
* منقول عن جريدة أخبار الادب المصرية
هي مِلكك الآن.. انظر كيف تفرد ذراعيها وابتسامتها العذبة تزغرد لك.. الجو مهيأ تمامًا لتغرق في بحار اللذة.. الشُّونة التي تضمكما مزدحمة بأكوام التبن وجريد النخل اليابس.. الحقول حولكما ساكنة.. الجميع يقضون فترة القيلولة في النجوع البعيدة.. النخلة الطويلة ــ خارج الشونة ــ ترقبكما في سعادة.. جريدها يتلاعب في الهواء ويصدر أصواتًا كالزغاريد.
ما هذا؟ ابتسامتها ضاعت، وعيناها ترميانك بنظرة غضب؟ إياك أن تجعلها تنقلب عليك.. لا تنسَ أنها استعصت علي أخيك الأكبر غير الشقيق.. هذا يعني انتصارك عليه رغم مباهاته بالأراضي الزراعية التي تملكها أمّه.. أجل اخلع الجلباب هكذا، ولتبق بالقميص والسروال الطويل وليكن هجومك كاسحًا.
ما هذا الذي تسمعه؟ شخص يعطس؟ هل يوجد إنسان بالحقول في هذا الوقت؟
أخرجت نفسها بسرعة من أكوام التبن وارتدت الثوب الأسود الفضفاض في ارتباك.. نسيت القميص فيما يبدو ووضعت كفيها فوق صدرها تخفي فتحة الثوب العُليا.
يا للفضيحة.. ضَبة باب الشونة تصدر عنها أصوات تشبه فرقعات الرّعد.. دخل أخوك الأكبر غير الشقيق.. وقف يُنَقّل بصره بينك وبينها وفمه مفتوح عن آخره.. صرخ بأعلي صوته:
الحقونا يا أهل البلد.. يا فادي الرُّوح.. انجدونا يا خلق هوووه.
واصلت ضبّة الباب فرقعاتها وازدحمت الشُّونة برجال أكثرهم يحملون المناجل.. يحركون أعناقهم يمنة ويسرة وعيونهم جاحظة.. أخوك يواصل صياحه بينما جريد النخلة الطويلة يتحرك بعصبية مثل أذرع النساء في المآتم.
***
سألَتك أُمك وصدرها يعلو ويهبط:
ــ أبوك.. عرف؟
ــ حلف أن يعلقني من قدميّ في سقف البيت.
أطلقت ثلاث صرخات فامتلأ البيت بالنساء والأطفال.. قالت بصوت عالٍ:
زوجي الظالم يريد قتل ولدي بأوامر من زوجته المغرورة بأطيانها.
زنُّوبة الغازية أغوت ولدي وجرجرته إلي الشُّونة. أخوه الذي يكرهنا هو الذي سلطها عليه! والله العظيم.. أُقسم برأس أبي في قبره.. أحرق بالنار كل من يمد يده إلي ولدي.. يا فاطمة.
ــ نعمين يا خالتي
ــ أسرعي إلي نجع (القراقير).. قولي لهم ابنتكم وولدها في خطر!
لم تمض لحظات حتي جاء خمسة من (القراقير) أقارب أمّي.. يحملون النبابيت وأحدهم في يده حربة.. تبدو عليهم السعادة وهم يسمعون أمّي تستنجد بهم.. أهل بلدنا يقولون: (القراقير) يفرحون باليوم الذي يدخلون فيه معركة مثلما يفرح الناس بيوم العيد!
جاء أبي بجسده العملاق، عليه جلباب أسود وعلي رأسه عمامة ضخمة.. يبدو أنه فوجئ بالرجال الخمسة.. أخذ يوجّه إليهم نظرات نارية دون أن يُلقي بالسلام.. أدار عنقه ناحيتي وقال بلهجة صارمة:
ــ اطلع قّدّامي يا ولد.
دارت أمي بساعديها حول عنقي من الخلف وصرخت:
ــ لن يستطيع جنس بني آدم أخذ ولدي مني.
دار ببصره علي الرجال الخمسة وقال لها: يعني تحتمين بأقاربك؟
ــ أقاربي أرجل ناس في البلد.
ــ هذا ولدي.. لا يستطيع أحد منعي من أخذه.
قال أحد الرجال بلهجة حاسمة: حمدان وأمه أمانة في أيدينا!
قالت أمي وقد بدا عليها السرور: خذه من (القراقير) لو تقدر.
مضت لحظة وهو يدير بصره بين أمي وبين أقاربها قبل أن يقول بلهجة من يهوي علي رأسها بنبّوت الشُّوم:
ــ انت طالق.
>>>
البيت يغص بالنساء يواسين أمك.. وجهها الصبوح بدا شاحبًا وسط الخمار الأسود.. إحدي الجارات انخرطت في البكاء وهي تقول لها:
ــ ربنا لن ينساك.
جارة أخري أشارت إليك وقالت:
ــ هي لن تحتاج إلي أحد وعندها حمدان.. أصبح رجلاً الآن.. ينفق علي نفسه وعلي أمّه.
تساءلت إحداهن: وما العمل الذي يصلح له حمدان؟
ــ يزرع مع أبيه.
ألم تقولوا إن بعضهم عرض علي أبيه أن يعمل معه في الزرع علي أن ينفق عليه وعلي أمه فرفض الأب.. قال لن أنفق عليها مليمًا واحدًا؟
ــ يعمل مع أحد المزارعين.
أجير؟ ابن عطية العسران.. صاحب السّواقي والأطيان.. يعمل أجيرًا علي آخر الزمن؟
ــ يعمل بالتجارة.
التجارة تحتاج إلي خبرة ورأس مال.
ــ بسيطة.. يذهب إلي حقل الحاج صالح.. فهو يبيع الطماطم التي برع في زراعتها للأولاد الذين يسرحون بها في النجوع.
ــ حمدان.. يسرح بالطماطم في النجوع مثل المقاطيع؟!
ــ لا داعي للنجوع.. يبيعها لتُجار البندر.. ربحها أقل لكنها أكرم.
الحوار يدور حولك وأنت مشغول في تحسُّس نصل الحربة القصير الذي صنعه لك الحداد وغرسه أسفل عصاك الشُّومية.. تتمني لو طعنت به صدر عمتك التي تكره أمك.. سمعتها تقول في شماتة: »ما أن طلقها أخي حتي تحولت إلي امرأة مسكينة.. تعيش في بيت مثل زريبة الدجاج بعد أن كانت تقيم في بيت يشبه السّراي.
آه.. هل وصلت هذه الأخبار إليك يا وديدة؟ هل سأسقط في نظرك يا حبيبتي، حينما أتحول إلي شخص يسرح بقفص طماطم مثل أبناء الذين لا يملكون أرضًا ولا مالا؟
***
قفص الطماطم أتعبك.. رُبع نهار وأنت تحمله علي رأسك.. المشوار إلي بندر كوم إمبو طويل.
ساعدك تاجر البندر في إنزاله وتأملك قليلاً قبل أن يقول باسمًا:
ــ إذا كان كل رأس مالك قفص طماطم.. من أين جئت بهذه الجلابية بقيطانها الفاخرة، وهذا الصديري الحريري، مع العمامة من قماش الكريب الرقيق مرتفع الثمن؟
ــ وأنت مالك؟!
ــ يا ساتر.. إنت زعلت؟
ــ خُذ الطماطم وهات لي فلوسي وانت ساكت!
ــ أعوذ بالله.. ما هذه الأخلاق الشرسة!
حمل القفص الفارغ واتجه إلي المقهي الذي يرتاده أبناء قريته.
آخر مرّة جئت إلي البندر علي صهوة فرسكم (عبلة) وأصحاب الدكاكين يتطلعون إليك في إعجاب.. أشار إليك أحد المارة ــ من أبناء البندر الذين يتعالون علي أبناء القُري ــ وقال لزميله: أراه دائمًا يركب هذه الفرس اللطيفة.. أظنه ابن عُمدة.
أُنظر إلي حالك اليوم وأنت تحمل هذا القفص الفارغ.. لو كانت أُسرة والدتك أحسن حالاً لزرعت مع خالك واحتفظت بقيمتك.
لمح ابن العُمدة يجلس في أحد أركان المقهي وحوله عدد من أصحابه.. منهم صديقك طه ابن شيخ البلد، وصديقك الآخر مرقص ابن التاجر سمعان.. المفروض أن تنضم إليهم كسالف الأيام.. أنت الآن من طبقة أقلّ شأنًا.. هذا العمود العريض يفصلك عنهم فاجلس خلفه.
وضع القفص علي الأرض وفوقه العصا ذات الحربة في أسفلها.. أشار علي صبي المقهي وقال: شاي تقيل يا عبدالحافظ.
ــ حاضر يا شيخ العرب.
شيخ العرب؟ هذا كان زمان.. أنت أول من سيعاملني بفتور عندما تختفي الإكراميات.
ها هو الولد ثقيل الظل »ركابي المحمودي» يقترب منك بثيابه الرثّة وقدميه الحافيتين.. عليك أن تعامله بجفاء كي لا يطيل جلسته.
ــ يا أهلاً وسهلاً بك يا حمدان.. كيفك يا خوي؟
ــ زين!
وضع القفص الفارغ الذي يحمله علي الأرض وفوقه عصاه الغليظة وقال: مالك يا حمدان؟
ــ مالي؟
ــ لماذا أنت زعلان؟
ــ وأنت مالك؟
ــ يا سلام؟ أسألك عن أحوالك فترد بقلّة أدب؟!
ــ امش من هنا!
ــ عجايب.. إياك تظن إنك ما زلت ابن عطية العسران؟ أفق لنفسك.. الحكاية اتساوت الآن.. أنا بائع سريح وانت بائع سريح.
طعنه بالعصا فدخل نصلها الحاد في صدره.. سقط علي الأرض يتخبّط في دمه.. التفّ حوله رواد المقهي فحجبوه عنه.. ارتفع ضجيجهم وصاح أحدهم: ــ هاتوا كوب ماء.
ارتفع صوت آخر: أي ماء؟ الولد مات.
اندفع يجري بأقصي سرعته.. تجنّب الطرقات المزدحمة وسط القيصريات بدكاكينها المتراصة ومضي يركض بجوار السُّور الذي يفصل السكة الحديد عن المدينة.. في إحدي فتحات السُّور صعد الدرجات القليلة ليجد نفسه علي رصيف المحطة.. جال بعينيه خوفًا من أن يراه أحد أبناء قريته.. سأل أحد الواقفين: ماذا أفعل لكي أسافر إلي مصر؟
قف في هذا الطابور.. وحين تصل إلي الشباك اقطع نصف تذكرة.
>>>
أحسّ بالأمان والقطار يتحرك به.. جاءت جلسته بجوار رجلين يرتديان الجلاليب والعمائم.. أحدهما بدين والآخر نحيل.. مظهرهما يوحي بأنهما من قُري أسوان.. جاء الكمساري وفحص تذكرته.. قال بلهجته القاهرية:
ــ لابد من تذكرة كاملة.
ــ أنا صغير السن.. قالوا لي اقطع نصف تذكرة.
ــ أنت كبير.. تذكرة كاملة أو تنزل
تدخّل الرجل البدين: هذا ولد صغير يا حضرة الكمساري.. وواضح انك رجل طيب.
ــ ليس بالصغير.. وجهه فقط يشبه وجوه الأطفال.
تضاحك البدين: أنت قُلتها بنفسك يُشبه الأطفال.. هذا يدل علي عقلك الكبير.. اتركه لوجه الله.
ــ من ناحيتي مستعد أتركه.. لكن المفتش سيعمل لي مشكلة.
ــ حينما يأتي حضرة المفتش نتكلم معه وربنا يخلّي لك أولادك.
عاد الكمساري من حيث أتي وهو يزمجر.. أنت الآن في مأزق.. لو عثر عليك أهل القتيل لذبحوك.. ولو قبضت عليك الحكومة لشنقتك.. كل هذا البلاء تسببت فيه (زنوبة) زوجة الأجير الغريب صغيرة السن.. استعصت علي أخيك الأكبر غير الشقيق واستجابت لك فكانت فضيحة الشُّونة.. كيف ستعيش أُمك الآن وهي التي لا تملك غير بضعة قراريط يزرعها أخوها؟ يجب عليك أن تبحث عن الرجل المُسمي بعبد الغني العجيلي.. يُقال إنه يسكن في شارع اسمه الظاهر.. هذا الرجل يتردّد اسمه كثيرًا مصحوبًا بالشتائم.. تزوج من امرأة غريبة وقاطع أهل بلدنا في الداخل والخارج.. هذا من حُسن حظّك.. يُدبر لك عملاً في السّر فلا يسمع بك أحد.
عاد الكمساري وبصحبته المفتش.. أشار إليه وقال: هذا هو يا ريّس.
قال المفتش: لابد تقطع تذكرة كاملة.. هيا ادفع الفرق.
أخرج ما في جيبه من نقود أحصاها المفتش وقال: لا تكفي ولا حتي لمحطتين قادمتين.. لابد من تسليمك إلي بوليس القطار.
تدخّل الرجل البدين: هو صغير السن يا حضرة المفتش.. والواجب تشفق عليه.
ــ أنا سأسلّم في محطة أسيوط ويأتي مفتش آخر.. ماذا يقول عني؟
ــ سيقول كل خير إن شاء الله.. اعف عنه لله وربك يستر.
نفخ المفتش وعاد من حيث أتي، وانهمك الكمساري في فحص تذاكر المقعد التالي
ابتسم الرجل البدين وهو يسأله: ما حكايتك يا بني؟
ــ أنا.. أنا مسافر مصر!
ــ نحن عارفون.. لكن لماذا أنت مسافر إليها؟
ــ أنا؟!.. آه أنا أبي غني جدًا!.. عطية العسران.. شيخ العرب.. ضروري تعرفونه! أعطاني أموالاً كثيرة وقال لي تفسّح في مصر علي راحتك وعُد إلينا في الوقت الذي يعجبك!
تبادل الرجلان نظرة ولاذا بالصمت.
>>>
هاله الضجيج في محطة مصر.. رأي مجموعة من العساكر حُمر الوجوه فسأل شخصًا يرتدي جلبابًا صعيديًا: من هؤلاء؟
نظر إليه الرجل باستغراب وقال: هؤلاء عساكر الإنجليز.
ــ ومن الإنجليز؟
ضحك الرجل وقال: الذين يحتلون مصر.
هذه أول مرة يسمع فيها أن هناك أقوامًا اسمهم الإنجليز يحتلون برّ مصر.
ــ لكن أين أعثر علي شارع الظاهر؟
ــ اِمش في هذا الشارع.. وحينما تراه انقسم إلي فرعين، أُدخل في الفرع الشمال.
>>>
هذا هو إذن عبدالغني العجيلي الذي يشتمه أهل بلدنا.. قصير القامة.. متين البنيان.. عليه جلباب أبيض وعلي رأسه عمامة صغيرة.. يجلس علي دكة أمام عمارة عالية.. تطلّع إليه وسأله: ابن مَنْ أنت؟
ــ ابن عطية العسران.
كثرت الخطوط تشق جبهته كأنه سمع اسم عدو: وما الذي جاء بك؟
ــ ابحث عن عمل.
ــ ولماذا لم تزرع مع أبيك؟
ــ حصلت مشاكل بيننا فقررت السفر.
أزاح عمامته إلي الوراء وقال: أبوك رجل ظالم!
ضايقته الكلمة لكنه كظم غيظه.
>>>
فرحت به زوجة عبدالغني العجيلي.. لهجتها تنتمي إلي إحدي مديريات الصعيد.. أشارت إلي غرفتها.. تحت السلم وقالت:
ــ بيتنا نوّر بوجودك يا حمدان.
جلسوا حول الطبلية يتناولون طعام الغداء ومعهم ابنتها ــ التي في مثل عمره ــ عائشة.. قرّبت منه طبق الفاصوليا وقالت: علي حظك.. إحدي الساكنات في العمارة أهدتنا إياه.. أهلاً وسهلاً بك يا حمدان.. أنت أول واحد يزورنا من بلدكم.
وأشارت إلي زوجها: قُلت لعبدالغني لابُد تعرفنا بأهل بلدك فقال لي: سيحدث هذا يوم القيامة.
>>>
صعد به عبدالغني العجيلي إلي الطابق الثاني من العمارة.. قاده إلي شقة واسعة استقبلتهم فيها سيدة وقور في الخمسين ترتدي ثوبًا حريريًا أسود له ذيل طويل.
هذا هو الخادم الذي طلبتيه مني يا ست هانم.
ثم أشار إلي ذيل الثوب الطويل وابتسم له: بُس ثوب الستّ هانم يا حمدان.
ــ ماذا تقول؟
صاح به كمن يهدده: امسك بطرف الثوب وضعه علي شفتيك.
ــ أنا؟
ــ من غيرك؟
ــ ابن عطية العسران.. شيخ العرب.. يبوس ثياب النسوان؟
ــ هذا الكلام هناك.
ــ وهنا.
صرخت المرأة وهي تشير إلي الباب:
ــ خّذ هذا الولد الشرس وغُر أنت وهو في داهية!
جلس العجيلي علي الدكة الخشبية في مدخل العمارة وتركه واقفًا أمامه.. قال له بصوت مخنوق:
ــ كدت تقطع عيشي.. الست هانم هذه هي صاحبة العمارة.
ــ حتي لو كانت بنت السُلطان.
عقد ما بين حاجبيه وقال: أبوك الذي تقول عنه شيخ العرب، عملت معه سبعة أيام في حقله، أعطاني أُجرة خمسة وأكل مني يومين.
ــ أبي لا يأكل أجرة أحد.
ــ يعني أنا كذاب؟
ــ لم أقل هذا.
جاءت زوجة عبدالغني علي صياحهما.. قالت وهي تلملم ملاءتها:
ــ مالكم؟ ماذا حدث بسم الله؟
ــ حضرة جنابه رفض يعمل عند أصحاب العمارة.
ــ لا داعي للعمل عندهم.. فليشترِ الأشياء للسكّان ويحصل علي البقاشيش ويقيم في إحدي حجرات السطح.. أنت نفسك تبحث عن واحد مثله.
ــ أخلاقه سيئة.
ــ أبدًا.. هو ابن حلال.. خلّه معنا يا بو عائشة.. سينفعنا.
ــ ربما لا يوافق.
ــ وافق يا حمدان.. من أجل خاطري.
ــ موافق يا خالة.
>>>
أسبوع مضي عليك في هذا العمل الحقير.. تشتري الخضروات وأصناف البقالة لسكان العمارة ــ وجميعهم من الخواجات ــ نظير قروش، ولا تعرف شيئًا عن مصير أُمك.. هل الحكومة تضايقها في بحثها عنك؟ وهل أهل القتيل يتحرشون بها؟ وكيف تعيش؟ ليس أمامها إلا أن تبيع قراريطها البسيطة قيراطًا وراء آخر إلي أن يفرجها الله.. أول أمس لمحت شخصًا من قريتك فاضطربت.. لو رآك لأبلغ عنك الحكومة لتشنقك، أو أبلغ المحاميد أهل القتيل ليقتلوك.. الترفيه الوحيد هو أن تجلس بين الحين والآخر في المقهي القريب لتتناول كوبًا من الشاي.. هذا المُسّمي بعبد الغني العجيلي يكرهك، ولولا زوجته لتخلّص منك.. يبدو أن المرأة تخطط لتزوجك من ابنتها.. علي كل حال عائشة مليحة وجريئة.. كلما رأت غفلة من أمها رمقتك وابتسمت.. ذات مرة تلامس كفاكما فضغطت علي يدها.. عَضّت شفتها السُفلي ثم ابتسمت في وجهك.. أمها تردد دائمًا: أنا فرحانة بوجودك معنا يا حمدان.. هي لا تعرف علاقتك بوديدة.. آه يا حبيبتي.. ماذا تقولين عني بعد أن عرفت أنني قتلت »ركابي المحمودي»؟ هل تحولت في نظرك إلي قاتل، أم عرفت بأنني لم أقصد قتله؟ وقطعا أخبروك عن حادثة الشُّونة وفضيحتها، فماذا قلت عني لحظتها يا حبيبتي؟ هل سيأتي يوم أراك فيه أم سأُحرم منك إلي الأبد كما حُرمت من بلدي وأهلي وناسي؟
امتلأت شوارع القاهرة فجأة بعساكر الإنجليز.. سأل أحدهم فقال:
ــ الحرب قامت بينهم وبين الألمان.
ــ ومَن الألمان؟
ــ أناس لهم دولة قوية مثل الإنجليز لكنهم جدعان!
جلس في المقهي كعادته.. تناول رشفة من كوب الشاي عندما دخل رجل يُوحي مظهره بأنه من موظفي الحكومة، يرافقه جندي يحمل بندقية.. قال يخاطب الجالسين: يا شباب مصر.. الإنجليز وعدونا، إذا حاربنا معهم الألمان بأن يغادروا بلدنا ــ مصر العزيزة ــ تطوعوا للحرب لكي تُصبح مصر دولة حُرة وغنية مثل دولة الإنجليز.. هذا بيان لكم من أفندينا السُلطان حسين كامل حفظه الله.. ومن يتطوع منكم فسوف يحصل علي راتب كبير جدًا يجعله من الأغنياء في أشهر قليلة.. نحن في انتظاركم بمبني القلعة.. لا تتأخروا عن التطوع لكي تُعيدوا إلي مصر عزّتها!
>>>
أنت في قمّة السعادة الآن لأنك ستحمل السلاح لتقاتل الناس الذين يسمونهم بالألمان.. ما دام الإنجليز سيغادرون بر مصر فيصبح جميع أهله أغنياء، وأنت أوّلهم! ثم إنك ستحصل علي مبالغ كبيرة جدًا من المال ــ كما قال الموظف ــ وما يأتي عن طريق القتال أشرف مما يأتـي عن طريق سكان عمارة عبدالغني العجيلي الخسيس.
لكن ما نوع السلاح الذي سوف تحمله؟ هل هو السّيف أم الحربة أم الخنجر؟ أم أنهم يقتتلون بالبنادق؟
>>>
ها هو مبني القلعة.. ياله من مكان مرتفع كأنه يراقب المدينة.. رأي موظفًا يجلس خلف مكتب يسجّل أسماء المتطوعين والزحام حوله شديدً.. بجوار الموظف يجلس ضابط إنجليزي علي كتفه علامات تبرق كالذهب.. قال له حينما جاء عليه الدور:
ــ إنت واحد وَلد صغير في السنّ.
ــ أنا كبير قوي.
ــ إنت يقول كلام موش مضبوط وَلد.
ــ والله العظيم يا كبير الإنجليز نحن في أسوان لا نزيد عن هذا الطول!
ابتسم الضابط وأومأ إلي الموظف برأسه فسأله الآخر: ما اسمك؟
ــ حمدان العسران.
نهره قائلا: اسمك بالكامل.
صاح بأعلي صوته:
ــ حمدان عطية عبدالواحد حسين عبدالله العسران.
ابتسم الرجل وقال: ماذا كنت تعمل؟
ــ أزرع مع أبي.
ــ تعال ابصم.
>>>
وجد نفسه في شاحنة وسط حشد من الشباب القاهري والسكندري والبحيري والصعيدي.. لكن أبناء الريف ــ البحري والقبلي ــ عليهم حراسة وفي أيديهم قيود حديدية.. سأل شخصًا يُلاصقه فأجاب:
ــ الصعايدة والبحاروة رفضوا التطّوع فأحضرتهم الحكومة غصبًا عنهم!
>>>
حطّ الرحال في أرض يسمونها بلاد فلسطين، بالقرب من مدينة يُقال لها (غزّة).. أوقفوهم في صفوف بعضها يضم أبناء المدن كالقاهريين والسكندريين، وبعضها يضم أبناء القُري وكان منهم.. أجبروا الجميع علي خلع ملابسهم وأعطوا كلاً منهم قميصًا وبنطلونًا ــ من قطعة واحدة ــ وقالوا لأبناء المدن سنتخذ منكم نجارين وحدادين وسمكرية، وأحضروا لأبناء القُري فؤوسًا ومقاطف وقالوا لهم:
ــ استعدوا للعمل.
صاح حمدان: أي عمل؟
ــ تحفرون الخنادق للجيش الإنجليزي
ــ أنتم قُلتم سنسلمكم سلاحًا لتقاتلوا الألمان.
ــ وهل تصلحون لهذا يا حيوانات؟!
وجد نفسه يحفر بفأسه مع الجموع، فوق رؤوسهم يقف أفراد يسمّونهم (الملاحظين) يحملون العصي الرفيعة ويعاملونهم بقسوة.. ما أدهشه أنهم ليسوا من الإنجليز.. لهجتهم تدل علي أنهم من القاهريين.. لا يخاطبونهم إلا بقولهم (يا ولد) ينطقونها »ولا».. كل أوامرهم مصحوبة بالشتائم.. تُكال للأمهات والآباء ويقولون لهم لا تنسوا أنكم »زبالة» البلد!
>>>
وقف في طابور المساء.. مرّبع كبير من ثلاثة أضلاع.. أمامهم »الملاحظ» يحمل خيرزانة وحوله ثلاثة من العساكر من بلاد يُقال لها »الهند» يحملون البنادق.. تقدم رجلان طويلان يقودان شابًا ووقفا به وسط ضلع المربع الناقص.. أمسكاه بطريقة شلّت حركته بعد أن أمالا نصفه الأعلي إلي الأمام، وكشفا عن ظهره.. تقدم رجل مفتول العضلات يحمل سوطًا انهال به علي ظهر الشاب الذي راح يقول بلهجة بكاء:
ــ حرام عليكم.. إيه اللي أنا عملته؟ بشويش سايق عليك النبي.
حين توقف الضرب سحبوا الشاب بعيدًا وصاح الملاح يخاطب الطوابير:
ــ سنجلد أي واحد لا يطيع الأوامر.. وإذا مات نرميه للكلاب!
>>>
شدّوا الرحال إلي أن توقفوا قبالة مدينة اسمها »يافا» رأي معسكرًا كبيرًا يدور عليه سلك شائك داخله مئات الجنود في ملابس رثّة يبدو عليهم الهزال.. تساءل:
ــ من هؤلاء؟
ــ عساكر أتراك أسرهم الإنجليز.
وهل الإنجليز يحاربون الأتراك أم الألمان؟
ــ يحاربون الاثنين.
تلفت حوله فرأي البحر المالح ومعسكرات الجيش الإنجليزي من ناحية.. وغابات التّين الشوكي ــ لا نهاية لها ــ من النواحي الثلاث الأخري.. سأل زميلاً سبقه في المجيء:
ــ إذا أراد الواحد أن يهرب.. متي يصل إلي برّ مصر؟
ــ يقولون بعد شهرين ثلاثة.. لكن الذين هربوا عثروا علي جثثهم في غابات التّين.
>>>
قامت صداقة بينه وبين أحد زملاء الخيمة التي ينام فيها.. كان يقيم في القاهرة، لكنه أصلاً من مديرية قنا اسمه (متولي).. يتبادلان السخط علي الإنجليز وعلي أفندينا السلطان حسين كامل.. خدعوهم بأنهم سوف يحملون السلاح فإذا بهم يحفرون الخنادق ويُعاملون كأنهم حشرات.
ــ تهرب معي يا متولي؟
ــ أنصحك بعدم الهرب.
ــ كلمة »واحدة».. تهرب معي أم لا؟
ــ جرّبت الهرب قبلك وقبضوا عليّ وجلدوني.
>>>
تسلّل في منتصف الليل إلي غابة التّين الشوكي.. بعد قليل فوجئ بثلاثة من العساكر الهنود يحيطون به وكأنهم في انتظاره.. معهم شخص يتكلّم اللهجة القاهرية قال له:
ــ تهرب يا روح أُمك؟
قادوه إلي ضابط إنجليزي قال له: انت لازم ياخُد واحد جَلد وَلد.
عاد إلي حمل الفأس والحفر في الخنادق رغم آلام الجَلد.. في الليل قال له صديقه متولي القناوي، أنا أبلغت عنك!
ــ أنت؟!
ــ خفت عليك.. جميع الذين دخلوا غابات التين الشوكي ماتوا فيها.
ــ لن أسامحك علي هذا.. والأحسن لي ولك لا تكلمني بعد اليوم ولا أكلمك.
ــ اسمع أنا انضممت إلي جماعة تسرق السلاح من الإنجليز هل تنضم إلينا؟
ــ هل ستقاتلون الإنجليز بهذا السلاح لكي تهربوا؟!
ــ اصرف مسألة الهرب من دماغك لأنها مستحيلة.
ــ وماذا ستفعلون بالسلاح؟
ــ نبيعه للعرب.
ــ أي عرب؟
ــ أُناس يشترونه لحساب الأمير فيصل.
ــ فيصل من؟
ــ ابن الشريف حسين.. ملك الحجاز.
ــ وهل سيحارب الإنجليز؟
ــ لا.. ولكنني سمعت من بعض الزملاء الذين يفهمون في هذه الأمور بأنه يحشد جيشه لكي يستولي علي مدينة كبيرة جدًا اسمها (دمشق) ويقيم لنفسه مملكة فيها، بعد طرد الأتراك منها.
ــ وهل يقدر علي الأتراك؟
ظهر الضيق في صوت متولي القناوي:
ــ لماذا تكثر من الأسئلة.. هل تنضم إلينا أم لا؟
ــ أنضم.
>>>
زعيم الجماعة ــ التي تسرق السلاح ــ شاب قاهري مفتول العضلات اسمه (ماجد البولاقي).. والجماعة تضم الصعيدي والبحيري لكن غالبيتها من القاهريين والسكندريين.. جميعهم يقيمون في خيمة واحدة باستثناء متولي وحمدان.. يطلقون علي أنفسهم اسم (عصابة الجِدعان).
تسللوا في منتصف الليل إلي مخزن السلاح.. وجدوا أمامهم حارسًا من بلاد الهند.. تبادل معه أحدهم ــ اسمه سيد الإسكندراني ــ بضع كلمات بالإنجليزية.. ومن ابتسامات الحارس وهزّات رأسه المتتالية أحسّ حمدان بأن علاقته بالجماعة وطيدة.. ناول الزعيم ماجد البولاقي الحارس مبلغًا من المال ودخلوا مخزن السلاح .. سور كبير من الصاج مقام علي مساحة واسعة من الأرض.. البنادق من مختلف الأشكال والألوان.. بعضها موضوعة علي حوامل ومربوطة بسلاسل رفيعة وغالبيتها مكدّسة في فوضي علي أبسطة من المشمّع، وثمة صناديق ضخمة قيل إنها مملوءة بالذخيرة.
أشار الزعيم ماجد البولاقي إلي أحد الأركان فأخرجوا منه عددًا من أبسطة المشمّع، فرش كل منهم بساطًا ووضع فوقه ما يقدر علي حمله من البنادق، لفّها بالبساط ووضعها فوق كتفه وخرجوا.
ساروا في ظلام دامس إلي طريق غابة التين الشوكي.. دخلها ماجد البولاقي وهم وراءه.. بعد فترة من السير سمعوا صوتًا يهمس بلهجة الشوام: تعالوا يا إخوان.
ــ أهلاً يا أبو تمام.
حينما اعتادت عيناه الظلام رأي أمامه بضعة رجال يضعون العقالات علي رؤوسهم، تسلّموا البنادق وناول أبو تمام مبلغًا من المال للزعيم البولاقي وهو يقول:
ــ لا تؤاخذونا.. كنا نود نعزمكم علي العشاء لكن ما باليد حيلة.
ــ ولا يهمك.
ــ تشكروا يا وطنيين.
قال لصديقه متولي القناوي: لماذا لا نذهب إلي مخزن السلاح كل ليلة؟
ــ يا ريت.. نحن لا نذهب إلاّ في ليلة الأحد حيث ينشغل الإنجليز فيها بشرب الخمر.. وفي الليالي التي يغيب فيها القمر فقط.
>>>
وهو يسير بجوار معسكر الأسري الأتراك.. أشار إليه أحدهم فاقترب منه والسلك الشائك يفصل بينهما:
ــ إنت سوداني؟
ــ مصري.
ــ من أسوان؟
ــ نعم.
ــ أنا جائع.. هل تستطيع أن تحضر لي رغيفًا؟!
ــ أقدر.
ــ تشكرات.. سأنتظرك هنا.
أفضي بهذا إلي صديقه متولي القناوي، وما لبث الخبر أن وصل إلي زعيم جماعة الجدعان ماجد البولاقي.. واتفق هذا الأخير مع العمال المصريين الذين يتولون شئون الطعام علي أن يمدوهم بأكبر عدد يقدرون عليه من الأرغفة.. حملتها الجماعة في ظلام الليل واقتربت من السلك الشائك.. في المرة الأولي وجدوا الجندي التركي وحده.. وفي المرات الأخري كانوا يجدون عددًا كبيرًا منهم.. يطوّحون لهم بالأرغفة من فوق السلك الشائك وينسحبون وهم يسمعون همساتهم اللاهثة:
ــ أهل مصر أحسن ناس.. تشكرات كثيرات.. عفارم عليكم.. الله كريم.
>>>
وقف في طابور المساء يشاهد الرجل مفتول العضلات يجلد شابًا صعيديًا وهذا الأخير يصيح بعد كل جلدة:
ــ نهاركم مطيّن بإذن الله.. يا أنا يا أنتم في البلد.. الصبر طيّب يا أولاد الكلب!
وصاح الملاحظ في مفتول العضلات:
ــ اضرب جامد.
فأخذ هذا يهوي عليه بكل قوته إلي أن خَفَت صوته ثم انقطع، وسرت همهمة بين الصفوف: مات.. قتلوه.. ضاع.
ثم عم الصمت كأن قلب الكون توقف عن الخفقان.
>>>
يتعجب حمدان لأن عساكر الإنجليز عددهم قليل بالمقارنة إلي العساكر الهنود والأفارقة السود,, يرطنون بكل لسان.. حين سأل زعيم الجدعان ماجد البولاقي الذي يُقال إنه تلقي شيئًا من العلم في صباه أجاب:
ــ هؤلاء من بلاد يحكمها الإنجليز.. يأتون بهم غصبًا عنهم.
>>>
فوجئ بسيد الاسكندراني ــ زميل عصابة الجدعان الذي يرطن مع الحراس ــ يشتبك في عراك مع شاب قاهري وسط خيام العمال.. سيد الاسكندراني نحيل الجسد، ظهرت عليه علامات الهزيمة أمام لكمات الآخر فأخذ يترنّح.. هجم حمدان علي الشاب القاهري وأدار ساعده حول عنقه، من الخلف، فشل حركته.. حاول الآخر أن يخلص نفسه فلم يستطع.. قال حمدان:
ــ إذا تركتك هل تغور في داهية؟
ــ ماشي.
أطلقه فانسحب وأخذ سيد الاسكندراني يمسح الدماء التي سالت من أنفه ويشكر حمدان.
منذ هذا اليوم أصبح سيد الاسكندراني من أعز أصدقائه.. يأتي إليه كل ليلة في الخيمة التي يرقد فيها ويتسامر معه هو وصديقه متولي القناوي وبقية زملاء الخيمة.. مع الأيام عرف منه بأنه في الأصل »ميكانيكي».. أغروه بأنه سوف يعمل في نفس صنعته مقابل مبلغ كبير.. فرح بهذا لأن الإنجليز سوف يخرجون بعدها من مصر.. لكنه فوجئ بالمعاملة السيئة فحاول الهرب.. عاقبوه بالجَلد ثم ألحقوه بحملة الفؤوس وحرموه من الإجازات.. ذات يوم قال إنه حزين لأنه لا يعرف شيئًا عن والدته المريضة وبقية أسرته التي يعولها.. سيما وأن المال الذي ادخره سُرق منه.. قال ذلك وانخرط في البكاء.. حمدان ومتولي أقرضاه مبلغًا من المال، عرفوا أسماء أخوته.. رشيدة وربيع الأول وربيع الثاني.. والأخيران توأم ولدا في شهر ربيع فأطلقوا عليهما اسمه.. عرفوا أيضًا أنه من أسرة سكندرية لكن أصولها ترجع إلي مديرية المنيا.. جدهم جاء إلي الإسكندرية وتزوج منها وانقطعت صلته بقريته لدرجة أن أحفاده لا يعرفون اسمها.. وفي لحظات الصفاء يقول: يا حمدان أنت ومتولي لابد تحضرا عندي في إسكندرية، بعد أن يفك الله حبسنا من »السُّلطة».. هناك الأعمال كثيرة وسوف أكون معكما.
>>>
في طابور المساء خرج شاب قصير القامة من الصف وهجم علي (الملاحظ) بسكين طويلة وجهها إلي عنقه.. سقط الملاحظ علي الأرض ثم وقف وأخذ يتلفّت حوله في ذهول والدماء تسيل من عنقه علي ثيابه.. بعدها تطوح ثم هوي علي الأرض وأخذ يتخبط في دمه مثل الذبيحة التي لم يُحسن صاحبها ذبحها.. بينما انطلق الشاب القصير في اتجاه غابات التين الشوكي فابتلعته.
بعد فترة من الذهول حدث هرج ومرج في الصفوف، وانطلقت الصفارات تدوّي.. وصل جنود إنجليز وهنود وأفارقة وانطلقوا ببنادقهم في اتجاه غابات التين.. جاء ثلاثة أشخاص عليهم ثياب مرسوم عليها صليبً أحمر، حملوا جثّة الملاحظ في محفّة وذهبوا بها.
>>>
دار الحديث في سهرتهم الليلية عن (الملاحظ) القتيل.. قال سيد الاسكندراني: ــ الإنجليز لم يعثروا علي القاتل الذي دخل غابة التين الشوكي.
وقال متولي القناوي:
ــ هذه ثاني مرة أري فيها أحد الملاحظين وهو يُقتل بنفس الطريقة ويهرب قاتله.
فقال سيد الإسكندراني:
ــ لا تظنوا الذي يدخل غابات التين الشوكي يخرج منها حيًا.
ــ ولماذا يدخلها إذن؟
ــ لو سلّم نفسه للإنجليز سيقتلونه.. الهروب أفضل.. ربما هناك أمل في النجاة.
>>>
نام زملاء الخيمة وبقي مستيقظًا.. يبدو أنك لن تخرج من هذه المحنة حيًا.. عمل شاق طوال النهار غير الشتائم والإهانات.. قطعًا سيأتي عليك يوم تحمل فيه سكينًا طويلة وتقطع عنق الملاحظ ثم تموت في غابات التين.. ومن يدري.. ربما ارتكبت خطأ ما وفاضت روحك تحت وقع السياط.. علي كلٍ هذه الفترة الرهيبة لم تخل من فائدة.. المبالغ التي يعطونها لك ــ كراتب ــ ما زالت معك وفوقها المبالغ التي تحصل عليها من بيع السلاح.. إذا خرجت من هنا سالمًا تستطيع أن تصبح صاحب تجارة محترمة وتكون حُرًا لا تعمل عند أحد.. لكن أين تقيم هذه التجارة وأنت مطارد من الحكومة ومن المحاميد؟! هل تعود إلي هذا الرجل الذي يكرهك المسمي بالعجيلي؟ ليس هناك غيره.. المكان الوحيد الآمن لمقاطعته أهل البلد.. تستأجر دكانة بجواره تبيع فيها أصناف البقالة.. زوجة العجيلي ستخفّف من كراهيته لك.. ستُرحب بك طمعًا في الزواج من ابنتها.. كيف أتزوجها وأنسي وديدة؟ آه يا وديدة.. هل أمرُّ بخاطرك مثلما تعيشين في داخلي؟ هل تذكرين يوم عيد الأضحي الماضي؟ ذهبت لزيارة خالتي فوجدتك عندها ومعك أربع بنات.. عليكن جلاليب الحرير الجديدة وشيلان القطيفة.. البنات نفرن لحظة دخولي.. قالت أطولهن: »هيا بنا يا بنات».. تحركن للخروج لكنك بقيت.. قالت الطويلة: »هيا بنا يا وديدة»، فقلت: »أنا قاعدة شويّة عند عمتي!».. خرجت البنات وهن يتغامزن.. هل سأراك ثانية يا وديدة؟
ــ مالك يا حمدان؟
ــ لا شيء يا متولي.
ــ لماذا تجلس هكذا؟
ــ لا رغبة لي في النوم.
ــ وراءنا عمل شاق في الصباح.. أرقد.
>>>
قال الملاحظ في طابور المساء وهو يشير إلي موظف يقف بجواره:
ــ من يسمع اسمه يستعد للإجازة.
أخذ الموظف يقرأ من الدفتر الذي يحمله، وكل من يسمع اسمه يصيح بأعلي صوته »أفندم».. فتساءل حمدان هامسًا: هذه ثالث مرة ولم أسمع اسمي.
قال له زميل قديم: اتضح أن الذين يحصلون علي إجازات، هم من تطوّعوا برغبتهم، أما الذين أحضروهم مقيّدين بالحديد فلا إجازات لهم.
ــ لكنني جئت برغبتي.
ــ من حقك إجازة.. إلا إذا كنت حاولت الهرب.
خيام (الميس) مزدحمة كالعادة.. عُمالها يتعاملون معنا بقسوة مع أنهم أولاد عرب مثلنا.. فيهم المصري والشامي.. نتناول منهم الطعام وكأننا نتسوّل منهم.. كبيرهم رجل إنجليزي مدني ــ اسمه مستر سيما يأتي في الصباح الباكر
ممتطيًا فرسه.. يمر علي عمال (الميس) ثم يجلس في الخيمة التي اتخذ منها مكتبًا.. يا للهول.. من هذا الذي يقف في الطابور أمام (الميس). إنه »مرجان الفيل» بقامته الطويلة ومنكبيه العريضين.. ابن نجعك الذي يماثلك في العُمر.. لو رآك الآن لأبلغ عنك الحكومة أو دلّ عليك المحاميد.. يجب أن تنسحب فورًا قبل أن يقع نظره عليك.. لكن لا.. هو لن يشي بك لأنه من رعاياك! صبيان النجع كانوا يضربونه ــ قبل أن يفطن إلي قوته ــ فكنت تدافع عنه وتثأر له منهم.. يعاملك كزعيمه ويؤمن بك وينفّذ كل ما تطلبه منه.. حقًا إنه ساذج لكنه طيب القلب.
ــ إزيك يا مرجان؟
اتسعت عيناه وألقي بنفسه في أحضانك وهو يلهث: حمدان؟ أخوي؟إنت هنا والبلد مقلوبة عليك؟
ــ مقلوبة؟
بحثوا عنك في البنادر والقُري وفي النهاية ظنوا إنك غرقت في بحر النيل!
ما هذا الكلام الذي بلا رأس ولا قدمين؟.. كيف ظنوا أني غرقت في بحر النيل بعد أن قتلت ابن الكلب؟ المفروض أن يتخيلوا هربي إلي بلد بعيد ويبحثوا عني.. مرجان الفيل ما زال حمارًا ــ كعادته ــ ولم يستطع أن يصف ما حدث بالضبط.. عليك أن تغيّر الموضوع:
ــ ما الذي جاء بك إلي هنا يا مرجان؟
ــ عمدة بلدنا.. سلّمني مع آخرين إلي مركز البوليس.. وهناك وضعوا في أيدينا الحديد وجاءوا بنا إلي هنا.
يا للكوارث.. هو ليس وحده.. معه أشخاص من بلدنا.. قطعًا فيهم أقارب للقتيل.. أنت الآن في مأزق حقيقي:
ــ تقول معك ناس من بلدنا؟
ــ نعم.. وسأخبرهم حالاً.. سيفرحون بك!
ــ لا.. لا.. لا تخبرهم.
ــ لماذا؟
ماذا تقول لهذا الحمار الذي وصل به الغباء إلي درجة أنه نسي أن المحاميد يتربّصون بك والحكومة تبحث عنك؟ يجب أن تنهره كما كنت تفعل في النجع.. فهو رغم قوته البدنية الخارقة يخشاك.
ــ هي كلمة.. قلت لك لا تخبرهم يعني لا تخبرهم.. فاهم؟
ــ حاضر.. حاضر.. لكن...
ــ اقفل الموضوع.
ــ خلاص.. لن أخبرهم.
امتلأ وجهه بتعبيرات طفل ارتكب ذنبًا ويخشي من ضرب أبيه له.. لكن عليك أن تبعده عنهم بأية طريقة.. أو تجعله تحت جناحك بصفة دائمة.
ــ اسمع يا مرجان.. نحن نسرق السلاح من الإنجليز ونبيعه للعرب.. لابد تشترك معنا.
قال بصوته الأجش الذي يشبه صوت من يغالب النوم:
ــ حاضر.. أي حاجة تقول عليها أنا موافق.
فرح به زعيم جماعة (الجدعان) ماجد البولاقي.. فهو يحمل من البنادق ثلاثة أمثال ما يحمله أقواهم، ويرضي بالقليل!
قال لهم أبو تمام بلهجة أسف وهم يسلّمونه البنادق في غابة التين: أنتم إخواننا.. لابد تتحملونا.
ــ ماذا تقصد؟
ــ المال قليل معنا.. سنعطيكم نصف المبالغ التي كنا نعطيها لكم.
ــ ولا يهمّك.. خلّ عنك نهائيًا.
ــ هذا عشمنا فيكم يا إخوان.. عاشت مصر ورجال مصر.
ثم ناول ماجد البولاقي صُرّة قماشية كبيرة ملفوفة حول إناء ضخم وقال:
ــ علي قدر جهدنا.
ــ ما هذا؟
ــ لا نستطيع أن نعزمكم عندنا.. هذا عشاء متواضع.
لن ينسي حمدان هذه الوجبة الرائعة.. اللحم المشوي والأرز وأرغفة الخبز البيضاء وفاكهة البرتقال.
وقال سيد الإسكندراني وهو يتجشّأ:
ــ لا ينقصنا إلا النّسوان!
>>>
فوجئوا بحارس هندي جديد علي مخزن السلاح.. كانوا يتعاملون مع أربعة قبله بسلاسة فمن أين جاءهم هذا؟
قبّل سيد الإسكندراني رأسه وهو يرطن معه بالإنجليزية، والآخر يضع معصميه فوق بعضهما ويمدهما إلي الأمام ويردّد:
ــ نُو.. نُو.. أنا كالابُوش.
مرجان الفيل دار خلفه وأمسك رأسه بكفّه اليسري، وقبض علي عنقه بكفه اليمني، وسمعوا طقطقة عظام رقبة الحارس المسكين قبل أن يتهاوي ويفحص الأرض بقدميه ثم يهمد.
غادروا المكان في الحال دون أن يدخلوا مخزن السلاح.
>>>
طوال الليل والصفارات تدوّي والعساكر الإنجليز والهنود والأفارقة يهرولون بأسلحتهم هنا وهناك.. بعضهم يفتش الخيام، وبعضهم يتجه نحو الغابات، بينما اسم (أبو تمام) يتردد بلغات كثيرة.
>>>
قال لك زعيم الجماعة ماجد البولاقي ــ وهو ينتفض غضبًا ــ في لقائهم اليومي عند (الميس):
ــ كل هذه المصائب سببها هذا الحمار الذي عرّفتنا به.
ــ مرجان الفيل غشيم.. لم يكن يقصد قتل الهندي البائس.. أراد أن يشلّ حركته فإذا برقبته تنكسر بين يديه.
ــ لا تريني وجهه مرة أخري.
>>>
في السهرة الليلية تساءل حمدان:
ــ لماذا أسمع اسم أبو تمام يتردد كثيرًا؟
قال سيد الإسكندراني: الإنجليز يعتقدون أنه هو الذي قتل الحارس ليسرق السلاح.
ــ وكيف عرف الإنجليز أن هناك شخصًا اسمه أبو تمام؟
ــ الله أعلم.. يبدو أنه زعيم كبير.
فوجئوا بزعيم الجماعة ماجد البولاقي يزورهم.. قال:
ــ الإنجليز ينتصرون في كل المعارك.
تساءل متولي القناوي: هل سيتركون برّ مصر بعد انتصارهم؟
ــ لا أعتقد.. الإنجليز مراوغون.. حرموني من الإجازات لمحاولتي الهرب.
جاء شخص وقال بصوت عال:
ــ أفندينا السلطان حسين كامل مات.. وتولّي مكانه سلطان جديد اسمه فؤاد.
التف حوله غالبية من في الخيمة وتساءل حمدان:
ــ هل السلطان الجديد أحسن من القديم؟
قال ماجد البولاقي: من يعرف؟.. لو جاء لإنقاذنا يكون أحسن، لكنني لا أظنه يُحس بنا.
>>>
تحرك معسكرهم وتوقف إلي جوار مدينة يسمونها (عكّا).. ثم تحرك أكثر من مرة إلي أن انتهي بهم المطاف إلي قرب مدينة اسمها (بيروت).. أشار متولي القناوي إلي طريق تسير فيه المركبات والخيل والجمال وتساءل:
ــ هل صحيح أن هذا الطريق يؤدي إلي المدينة الكبيرة جدًا التي يسمونها (دمشق)؟
أجاب زعيم عصابة الجدعان ماجد البولاقي: نعم.. ودمشق الآن أصبحت عاصمة الأمير فيصل ابن الشريف حسين ملك الحجاز.. أقام لنفسه مملكة قوية فيها ويطمح أن يكون ملك جميع العرب.. لكن بمعاونة الإنجليز.
تساءل متولي: ولماذا يتعاون مع الإنجليز وهم أعداء لنا؟
قال الزعيم ماجد: هذا ما لا أفهمه.
>>>
كم من السنوات مرّت علي حمدان وهو في هذا العذاب؟ كل الذي يعرفه أنه ازداد طولاً وامتلأ جسده قليلاً، وأصبحت له عضلات مفتولة، لكن الإحساس بأنه سجين لم يفارقه.. اللحظة العذبة الوحيدة التي تمر بحياته، حين يتذكر جلساته مع وديدة.. ذات مرة شكت له من أخيها غير الشقيق الذي يكبرها بعشرين عامًا (جعفر الحكمدار) قالت إنه ضربها بحبل غليظ من الليف.. حين خنقها البكاء وهي تحكي له، أحاطها حمدان بذراعيه وضمها إلي صدره.. لحسن الحظ لم تر خالته ــ التي اجتمعا في بيتها ــ هذا المنظر.. كانت مشغولة في غرفة الموقد.. أين أنتِ يا وديدة؟
>>>
في طابور المساء.. صاح الملاحظ الجديد فيهم:
ــ سنعود الآن إلي فلسطين، استعدوا للرحيل.. من يتأخر منكم أو يتكاسل يتعرّض للجَلد.
ازدحم المعسكر بالشاحنات وبراكبي الجمال، وقال سيد الإسكندراني يخاطب زعيم عصابة الجدعان ماجد البولاقي: سمعت ضابطًا إنجليزيًا يقول لأحد زملائه إن الإنجليز يتركون سوريا ولبنان لأن الفرنساوية سوف يحلّون محلهم.
تساءل حمدان: من هم الفرنساوية؟
فكر سيد الاسكندراني قليلا قبل أن يجيب: أولاد عم الإنجليز!
بعد رحلة شاقة وجد نفسه يدور مع الجموع حول بحيرة كبيرة يسمونها بحيرة طبريّة.. وأقيمت المعسكرات علي مقربة من قريتين واحدة اسمها (سمخ) والأخري اسمها (جعُونة) وعلي مبعدة مدينة يُقال لها (صَفد).
ساقوه مع مجموعة من أفراد خيمته، منهم متولي القناوي، ليحفروا حُفرة دائرية كبيرة.. فوق رؤوسهم يقف الملاحظ ــ وحوله جنديان هنديان بالسلاح ــ يتلاعب بخيرزانته ويصرخ: بسرعة يا بهائم!
بعد أن انتهوا جاءت محفاّت كثيرة تحمل فوقها عمالاً ملفوفين في ملابسهم.. ظن حمدان أنهم مرضي سيذهبون بهم إلي الخيمة الكبيرة التي يسمونها المستشفي.. فوجئ بمن يحملون المحفّات يقذفون بهم في الحفرة، وجاء آخرون رشوا عليهم موادً كيماوية وطلبوا منهم أن يهيلوا عليهم التراب!
ــ ما هذا؟
ــ ماتوا.. هناك وباء يجتاح المعسكر.
ــ يعني لو متنا.. سيلقون بنا هكذا؟
صاح الملاحظ وهو يضرب الهواء بخيرزانته:
ــ امنعوا الكلام يا بَقر!
>>>
انطلقت صيحات الملاحظين وسط الخيام:
ــ استعدوا.. سنجمعكم ونذهب بكم إلي المستشفي لكي (يطعِّموكم).. من يتأخر يتعرض للجلد.. ونحن يهمنا أن تتأخروا لكي تغوروا ونخلص منكم!
>>>
وقف في طابور طويل داخل الخيمة الضخمة.. أحد الممرضين الهنود يحمل إبرة كبيرة تشبه (المخرز).. يضرب بقسوة ذراع كل من يأتي عليه الدور ويصيح بالإنجليزية: نيكستْ؟
سأل سيد الإسكندراني: ما معني نيكست؟
ــ يعني »اللي بعده».
تذكر الرجل العملاق الذي يحمل إبرة تشبه الخنجر (يطَعِّم) بها البقر والعجول في قريته بنفس الطريقة الفَظّة!
دخل رجل عليه قميص وبنطلون فوقهما معطف أبيض.. راح يرطن بلهجة غاضبة.. بدا الارتباك علي الممرضين من مصريين وشوام وهنود، فسارعوا بإشعال وابور جاز ووضعوا فوقه إناء به ماء ألقوا فيه بالإبر الفارغة.. ثم رطن للممرض الذي يضرب الحقنة فغيّر هذا من طريقته القاسية، وأخذ يغرس الإبرة في الأذرع برفق.. بعدها يضع الإبرة في الماء الذي يغلي ويتناول غيرها.
جاء الدور علي حمدان.. اقترب منه صاحب المعطف الأبيض وسأله بلهجة قاهرية باسمًا: من أسوان؟
ــ نعم.
ــ أي بلد؟
ــ العصفورية.. بجوار كوم امبو.
ــ أهلاً بك.. أنا عشت في أسوان لفترة.. كان أبي موظفًا هناك.. إذا احتجتم لأي شيء، إنت واخوانك، تعالوا إلي هنا واسألوا عن الدكتور جرجس غبريال.
ــ ربنا يبارك فيك يا حضرة الدكتور.
>>>
وقف ذاهلاً.. رأي فرسهم الشابة (عبلة) يمتطيها أحدهم ويسير بها في طريق يشق المزارع.. هل هي (عبلة) يا حمدان أم جري لعقلك خلل؟ إنها هي بشعرها الأشقر اللامع وبطريقة سيرها الواثقة.. صاح بها »عا..بْلا..ه».
توقفت والتفتت ناحيته ثم أدارت رأسها يمنة ويسرة لكي تراه بكل عين علي حدة، كمن تتأكد منه.. هرول ناحيتها وهو يتعثر بسبب الماء الذي يغمر الأرض.. صاح في راكبها:
ــ إنها فرسنا.. من أين جئت بها؟
لكن الآخر شدّ لجامها وضرب جنبيها بالركاب فانطلقت به، وحمدان يتابعهما لاهثًا.
صاح الملاحظ في طابور المساء:
ــ الحرب خلصت.. بعد يومين نشحنكم إلي بلادكم ونرتاح من وجوهكم العكرة!
هذه سهرة من أجمل السهرات في حياته.. تجمع فيها رجال عصابة (الجدعان) في مجموعة الخيام التي يطلقون عليها اسم (الميس) حيث قرر عمالها أن يسهروا حتي الصباح.. وقال متولي القناوي وهو يعدل جلبابه علي جسده المدملج:
ــ كل واحد فيكم يعطيني عنوانه ويكتب عنواني عنده.. لابدّ نلتقي بعد أن نعود إلي بلادنا بالسلامة.. هذه عشرة عُمر.
وقال سيد الإسكندراني: أنا في انتظاركم يا أصحاب.. لأن الأعمال في إسكندرية كثيرة.. خذوا عنواني.
اختلي بابن نجعه مرجان الفيل وقال له: ــ حينما تذهب إلي البلد إياك أن تقول إنك رأيتني.
ــ لماذا؟ ألا تسافر معي؟
يا لغباء هذا الفيل.. كيف أذهب إلي البلد لتنهال علي رأسي نبابيت المحاميد وحرابهم؟ أو يسلمني العمدة للحكومة لكي تشنقني؟
ــ سأعطيك مبلغًا من المال.. تعطيه لأمي بينك وبينها.. قُل لها حمدان بخير وكوني مطمئنة من ناحيته.. وحينما أستقر في مكان أبعث لها سرًا لكي تأتي لزيارتي أو الإقامة معي.
ــ ولماذا تأتي هي؟ الواجب تسافر إليها لكي تفرح بك.
ــ يا مرجان أفق لنفسك.. كيف أدخل البلد بعد الذي حدث؟
ــ وماذا حدث؟
وبعدها في هذا الجُرم الهائل الذي ما زال بعقل طفل؟
ــ ألم تسمع بأنني قتلت ــ دون قصد مني ــ الولد ركابي المحمودي؟.
* منقول عن جريدة أخبار الادب المصرية