غادة العبسي - وحياة قلبى وأتْراحه.. قصة قصيرة

يا صرختَه الأخيرة ادوِ وأَسْمعِى مَن به صمُمُ.. وليعُد صداها للرجوع مرارًا حتى تشكو الجدران.. ماذا على رجع الصدى لو يُعِيد؟ لو يعيدُ إليّ ضحكةً واحدةً قبل أن يتجمّد وجهي وتُصلَب شفتاي فوقه للأبد..! يالَروعة الأحرف القليلة تخرج من فِيكَ ممدودةً هكذا بلا انقطاع..!
منذ سنوات لم أكن أسمع صوتك أبدا سوى متقطّعًا بالأمر والنهي وبذلك التأوّه في لهاثك القصير وقت رغبتك المحمومة فيّ، لا يفلحُ في إطالته كل عقاقيرك الثمينة..
يا إلهي! أريد أن أرقص.. وأصفّق مثل قرد منتشٍ بسباطةٍ من المَوز الفاخر وحفنةٍ كبيرة من الفول السوداني تملأ راحتيه الممدودتين.. ثم أريد جدًا أن أنام فوق صدرٍ حنون كقردٍ آخر رضيعٍ مبتسم, يتوسد نهدَ أمه.. يبدو أن الإنسان أعرق من القرد في قِرديّته كما قال “نيتشه”..
وحياة قلبى وأتْراحه – وإنه لَقَسمٌ لو تعلمون عظيم – لأفرحنّ..! خُلقَت القلوب معيبةً بثقوبٍ كبيرة لا يسد جوعها شيء.. ولَكم قنعتُ بجوعي، ولَكَم اتسع ثقب قلبي الآن.. يريد أن يبتلع الكون بأكمله..
المشهد عبثي.. في وضح النهار، امرأة شارفت على الأربعين ترقص فوق جثّة رجل تجاوز الخمسين..! البحر يرغو ويزبد، مغرٍ ويناديني.. من قال يا بحر إن الموت حدثٌ حزين وموجع؟ هل كان أول قلب متاحًا للموت أضعف من آخر قلب سوف يموت؟ وهل نموتُ من الموت يا بحر؟. أم مِن نور الصباح المتآكل فوق أحلامنا.. ومن غبار السنوات على أرواحنا.. ومن وهمٍ يقال له الراحة.. ومن هلع حصار الغد لحاضرنا.. مِن شيء ما يسدّ ثقوب الحياة اسمه الانتظار..؟! هل حقًا نموت من الموت؟ وهل عليّ أن أصدق أن تلك الجثة ماتت الآن فقط؟ وأنني بالفعل حيّة ولستُ أكثر موتًا من هذا الجسد الصامت أبدا؟ أنا حيّة وسأحيا.. ولا بد أن أصدّق ذلك.. فلا يلبي الموتى النداء، وها أنا عارية إلا من روحي وجسدي يرتميان في أحضان الأزرق.. وسأتقمص الآن دور البطولة في أهم الأفلام الملحمية ذات الإنتاج الضخم، ولتطلِق عذراى البُلْغَار عديدَهن الطويل في الخلفية الموسيقية للمشهد المثير.. ثبّت أيها المصور عدستك على نهدين احتوتهما قبل دقائق حمالةُ صدر سوداء من نوعية الـ”push up “، في محاولةٍ يائسة لرفع أشياءٍ كثيرة إلى ذروتها.. أحلام.. رغبات.. أعضاء مشلولة..

“شيء ما يصيبني بالنفور الشديد من فكرة العودة إلى الرضاعة، من تذكار مذاق اللبن إذا قُطِر من ثديٍ منتفخٍ كالضرع، رذيلةٌ ما تلتصق بضميري تشبه جريمة أن ينكح أحدهم أمه!”..

هكذا يهرب الفيلسوف من حصار الأنثى في زمنٍ يُقال له “النِّنَا هُو”، حيثُ ينام الذكور مثل الخراتيت ويتركون “البوش أب” وحيدًا طوال الليل..!

اغسلني الآن يا بحر مثل الفَرَس “إِكْوَاس”، يقع في غرامه ذلك الرجل الخبيث متأملًا قطراتك التي تداعب جلده الأبيض ، اغسلني من نظرته الأولى وجوعه الأول ومن ملايين الخلايا تُساقِط عن جلدي كل صباح وتتركه برائحة تشبه الرحيل، لا تفلح في محوها أغلى العطور..! اغسل أذنيّ من كلماته الأولى صيادًا يهمس لي في أعماقك: “أمانة يا بحر جَاش خِلي مَلَا منك؟ أبيض ظريف المعالم اختشى منك”.. ومن لومه عندما انقطعتُ عنك في اليوم التالي وعدتُ عند الغروب: “كان خِلّك بيستناك استغيبَك يا جميل قطَع العشَم منك”..!

اصمت، أنت ملقى الآن على الرخام البارد بالداخل مثل الذبيحة، ذبيحة مثل التي حملها أبوك “الجزار” وذهب بها إلى حَمِيه في محل جزارته المجاور فوجد أمك تقف بالسكين بدلًا منه فقال لها: “لم أكن أعرف أن لدى الحاج “حلويّات” يخفيها عنا” ولما شتمته، أخذ جدك في المساء كي يطلبها للزواج لتأتي أنت إلى الدنيا..! كان لا بدَّ عليها في ليلة الزفاف وهي تقتحم حجرتهما بالسّكين، بينما هو جالس ينتظرها فوق السرير مطرقًا في سقف الحجرة حتى تبدّل فستان الزفاف بآخر مغرٍ، يبرز اللحم “الأوزي” المشرئب بالحمرة، أن تقطعَ أعز ما يملك بدلًا من محاولة تخويفه بتقشير ثمرة البرتقال فحسب!
“شششش”، هدوءً.. أريد أن أستلقيَ فوق صفحة الأزرق وأشعر بالطفو المدهش ليتمدّد جسدي كليةً فوق الماء.. آه.. ذلك العري البهيّ.. أقِفُ لا يغطّيني سوى معطف من الشيفون الأسود في شرفة الفندق الذي يطلّ عليك يا بحر، ليعترض جسدي شعاعَ الشمس المتعامد تمامًا على وجهه النائم، ألهو بجذعي مع مخروط الضوء ومع محيّاه يشتعل وينطفيء أمامي، مبتسمًا يصحو فيشير إليّ بإصبعه، أهرع إلى شفتيه، هل كان أفضل رجل بإمكانه تقبيل امرأة؟ لا أدري بالطبع، كان يقبّل كلَّ ركن حول شفتيّ، يُغرق الزاويتين بالقُبل وكأنه لا يرومُ المزيد، فأُجَنّ.. بالمناسبة! ما كان إصراري أن أقبّل جرحًا غائرًا في ساقه أول ما قبّلت من جسده؟ كنت أتساءل لو أن تقبيل الجراح قد يدفعها إلى الالتئام فعلًا كما كانوا يفعلون معنا في الصغر! ألتهمُ شفته السفلى المشقوقة كشفةِ أرنب ولا أفلتُها وكأنني أحاول لصقها من جديد.. أبتعد لأقترب فيجذبني من المعطف الشيفون، فأخلعه في تحدٍّ، أراوغه من جديد وهو مستلقٍ، فتتعلق يداه في الهواء يريد التشبث بأي شيء مني، أتركه غارقًا في الشبق، فيقول: أرسلي إلىّ بهلب!. أقرّب إليه أحدهما غانجةً: هذا متخصص في إدارة الأزمة وإنقاذ الغرقى.. يقول طامعًا: تأخرتِ، لقد مت وأنا في الجنة الآن، وبي توقٌ لسائر فاكهة الفراديس..!
انعَم بجحيمٍ مقيمٍ الآن!
أنا أتضور جوعًا، وأشتاق “غزل البنات” بشدة لأنني كنتُ أتخيل -والسكر يذوب في فمي- أني أقضم السحابات البعيدة! أفضل شيء فعلته أيها السكّير أنك اشتريت هذا المسكن.. اشتريتَه وأنت لا تدري أنك تشتري مقبرتك.. كنتَ تظن أن قصتك معي لن تنتهي مثل قصص “المَانـْﭼَا”؟! أشتهي كوبًا ساخنًا من القهوة أحتسيه هنا على الشاطئ، أرشفه وحدي لمرةٍ واحدةٍ أخيرًا دون أن أتخيل بصقتك الصفراء فيه.. ودون أن أصبَّ الماء صبًا في الكوب فيخرق أذني صوت بولك المتدفق في المرحاض! كيف لهذا الأنيق اللامع أن يبول أو يتغوط؟ كيف له أن يتجشأ أو يضرط؟ كيف له أن يخطئ؟ يجلس بابتسامته الهادئة نظيفًا مقلّم الأظافر، عطرُه الفواح يخدّر المذيعة ذات الأهداب الاصطناعية، حركات يديه الأفعوانية تشتّت الانتباه، قدرة فائقة على الإقناع، الخبير العالِم بخبايا الأمور، يتبسّط ويضحك مع المذيعة المأخوذة بالشخصية الآسرة.. ماذا قال لها في الفواصل؟ هل امتدح ثوبها القصير؟ وسأل في جرأةٍ عن ارتباطها؟ هل تناست فرشفت من كوب الماء الموضوع أمامه؟ تُراها شعرت بالاضطراب عندما فك زر القميص العلوي؟ بكل تأكيد تبادلا أرقام الهواتف على بوابة الاستديو الثقيلة..! وأنا هنا آكل أظافري وأجذب الزوائد الجلدية في قدمي لتنزف، أريد تحطيم كل شيء.. وسأبدأ بالشاشة اللعينة..! أستقبلُه بجهلٍ تام، وأدفن رأسي كالنعامة في صدره، لا لأنني أخشى مواجهته، بل لأن النعامة الطائشة لا تمتلك أسنانًا تؤهلها لخوض معارك!
هواء الخريف يحطّم النافذة، سيسقط الزجاج المكسور فوق رأسك قطعةً قطعة.. خمسة عشر عامًا يقولُها: “إن أفعلْها، فلستُ بعاشقٍ، إن أفعلها، أصير طالبَ ولد..”، ولكنني أطلب الولَد يا ظالمًا! أطلب بنتًا تشبهني في ثوبٍ أبيض أراها كل ليلة تغسل قدميها تحت شلالٍ صغيرٍ ينزلق فوق رامةٍ خضراء.. إنما هو عار الزواج الثاني ما تحاذر.. تخشى أن تهدم الزوجة الأولى المعبد بكل من وما فيه، تخشى أن يغلق رأسُ طفلي – إذ يخرج إلى الدنيا – بابَ رحمة الزوجة وأولادها بك..! كان يتحتم عليّ الرحيل.. كان لا بدَّ من هجرانه.. كان يجب أن أستمسك بمقاومتي.. وكان الحب.. ذلك الجنون.. فكان الألم.. وتعلّمنا الألم وأحببنا الألم وتُقنا إلى الألم، وقالوا إن الحقيقة لا تُكتسب إلا بالألم..! وأصبحَ..ثم الآن كانَ.. أحببتُه والتعتُ في حبه وذوّبني الشوق إليه قريبًا كان أم بعيدًا.. ليت هناك معادلًا للشوق بلغة الكيمياء، شيء تصبُّه صبًا فوقه فيطفئه، يكسر سُمّه.. يذيب ذراته فينا ويُبقي فقط على ذلك الترياق الذي لا حياة بدونه: الحب وحده.. صافيًا دون لوعةٍ واشتياق.. أو ليتهم يصنعون مصلًا فعالًا ضد الحب ويتركوننا نموت في سلام من دون تذكار.. كيف يمكنني البدء من جديد.. بدونه؟! هل مات فعلًا.. حبيبي؟! يارب رحمتَك.. الأمانَ.. الأمانَ.. منذ متى وأنا آكل من خبزِك يا ذا الجود؟

(يظهر ظلٌ مداهمًا إياها من الخلف ليغطي جسدها العاري فانتفضت مذعورةً واقفةً لتجد زوجها في مواجهتها تمامًا)

-حبيبتي، هل أنتِ بخير؟؟ ماذا حدث؟؟
– آ آ..أنا بخير وأنت؟؟؟ أنت حي؟؟
-أجل حي.. هل هذا سؤال؟ ماذا حدث؟ أنا لا أذكر شيئًا على الإطلاق.. هل حدث مكروه؟
– أنا لا أذكر شيئًا أيضًا.. ولكن المهم أنك حي.. أقصد بخير!
-أمرٌ غريب..
-إذن ما آخر شيء تذكرُه؟ ها؟؟
-“البوش أب” الأسود.. هذا آخر شيء أذكره!


تعليقات

القصة خاليه من السياق السّردي ، فكرتها جيدة ، لكن وحدة الانطباع ضائعة في تشتت المساحة الكتابية ‘ وتعدد الانشطارات، لكن صياغة العبارة تمتاز بلغة جميلة.
 
شكرا اخي الاديب القاص والناقد الرائع اسماعيل آل رجب على هذا الانطباع الاولي بخصوص النص السردي للاديبة غادة العبسي .. وقد نقلت اليها التدخل ..
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...