عبدالرحمن الشرقاوى - سر طه حسين

سمعت اسم طه حسين لأول مرة، وأنا صبى فى مدرسة القرية. كان إخوتى الذين يكبروننى يتلقون تعليمهم فى القاهرة، ويعودون إلى القرية فى كل صيف، ومعهم كتب يقضون إجازاتهم فى قراءتها.. وكنت قد تعلمت القراءة فى مدرسة القرية، واستطعت أن أقرأ عناوين الكتب وأسماء مؤلفيها.. وعرفت أسماء طه حسين، وعباس محمود العقاد، وأحمد شوقى، والدكتور محمد حسين هيكل، ومصطفى لطفى المنفلوطى، وسلامة موسى، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم عبدالقادر المازنى، ومحمود تيمور، ومصطفى صادق الرافعى، ومصطفى عبدالرازق، ومنظور فهمى، رحمهم الله جميعًا.
ولكنى لم أستطع أن أقرأ أكثر من عناوين الكتب وأسماء مؤلفيها.. ثم تعودت الجلوس مع إخوتى الكبار لأسمع لأحدهم يقرأ من صحيفة يومية أو أسبوعية بينما الآخرون- وأنا منهم- نصغى فى صمت وإعجاب.
ثم تعودت أن أصغى كل أربعاء إلى قراءة حديث السياسة.. ومن خلال حديث الأربعاء ظهرت أمامى عوالم سحرية باهرة من حياة الشعراء العرب فى العصور الجميلة الماسية، واضطرمت نفسى بما فى حياة هؤلاء الشعراء من قدرة على الاقتحام وتحدى الخطر، وتخايلت أمام عينى رؤى سحرية من عوالم أولئك الرجال، ومن صخبهم وفتوتهم، ومن عذوبة وروعة ما يعبرون به من كلمات.
ومن خلال تعودى الاستماع لحديث الأربعاء، رسخ فى ذهنى اسم طه حسين أكثر من جميع الأسماء الأخرى، وهزتنى موسيقى تعبيراته.. ثم أحببت القراءة.. وبدأت أعتقد على ارتياد العوالم السحرية التى شغفتنى، من خلال قراءاتى، لا من خلال الإصغاء. وأود أن أذكر هنا أن المصادفة هى التى حددت لى يوم الأربعاء، لألتقى فيه القراء على صفحات «الأهرام» الغراء، ولقد كان من بين أول الكتب التى قرأتها، كتاب اسمه «قادة الفكر» تأليف الدكتور طه حسين.
وعرفت من خلاله عظمة هؤلاء الرواد الأوائل، الذين عمروا دنياهم بالحكمة وتركوا لنا ميراثًا ضخمًا وعظيمًا من الفكر والغنى الروحى.
ثم قامت القيامة فجأة على طه حسين حين ألف كتابًا عن الشعر الجاهلى.. لم يعجب سلطات ذلك الزمان! ودارت الأيام وحكمت مصر حكومة مستبدة فهاجمها طه حسين، فلم تغفر له هذا الهجوم.
وفُصل طه حسين من كلية الآداب، بسبب آرائه تلك، وهو أحد مؤسسى هذا المعهد العظيم.
وأضرب الطلاب احتجاجًا على فصل طه حسين، وتناهى الخبر إلى قريتى وشهدت الكبار فى القرية يسمرون مع أبى فى ليالى الشتاء المشوبة بالحزن والحنين.. ما كانت تعنيهم آراء طه حسين فى الشعر الجاهلى وما كانوا يعرفونها. وربما كان الذين يعرفونها يرفضونها.. ولكنهم جميعًا كانوا ينكرون على الحكومة أن تقصى معلمًا كبيرًا عن دار العلم التى أنشأها، لا لشىء إلا لاختلاف الرأى.. ويا الله كم بهرنى اشمئزاز هؤلاء الطيبين الغيورين من أبناء قريتى، لأن الدولة بكل جبروتها وأسلحتها تشن عدوانًا على رجل واحد شريف، لا يملك إلا قلمه ورأيه وصدقه.
لقد كان غضبهم غضبًا للعدوان على حرية الفكر.
وكان هؤلاء الرجال الطيبون حديثى العهد بثورة ١٩١٩، وبالدفاع عن الحرية وعن الدستور والاستقلال والعدل، وبالمظاهرات الملتهبة ضد الظلم والاستبداد والقهر.. وهزنى هذا كله إلى الأعماق.
حتى إذا أرسلنى أبى إلى القاهرة لألتحق بالمدرسة الابتدائية وأعيش مع إخوتى، وجدت اسم طه حسين ملء السمع والبصر.. كان قد تفرغ للكتابة وحدها، منذ فصلوه من الجامعة. لقد فصلوا بعده أستاذًا عظيمًا، لأنه استنكر عدوان الحكومة المستبدة على حرية الفكر وعلى الدستور وعلى حقوق الشعب كله.. فصلوا القانونى العظيم الدكتور أحمد عبدالرزاق السنهورى أستاذ القانون المدنى بكلية الحقوق بالجامعة المصرية، وأحد رواد الأدب القانونى واحتج الطلاب وتظاهروا، ولم تحفل الحكومة المستبدة بهذا كله، بل انقضت عليهم، ففصلت بعضهم فصلًا نهائيًا، وفصلت آخرين لمدة محددة وكان أغلب الثائرين من طلاب الجامعة والمدارس الثانوية والمتوسطة، ولم تهدأ الثورة على الحكومة المستبدة قط على الرغم من كل شىء.
ولكن هذا القمع كله لم يستطع أن يعزل الأستاذين العظيمين عن محبيهما.. وإذ بالصحف تصدر ذات صباح مفعم بالآمال مرتعد من برد الشتاء، لتبشر القراء باتفاق قاعة إيوارت على أن يقدم فيها الدكتور طه حسين محاضرة أدبية أسبوعية، وعلى أن يقدم فيها الدكتور السنهورى محاضرات قانونية من حين إلى حين.. وكان الدخول ببطاقات مرتفعة الثمن بالقياس إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة فى تلك الأيام.. وكانت بطاقة الدخول بسعر يتراوح بين ثلاثة قروش وخمسة قروش، وقوة شراء هذه القروش الثلاثة حينئذ تبلغ مائة ضعف قوة شرائها فى أيامنا هذه. وأخذت أقتصد لأتمكن من شراء بطاقة فى المقاعد الأمامية لأحسن رؤية وسماع طه حسين.. كانت المحاضرة فى السادسة مساء، فخرجت من منزلى بعد الغداء، ووقفت أنتظر أمام قاعة إيوارت فى صف طويل.
وأذكر أنى حين حصلت على بطاقة فى الصفوف الأمامية، شعرت بسعادة غامرة لم أشعر بها من قبل، لما حصلت على البطاقة أخذت مبكرًا أتجول فى الشوارع المحيطة بقاعة «إيوارت» وأنا أكاد أطير من الفرح.. كان الطريق من مسكنى ببركة الفيل قرب الحلمية الجديدة إلى قاعة «إيوارت» طويلًا بالقياس إلى تلميذ فى المدرسة الابتدائية. ولكنى شعرت به قصيرًا رائعًا كحلم سعيد. وكانت طرقات القاهرة غيرها فى أيامنا هذه. كنا نقطع فيها المسافات تحت ظلال الأشجار الوارفة، تملأ صدورنا بهواء جميل نقى يخفق بعطر الياسمين والفل الهندى وروائح الخضرة.. وكانت الآذان المستريحة لا تلتقط إلا أنغام البيانو فى معزوفات شرقية شجية كانت أشهرها معزوفة لمؤلف لا أذكره اسمها: «سميحة».. ومن حين لآخر يتناهى إلى الأذن صوت المذياع رقيقًا حانيًا، بأصوات أم كلثوم وعبدالوهاب وصالح عبدالحى، وبتلاوة الشيخ محمد رفعت، أو بسماع من مسرحيات بأصوات جورج أبيض ويوسف وهبى.. وكانت الشوارع نظيفة تكاد تلمع وكأنها من زجاج، حتى يتحرج الماشى أن يلقى فيها بورقة مهملة.
ظللت أقرع الطرقات الجميلة حتى جاء الليل، ودُرت فى وسط المدينة أخوض الليل المضىء بالأحلام، حتى اقترب وقت المحاضرة فأتيت قاعة «إيوارت» ودخلت، وأخذت مقعدى.. الآن أشاهد طه حسين وأسمعه.. ما أروع هذا كله.. أول مرة أراه.
ودخل إلى المسرح رجل طويل نحيل مهيب ثابت الخطوات، شامخ الرأس، ينعكس الضوء على جبهته السمراء، كوهج الشمس على خوذات أبطال الأساطير. يا الله أهذا هو طه حسين؟!.. ولم تتركه الجماهير يجلس.. فقد استمر دوى التصفيق الهائل وتعالت الهتافات.. هتافات شباب وفى.. كلها تلعن الظلم والقهر، وتدعو بالعمر المديد لطه حسين قاهر الاستبداد.. وأجلسه مرافقه إلى مقعده، وجلس بجواره.. ولقد ننسى كثيرًا من الأشياء، ولكننى لن أنسى أبدًا اختلاجة صوت طه حسين، أمام هذا الاستقبال الخرافى. كان فى صوته دفء عجيب آسر.. وكانت كلماته نبضات، وأحسست به كأنه يستخلص من طوفان دمع حبيس يوشك أن ينفجر، ولم يعد أحد فى قاعة «إيوارت» يستطيع أن يحبس الدموع، وانطلقت الهتافات مرة أخرى، تدوى تحية لطه حسين.. أما هو فشرب جرعة ماء.. ثم استرسل ندى الصوت، رائع العذوبة، كأنه جدول سحرى، وملأت كلماته النفس بشعور غريب وهى تتدفق، ولكن فى هدوء وثقة فوق كفيه المشتبكتين وتنسال عبر الآذان، لتنسكب القلوب فتشرئب بها الأعناق، كان لا يزال يعقد يديه كحكماء الزمان القديم.. ويسترسل، ومنذ تلك الليلة تعودت ألا تفوتنى محاضرة لطه حسين، ولا كلمة مكتوبة فى صحيفة أو كتاب. ولقد أذكر أن أجمل هدية تلقيتها فى حياتى هى كتابه «على هامش السيرة» حين حصلت على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية.
حتى إذا حصلت على الثانوية العامة أردت أن أدخل كلية الآداب، ولكنى صرفت عنها إلى كلية الحقوق.. وخيل إلىّ أنى لو حرمت من دراسة الآداب، فسأحرم من الحياة نفسها!.. واتجهت إلى الدكتور طه حسين، وكان قد أعيد إلى الجامعة بعد أن سقطت حكومة الأقلية المستبدة.. وتقدمت إليه بطلب مكتوب، بلا وساطة، ألتمس منه المساعدة لقبولى بالآداب طالبًا منتسبًا، أو السماح لى بحضور محاضراته بالقليل، ولم يكن هو العميد، وكان العميد هو الدكتور شفيق غربال عميد أساتذة التاريخ الحديث فى تلك الأيام الجميلة.
وذهبت أسأل عما فعله طه حسين بطلبى، فعلمت أنه قد أذن لى فى حضور كل محاضراته فى قسم الليسانس وقسم الدكتوراه، وأنه ينصحنى بأن أحضر للشيخ مصطفى عبدالرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية والأستاذ أحمد أمين أستاذ الأدب العرب.. وعلمت أنه أوصى العميد بى وقال محدثى: إن الدكتور طه ينصحك بأن تذهب لمقابلة العميد.
وفى عطف أبوى أخبرنى الدكتور شفيق غربال بأنه لا يوجد نظام انتساب فى كلية الآداب، إذ كان قد ألغى منذ زمن، ولكنه يستطيع أن يعطينى تصريحًا لحضور ما أختار من محاضرات فى أى قسم من الكلية.
ووضعت لنفسى نظامًا اخترت فيه حضور جميع محاضرات طه حسين، ومحاضرات أخرى للشيخ مصطفى عبدالرازق، وللأساتذة الدكتور عبدالوهاب عزام وأحمد أمين، وأمين الخولى وعبدالوهاب حمودة من قسم اللغة العربية، واخترت من قسم اللغة الإنجليزية الحضور على أستاذ للشعر، وأستاذ للدراما، وأستاذ للنقد، وكانوا كلهم أساتذة بريطانيين ودروس الدكتور مندور، وكان يدرس الترجمة لقسم اللغة الإنجليزية فى ذلك الزمان.
ثم تنفجر ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وأتحسس للثورة كغيرى من المناضلين الشباب.. ولكنى آنس من الثورة جنوحًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأرى إجراءات قمع غريبة، وهذا كله غير ما حلمنا به ونحن فى أغلال القهر الملكى البريطانى، نصوغ بخيط الآلام فجر المستقبل.
ويدلى طه حسين بحديث إلى إحدى المجلات الأسبوعية يمتدح فيه بعض المشروعات الثقافية التى كنت أراها غطاء لأهداف سياسية استعمارية، وأرد على هذا الحديث بمقال فى جريدة «المصرى»، أعظم صحيفة يومية عرفها تاريخ الصحافة المصرية، وأعمق صحيفة أثرت فى منطقتها، وصاحبة أروع متابعات فى الصحافة على الإطلاق.. كان المقال غاضبًا حقًا، ولكنه رعى لأستاذنا وقاره واحترامه، ولأنى فى مسكنه بجوار جريدة «المصرى»، إذ جاءنى رسول من الأخ العزيز أحمد أبوالفتح يطلب منى سرعة الحضور إلى مكتبه، لأن أستاذنا الدكتور طه حسين حضر ومعه رد على مقالى، وهو يريد أن يلقانى فى حجرة رئيس التحرير.
وطربت لهذه الزيارة، وأكبرت هذا الموقف من أستاذنا طه حسين.. ولم أكد أخرج من باب مسكنى حتى جاءنى رسول آخر من رئيس التحرير، جاءنى لاهثًا ليحذرنى من الحضور إلى الجريدة، لأن البوليس الحربى أقبل بغتة وطوق الجريدة وحاصرها، وهو يبحث عنى للقبض علىّ.
واختفيت عن الأنظار وعندما هدأت العاصفة ظهرت، وأرسل طه حسين إلىّ يدعونى إلى مقابلته فى مسكنه.. وكان دارًا صغيرة أنيقة ذات حديقة بحى الزمالك، قبل أن يبنى داره المسماة «رامتان» بشارع الهرم.
ودخلت دار طه حسين كعابد ورع متبتل يدخل إلى محراب.
كنت أدير فى فكرى ما دار بيننا من حوار منذ حين حول الأدب والحياة..
واستقبلنى طه حسين بترحاب كبير وأخذ يمزح، وكان عذب الدعابة، خفيف الظل، على ما فيه من جلال وهيبة.
قال لى ناصحًا من خلال ابتسامة ساخرة: «الحكومة حمقاء، ومن أحمق الحمق أن نتحامق على حمقى». وأطلق ضحكة مجلجلة ثم أشعل لفافة تبغ، طبع عليها اسمه وجذب منها نفسًا عميقًا، وقد غاضت ابتسامته، وصارحنى فى حنان أبوى غريب لم أكن أتوقعه بأنه يخشى علىّ ما عسى أن تصنعه بى الحكومة من بطش إن ظللت أتحداها.. وكان قد علم بأنى منعت من الكتابة، وأن جريدة المصرى قد قُهرت على فصلى، فرأى فى ذلك خيرًا لى وإن كرهته، وقال: عسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.




ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...