كان النهار يستعد للرحيل، ليحلّ الغروب عليه وعلى المدينة. كلّما غابت الشمس، مالت قواه وسقطت آخر ذرة من عقله. وتصاعد جنون الجماد إلى شرايينه. يعصف العقل به نهارا والجنون ليلا. أو يتبادلان المناصب. سياسة تجمع بين المتناقضات. لم يكن يفهم تلك التركيبة العجيبة التي جعلته ينتمي لبني البشر، فهو لا يشبههم في شيئ. ربما هو كائن خرافي جديد لم تكتشفه الأساطير بعد.أو كائن متحول، ينسكب داخل المدينة التي خلت شوارعها من المارة، كما انسكبت سنين عمره ثكلى، تبكي ضياع العقل واللغة. أغلق باب الخربة التي كان يحتمي فيها من أشعة الشمس وبرد الشتاء، ملابسه ترتع بكل الألوان، فتح عينيه جيّدا، ليبصر ظله يتهاوى في الطريق باحثا عن عشاء ما.
وقف حذو إحدى الفضاءات التجارية، لاهو بالنائم، ولا مستيقظ، التف به الجوع والعطش وعادت إلى ذهنه صور الحُقن التي كانت تغزو لحمه بلا رحمة، تذكّر كتبه التي أُحرقت، ومقالاته التي أُتلفت، تذكر جامعة العلوم التي رفضت انتدابه وادعت أنه من الخارجين عن الجماعة العلمية. لاكت أسنانه ما تبقى فيها من أوراق الأمس، كان صراخه يشتد ويشتد، لملل نفسه، ثم انهال على نفسه بالضرب والشتم واللعن. كانت المارة تنظر إليه ولا تنوي شيئا، كلّ النساء كنّ يدّعين الخوف منه، وقف أمامه صبي صغير كان يلعب بالكرة، انفلت منه الكرة فراح يجري وراءها الى أن وقعت في يدي "المجنون". تقدم نحوه الطفل بكل براءة، متعجبا من شعره وملبسه وهيئته، كان حوار النظرات بينهما يعيد الجنون الى وعائه الأول, فانسكبت به ذكرياته الى زمن الطفولة وتهالك في مكانه كالرماد.
تناول الطفل كرته، ودس في يديه قطعة من الشكلاطة السوداء، ثم عاد إلى أمه، حائرا، من يكون هذا الرجل يا أمي؟
أمضى المجنون ليلته في الخارج، كان يدس رسائله في بقايا زجاجات الخمر الملقاة على الطريق. تناول فحما وقطعا من الكررتون المستعمل، وراح يكتب شكواه، ويدس الكرتون بعد طيه داخل الزجاجات. كل زجاجة تحتوي أشعارا ما. وكانت كل زجاجة في ركن من أركان المدية.
وعند الفجر، مر أحد الفنانين المغرمين بجمع القوارير الزجاجية للنقش عليها، انتقل من شارع إلى آخر يستعد لاعداد هدايا آخر السنة. ولكنه تفاجأ بوجود الرسائل المطوية داخل القوارير. أمضى كامل اليوم يجمع ما خطته يد المجنون على ورق الكرتون. ثم اكتملت في عينيه صورة الحكاية. واتضحت أمامه حجم المعاناة الظالمة التي كان يعانيها "مجنون المدينة" الذي كان يدعى "مجنون وباري". أكمل تزيين القوارير لاستقبال رأس السنة الميلادية، لكنه احتفظ بتلك الرسائل أمانة لصديقة الروائي والفنان. وبعد انتهاء الاحتفالات، عرّج على بيت صديقه، يناوله جملة المناشير التي عثر عليها، فكانت في اليوم الموالي تغطي أعمدة الصحف اليومية، وراجت الأخبار حول الحكاية. ودارت الأسئلة، ووُجهت أسئلة الاتهام ضد كل من كان سببا في جرح غائر لا يندمل.
فوزية ضيف الله
- مجنون وباري (يعني شفي)
وقف حذو إحدى الفضاءات التجارية، لاهو بالنائم، ولا مستيقظ، التف به الجوع والعطش وعادت إلى ذهنه صور الحُقن التي كانت تغزو لحمه بلا رحمة، تذكّر كتبه التي أُحرقت، ومقالاته التي أُتلفت، تذكر جامعة العلوم التي رفضت انتدابه وادعت أنه من الخارجين عن الجماعة العلمية. لاكت أسنانه ما تبقى فيها من أوراق الأمس، كان صراخه يشتد ويشتد، لملل نفسه، ثم انهال على نفسه بالضرب والشتم واللعن. كانت المارة تنظر إليه ولا تنوي شيئا، كلّ النساء كنّ يدّعين الخوف منه، وقف أمامه صبي صغير كان يلعب بالكرة، انفلت منه الكرة فراح يجري وراءها الى أن وقعت في يدي "المجنون". تقدم نحوه الطفل بكل براءة، متعجبا من شعره وملبسه وهيئته، كان حوار النظرات بينهما يعيد الجنون الى وعائه الأول, فانسكبت به ذكرياته الى زمن الطفولة وتهالك في مكانه كالرماد.
تناول الطفل كرته، ودس في يديه قطعة من الشكلاطة السوداء، ثم عاد إلى أمه، حائرا، من يكون هذا الرجل يا أمي؟
أمضى المجنون ليلته في الخارج، كان يدس رسائله في بقايا زجاجات الخمر الملقاة على الطريق. تناول فحما وقطعا من الكررتون المستعمل، وراح يكتب شكواه، ويدس الكرتون بعد طيه داخل الزجاجات. كل زجاجة تحتوي أشعارا ما. وكانت كل زجاجة في ركن من أركان المدية.
وعند الفجر، مر أحد الفنانين المغرمين بجمع القوارير الزجاجية للنقش عليها، انتقل من شارع إلى آخر يستعد لاعداد هدايا آخر السنة. ولكنه تفاجأ بوجود الرسائل المطوية داخل القوارير. أمضى كامل اليوم يجمع ما خطته يد المجنون على ورق الكرتون. ثم اكتملت في عينيه صورة الحكاية. واتضحت أمامه حجم المعاناة الظالمة التي كان يعانيها "مجنون المدينة" الذي كان يدعى "مجنون وباري". أكمل تزيين القوارير لاستقبال رأس السنة الميلادية، لكنه احتفظ بتلك الرسائل أمانة لصديقة الروائي والفنان. وبعد انتهاء الاحتفالات، عرّج على بيت صديقه، يناوله جملة المناشير التي عثر عليها، فكانت في اليوم الموالي تغطي أعمدة الصحف اليومية، وراجت الأخبار حول الحكاية. ودارت الأسئلة، ووُجهت أسئلة الاتهام ضد كل من كان سببا في جرح غائر لا يندمل.
فوزية ضيف الله
- مجنون وباري (يعني شفي)