حدث ذلك ذات صباح قائظ، وخط في قرطاس البلدة، فصار الحكاؤون يؤرخون حكاياتهم بما قبله أو بعده .. فما أن شق سيف الفجر قربة الأفق، واندلق الضوء على جسد البلدة ، حتى فزت على أصوات المنشدين بدلا من أصوات الديكة، فاستيقظ الراقدون على مطارح السطوح تلمسا لطراوة الهواء، والمختبئون في الكلل هربا من لسعات الناموس، مدهوشين، يتفرسون في وجوه بعضهم بعيون فضت لتوها ختم النعاس، وهم ينصتون إلى الأصوات البعيدة الآتية من عمق الطريق الممتد بين بساتين النخيل محلقة بأجنحة هواء ذلك الصباح الصيفي.. العجائز المعصوبات الرؤوس بالعصابات السود. أخرجن رؤوسهن من أسوار السطوح، حيث لم تعد ثمة جذوة تحت رماد العمر إلا للفضول الذي أطلقنه لاصطياد الخبر.. العذراوات الناهدات حشرن وجوههن في كوى الشرفات وتركن عنان العيون الناعسات لتجول باحثة في مساحة الإبصار المسفوحة أمامهن عن أيما دليل غير عادي.. الأولاد الصغار فروا كالعصافير نحو الأزقة المتربة، رفعوا دشاديشهم، سحبوا سراويلهم، قعوا وأقاموا مآدب للذباب، الرجال المجنبون المبتلين بعرق نسائهم، انحدروا نحو الحمامات لمسح آثار / اللهاث / الحرث / تشابك الأذرع والسيقان /.. الشباب المترعون بماء الرجولة. أسرعوا لإخفاء أورام الأحلام المنتفخة بين أفخاذهم . الشيوخ المرشحون لمغادرة العالم السفلي / بسملوا / حوقلوا / تمطوا / سعلوا / بصقوا / ثم ألقوا بما تبقى من ثقل أجسادهم على كاهل عكازاتهم، ونزلوا السلالم وهم يتجشؤون.. ربات البيوت المبتليات بمتطلبات المنازل أسرعن إلى المراحيض لإفراغ حمولة مثاناتهن ، والتفرغ لإعداد طعام الفطور.. وما أن حُمل هودج الشمس على أذرع النخيل، حتى أخرجت البيوت أثقالها. فدبت الكائنات الحية دبيبها الأزلي الموروث عن أسلافها المتدثرين بتراب المقابر، وجرى الناس في شرايين البلدة.. الدروب استقبلت السيقان الهزيلة الخاوية لفقراء البلدة، والسمينة المكتنزة لأغنيائها. الدكاكين فتحت أبوابها على باب الله المشرعة لرزق عباده. أرائك المقاهي استقبلت أعجاز العاطلين. الفلاحون غبشوا الى الحقول. الرعاة انحدروا الى المراعي. العمال تكدسوا على الأرصفة بانتظار بريد العمل. بائعات القيمر والخبز تكومنّ متلفعات بالعباءات السود. أسراب الذباب حومت فوق رؤوس القصابين الذين شحذوا سكاكينهم لتقطيع أجساد الشياه المذبوحة. الباعة المتجولون رفعوا عقيراتهم بالنداء على بضاعتهم، وربما نهقت بضعة حمير، أو حمحمت بضعة خيول شاكية أثقال العربات، أو ألم سياط الحوذيين على أردافها الناضحة بالعرق. وعلى أشجار الكالبتوس الباسقة فختت الفواخت، وزقزقت العصافير على أشجار السدر، وتعاركت القطط والكلاب وهي تبحث عن طعامها في المزابل .. ولكي يكتمل المنظر أمام عين السماء، وتنتشر رائحة يوم جديد، يوشم سيماءه في وجه البلدة، ويركن أحداثه على متن تأريخها. كنست أذرع ريح خفيفة قشرة الدروب، وراحت تنسجها بمهارة كغلالة تنشرها في فضاء البلدة التي تتكدس أيامها في جراب الزمن بلا مائز يميز بين أمسها الرائح وغدها الغادي.. غير أن ما حدث في نصاعة ذلك الصباح سرعان ما مزق ثوب الهدوء الذي تعودت البلدة على ارتدائه طيلة صباحات عمرها الفائتات، ليضربها بغرابة حدثه المباغت، ويقتحمها مقتلعا أشجار قناعتها من الجذور، مطوحاً بثمار مفاهيمها، ورضاها الفطري عما يجري حولها، ولها ، وعليها.
نشيد كالنهر يتدفق من عمق الطريق المؤدي الى وسط البلدة، عاصفة من الحناجر ينداح منها صدى النشيد راكبا ً متن هواء الصباح.. قافلة جديدة من السجناء المرّحلين من العاصمة، حُشروا في باصات كبيرة من الخشب، بدأت بالدخول الى البلدة معفرة بتراب الجادة.. فوجأ الأهالي بعدد سيارات القافلة، وبنشيد السجناء الذي اقتحم البلدة معبرا ًعن / الغضب / الفرح / الأمل / في ذلك الصباح الذي تنفس في حضرة شمس صيف الجنوب. طافت القافلة دروب البلدة فانتشر خبرها وسطع سطوع الشمس في سماء بلا سحب.. سيارة خضراء اللون محملة برجال الشرطة المدججين بالسلاح تلهث أمام القافلة، وسيارة هي الأخرى خضراء اللون تبعت القافلة لاهثة خلف السجناء الذين هال عددهم أهالي البلدة، فأقبلوا على بعضهم يتساءلون عمن بقي هناك في العاصمة.. وتواردت الأخبار انهم / ضباط / جنود / أطباء / أساتذة جامعات / محامون / معلمون / عمال / فلاحون / وبدا السجناء لأعين الناس الذين تجمهروا على جوانب الدروب فرحين كأنهم في زفة عرس كبير، يلوحون بأيديهم وهم مستمرين بقراءة النشيد الذي أيقظ البلدة محلقا في سمائها، ليعانق شمس ذاك الصباح. يتحد بها، فتهديه ثوبا ً ناصعاً من الضوء. يخلعه على جسد البلدة، فتزهو بنصاعته / بيوتها / أكواخها / صرائفها / يتسلل نحو الصدور. يتلفع دفء القلوب. يهمس بسر الخلود لها، رهواناً ينساب منها، يؤرجحه النهر فوق أمواجه. يتعلق بأذيال أجرافه. يُطرب ايقاعه باسقات النخيل، فيلوحن بمهفات الخوص. يفتحن أكمامهن. ينثرن حلوى البساتين فوق الرؤوس.
حتى إذا توقفت القافلة أمام بوابة سجن البلدة. تعزز صوت النشيد الذي لم يزل يلعلع خارج السجن، بصوت النشيد الذي أتاه من داخل السجن، فلم تبق في البلدة أذن لم يصلها النشيد، ولم يبق من يجهل معنى النشيد ومَنْ مصدره.. أربك النشيد إدارة السجن ، فراحت تكيل الشتائم، وتنهال بالضرب على المنشدين أمام أعين الناس دون حياء، والناس كافة شاركوا المنشدين النشيد وإن لم ينشدوا، فالصمت أبلغ من الكلام في بلدةٍ صيرها موقعها على مشارف البادية محطة تسفير للذين يقولون لا لمن لا يسمعون من زبانيتهم إلا نعم.. يلمونهم من سجون البلاد ويأتوا بهم بأصفادهم يسوقونهم عبر بلدتنا الى بؤرة النفي في صحارى الجنوب، قوافلهم تتلفع بردة الليل، أو تدخل البلدة عند الغبش، والناس لما يفيقوا من النوم، حيث تمر على عجل في الدروب، لتلقي بضاعتها في غرف السجن، وقاعاته الرطبة المعتمة، إذ يمكثوا الى حين ترحالهم الى جوف صحراء بلدتنا، الى قبر نقرتها الخرافي، هنالك حيث / زئير العواصف / حر الهجير / لسان السراب / دوامة الرمل / ليل الذئاب / الأفاعي / العقارب / فلا صوت إلا / العواء / الفحيح / الأنين / وليس سوى / النفي / والتيه / والموت / ثم التواري في جوف قبر بلا شاهدة، حيث لا يُسأل القتلة عمن يوارونهم في الرمال ، وتطمس الريح آثارهم، كأن لم يجيئوا، كأن لم يكونوا، كأن لم يمروا ببلدتنا، كأن لم يرهم أحد.
ولكنهم بذاك الصباح طعنوا بالنشيد درقة سجانهم. حطموا بصوت الحناجر أغلالهم. عرّفوا الناس بالذي ينشدون لأجله. لم يخافوا وهم يدخلون الى السجن. أوقدوا في القلوب آمالهم، كي يضيئوا عتمة أركانه، كان سجانهم خائفا ً منهم، فراح يواري خذلانه خلف قاموس ألفاظه من بذيء الكلام، ثم أغلق بوابة السجن خانقا ً صوت الحناجر خلف قضبانه، وانفض كل ٌ الى شأنه، وظن الذين يظنون دوما ً بأنهم وأدوا النشيد، دسوه في تراب القيود فانتهى أمره، ومرّ كأية حادثة تمر ببلدتنا ثم يطمس آثارها غبار الزمن..
وحل المساء ببلدتنا، ومساء بلدتنا لا يشبه كل المساءات، حيث يُحلٌ عقال النسيم، فتمتد كفه تمسح فوق رؤوس البيوت، تلامسها بأناملها الباردة، لتطفئ فيها لظى الهاجرة، ومن درفة باب السماء الموارب طيلة حمّارة حر الظهيرة، قمر الجنوب يطل بوجه منير على أسطح بلدتنا، فتختال في نصاعة ضوئه الجرار التي حُطتْ على شرفات السطوح وهي تعتمر قبعات من الخوص، والى جنبها في صوان تعترض سبيل الهواء تصطف أشياف من الرقي ، تركت لتمتص من النسيم طراوته. في هدأة اليل حين تطيح آخر الحكايات برؤوس العجائز فوق الوسائد. يعود الأمير منتصرا، بعدما يفسد السحر ويطلق العفاريت من قماقمها، فيُسّكر الأحفاد أجفانهم على الأمنيات ، ويغفون فوق مطارح الصيف.. ثانية تعالى النشيد. فض أختام سجانه. حلق من قمقم السجن. قوض قضبانه، وامتطى بساط نسيم المساء، ليزور السطوح يشارك أهل بلدتنا في مطارحهم. يأكل أشياف رقيهم، ويكرع ماء الفرات الذي في الجرار.
أثار النشيد الذي تسامى صداه الى منائر ليل بلدتنا حفيظة الشرطة الخافرين، ففرقع صوت جلادهم فوق حناجر المنشدين، الذين استمروا بإنشادهم، ولم يهنوا حتى تسلق صوت إنشادهم جذوع النجوم وصافح كف القمر.. دعاه فانظم الى جوقة المنشدين فأطرب ليل السماء، وألقى على أهل بلدتنا نعاسا ً وأمنا، وكحل أجفانهم بمرود حلم عناه النشيد، فطافت بأعينهم سفن مشّرعة تمخر بحر الظلام قاصدة فنارا ً يشير اليها بنصاعة غرة صحرائنا، ثم رويدا ً .. رويدا ً بدأ اليل يغادرنا، ضب خيمته ومضى تاركا غلالته للغبش الذي اقتفى أثره آذنا ً بانفصال الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فانبلج جيد الفجر من زيق الأفق .. وجاء الصباح على صهوة يوم جديد، فارسا عمامته الشمس، متشحاً بالبياض، يطوف دروب بلدتنا، فيصحوا النيام على وقع حوافر صهوته، كأنه يعزف إيقاعه للنشيد الذي خرج على الناس بحلة تبهر آذانهم.
تقهقرت الخفافيش من نوره، وتلفعت بخرائبها البوم، فانبثقت من سطوح المنازل نافورات حمائم بيض راحت تحلق عاليا ً، تحوم على باحة السجن حيث يصطف السجناء وهم ينشدون .. حيّر ذلك النشيد الذي أترع صباحات ومساءات بلدتنا القائمين على سجنها، غيروا قوانين سجنهم. صباحا شطبوا على التعداد الصباحي. مساءً سدوا الكوى بالحجارة، كمموا أفواه من ينشدون .. أسرعوا بترحليهم الى جوف صحرائنا، معتقدين أنهم نفوهم الى حيث لا ينشدون، وان أطلقوا للنشيد العنان فليس ثمة من يسمعون.. هنالك حيث الرياح تعول في التيه. تعصف بالرمل. تغتال كل صدى للنشيد.. ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم واهمين، فقد ظل حيا ً ببلدتنا صوت ذاك النشيد الذي دش قلب صرائف الفقراء واستظل بسقوف أكواخهم، وشاركهم مطارح حصران القصب وخبز الشعير وأكواز الماء المالح، ومن كل هذا، ومن أجله، ما يزال النشيد الى الآن يسمع في صباح بلدتنا ويسمع كل مساء
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1148144705531391&id=100010076170980
نشيد كالنهر يتدفق من عمق الطريق المؤدي الى وسط البلدة، عاصفة من الحناجر ينداح منها صدى النشيد راكبا ً متن هواء الصباح.. قافلة جديدة من السجناء المرّحلين من العاصمة، حُشروا في باصات كبيرة من الخشب، بدأت بالدخول الى البلدة معفرة بتراب الجادة.. فوجأ الأهالي بعدد سيارات القافلة، وبنشيد السجناء الذي اقتحم البلدة معبرا ًعن / الغضب / الفرح / الأمل / في ذلك الصباح الذي تنفس في حضرة شمس صيف الجنوب. طافت القافلة دروب البلدة فانتشر خبرها وسطع سطوع الشمس في سماء بلا سحب.. سيارة خضراء اللون محملة برجال الشرطة المدججين بالسلاح تلهث أمام القافلة، وسيارة هي الأخرى خضراء اللون تبعت القافلة لاهثة خلف السجناء الذين هال عددهم أهالي البلدة، فأقبلوا على بعضهم يتساءلون عمن بقي هناك في العاصمة.. وتواردت الأخبار انهم / ضباط / جنود / أطباء / أساتذة جامعات / محامون / معلمون / عمال / فلاحون / وبدا السجناء لأعين الناس الذين تجمهروا على جوانب الدروب فرحين كأنهم في زفة عرس كبير، يلوحون بأيديهم وهم مستمرين بقراءة النشيد الذي أيقظ البلدة محلقا في سمائها، ليعانق شمس ذاك الصباح. يتحد بها، فتهديه ثوبا ً ناصعاً من الضوء. يخلعه على جسد البلدة، فتزهو بنصاعته / بيوتها / أكواخها / صرائفها / يتسلل نحو الصدور. يتلفع دفء القلوب. يهمس بسر الخلود لها، رهواناً ينساب منها، يؤرجحه النهر فوق أمواجه. يتعلق بأذيال أجرافه. يُطرب ايقاعه باسقات النخيل، فيلوحن بمهفات الخوص. يفتحن أكمامهن. ينثرن حلوى البساتين فوق الرؤوس.
حتى إذا توقفت القافلة أمام بوابة سجن البلدة. تعزز صوت النشيد الذي لم يزل يلعلع خارج السجن، بصوت النشيد الذي أتاه من داخل السجن، فلم تبق في البلدة أذن لم يصلها النشيد، ولم يبق من يجهل معنى النشيد ومَنْ مصدره.. أربك النشيد إدارة السجن ، فراحت تكيل الشتائم، وتنهال بالضرب على المنشدين أمام أعين الناس دون حياء، والناس كافة شاركوا المنشدين النشيد وإن لم ينشدوا، فالصمت أبلغ من الكلام في بلدةٍ صيرها موقعها على مشارف البادية محطة تسفير للذين يقولون لا لمن لا يسمعون من زبانيتهم إلا نعم.. يلمونهم من سجون البلاد ويأتوا بهم بأصفادهم يسوقونهم عبر بلدتنا الى بؤرة النفي في صحارى الجنوب، قوافلهم تتلفع بردة الليل، أو تدخل البلدة عند الغبش، والناس لما يفيقوا من النوم، حيث تمر على عجل في الدروب، لتلقي بضاعتها في غرف السجن، وقاعاته الرطبة المعتمة، إذ يمكثوا الى حين ترحالهم الى جوف صحراء بلدتنا، الى قبر نقرتها الخرافي، هنالك حيث / زئير العواصف / حر الهجير / لسان السراب / دوامة الرمل / ليل الذئاب / الأفاعي / العقارب / فلا صوت إلا / العواء / الفحيح / الأنين / وليس سوى / النفي / والتيه / والموت / ثم التواري في جوف قبر بلا شاهدة، حيث لا يُسأل القتلة عمن يوارونهم في الرمال ، وتطمس الريح آثارهم، كأن لم يجيئوا، كأن لم يكونوا، كأن لم يمروا ببلدتنا، كأن لم يرهم أحد.
ولكنهم بذاك الصباح طعنوا بالنشيد درقة سجانهم. حطموا بصوت الحناجر أغلالهم. عرّفوا الناس بالذي ينشدون لأجله. لم يخافوا وهم يدخلون الى السجن. أوقدوا في القلوب آمالهم، كي يضيئوا عتمة أركانه، كان سجانهم خائفا ً منهم، فراح يواري خذلانه خلف قاموس ألفاظه من بذيء الكلام، ثم أغلق بوابة السجن خانقا ً صوت الحناجر خلف قضبانه، وانفض كل ٌ الى شأنه، وظن الذين يظنون دوما ً بأنهم وأدوا النشيد، دسوه في تراب القيود فانتهى أمره، ومرّ كأية حادثة تمر ببلدتنا ثم يطمس آثارها غبار الزمن..
وحل المساء ببلدتنا، ومساء بلدتنا لا يشبه كل المساءات، حيث يُحلٌ عقال النسيم، فتمتد كفه تمسح فوق رؤوس البيوت، تلامسها بأناملها الباردة، لتطفئ فيها لظى الهاجرة، ومن درفة باب السماء الموارب طيلة حمّارة حر الظهيرة، قمر الجنوب يطل بوجه منير على أسطح بلدتنا، فتختال في نصاعة ضوئه الجرار التي حُطتْ على شرفات السطوح وهي تعتمر قبعات من الخوص، والى جنبها في صوان تعترض سبيل الهواء تصطف أشياف من الرقي ، تركت لتمتص من النسيم طراوته. في هدأة اليل حين تطيح آخر الحكايات برؤوس العجائز فوق الوسائد. يعود الأمير منتصرا، بعدما يفسد السحر ويطلق العفاريت من قماقمها، فيُسّكر الأحفاد أجفانهم على الأمنيات ، ويغفون فوق مطارح الصيف.. ثانية تعالى النشيد. فض أختام سجانه. حلق من قمقم السجن. قوض قضبانه، وامتطى بساط نسيم المساء، ليزور السطوح يشارك أهل بلدتنا في مطارحهم. يأكل أشياف رقيهم، ويكرع ماء الفرات الذي في الجرار.
أثار النشيد الذي تسامى صداه الى منائر ليل بلدتنا حفيظة الشرطة الخافرين، ففرقع صوت جلادهم فوق حناجر المنشدين، الذين استمروا بإنشادهم، ولم يهنوا حتى تسلق صوت إنشادهم جذوع النجوم وصافح كف القمر.. دعاه فانظم الى جوقة المنشدين فأطرب ليل السماء، وألقى على أهل بلدتنا نعاسا ً وأمنا، وكحل أجفانهم بمرود حلم عناه النشيد، فطافت بأعينهم سفن مشّرعة تمخر بحر الظلام قاصدة فنارا ً يشير اليها بنصاعة غرة صحرائنا، ثم رويدا ً .. رويدا ً بدأ اليل يغادرنا، ضب خيمته ومضى تاركا غلالته للغبش الذي اقتفى أثره آذنا ً بانفصال الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فانبلج جيد الفجر من زيق الأفق .. وجاء الصباح على صهوة يوم جديد، فارسا عمامته الشمس، متشحاً بالبياض، يطوف دروب بلدتنا، فيصحوا النيام على وقع حوافر صهوته، كأنه يعزف إيقاعه للنشيد الذي خرج على الناس بحلة تبهر آذانهم.
تقهقرت الخفافيش من نوره، وتلفعت بخرائبها البوم، فانبثقت من سطوح المنازل نافورات حمائم بيض راحت تحلق عاليا ً، تحوم على باحة السجن حيث يصطف السجناء وهم ينشدون .. حيّر ذلك النشيد الذي أترع صباحات ومساءات بلدتنا القائمين على سجنها، غيروا قوانين سجنهم. صباحا شطبوا على التعداد الصباحي. مساءً سدوا الكوى بالحجارة، كمموا أفواه من ينشدون .. أسرعوا بترحليهم الى جوف صحرائنا، معتقدين أنهم نفوهم الى حيث لا ينشدون، وان أطلقوا للنشيد العنان فليس ثمة من يسمعون.. هنالك حيث الرياح تعول في التيه. تعصف بالرمل. تغتال كل صدى للنشيد.. ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم واهمين، فقد ظل حيا ً ببلدتنا صوت ذاك النشيد الذي دش قلب صرائف الفقراء واستظل بسقوف أكواخهم، وشاركهم مطارح حصران القصب وخبز الشعير وأكواز الماء المالح، ومن كل هذا، ومن أجله، ما يزال النشيد الى الآن يسمع في صباح بلدتنا ويسمع كل مساء
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1148144705531391&id=100010076170980