فوزية ضيف الله - مجنون وباري (الجزء 2)

مضى يومان أو أكثر، على حكاية المجنون التي رجّت أركان المدينة. كانت الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة تستفزّ الرأي العام وتنشر أخبارا مُثقلة بالتساؤل عنه. من يكون؟ هل هو مجنون؟ هل هو تائه؟ ومن أي بلاد جاء؟

أمّا المجنون، نفسه، فقد غاب عن أطراف المدينة، وأراد التخفّي، مرة أخرى، لم يكن يُريد أن يُصبح معروفا، كان راضيا بوجوده النكرة، فهام في جبال مدينة الكاف يجرّ أطياف أحلامه الهاربة.

كان من حين لآخر يخربش ما تراه أحلام اليقظة لديه على علب السجائر الفارغة، وأحيانا يتناول الفحم يسطر به صورة الحبيبة التائهة. تنخره ذكراها البعيدة.

كانا معا لمدة طويلة، يرقصان على عتبة الأحلام الجامعية، يصنعون الفرح في نوادي الجامعة، ويرسمان شرود أفكارهما على أسوار الكليّة كلّ نهاية أسبوع. وفي يوم ما اشتدّت المظاهرات بالجامعة، وكان طلبة اليسار يُندّدون بالتصعيد ضدّ سياسات القمع والتركيع القطيعية.

كانت معه أحلام، طالبة يسارية، علّمته الرسم، وجُنون الألوان، وعلّمها، معادلات العلوم والكيمياء. كانا معادلة كيميائية غريبة، عجز عن حلّ تركيبتها. ركبا معا سفينة العمر، يلتقيان في المساءات، تحت شجرة الخروب الكبيرة التي نبتت في ساحة المركب الجامعي بالمنار، تقضي معه أيّام الآحاد، يزوران مدنا مجاورة ويرسمان مشاهد عشقاها معا وكانت لهما فيها ذكريات الصبابة العاشقة.

التقت أحلام سعد ذات مرة في محطّة الحافلات، عندما داهمها سارق افتكّ حقيبتها ولاذ بالفرار، وكان "سعد" في ذات المحطة يبصر المشهد، فانطلق وراء السارق يعدو وأمسك به في آخر نهج شارل دي غول، ولكمه لكمات شديدة. وأعاد الحقيبة إلى أحلام بما فيها، بعد أن داهم الأمن المكان واكتظّ المكان بالفضوليين.

منذ ذالك اليوم، صارت "أحلام" ترى في سعد ذلك السند لها في حياتها الجديدة. أحلام فتاة من السّاحل التونسي، تجمع بين جمال اوروبي وطباع آسرة، تربت عند جدتها من أمها بعد وفاة والديها في حادث مرور شنيع أودى بحياتهما. قدمت للعاصمة محمّلة بقاموس من القيم الساحلية، واختارت دراسة الفنون الجميلة بعد أن تناقشت مع جدتها ألف مرة.

عندما التقت أحلام سعد، كانت في سنتها الأولى بتونس، وكان سعد قد أمضى قبلها ثلاث سنوات بأكملها في كلية العلوم بتونس، متخصصا في شعبة علوم الحياة والأرض. لم يدر سعد كيف أدخلت أحلام البهجة على قلبه الجامد، وأخذته إلى ألوانها وحياتها المتحركة. أما أحلام فقد توسمت فيه الأخ والرفيق الذي لم تنعم به.

دارت كل الذكريات في ذهن "سعد" وهو يخطّ بالفحم على ورق الكرتون ما تبقى في ذهنه من صورة أحلام. فقد غابت عنه أفكارها بعد أن زج به في مستشفى المجانين ليلة اقتحام الأمن لمظاهرات الطلبة اليساريين، واتلفت جميع مقالاته التحررية، والنقدية. لا يذكر كيف قضى في ذلك المكان المتعفن سنوات من عمره الضائعة، يحقن في الصباح وفي المساء، فيمضي اليوم وهو نائم، ضاعت عن ذاكرته مشاهد كثيرة ولم تتحمل أمه البدوية مسافات السفر لزيارته في منوبة واستسلمت للأقدار بينها وبين نفسها وانهمكت في أعمالها الفلاحية المعتادة تعتني بأبقارها وضيعتها لإعالة عائلتها.

لم تكن محبوبة والدة سعد تعلم أسباب مرض ابنها، واكتفت بقبول الخبر المفزع وسلّمت أمرها لربها في سرّها. كانت تقول لجاراتها "هِبِلْ من كثرة القراية"، الله غالب وليدي كان قعد ما قراش خير"....

شاع في بلدته بالكاف، بدشرة نبّر، أن سعد أصابه الجنون، وكانت أحلام هي الأخرى من بين المعتقلين في ذلك اليوم المشؤوم. تم نقلها إلى مركز الأمن للتحقيق، وثبت أنها كانت تحمل مناشير تحثّ الطلبة على الثورة على النظام. وتم حبسها لمدّة طويلة رفقة مجموعة أخرى من الطلبة.

بعد خروج أحلام من سجنها، بحثت عن سعد، وعلمت أنّه تم نقله إلى منوبة، ومنعت عنه الزيارات، فقد كانوا يعلمون أنه الرأس المدبّر لجميع التحركات الطلابية أنذاك.

اندسّ سعد وسط جبال الكاف، باكيا، سيبحثون عنه من جديد، ويحشرونه مرّة أخرى في زمرة المجانين. وكانت أحلام في الساحل ترتحل من موجة إلى أخرى، وفي كل مرة تنثر ما تبقى من نفسها على روحها الغائبة في مسرات مجهولة. وتلون لوحاتها بقطران شقائها الأسود. تعتصر آلامها وتموت في اليوم مائة مرّة، وتكتب رسائلها بأحرف ملتاعة. (يتبع)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...