الشيخ سعدبوه ولد محمد الهادي - مساء أحمد



لا ورود عطرة.. لا زهور لينة.. لا حمام يترنم ..لا جداول تنساب .. لا شيء على الإطلاق من هذه..

اللين والنعومة والشذا العطر.. عناصر مفقودة هنالك .. وحدها الحجارة والحجارة فقط هي ألين ما تلامسه يداك بعد الحصى.. إنه مساء أحمد وما أدراك ما مساء أحمد ,.,!!

الجو يبدو غائما .. والشمس تترائي من خلف الروابي مؤذنة بالغروب .. وعلى كثيب الرمل اليابس يجلس أحمد ، واضعا يديه على ناظريه ، ينظر يمنة فلا يرى إلى صحراء قاحلة مترامية الأطراف .. وينظر يسرة فلا يرى إلا الصخور .. وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلى شمسا مودعة .. فيلتف خلفه فإذا القادم شر غائب ينتظر وما الغائب بماء وأنى له ..!!

إنها خيوط الظلام قد بدأت تتسابق وتقترب رويدا رويدا ، وكعادته حينما يأتيه شيء لا يقدر على صرفه عنه ، يدير له الظهر ، وهي حكمة قديمة تعلمها من مجربة تدعى “مريم” كانت تأتيه كل مساء ، حين ما يرخي الليل سدوله .. وتبدأ خيوطه في تشابك مريع ..، تأنسه بحكاياتها الغريبة و وتحدثه عن تجربتها السابقة مع الكثيب..ومن يأتي إلى الكثيب..

وأحمد جالس في إنصات شديد لا يتحرك .. يخاله الرائي حجرا ثابتا .. ومريم تحكي إحدى قصصها الغريبة .. وهي أنها كانت فتاة متزنة .. ذات جمال وملاحة وكان والدها رجل سوء ، وكثيرا ما دعاها إلى أن تعمل مومسةً من أجل أن تدر نفعا ماديا على الأسرة.. لكنها تمتنع دائما عن ذلك ، لأنها وكما تقول “امرأة عظيمة لا تتحكم فيها المادة” .. وهنا يقاطعها أحمد قائلا: أو حقا كنتِ امرأة جميلة..؟؟!

لكنها لا تعلق عليه وتواصل في سرد قصتها الغريبة .. حتى إذا ما آذن الفجر بالبزوغ ، غلب النعاس على صاحبنا فينكب على وجهه ويخلد في نوم عميق لا يصحو منه إلا وقت المساء..

فإذا كل شيء من حوله لم يتغير .. الصخور لا تزال صامتة .. والصحراء القاحلة لا تزال كما هي قاحلة.. والشمس آيلة للغروب.. ومن الخلف خيوط ظلام دامس .. فيصيح بأعلى صوته .. “يامريم.. يامريم ..” وبهدوء زائد وصوت نابع من قريب تجيبه مالك مالك؟؟!

أنا لازلت بجنبك ..لكنك نمت طويلا يأحمد ..لقد كنت تقط قطيطا شديدا بدا لي منه أنك مرهق للغاية .. فما استُعذب عندي أن أغيظك فتركتك نائما لعلك تستريح ..

ولكن لو تأذن لي بالانصراف يا أحمد ، لقد تعودت حينما أؤنس وحشة أمثالك ممن يأتون لهذا “الكثيب” أن يمدونني بمال ، أما أنت فلا أرجوا منك ذلك ، وكيف لي أن آخذ من مالِك ..!!

لقد أخبرتني صديقتي “عِزَّة” أنك لا تملك من هذه الدنيا بطولها وعرضها ، سوى قطعة قماشٍ باليةً ، هي وصيةُ جدِّك لأبيكَ ..!!

وأنا ـ وكما أخبرتك امرأة رشيدة ـ لا آكل إلا الطيبات من الرزق..

وماذا تغني عني تلك القطعة المُرَعْبلةُ ..لو أعطيتها لي .. إنها وكما أُخبرتُ قطعة قماشٍ رثةٌ ، مكتوب عليها بمدادٍ أسود خافتٍ “ليس لك من الأمرِ شيء”..!!

ولكني أرتئي عليك ـ ومن باب الشفقة فقط ـ ألا تطيل نومك الليلة حتى لا يدركك المساء..!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...