محمد ولد عبدو - بائعة الليل.. قصة قصيرة


في الليلة التي صادفت طلوع البدر في ابهى حلله كانت تتعثر في الطريق الضيق مأسورة بسحر النور الخفيف النادر عائدة إلى البيت بعد منتصف الليل بقليل تسابقها الأحلام بليلة أخرى إلى حيث العش اللطيف الذي أعدته قبل عشرين سنة بعد زواجها بعام واحد في الجنوب الشرقي من مدينة كيفه حيث الأغلبية هناك أناس فقراء جدا..........

تعود كل ليلة مثقلة بالتعب رفقة العائدات القليلة لتجارتها التي اختارت لها مكانين في وقتين مختلفين ، اختارتهما بذكاء فطري تتمتع به دون الحاجة لسابق تعليم اختارت المكان الأول قبل من الخامسة والنصف حتى الثامنة مساءا في كنف أحد الدكاكين يملكها أحد الطيبين في السوق المركزي للمدينة الذي يغلق أبوابه بالكامل مع تمام الثامنة لكنه مركز رهيب لتجمع العشرات أثناء ساعات العصر والمغرب ، مارة ، تجار ، عمال ومنمون يعودون إلى المناطق الريفية الساحرة المحاذية للمدينة كل هؤلاء يحتاجون الكسكس ورذاذ الدقيق المعد بالطريقة الأنيقة والمسمى محليا "باسي" يتفقد الزبون المعتاد "اطول عمرو" حزمة الكسكس التي أعتاد اقتناءها ـ ثمن مائة أوقية ـ قبل دقائق من نقل الجماعة المعتادة إلى إحدى القرى القريبة ، يملك 505 بيجو زرقاء ـ بالمناسبة ـ.

بعد اكتمال المغرب وموت الشفق تحمل "إنجيها" ما تبقى من بضاعتها في إنائها الكبير الخاص بالبضاعة إلى المستشفى حيث هناك ينتظرها زبناء آخرون يستعملون غالبا مادة العيش ويأخذون ما تبقى من البضاعة الأخرى ، هي غالبا تعود بإناء فاض وجيب ليس بالمملوء كثيرا ، ليس مملوءا إطلاقا ، يحوي ألفا أو ألفان وقد تزيد قليلا مع المزيد من الحظ.

في طريق العودة تقوم بعمليات حساب لما ستصرف فيه أموال الليل غدا ، هكذا تفعل كل مرة "500 حق الغداء ، 500 حق الدقيق ، 300 حق ـ لحجاب ـ ، 200 حق الفحم ، 500 حق الادخار " ، هذا هو حسابها منذ شهرين ، منذ أصيب ابنها "علوه" ذي العشرين ربيعا بالحنون وتحول من شخص عامل وطموح ذي أفكار غريبة حول إمكانية الغنى الفاحش إلى شخص ثرثار مثبت خشية بطشه يصدر اصواتا مخيفة تجمع بين كل مكونات الطبيعة وأبطالها من الحيوانات المفترسة ، الطيور ، النعم ، وأحيانا يحاكي الأذان أو يغني ، كل ذالك يعني ـ فقط ـ أنه لم يعد ذالك الشخص المنهمك في العمل وصاحب الأفكار الغريبة حول التحول من الفقر إلى الثراء.

بعد سقوط "علوه" في أتون الجنون سقطت معه 300 أوقية ثمينة من المصروف اليومي للعائلة ، هناك "حجاب " وصل خبره بالتواتر لبائعة الليل وأشترط الـ 300 كحد أدنى للتعامل مع المجنون ، لم تكن لتمانع لأن معتقداتها تقول أن الحجاب يسأل والناس تعطي ـ دون جدال أو مماكسة ـ ، خشية على مستقبل المريض.

في إحدى جوانب الغرفة الثانية يقبع الراقص الذي تعلم أساليب الرقص الغربي وصار مساهما فعالا في إحدى عصابات المدينة التي تهتم بتقليد الحياة الغربية سواء في الحلاقة أو اللبس أو حتى الكلمات الفرنسية الركيكة التي يتبادلونها ، "سيداتي" هو الابن الثاني المسمى على عمه الذي لا يعرف عنه أحد خبرا يقينا إلا في قصص الأب الذي حدثهم عن بعض المغامرات التي انتشلته من عالمهم ونقلته إلى مكان ما من إفريقيا الأعماق وأنتهى خبره إلى اليوم.

تتوزع الغرفتان إلى عدة مناطق نفوذ داخل الأسرة بمعدل منطقة لكل واحد من الأولاد العشرة ، البنت الوحيدة التي حظيت بها بنت ودودة تحاول المساعدة قدر الإمكان لكنها مشغولة في الدراسة تشاركها تجارتها المسائية وأحيانا تحل محلها في مزاولة الطبخ ، تفعل أفضل ما بوسعها.

قبل العشرين عاما الماضية كانت بائعة الليلة تعيش في كنف العائلة قريبة العهد بفك قيد العبودية التي عانى منها أجدادها لقرون خلت رغم كل ذالك لم تحقد على أحد ولا تهتم بشيء أكثر من تربية أبنائها وإيصالهم ما وصلت إليه يوم زواجها ، لم تقطع رابطتها بالعائلة الجميلة التي تحتضن أسعد ذكرياتها في واحات العصابة عاشت ضمن عائلة معروفة بالاهتمام بالنخيل بأجر زهيد ومحصول نخلة لكل سنة ، أبوها أحد الأشخاص الثقة المستشارين في الواحة لدماثة خلقه وسداد رأيه وعاشت صداقات عديدة بقيت كذكريات تحتفظ بها حتى اليوم.

يستيقظ الجميع قبل الفجر بساعات تحت وطأة صياح "علوة" وتوعده لأشخاص وهميين بقتلهم وإنزال الأهوال بهم.

سيكون يوما حافلا بالنسبة لبائعة الليل ، في خيلاء يتجول "سيداتي" في أركان البيت باحثا عن مثبت الشعر الخاص به وقميصه البراق المزركش الذي ثبتت عليه صورة مغني البوب "مايكل جاكسون" فيما تصلي "إنجيها" الضحى قبل البدء في إعداد الغداء و الكسكس ورذاذ الدقيق "باسي" و"العيش" ، اربعة وجبات قبل المساء ، على أكناف دكان التاجر الطيب تقابل مغازلين على حياء بالطريقة البدوية التي لا تبين شيئا من فحوى الغزل غير أنه حديث بلا موضوع ولا سبب ، " اطول عمرو " أعتاد مغازلتها بتلك الطريقة البريئة التي تشعرها شيئا ما بأنوثة لعبت عليها عوامل العمر والوحدة بعد ثلاث سنين من وفاة الزوج المسكين ،

لديها مغازلين أيضا قرب المستشفى فغالبا ما يغازلها بنفس الطريقة الغامضة ـــ كلام في غير محله وبدون أسباب ـــ مالك العربة الذي يزود بالمياه بعض المنازل في الحي ، الكثير من الزبناء يشترون بصمت وأغلب المغازلين لا يشترون يريدون تمضية بعض الوقت في الحديث فقط ، غير أن أحد المغازلين اليوم كانت لدية أغراض أخرى فبعد منتصف الليل بدقائق تحسست مكان الأموال تحت رداء القماش الرمادي البالي الذي تفترشه لتعثر فقط على 500 أوقية.

في الليلة التي صادفت طلوع البدر في ابهى حلله كانت تتعثر في الطريق الضيق مأسورة بسحر النور الخفيف النادر عائدة إلى البيت بعد منتصف الليل بقليل تسابقها الأحلام بليلة أخرى إلى حيث العش اللطيف الذي أعدته قبل عشرين سنة بعد زواجها بعام واحد في الجنوب الشرقي من مدينة كيفه حيث الأغلبية هناك أناس فقراء جدا ، لم تعد تدري الحساب وكيف سيمضي الغد لقد حفظت طريقة حساب واحدة فقط وهي كيفية تقسيم 2000 على تفاصيل اليوم أو لا توزع شيئا في الأصل هكذا تعودت دائما ، من الضروري 300 للحجاب ,وإلا لن يشفى "علوة" ، من الضروري 500 للدقيق وإلا لن تبيع شيئا في الغد ، من الضروري أن تصرف 500 في غداء الغد وإلا ستطاردها 10 معدات جائعة لا تعرف الأعذار ، يبدو أنها في ظل هذه الحيرة لن تنفق هذه الـ 500 وستضيفها إلى الادخار فذالك أرحم من التفكير في كيفية صرفها.

قبل ساعات الفجر كان "علوة" غاضبا كعادته ويتعهد جميع الشخصيات الوهمية في رأسه وكان وقت الاستيقاظ قد حان ، قامت "بائعة الليل" متثاقلة إلى الحمام الغير مسقف ثم عادت إلى عادتها القديمة وهي الوضوء من ماء القدر الذي يشبه الثلج ، كانت العتمة تخالط كل الأشياء ناثرة الغموض الذي يسبق صباح المدينة الهادئة ، أطرقت حينا ثم حدثت نفسها:

ـ "لاشيء مهم سآخذ من مدخراتي".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...