أحمد بنميمون - منزلة العواء

لو تُركوا لأنفسهم لحق لهم القول إنهم لم يكونوا أكثر من ثلاثة، لكن ماذا نصنع، فها هم رغم إصراري لا يريدون الاعتراف بأنني واحد منهم وأنني كنت رابعهم,
ـ أكنتم إذن أربعة َ...عفواً...مجانينـ بل ثلاثة كما يرى الناس هتف أحد الشهود منفعلاً ، ثم إلتفت إليّ، ولم يَزُلْ عنه ما كان قد علاه من استغراب، من ادعائي انتمائي إلى عالم أولائك المساكين رغم أن كلاً منهم كان يعيش مستقلاً في مدارخاص ، لا شيء يجمعهم إلا عين تراهم من فوق، فتمتليء أستغراباً مما ترى، إذ كيف يصيب الجنونُ أشخاصاً وإن كانوا متجاورين، إلا أن لكل منهم عالمه الخاص المنفصل عن جاره، لذلك كان جنون كل منهم مختلفاً عن جنون جاره، وظلِلْتُ مُصِرّاً على اعتبار أن ما أصبتُ به بدوري من افتتان أيضا، كان جنوناًعلى نحو خاص، فقد نشأت «مسحوراً «، إذ اصابني شيء هو إلى السحر الحلال أقرب منه إلى أية أنواع أخرى من السحر التي يربطها الناس بالجن الذين يحل بالشخص فيسكنه، فيعتبر «مسكون» ولا أحد يعترف بأن ما به مرض، بل يجعلون كل من سكنته الجن لعينا ، وجَب عقابُه، والإلقاء به إلى حيث يُعزل، فيزجُّ به في سراديب مظلمة باردة مقيداً بأغلال لا يخلصه منها إلا الموت.
ـ وهل عُزل أحد من هؤلاء؟
هم اختاروا العزلة ، على نحو خاص، دون أن يحكم عليهم بها ،ذلك إن منهم مجنون الأرض ، ومجنون الجنس ومجنون السحر غير الحلال.
ـ ما أغرب ما أسمع؟ فهلا وضحتَ قليلاً لو سمح الوقت؟
....
كانت فصول السنة تتعاقب، وتتغير الأجواء لكن دون أن تتغير لأي من هؤلاء الثلاثة عادة يومية، فقد كانوا بالنسبة لي ، وأنا أطل عليهم من شرفة بيتي ، فيما أطل عليه من منظر جميل واسع يشمل الجبل بطوله الشاهق والسفح وضفاف النهر، تتغير ألوان كل هذه الأشياء وما بها من نباتاته مع كل فصل ، فالصخر تتبدل ألوانها عبر ساعات النهار بحسب انعكاسات الضوء عليه، بل إن النهر نفسه يعلن عن أحواله، من خرير وديع هامس، إذا صفت الأجواء، إلى هدير، دونه زئير الأسود كلما اربدت السماء ، ودام مطرها بدون انقطاع إلى أكثر من ثلاثة أيام، ليعلو رويداً رويداً، هديره، بعد أن تتفجر عيون الجبل مدرارة ، ليفترَّ الصخر ويضحك التراب الندي،،ذلك ما كن نحسه نحن جيران النهر الأدنون، وما تعودنا عليه منذ انتقالنا إلى هذه الدار ،فالشتاء كان منزلة زئير، لكن إذا حل الربيع تتم فرحة «عم بن سعيد» مجنون الأرض من بينهم، بعد أن كان قد أقبل بكل عشق على تقليب التربة وحرثهافي موسم سابق ، وهو قد كان قسم جنينته إلى أحواض ، وجعل في كل حوض منها ، نوعا من الخضر أو ما يحتاجه الطبخ من معنوس وقزبور وما أشبه،، وما يحتاج إعداد الشاي من أعشاب نعناع وشيبة. وأنا كنت لا أمل من النظر إليه ، لا يجعلني أنصرف عنه إلا حلول ساعات عملي، حتى لو جلست ساعات أنظر بمتعة بالغة إليه يعمل دون كلل، شبيه فراشة لا تتوقف عن الانتقال من هذا الحوض إلى ذاك كما لم لم أكن أتعب من تتبع ما يأتيه وهو يعالج أحواض هذه الجنينة التي كانت تضحك له طوال العام ،لكنه لم يكن يزيد على أن يبتسم لها ،أفكان يبتسم لها حقاً أم أن ابتسامه الي كان يغبر وجهه بسرعة، كان إعراباً منه عن سعادة تغمره ، أو لمتعة أتصاله بجسد الأرض يحرثه كما يتمتع ذكر باختراقه عالم أنثاه، ؟ وهل عرف مجنون الأرض أنثى في حياته؟ فلقد كنت ألاحظ زيارة نسوة وأطفال كانت زوجتي تقول لي أنهم بناته وبعض أحفاده، بل ربما كان له ولد ، فهؤلاء إذن بعض عائلته كانوا تختارون الجنينة مكاناً للنزهة في بعض أماي الربيع، ولم يكن ذلك مما يسعد الشيخ الذي كان في خلوته إلى ما يعشق أسعد منه في لقاء من أنجبهم، ممن غابوا عنه ،واختارهو أخيراً أن أن ينكب على الأرض التي لايعطيها من جهده إلا وتجود عليه بمردود، بعد أن أمحل حوض أنثاه، فاختار أن يتزوج الأرض. وأن طيلب عندها متعاً لا يمكن أن يجدها في غيرها.
لم يكن مجنون الأرض ينصرف لصلاة ، فقد كانت معبودتَه أرضُه، وكان يظل مرتدياً نفس ثياب التقليدية أسابيع طويلة ، لو لم تجبره على تغييرها بناته لظل يعرق ويجف فيها إلى أجل غير معروف، لكنه لم يقض يوماً دون إقبال على حضن أرضه ، التي كانت تضحك له باستمرار، وتبادله احتضاناً باحتضان.
...
ـ لكن ما حكاية من دعوته مجنون جنس؟
ـ بل و مجنون كيف وكأس
ـ إذن فهذا جنون ثلاثي الأبعاد.
كان هذا صاحب جنينة مجاورة لعالم المجنون الأرضي، لكنها لم تكن جنينة ضاحكة ، فما كان يهم صاحبها هو أن أن تضحك له الأقمار يراها في جلسائه وأصفيائه ممن يختارهم أو يختارونه، في غير ساعات عملهالقليلة المتقطعة . و لأن الرجل كان مثلياً، يفر من عشه الشرعي إلى طلب المتعة حيث يستطيع، ومع من يحب،وكم تطلعت إلى أن أجالس صاحبي هذا في جنينته الغرائبية هذه إلا أنه كان يحرص ألا يرفع بيننا ما كان يرخيه من الأستار على عالم جنينته الداخلي، ومن كان يحيون جلساتها معهأ ويحيي جلساته معهم.
كان سمح الطبع دمث الأخلاق، أحببت من عاداته الكيف والكاس ، وتجنبت أي احتكاك مع مثلييه الذين كانوا في الحقيقة على مستوى من الوداعة، لم يكونوا يتجاوزون في إظهار مثليتهم، غلا ما كان الناس يعرفون مناخبارهم ، أو ما كان يفيض من صفاتها على ملامحهم.
كانت لصاحب الجنينة المثلية أطباق طعام يتفنن في إحضارها من بيته، أوتحضيرها وإرسالها إلى الفرن القريب . وقل ما كنت أراه ضاحياً ، كان يكثر من الشراب إلى حد أنه لا يستطيع العودة من البار إلى الدار دون اعتماد على دليل.
فإذا شارفنا النهاية فلنسمح للسارد أن يعرض علينا حالة مجنون السحر غير الحلال:
فتى مكتهل الشباب ، قوي البنية ، بيّنَ الوسامة،كان يعمل بناءً، دفع قاربه رياح تقلبات الحياة بين متع وتجارب ، بين مدن مختلفة، لكنه في الحقيقة لم ينتقل إلى تلك المدينة الكبيرة إلا تحت رياح عاصفة ، فراراً من الوقوع في يد من لا يرحم، فوقع ، بعيدا عن أهله، بين يدي امرأة دونها صاحبة يوسف دهاءً، فراودته عن نفسه فاستعصم ، فكان أن انتقمت منه انتقامها الذي نقله ، معتمدة على سحر غير حلال، إلى حال لم يعرف لها أهله علاجاً، فانتهى الشاب الأنيق الوسيم إلى أن يفصله أهلهعنهم، فيسكن هذه الرحى الواقعة على ضفة النهر، كانت المياه تدير طاحونها وآلياتها، فأصبحت الآن نهب الرياح والأرواح التي تدير عقل ساكنها «القفلة» الذي كان صوته يرتفع ليلاً، صارخاً حينما تعول الرياح بعزيف مخيف، ويهدر النهر الذي كنا نسمع له هديراً كالزئير، فيرتعب الأطفال في أسرَّتِهم ، ويسبِّح الشيوخ لخالقهم،وصراخ المجنون يتحول إلى شبيه عواء، يمتد عبر الليل الذي تتباعد نهايته، مرة، وكانت أمه اتي كانت تحرص على زيارته لتفقد أحواله سؤاله عنا يحتاج، صاح في هياج غير مسبوق:
ـ أريد من أضاجعها... اريدها ،،، إني أريد امرأة...
ثم انخرط في بكاء كأنه العواء، وأمه أمامه هاجمها حياء الحياء لا تدري على أي جانب تميل، ولا تعرف سبيلاً إلى تهدئة هذا الهائج، أو كيف تذوب في حيرة الموقف،آة .. ليتها تصبح أثراً بعد عين
...
كان مجنون الحب هذا ضحية فاتنة انتقمت منه بما لا يعرف وصفه إلا خبير بكيد ماكرة في الجميلات، تركته إلى ليل جنون ، كأنه ألقي إلى أعماق جب لم يحظ بعدها بأن يلتقطه سيارة حتى يرى ضوء نجم أو إشراق صباح، أما مجنونانا الهادئان فكانا إذا رحل النهارينسحبان، دون حتى أن يلتفتا إلى فتى كان يراقب المساء مفتونا بشيء غير قليل من سحر النور ورقص فراشات الالوان من حوله، وعلى لسانه أحياناً وفي وقلبه، ومن موقعه على شرفة الفصول الآربعة رأى فضائل الالتزام بحياة هادئة على رغم ما كان ينطوي عليه من قلق في الداخل، مع حرص زائد على حبٍّ حلال، لا يكاد يبتعد عن محراب معبودته إلا قليلاً، معتبرا بعواصف ساكن الرَّحَى المائية التي جف ماؤها، ومع ذلك لم يقر له قرار ، فها قد جفت زهرة الشاب المسكين الذي تؤويه إلى حين، شبه حيٍّ في جوفها غائب التمييز، لا يعي شيئاً عن الوجود.

10/5/2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...