-1-
لم يكن من عاداتي التجسّس على النّاس أو التدخّل فيما لا يعنيني، وإلى الآن لا أدرك حقيقة ما دفعني إلى دخول هذه المغامرة التي أودت بكلّ حياتي “التافهة” إلى الهاوية، هذه الهاوية السّحيقة التي لا أستطيع أن أتبيّن مدى عمقها وعتمتها.
لم تكن حياتي تسير وفقا للخطّة التي رسمتها، فأحلامي كانت أكبر وأبعد بكثير، في الأخير انتهيت إلى الرضا عن هذه الحياة، افترضتُ لي أن أصير عارضة أزياء جميلة، مشهورة وغنية، كانت أمي مزينة نساء تديرُ صالونا للحلاقة تقصده كلّ نساء الحيّ، وكنت أستمتع بمشاهدتهن وهنّ يتحوّلن إلى حسناوات على يد أمّي السحريّة، ولكنّ أهمّ ما كان يبهرني هو تلك المجلاّت التي اجتهدت أمّي في الحصول عليها من باريس وروما، كنتُ مسلوبة بصور العارضات وجمالهن وكثيرا ما تخيّلتني في مكان إحداهن، ولم تكن أمّي تزجرني حين أحدّثها عن حلمي الأكبر، بل كانت تكتفي بالابتسام “يا سلام، ابنتي الجميلة ستصبح عارضة، ولكن تراها ستتركني أقوم بمهمّة تزيينها كما الآن، أم أنها ستستبدلني بمزيني المشاهير؟”، كانت مثل هذه الرّدود تدفعني إلى الحلم أكثر وشجعني قوامي الذي راح ينمو بطريقة رائعة وجمال وجهي وصفاؤه، حيث أصبحت في سن مبكرة جميلة عائلتي بأسرها والحيّ أيضا، وراح المعجبون يتساقطون أمامي كالذّباب، ولكني في مرحلة ما أدركت أن ابتسامات أمّي لم تكن تعبر عن الرّضا والموافقة، كما تخيلت، بل عن الاستهزاء وكذلك حال كلّ من بثثتهم حلمي.
مررت على الدراسة بلا مبالاة، الذهاب إلى الثانوية لا يعدو أن يكون باباً أتسرّب عبره من البيت الذي يتطلّب العمل والتنظيف، خاصة وأنّ أمّي تقضي النهار في صالونها. في الثامنة عشرة التقيت بشاب وسيم يعمل بالبنك المقابل لثانويتي، كان الشاب يرتدي بدلات رسمية أنيقة زادت من إظهار وسامته وتناسق جسمه، وذاك ما أغراني فيه منذ البداية أنا المهووسة بالأناقة والجمال، ومنذ حديثي الأوّل معه أخبرته عن طموحي وعن مللي الشّديد من الدّراسة، لم يضحك ولم يستهتر بي؛ ولم يفكّر أنني فتاة للّهو، أحسست أنه احترم حلمي غير أنّه راح يحدّثني عن مخاطر هذا المجال، فكم من جميلة راحت ضحية أحلامها لتصبح سلعة في أيادي تجار الرّق، وصارت بائعة هوى في باريس ولندن ونيويورك، أحببت الرّجل مذّاك، ولم يمنعني عنه شيء ولا حتى السنوات العشر التي تفصلني عنه، ولم تمرّ السنة حتى وجدتني زوجة وامرأة عليها مسؤولية رجل وبيت.
الآن، أرأف لحاله، المسكين زارني ثلاث مرات، ولا أعتقد أنّ زياراته ستدوم، فالنّاس لن يسكتوا أبدا ولن يتركونا في حالنا خاصة أمّه، أعرف أنّها لن تكلّ ولن تملّ حتى تقنعه بتطليقي وبالزّواج من أخرى، فهي لم تحبني في يوم مع أنّني لم أكن أعتقد أن امرأة واحدة في العالم لا تتمنّاني زوجة لابنها، ما الذي ساءها فيّ؟
أنا أيضا لم أبذل أيّ مجهود لإرضائها أو لدفعها إلى الاقتناع بي، بل ومنذ البدء وضعت جدارا بيني وبينها، اشترطت على العريس أن يُسكنني في بيت وحدي، واعتقدت بسذاجتي أنّه يستطيع شراء منزل بسهولة فهو يعمل في البنك كمهندس كمبيوتر، ولكنّني اكتشفت أنّه بالكاد يستطيع كراء بيت صغير وتسديد مصاريفنا الحياتية المختلفة.
-2-
كان من عاداتي اليومية الوقوف بالشّرفة، في البداية دفعني الضّجر إلى ذلك، فأنا أبقى طوال النهار وحيدة دون زوجي الذي يعود متأخّرا، ومهما حاولت شغل نفسي بالتنظيف والطّبخ بل وحتى التّسوق يبقى دائما القليل من الوقت الفارغ الذي لا يمرّ سريعا، والحقيقة أنّ التلفزيون وسيلة رائعة لملء ذلك الفراغ، ولكنني تغيّرت فلم تعد تستهويني تلك المسلسلات الأميركية ولا حتى التركية التي كنت أشاهدها وعيني تترقرق من شدّة الانبهار والغيرة، أجساد الممثلات، لباسهن، مشيتهن، الحياة الصّاخبة التي يعشنها، المال والشّهرة وهل هناك أفضل منهن؟ كان ذلك في الماضي، ولكني الآن صرت أغير القنوات في ملل، أطفئ التلفاز وأخرج إلى الشّرفة، علّي أتنفّس بعض الهواء وأشاهدُ بعضا من الحياة الحقيقية، نصحني زوجي بل ألحّ بأن أعود إلى الدّراسة، ولكنني رفضت، نصحني أن أتابع تكوينا في مجال أحبّه كالحلاقة والتزيين، ولكن لا شيء يُثيرني الآن.
هكذا صارت الشّرفة روتيني وونيسي، أستمتع بالتفرّج على الأطفال، أراهم ذاهبين أو عائدين من المدارس، العمّال منهمكون في بناء فيلات وبيوت لأغنياء القوم، وهم لا يملكون سقفا يأويهم ليلا فينامون في غرف إسمنتية يكترونها جماعة. الحيّ الذي أقطنه حديث النشأة، بل لم ينشأ بعد؛ فجلّ بيوته في طور الإنجاز وغير مأهولة، ما يجعل الحركة قليلة، بل معدومة في بعض أوقات النهار، ومن شرفتي يقابلني بيت قديم بسطح من الآجر يتوسط هذه البيوت الرّمادية المبنية دونما تجانس ولا اتساق لتشيع لوحة خراب، البيت القديم كان الاستثناء، لا طوابق فيه، كان محاطا كليّا بالأشجار والخضرة، ولكن يظهر من كثافتها وعشوائيتها أنّ لا أحد اعتنى بها منذ زمن، خاصّة وأن البيت يبدو مهجورا، إذ لا تصدر منه أصوات إلا عابرا، به الكثير من الأبواب الجانبية، ما جعلني أستنتج منطقيا أنّ أكثر من أسرة تسكنه.
في أحد الأيّام الحارّة كان الحيّ شبه مهجور فلا عمّال ولا أطفال، فقط أنا أتجرّع ضجري في الشّرفة وإذا بي أشاهد رجلا قصير القامة، أحدب، أشقر الشّعر رغم الصّلع الذي بدأ يمتد إلى وسط رأسه، رأيته يهرول متوجّساً، تجرُّ يده اليمنى ولدا لا يتجاوز سنه الثانية عشرة أو الحادية عشرة، دخل من الباب الجانبي الذي يقع تحت شرفتي مباشرة، بدا الرّجل غريبا فأنا لم أشاهده من قبل، ظننت أنّه جار جديد ربما أجّر المنزل مع عائلته، ولكن لماذا بدت مشيته غريبة؟
صرت ألمحُ الرّجل روتينيا، الهرولة نفسها، التوجس ذاته، والنظر إلى الخلف، ولكن كلّ مرة مع ولد أو فتاة مختلفة، أدركت مع الوقت أنّه لا وجود لعائلة هنا فقط هو وهؤلاء الأطفال، تسرّب الشكّ إلى ذهني، ما الذي يفعله رجل في الخمسينات مع هؤلاء الأطفال، أوّل ما تبادر إلى ذهني هو الاغتصاب أو سرقة الأعضاء فأعداد الأطفال المخطوفين في تزايد مخيف، وقصصهم صارت تتحوّل إلى حكايا رعب، مؤخرا قرأ لي زوجي خبرا في الجريدة لم أصدّقه، فقد وجدوا طفلة في الخامسة من العمر في حفرة مقطوعة الرأس والأطراف وعليها آثار اغتصاب، كأنّه فيلم هوليوودي، تبا لهوليوود التي علّمت الإنسان كيف يقطع أطراف الأطفال.
ظلّت الشّكوك والهواجس تنمو، لم أخبر زوجي رغم أنّي وددت ذلك، فقد خفت أن يزجرني أو يمنعني من الخروج إلى الشرفة ثانية؛ فالرجال لا يحبذون وقوف زوجاتهم في الشّرفات دون سبب أو طائل، كما أنّني لا أملك أيّ دليل على ما أقول لذلك آثرت الاحتفاظ بهذه القصّة لنفسي.
-3-
عندما زارني اليوم بدا لي متعبا، حاولت إمساك يده لمواساته، لكنه أزاحها من بين يديّ بسلاسة، لم يكن يريد جرحي، لا أعرف إلى الآن إن كان يصدّق روايتي أم لا، لم نتكلّم كثيرا في الموضوع، أنا كنت أوّد ذلك، وددت لو أسرد الحكاية للمرّة الألف أو الألفين، ولكنّ زوجي لم يكن يوما يطيل الكلام، كان دائما يميلُ إلى الصّمت وتجنّب الجدال والمشاكل؛ والآن زاد غرقا في صمته.
تتجاذبني الأسئلة والتّخمينات ولم أعد أجرؤ على سؤاله في ماذا يفكر؟ الأهمُّ أنّه لازال يزورني، أرى شكّا في عينيه، بل لوما وسؤالا كبيرا واسعا سعة الصّمت المطبق بيننا، ولكن لماذا لا زال يزورني؟ أعرف هذا الرّجل، فيه من طيبة القلب ما يشفي جروح شعوب وأمم، وأعرف أنّ به من الشّهامة ما يجعله يتمسّكُ بامرأة في وضعي، كم هو مُتعب الآن… كم أودّ لو أضمّه إلى صدري وأنزع عنه الألم والتعب، أحسّه كسيرا وضئيلا، هزمتْه الحياة وهزَمتُه، يبدو أنّه لم يحلق ذقنه منذ أكثر من أسبوع، هندامه مبعثر، وشعره أشعث، لم أدر ما أقوله أو أفعله لكسر حاجز الصّمت الثقيل الذي أطبق فجأة على كلّ المكان وليس علينا فقط؛ ليطيل عمر اللّحظات ويجعلها أكثر ثقلا على حلقي الذي أصبح يؤلمني من كثرة ما شددت على البكاء الهستيري الذي يتملّكني ومنعته من الانفجار.
“هل تزاول العمل؟”، قلت.
“لا”، قال.
أدركت سريعا غباء سؤالي، كيف يذهب بعد الذي جرى؟
“كيف مأكلكِ ومنامكِ؟”
سألني بعد أن أحرجته بسؤالي، وكادت الفتاة الغبية أن تنفلت مني لتبدأ بشكاويها المملّة، ولكنني ضبطتها في آخر لحظة:
“الحمد لله” قلت.
سألته إن كان يرى أمّي، فنفى، أنا لم أرها مذ دخلت هنا، استغنى عنّي الجميع إلاّ هو، صرتُ عارا ومرضا يجب تجنبه.
وقف فجأة من مكانه واتجه نحو الباب خارجا، دون كلام، غير أنّه استدار ليقول:
“اعتني بنفسك جيدا – جيدا-…”.
لا أعرف لماذا أحسست أن هذه الـ”جيدا” تعني وداعا، أو تعني أنني لن أعتني بكِ مجدّدا، والآن لن تجدي أحدا ليعتني بك، بقيت في مكاني أتأمّل قامته المتعبة، فجأة أدركت أنّه نحل كثيرا وأنّ الظّهر تقوّس قليلا وأنّ معالم تقدّم السنّ بدأت تظهر عليه، أدركتُ أنني لم أكن أنظر إلى زوجي أو أهتم به.
أنا أحببت هذا الرّجل -الآن أشكّ أنني أحببته- ليس ذلك الحبّ الذي نراه في الأفلام أو نقرأه في القصص، بقدر ما كان حبّا هادئا آمنا، فلا مغامرة فيه ولا تحدّيا، كنت أعتقدُ بتفاهة أو طيبة مفرطة أنّ هذا الزّوج الطّيب سيتركني أحقّق حلمي، خاصة أنّه كان يدلّلني ولا يرفض لي طلبا، ولكنّ الرّجل الطيّب لم يكن طيبا للدّرجة التي يقبل معها أن تصير زوجته عارضة أزياء، اتّسع شعوري بالصّدمة وكأنه خان ثقتي به، أنا لم أكرهه لأجل ذلك ولكنّ حياتي أصبحت لا تمتُّ بصلة لي ومرّت السنين، خمس سنوات ولم يحدث أيّ تغيير، ولا ولد جاء ولا بنت، ذهبت إلى الطّبيب، أجريت كلّ التحاليل والصّور وكلّ الأشياء كانت طبيعية، زوجي أيضا أجرى كلّ التحاليل اللازمة مع أنّ أمّه كانت مصرّة أنني السبب، فكيف تحمل امرأة لا تملك حوضا تضع فيه جنينها؟ أمّا أمي فكانت تقول: أنّ ما بي هو سحر وضعته لي حماتي حتى تفرّق بيني وبين زوجي بعد أن يتأكد بأنني عاقر.
في الأعوام الأولى من الزّواج لم يكن يهمّني أمر الحمل، فأنا كنت أعتقد أنني لازلت صغيرة على همّ الولادة والتربية، كما أنني كنت أخاف على جسدي -الذي تربطني به علاقة حبّ ووله كبيرين- من التشوّهات التي قد تحدثُ له، وقد تؤدّي بي إلى الجنون، ولكن بعد ذلك، وبعد أن أحسست بالفراغ الكبير في نفسي وفي البيت وفي جسدي، صرت أتكوّر ألما على ما أفقد، وصرت أكرّر كلام حماتي؛ فما جدوى جسد الأنثى إذا لم يكن قادرا على خلق الحياة، حتى أنني كنتُ أحسُّ بالذّنب، ربما تكون أمنياتي في سنوات زواجي الأولى قد تحقّقت الآن، ولكن هل يكون الله قاسيا على المراهقة التي كنتها؟
-4-
لم يعد وقوفي في الشّرفة التي أستبدلها مرّات بالنافذة مجرّد عملية عشوائية لطرد الضّجر، ولكن صار موعدا يوميا مضبوطا أكرّسه لمراقبة الرّجل الأحدب قصير القامة مراقبة دقيقة.
الآن، لم يعد يُحضر الأطفال معه، بل صار الأطفالُ الذين يظهرُ على هندامهم الفقر والعوز يتسلّلون إلى البيت إما بمجموعات صغيرة لا تثير أيّ صخب، أو واحدا تلو الآخر، وصار رأسي يأخذني إلى احتمالات عديدة لم يقنعني أيّ منها، وفي لحظة جنون مستقيلة من الوعي، قرّرت قرارا خطيرا، يجب أن ألاحق الرّجل لأعرف ما وراءه. كان الجوّ ممطرا بعد أن لمحته خارجا من بيته، حملت نفسي وخرجت، حاولت أن أؤمن مسافة معتدلة بيني وبينه وتبعته وهو يتجوّل في الحيّ دونما هدف محدّد، ثم دخل إلى محل لبيع الخردوات والعقاقير فدخلت وراءه مدعية أنني زبونة، ورأيته يشتري حبلا من الحلفاء ثم خرج، أثار الحبل الرّعب فيّ، هل يربط الأطفال به، هل يشنقهم؟
عاد الرّجل أدراجه إلى البيت مهرولا كعادته، وعدت وراءه وقد نال منّي التعب بعد أن درت في الأزقة دون جدوى، عدت أُقلّب أفكاري وأتذكّر وجه الرّجل بدا لي بشعا، يتقطّر خبثا ولؤما.
عندما دخلت البيت كانت الندامة والحسرة قد بلغتا منّي مبلغا كبيرا، فما الذي أفعله؟ وما هذه الحماقة التي أرتكبها؟ أتبعُ رجلا لا أعرفه من مكان إلى مكان لمجرد شكوك وأوهام؟ ما الذي سيقوله الناس عنّي لو لاحظوا ما يجري؟ أقسمتُ على نفسي ألا أعيد الكرّة وألا أعود إلى شرفة الجنون تلك أبدا.
في الغد قاومتُ كثيرا نفسي قبل أن تغلبني لأطلّ من المكان نفسه. وجدته لتوّه يفتح الباب، هذه المرّة وخلافا للسابقات رفع رأسه إلى شرفتي، نظر إليّ نظرة خاطفة، ولكن لها معناها وابتسم ابتسامة لم تكد تصل إلى عينيه ودخل، انتفضتُ بكلّ جسدي، نظرته الزّرقاء أخافتني ما الذي تعنيه، لأوّل مرّة أخاف إلى تلك الدّرجة، دخلت إلى الغرفة ورحتُ أسحبُ الخزانة بقوّة لا أدري من أين أتتني إلى أن توارت الشّرفة وراءها ثم استلقيت ونمت، عندما عاد زوجي وجدني لازلت نائمة، استغرب أمر الخزانة فلا أحد يسد شرفةً بخزانة، وألحّيت أنا على أسباب تافهة لا معنى لها، وما لبث أن استسلم هو للصّمت بعد أن قال إنني صرت أتصرّف بغرابة هذه الأيام.
شغلتني تلك النّظرة ليوم أو يومين، وما فتأت أن نسيتها بعدما قرّرت الذّهاب إلى بيت أهلي حتى أرتاح قليلا وأنسى، وعند عودتي كانت هذه الحكاية تكاد تمّحي من رأسي تماما، وفي اليوم التالي من عودتي خرجتُ صباحا لاقتناء بعض الحاجيات، لدى انصرافي إلى البيت سمعت صراخا قادما من جهة الباب الجانبي للمنزل المقابل لبيتي، في الأوّل تجاهلته وأكملت طريقي، ولكن الصّوت اشتدّ وعلا، غلبني فضولي بعد أن تبين لي أنّه لطفل صغير يستغيث، اقتربتُ من الباب، ملتُ برأسي لأسترق السّمع، دنوتُ حتى وجدتني ألتصقُ بالباب وقبل أن أعي ما أفعله تماما وجدت يدا قوية تجذبني إلى الدّاخل.
-5-
“الرجل مات”
هذا ما قاله الشُّرطيُّ لي وأنا مستلقية على فراش المرض والخوف بالمستشفى، لم أستطع كتم صرختي ورحتُ أتخبّطُ تخبُّط المصروع، صرتُ أهذي بكلام ما، دخل زوجي الغرفة جزعا ولم يدر ما يفعله، أيعانقني، أم يضربني أم يواسيني؟ بعد أن استيقظتُ من نومي الذي أحسست أنّه كان أطول ما نمته في حياتي إثر حقنة التخدير، رحتُ أحكي للشرطيّ حكايتي التي لم يصدّق منها كلمة، زوجي بقي مشدوهًا ولم يقل شيئا، وفجأة دخلت أمّ زوجي التي سمعت الخبر لتوها وراحت تصرخُ وتنعتني بالفاجرة
“يا الخامجة، حرام عليك واش دارلك وليدي؟”(1).
لم يعد بإمكاني أنا أيضا الكلام؛ فالأمر محسوم عندهم والسيناريو محدّد المعالم، الأحدب كان عشيقي وكنت أزورهُ في منزله الذي أجّرهُ مؤخرا، وربما كان هو أيضا يزورني في بيتي، ذهبتُ إليه لأنهي علاقتي به أو ربما تخاصمنا على أمر ما فهدّدني بفضحي، تشاجرنا فقتلتهُ ثم رحتُ أختلقُ قصّة الطّفل الذي كان يصرخُ ثمّ هرب والأطفال الذين كانوا يزورون المكان.
عندما سحبني الرّجل إلى الدّاخل، اندفع طفل لم أتبين لا سنه ولا شكله إلى الخارج، وبقيت مع الرّجل هممت بالخروج والهرب، ولكنه سبقني إلى الباب ليوصده، وراح يحدّثني بأنه لاحظني عبر الشرفة وأنّه يعلم أنني كنت أراوده منذ البداية، ولكنه تأكّد بعد أن تبعته يومها، وعرف أيضا أنني كنت خجلة أو خائفة وأنها كانت الطّريقة الوحيدة لجعلي آتي إليه أخيرا، همّ يلمسني وكأنّ الأمر قد تمّ بيننا، حينها دفعته وبدأت بالصّراخ والتهديد، هدّدته بأنني أعرفُ ما الذي يفعله بالأطفال المساكين، وأخبرته أنني شرطيّة كلّفت بأن أراقبه، ولكن الشّهوة أعمت عينيه وأصمّت أذنيه، عيّرته بقبحه وبحدبته، كيف له أن يعتقد بأنني قد أنجذب إليه؟ جنّ جنونه ودفعني دفعة وضعتني على حافة الموت، سقطت أرضا بينما امتدت يده إلى لباسي فمزّق بعضه، تحسّست بيدي صخرة صغيرة على الأرض لمحتها قبل سقوطي، أمسكت بها وضربته على رأسه سقط أرضا، كان بإمكاني الهرب، ولكني انهلت عليه ضربا وهشّمت رأسه فمات.
أمينة شيخ
لم يكن من عاداتي التجسّس على النّاس أو التدخّل فيما لا يعنيني، وإلى الآن لا أدرك حقيقة ما دفعني إلى دخول هذه المغامرة التي أودت بكلّ حياتي “التافهة” إلى الهاوية، هذه الهاوية السّحيقة التي لا أستطيع أن أتبيّن مدى عمقها وعتمتها.
لم تكن حياتي تسير وفقا للخطّة التي رسمتها، فأحلامي كانت أكبر وأبعد بكثير، في الأخير انتهيت إلى الرضا عن هذه الحياة، افترضتُ لي أن أصير عارضة أزياء جميلة، مشهورة وغنية، كانت أمي مزينة نساء تديرُ صالونا للحلاقة تقصده كلّ نساء الحيّ، وكنت أستمتع بمشاهدتهن وهنّ يتحوّلن إلى حسناوات على يد أمّي السحريّة، ولكنّ أهمّ ما كان يبهرني هو تلك المجلاّت التي اجتهدت أمّي في الحصول عليها من باريس وروما، كنتُ مسلوبة بصور العارضات وجمالهن وكثيرا ما تخيّلتني في مكان إحداهن، ولم تكن أمّي تزجرني حين أحدّثها عن حلمي الأكبر، بل كانت تكتفي بالابتسام “يا سلام، ابنتي الجميلة ستصبح عارضة، ولكن تراها ستتركني أقوم بمهمّة تزيينها كما الآن، أم أنها ستستبدلني بمزيني المشاهير؟”، كانت مثل هذه الرّدود تدفعني إلى الحلم أكثر وشجعني قوامي الذي راح ينمو بطريقة رائعة وجمال وجهي وصفاؤه، حيث أصبحت في سن مبكرة جميلة عائلتي بأسرها والحيّ أيضا، وراح المعجبون يتساقطون أمامي كالذّباب، ولكني في مرحلة ما أدركت أن ابتسامات أمّي لم تكن تعبر عن الرّضا والموافقة، كما تخيلت، بل عن الاستهزاء وكذلك حال كلّ من بثثتهم حلمي.
مررت على الدراسة بلا مبالاة، الذهاب إلى الثانوية لا يعدو أن يكون باباً أتسرّب عبره من البيت الذي يتطلّب العمل والتنظيف، خاصة وأنّ أمّي تقضي النهار في صالونها. في الثامنة عشرة التقيت بشاب وسيم يعمل بالبنك المقابل لثانويتي، كان الشاب يرتدي بدلات رسمية أنيقة زادت من إظهار وسامته وتناسق جسمه، وذاك ما أغراني فيه منذ البداية أنا المهووسة بالأناقة والجمال، ومنذ حديثي الأوّل معه أخبرته عن طموحي وعن مللي الشّديد من الدّراسة، لم يضحك ولم يستهتر بي؛ ولم يفكّر أنني فتاة للّهو، أحسست أنه احترم حلمي غير أنّه راح يحدّثني عن مخاطر هذا المجال، فكم من جميلة راحت ضحية أحلامها لتصبح سلعة في أيادي تجار الرّق، وصارت بائعة هوى في باريس ولندن ونيويورك، أحببت الرّجل مذّاك، ولم يمنعني عنه شيء ولا حتى السنوات العشر التي تفصلني عنه، ولم تمرّ السنة حتى وجدتني زوجة وامرأة عليها مسؤولية رجل وبيت.
الآن، أرأف لحاله، المسكين زارني ثلاث مرات، ولا أعتقد أنّ زياراته ستدوم، فالنّاس لن يسكتوا أبدا ولن يتركونا في حالنا خاصة أمّه، أعرف أنّها لن تكلّ ولن تملّ حتى تقنعه بتطليقي وبالزّواج من أخرى، فهي لم تحبني في يوم مع أنّني لم أكن أعتقد أن امرأة واحدة في العالم لا تتمنّاني زوجة لابنها، ما الذي ساءها فيّ؟
أنا أيضا لم أبذل أيّ مجهود لإرضائها أو لدفعها إلى الاقتناع بي، بل ومنذ البدء وضعت جدارا بيني وبينها، اشترطت على العريس أن يُسكنني في بيت وحدي، واعتقدت بسذاجتي أنّه يستطيع شراء منزل بسهولة فهو يعمل في البنك كمهندس كمبيوتر، ولكنّني اكتشفت أنّه بالكاد يستطيع كراء بيت صغير وتسديد مصاريفنا الحياتية المختلفة.
-2-
كان من عاداتي اليومية الوقوف بالشّرفة، في البداية دفعني الضّجر إلى ذلك، فأنا أبقى طوال النهار وحيدة دون زوجي الذي يعود متأخّرا، ومهما حاولت شغل نفسي بالتنظيف والطّبخ بل وحتى التّسوق يبقى دائما القليل من الوقت الفارغ الذي لا يمرّ سريعا، والحقيقة أنّ التلفزيون وسيلة رائعة لملء ذلك الفراغ، ولكنني تغيّرت فلم تعد تستهويني تلك المسلسلات الأميركية ولا حتى التركية التي كنت أشاهدها وعيني تترقرق من شدّة الانبهار والغيرة، أجساد الممثلات، لباسهن، مشيتهن، الحياة الصّاخبة التي يعشنها، المال والشّهرة وهل هناك أفضل منهن؟ كان ذلك في الماضي، ولكني الآن صرت أغير القنوات في ملل، أطفئ التلفاز وأخرج إلى الشّرفة، علّي أتنفّس بعض الهواء وأشاهدُ بعضا من الحياة الحقيقية، نصحني زوجي بل ألحّ بأن أعود إلى الدّراسة، ولكنني رفضت، نصحني أن أتابع تكوينا في مجال أحبّه كالحلاقة والتزيين، ولكن لا شيء يُثيرني الآن.
هكذا صارت الشّرفة روتيني وونيسي، أستمتع بالتفرّج على الأطفال، أراهم ذاهبين أو عائدين من المدارس، العمّال منهمكون في بناء فيلات وبيوت لأغنياء القوم، وهم لا يملكون سقفا يأويهم ليلا فينامون في غرف إسمنتية يكترونها جماعة. الحيّ الذي أقطنه حديث النشأة، بل لم ينشأ بعد؛ فجلّ بيوته في طور الإنجاز وغير مأهولة، ما يجعل الحركة قليلة، بل معدومة في بعض أوقات النهار، ومن شرفتي يقابلني بيت قديم بسطح من الآجر يتوسط هذه البيوت الرّمادية المبنية دونما تجانس ولا اتساق لتشيع لوحة خراب، البيت القديم كان الاستثناء، لا طوابق فيه، كان محاطا كليّا بالأشجار والخضرة، ولكن يظهر من كثافتها وعشوائيتها أنّ لا أحد اعتنى بها منذ زمن، خاصّة وأن البيت يبدو مهجورا، إذ لا تصدر منه أصوات إلا عابرا، به الكثير من الأبواب الجانبية، ما جعلني أستنتج منطقيا أنّ أكثر من أسرة تسكنه.
في أحد الأيّام الحارّة كان الحيّ شبه مهجور فلا عمّال ولا أطفال، فقط أنا أتجرّع ضجري في الشّرفة وإذا بي أشاهد رجلا قصير القامة، أحدب، أشقر الشّعر رغم الصّلع الذي بدأ يمتد إلى وسط رأسه، رأيته يهرول متوجّساً، تجرُّ يده اليمنى ولدا لا يتجاوز سنه الثانية عشرة أو الحادية عشرة، دخل من الباب الجانبي الذي يقع تحت شرفتي مباشرة، بدا الرّجل غريبا فأنا لم أشاهده من قبل، ظننت أنّه جار جديد ربما أجّر المنزل مع عائلته، ولكن لماذا بدت مشيته غريبة؟
صرت ألمحُ الرّجل روتينيا، الهرولة نفسها، التوجس ذاته، والنظر إلى الخلف، ولكن كلّ مرة مع ولد أو فتاة مختلفة، أدركت مع الوقت أنّه لا وجود لعائلة هنا فقط هو وهؤلاء الأطفال، تسرّب الشكّ إلى ذهني، ما الذي يفعله رجل في الخمسينات مع هؤلاء الأطفال، أوّل ما تبادر إلى ذهني هو الاغتصاب أو سرقة الأعضاء فأعداد الأطفال المخطوفين في تزايد مخيف، وقصصهم صارت تتحوّل إلى حكايا رعب، مؤخرا قرأ لي زوجي خبرا في الجريدة لم أصدّقه، فقد وجدوا طفلة في الخامسة من العمر في حفرة مقطوعة الرأس والأطراف وعليها آثار اغتصاب، كأنّه فيلم هوليوودي، تبا لهوليوود التي علّمت الإنسان كيف يقطع أطراف الأطفال.
ظلّت الشّكوك والهواجس تنمو، لم أخبر زوجي رغم أنّي وددت ذلك، فقد خفت أن يزجرني أو يمنعني من الخروج إلى الشرفة ثانية؛ فالرجال لا يحبذون وقوف زوجاتهم في الشّرفات دون سبب أو طائل، كما أنّني لا أملك أيّ دليل على ما أقول لذلك آثرت الاحتفاظ بهذه القصّة لنفسي.
-3-
عندما زارني اليوم بدا لي متعبا، حاولت إمساك يده لمواساته، لكنه أزاحها من بين يديّ بسلاسة، لم يكن يريد جرحي، لا أعرف إلى الآن إن كان يصدّق روايتي أم لا، لم نتكلّم كثيرا في الموضوع، أنا كنت أوّد ذلك، وددت لو أسرد الحكاية للمرّة الألف أو الألفين، ولكنّ زوجي لم يكن يوما يطيل الكلام، كان دائما يميلُ إلى الصّمت وتجنّب الجدال والمشاكل؛ والآن زاد غرقا في صمته.
تتجاذبني الأسئلة والتّخمينات ولم أعد أجرؤ على سؤاله في ماذا يفكر؟ الأهمُّ أنّه لازال يزورني، أرى شكّا في عينيه، بل لوما وسؤالا كبيرا واسعا سعة الصّمت المطبق بيننا، ولكن لماذا لا زال يزورني؟ أعرف هذا الرّجل، فيه من طيبة القلب ما يشفي جروح شعوب وأمم، وأعرف أنّ به من الشّهامة ما يجعله يتمسّكُ بامرأة في وضعي، كم هو مُتعب الآن… كم أودّ لو أضمّه إلى صدري وأنزع عنه الألم والتعب، أحسّه كسيرا وضئيلا، هزمتْه الحياة وهزَمتُه، يبدو أنّه لم يحلق ذقنه منذ أكثر من أسبوع، هندامه مبعثر، وشعره أشعث، لم أدر ما أقوله أو أفعله لكسر حاجز الصّمت الثقيل الذي أطبق فجأة على كلّ المكان وليس علينا فقط؛ ليطيل عمر اللّحظات ويجعلها أكثر ثقلا على حلقي الذي أصبح يؤلمني من كثرة ما شددت على البكاء الهستيري الذي يتملّكني ومنعته من الانفجار.
“هل تزاول العمل؟”، قلت.
“لا”، قال.
أدركت سريعا غباء سؤالي، كيف يذهب بعد الذي جرى؟
“كيف مأكلكِ ومنامكِ؟”
سألني بعد أن أحرجته بسؤالي، وكادت الفتاة الغبية أن تنفلت مني لتبدأ بشكاويها المملّة، ولكنني ضبطتها في آخر لحظة:
“الحمد لله” قلت.
سألته إن كان يرى أمّي، فنفى، أنا لم أرها مذ دخلت هنا، استغنى عنّي الجميع إلاّ هو، صرتُ عارا ومرضا يجب تجنبه.
وقف فجأة من مكانه واتجه نحو الباب خارجا، دون كلام، غير أنّه استدار ليقول:
“اعتني بنفسك جيدا – جيدا-…”.
لا أعرف لماذا أحسست أن هذه الـ”جيدا” تعني وداعا، أو تعني أنني لن أعتني بكِ مجدّدا، والآن لن تجدي أحدا ليعتني بك، بقيت في مكاني أتأمّل قامته المتعبة، فجأة أدركت أنّه نحل كثيرا وأنّ الظّهر تقوّس قليلا وأنّ معالم تقدّم السنّ بدأت تظهر عليه، أدركتُ أنني لم أكن أنظر إلى زوجي أو أهتم به.
أنا أحببت هذا الرّجل -الآن أشكّ أنني أحببته- ليس ذلك الحبّ الذي نراه في الأفلام أو نقرأه في القصص، بقدر ما كان حبّا هادئا آمنا، فلا مغامرة فيه ولا تحدّيا، كنت أعتقدُ بتفاهة أو طيبة مفرطة أنّ هذا الزّوج الطّيب سيتركني أحقّق حلمي، خاصة أنّه كان يدلّلني ولا يرفض لي طلبا، ولكنّ الرّجل الطيّب لم يكن طيبا للدّرجة التي يقبل معها أن تصير زوجته عارضة أزياء، اتّسع شعوري بالصّدمة وكأنه خان ثقتي به، أنا لم أكرهه لأجل ذلك ولكنّ حياتي أصبحت لا تمتُّ بصلة لي ومرّت السنين، خمس سنوات ولم يحدث أيّ تغيير، ولا ولد جاء ولا بنت، ذهبت إلى الطّبيب، أجريت كلّ التحاليل والصّور وكلّ الأشياء كانت طبيعية، زوجي أيضا أجرى كلّ التحاليل اللازمة مع أنّ أمّه كانت مصرّة أنني السبب، فكيف تحمل امرأة لا تملك حوضا تضع فيه جنينها؟ أمّا أمي فكانت تقول: أنّ ما بي هو سحر وضعته لي حماتي حتى تفرّق بيني وبين زوجي بعد أن يتأكد بأنني عاقر.
في الأعوام الأولى من الزّواج لم يكن يهمّني أمر الحمل، فأنا كنت أعتقد أنني لازلت صغيرة على همّ الولادة والتربية، كما أنني كنت أخاف على جسدي -الذي تربطني به علاقة حبّ ووله كبيرين- من التشوّهات التي قد تحدثُ له، وقد تؤدّي بي إلى الجنون، ولكن بعد ذلك، وبعد أن أحسست بالفراغ الكبير في نفسي وفي البيت وفي جسدي، صرت أتكوّر ألما على ما أفقد، وصرت أكرّر كلام حماتي؛ فما جدوى جسد الأنثى إذا لم يكن قادرا على خلق الحياة، حتى أنني كنتُ أحسُّ بالذّنب، ربما تكون أمنياتي في سنوات زواجي الأولى قد تحقّقت الآن، ولكن هل يكون الله قاسيا على المراهقة التي كنتها؟
-4-
لم يعد وقوفي في الشّرفة التي أستبدلها مرّات بالنافذة مجرّد عملية عشوائية لطرد الضّجر، ولكن صار موعدا يوميا مضبوطا أكرّسه لمراقبة الرّجل الأحدب قصير القامة مراقبة دقيقة.
الآن، لم يعد يُحضر الأطفال معه، بل صار الأطفالُ الذين يظهرُ على هندامهم الفقر والعوز يتسلّلون إلى البيت إما بمجموعات صغيرة لا تثير أيّ صخب، أو واحدا تلو الآخر، وصار رأسي يأخذني إلى احتمالات عديدة لم يقنعني أيّ منها، وفي لحظة جنون مستقيلة من الوعي، قرّرت قرارا خطيرا، يجب أن ألاحق الرّجل لأعرف ما وراءه. كان الجوّ ممطرا بعد أن لمحته خارجا من بيته، حملت نفسي وخرجت، حاولت أن أؤمن مسافة معتدلة بيني وبينه وتبعته وهو يتجوّل في الحيّ دونما هدف محدّد، ثم دخل إلى محل لبيع الخردوات والعقاقير فدخلت وراءه مدعية أنني زبونة، ورأيته يشتري حبلا من الحلفاء ثم خرج، أثار الحبل الرّعب فيّ، هل يربط الأطفال به، هل يشنقهم؟
عاد الرّجل أدراجه إلى البيت مهرولا كعادته، وعدت وراءه وقد نال منّي التعب بعد أن درت في الأزقة دون جدوى، عدت أُقلّب أفكاري وأتذكّر وجه الرّجل بدا لي بشعا، يتقطّر خبثا ولؤما.
عندما دخلت البيت كانت الندامة والحسرة قد بلغتا منّي مبلغا كبيرا، فما الذي أفعله؟ وما هذه الحماقة التي أرتكبها؟ أتبعُ رجلا لا أعرفه من مكان إلى مكان لمجرد شكوك وأوهام؟ ما الذي سيقوله الناس عنّي لو لاحظوا ما يجري؟ أقسمتُ على نفسي ألا أعيد الكرّة وألا أعود إلى شرفة الجنون تلك أبدا.
في الغد قاومتُ كثيرا نفسي قبل أن تغلبني لأطلّ من المكان نفسه. وجدته لتوّه يفتح الباب، هذه المرّة وخلافا للسابقات رفع رأسه إلى شرفتي، نظر إليّ نظرة خاطفة، ولكن لها معناها وابتسم ابتسامة لم تكد تصل إلى عينيه ودخل، انتفضتُ بكلّ جسدي، نظرته الزّرقاء أخافتني ما الذي تعنيه، لأوّل مرّة أخاف إلى تلك الدّرجة، دخلت إلى الغرفة ورحتُ أسحبُ الخزانة بقوّة لا أدري من أين أتتني إلى أن توارت الشّرفة وراءها ثم استلقيت ونمت، عندما عاد زوجي وجدني لازلت نائمة، استغرب أمر الخزانة فلا أحد يسد شرفةً بخزانة، وألحّيت أنا على أسباب تافهة لا معنى لها، وما لبث أن استسلم هو للصّمت بعد أن قال إنني صرت أتصرّف بغرابة هذه الأيام.
شغلتني تلك النّظرة ليوم أو يومين، وما فتأت أن نسيتها بعدما قرّرت الذّهاب إلى بيت أهلي حتى أرتاح قليلا وأنسى، وعند عودتي كانت هذه الحكاية تكاد تمّحي من رأسي تماما، وفي اليوم التالي من عودتي خرجتُ صباحا لاقتناء بعض الحاجيات، لدى انصرافي إلى البيت سمعت صراخا قادما من جهة الباب الجانبي للمنزل المقابل لبيتي، في الأوّل تجاهلته وأكملت طريقي، ولكن الصّوت اشتدّ وعلا، غلبني فضولي بعد أن تبين لي أنّه لطفل صغير يستغيث، اقتربتُ من الباب، ملتُ برأسي لأسترق السّمع، دنوتُ حتى وجدتني ألتصقُ بالباب وقبل أن أعي ما أفعله تماما وجدت يدا قوية تجذبني إلى الدّاخل.
-5-
“الرجل مات”
هذا ما قاله الشُّرطيُّ لي وأنا مستلقية على فراش المرض والخوف بالمستشفى، لم أستطع كتم صرختي ورحتُ أتخبّطُ تخبُّط المصروع، صرتُ أهذي بكلام ما، دخل زوجي الغرفة جزعا ولم يدر ما يفعله، أيعانقني، أم يضربني أم يواسيني؟ بعد أن استيقظتُ من نومي الذي أحسست أنّه كان أطول ما نمته في حياتي إثر حقنة التخدير، رحتُ أحكي للشرطيّ حكايتي التي لم يصدّق منها كلمة، زوجي بقي مشدوهًا ولم يقل شيئا، وفجأة دخلت أمّ زوجي التي سمعت الخبر لتوها وراحت تصرخُ وتنعتني بالفاجرة
“يا الخامجة، حرام عليك واش دارلك وليدي؟”(1).
لم يعد بإمكاني أنا أيضا الكلام؛ فالأمر محسوم عندهم والسيناريو محدّد المعالم، الأحدب كان عشيقي وكنت أزورهُ في منزله الذي أجّرهُ مؤخرا، وربما كان هو أيضا يزورني في بيتي، ذهبتُ إليه لأنهي علاقتي به أو ربما تخاصمنا على أمر ما فهدّدني بفضحي، تشاجرنا فقتلتهُ ثم رحتُ أختلقُ قصّة الطّفل الذي كان يصرخُ ثمّ هرب والأطفال الذين كانوا يزورون المكان.
عندما سحبني الرّجل إلى الدّاخل، اندفع طفل لم أتبين لا سنه ولا شكله إلى الخارج، وبقيت مع الرّجل هممت بالخروج والهرب، ولكنه سبقني إلى الباب ليوصده، وراح يحدّثني بأنه لاحظني عبر الشرفة وأنّه يعلم أنني كنت أراوده منذ البداية، ولكنه تأكّد بعد أن تبعته يومها، وعرف أيضا أنني كنت خجلة أو خائفة وأنها كانت الطّريقة الوحيدة لجعلي آتي إليه أخيرا، همّ يلمسني وكأنّ الأمر قد تمّ بيننا، حينها دفعته وبدأت بالصّراخ والتهديد، هدّدته بأنني أعرفُ ما الذي يفعله بالأطفال المساكين، وأخبرته أنني شرطيّة كلّفت بأن أراقبه، ولكن الشّهوة أعمت عينيه وأصمّت أذنيه، عيّرته بقبحه وبحدبته، كيف له أن يعتقد بأنني قد أنجذب إليه؟ جنّ جنونه ودفعني دفعة وضعتني على حافة الموت، سقطت أرضا بينما امتدت يده إلى لباسي فمزّق بعضه، تحسّست بيدي صخرة صغيرة على الأرض لمحتها قبل سقوطي، أمسكت بها وضربته على رأسه سقط أرضا، كان بإمكاني الهرب، ولكني انهلت عليه ضربا وهشّمت رأسه فمات.
أمينة شيخ