محمد كريم الساعدي - الشعبوية ومسرح الشارع مقاربات في الرؤية والمقاصد السياسية والأجتماعية

تنطلق قراءتنا في دراسة الشعبوية ومسرح الشارع في كون هنالك مقاربات سياسية أجتماعية بين المصطلحين على مستوى المنظور الحالي في ظل الثورات العالمية والتغيرات في بنية الشعوب الثقافية في أعقاب متغيرات في الشارعين السياسي والاجتماعي الذي بات يحكم الكثير من دول العالم اليوم ، ومن هنا نتساءل هل يوجد علاقة بين المصطلحين على المستوى الاشتغالي في تحريك الافكار لدى الشعوب ؟، وهل أن الشعبوية كحركة سياسية قد وظفت كل الوسائل المطروحة ومنها الفنون ، وخاصة مسرح الشارع في تنفيذ توجهاتها السياسية والأجتماعية ؟ والسؤال الثالث وهو المهم ، هل أن كلا المصطلحين يستهدفان كسر الانظمة السياسية والفنية ؟ . هذه التساؤلات وغيرها من الطبيعي أن تطرح في ظل الظروف الراهنة وخاصة في الدول العربية التي اجتاحت أنظمتها السياسية الربيع العربي المدعوم بشكل فعال من بعض الحركات السياسية ومنها الشعبوية وأنواع الفنون ومنها مسرح الشارع الذي أصبح من أهم الحركات الفنية المواكبة لهذه الثورات .

من هذه المقدمة القصيرة لابدّ أن نستعرض كل من مفهوم (الشعبوية) ، ومفهوم ( مسرح الشارع) ومن ثم نبحث المقاربات بينهما على مستوى الفعل الأشتغالي في الفترة الحالية .

فالشعبوية :مصطلح (يشمل كل خطاب سياسي موجه إلى الطبقات الشعبية في بلد ما، وقائم على انتقاد نظامه السياسي ومؤسساته القائمة ونخبه المجتمعية ووسائل إعلامه)(1) . والشعبوية هي ( أيديولوجية، أو فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية. حيث يعتمد بعض المسؤولين على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية).(2) وهذا المصطلح تعود نشأته إلى الفترة الواقعة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر ،حين بدأت نزعتها في كل من روسيا القيصرية والولايات المتحدة. وكانت في الأصل تُطلق على حركة زراعية ذات ميول اشتراكية سعت لتحرير الفلاحين الروس حوالي 1870، وتزامنت مع تنظيم احتجاجات في الريف الأميركي موجهة ضد المصارف وشركات السكك الحديدية. وبحلول منتصف القرن العشرين أخذ هذا المصطلح صبغة وطنية واجتماعية حررته من الارتباط بالتوجه الاشتراكي، خاصة في منطقة أميركا اللاتينية ولا سيما الأرجنتين.(3)

وللشعبوية ثلاثة خصائص هي :-
  • أنها نظام يعتمد سياسات تحظى بشعبية على المدى القصير ولكن غير مستدامة في المدى الطويل، وعادة في مجال السياسات الاجتماعية .
  • ترتبط الشعبوية بتعريف ”الشعب” والذي هو اساس الشرعية .
  • الشعبوية تتعلق بأسلوب القيادة. اذ اتجه القادة الشعبويون الى تطوير عبادة شخصية حول انفسهم مرتدين عباءة السلطة الكاريزمية التي تتواجد بشكل مستقل عن المؤسسات مثل الاحزاب السياسية. (4)
بماذا تتميز الشعبويَّة :
  • إنَّها ليست عقيدة سياسيَّة أو أيديولوجيا، وذلك لأنَّها لا تتجسَّد في نمط محدَّد أو نظام سياسي بعينه ولا في مضامين فكريَّة واحدة، وهي تختلف عن الحركات ذات الطابع الثوري التقليدي.
  • هي أسلوب جديد يتخذ شكل الاحتجاج وردود الأفعال تتبنّاه حركات متنوّعة تزعم انتسابها جميعها إلى الشعب والتعبير عنه.
  • وهي غالباً ما تكون خارج السلطة وحين تصل إلى السلطة تفقد في الغالب مبرّر وجودها، خصوصاً افتقارها إلى مشروع سياسي واضح ومحدَّد.
  • زعمها تمثيل الشعب وحدها، وعلى نحو حصري، خصوصاً حين يتمّ ربط ذلك أخلاقيّاً بالشعبويين بصورة دائمة وغير قابلة للقياس، فمنافستها النخبة الفاسدة حسب رأي القائمين عليها .
  • رفضها التعدّديَّة والاعتراف بالآخر، لأنَّها وحدها من يحقّ له تمثيل الشعب.
  • ارتباطها بسياسات الهويَّة، وهذه الأخيرة تتطلّب الاعتراف بشروط عادلة للعيش المشترك، لا سيَّما بتوفّر الأسس السليمة لفكرة المواطنة والاتحاد الطوعي لمواطنين أحرار متساوين.(5).
أما المصطلح الثاني الذي نريد أن نتناوله في هذا المقال فهو (مسرح الشارع ) ، وهذا المصطلح يعني : ( به الفرجة المليئة بالضجيج والموسيقى والرقص والألعاب البهلوانية والقافية والإيقاع والأوزان والألوان ، فهو بمعنى آخر : فرجة المسرح في أوسع معانيها وتعريفاتها ، وهو كشيء .. يختلف عن مستوى المسرحية ذات الفصول (...)المكسب الوحيد والفائدة التي يجنيها أصحابه تتوقف على الممثلين والمؤدين الذين يستطيعون بمهاراتهم احتجاز هؤلاء المتفرجين والاحتفاظ بهم حتى نهاية العرض )(6). وكذلك فإن مسرح الشارع يعني بـ(أداء مسرحي يعرض في الأماكن العامة المطلة على الهواء الطلق دون تحديد جمهور معين. حيث يمكن أن تكون في: مراكز التسوق، مواقف السيارات، الأماكن الترفيهية كالحدائق، زوايا الشارع. وتم مزاولة مسرح الشارع في البداية كنشاط من قبل الموسيقيين المتجولين، أو في المهرجانات والمسيرات، ولكن هو تحديدا يقام من خلال مجموعة من الممثلين المتميزين في مجال فنون الأداء)(7).

ما هي مبررات تقديم مسرح الشارع؟ :
  • تتعدد دوافع فناني الأداء لاختيار الشارع لعرض مسرحية فنية، ومنها ثقافية كدعوة لنقل رسالة إنسانية عبر موجة من التفاعلات والحركة، معتبرين أن الشارع يقدم مساحة من الحرية أكبر في الطرح والتفاعل وخلق الجسور بين المؤدي والمتلقي.
  • ومنها مادية تستمد مرجعتيها من عدم قبول العمل المسرحي في المؤسسات الثقافية، لتعدد الشروط الاجتماعية والسياسية التي تلتزم بها هذه المؤسسات.
  • ومنها أن تكون النصوص محددة ضمن إطار يقيد الفنان أحيانا نحو إطلاق الفكرة.
  • كما يؤكد العاملون في المجال أن مسرح الشارع يلغي المسافة بين العرض والجمهور، ليترك هو في خلق أحداث المسرحية وتفاعلاتها.(8)
إذن ، من خلال التعرف السريع على المصطلحين ، نعمل في لاستخراج عدد من المقاربات بينهما في الرؤية والمقاصد في ظل الاشتغالات السياسية والاجتماعية لكليهما، وهذه المقاربات التي نعتقدها هي كالاتي :
  • يتحيز مسرح الشارع الى مفهوم مناؤة للسلطة والركون الى الشعب من أجل أن يكون أداة مهمة في مجال النقد وخاصة السياسي والاجتماعي ،كونه يعيب على كل الأساليب الفنية التي سبقته في مجال العمل المسرحي الذين لم يقدموا نقداً بصورة فعالة من خلال أعمالهم الفنية كونهم كانوا يركنون الى الاساليب الفنية غير المباشرة في النقد كون الفن لديهم قائم على مبدأ الابتعاد عن المباشرة والسطحية في تقديم الخطابات المسرحية ، بينما أصحاب مسرح الشارع يقدمون النقد المباشر للسلطة بكافة أشكالها وهذه الخاصية هي ما تميز أصحاب هذا المسرح عن المشتغلين في المسرح التقليدي . وهذا التمييز يقترب من نفس مبدأ الشعبوية التي تعمل على نقد كل الأنظمة السياسية التي سبقتها كونها تنادي بمبدأ الذهاب بشكل مباشر الى اساليب النقد من أجل الإطاحة بها من خلال الشعب دون اللجوء الى وسائل غير مباشرة في النقد الساسي والإجتماعي ، وهو ما يعمله مسرح الشارع الى سحب البساطة الفرجوي من المسرح التقليدي بكافة أشكاله ومسمياته.
  • مسرح الشارع هو أسلوب قائم على مبدأ الاحتجاج السياسي والاجتماعي ضد السلطات بكافة أشكالها ، وركونه الى الجماهير من خلال استهدافها في أماكنها المختلفة ، وليس دعوة الجماهير الى قاعات مغلقة كما هو المسرح التقليدي ، وكذلك تفعل الشعبوية التي ترى نفسها بأنها أسلوب جديد في شكل الاحتجاج وردود الأفعال تتبنّاه حركات متنوّعة غايتها الوصول الى الصيغ الاحتجاجية ، وهي تزعم انتساب جميع حركاتها وتحركاتها إلى الشعب والتعبير عنه وعن قضاياه .
  • الأماكن التي يقصدها مسرح الشارع هي أماكن عامة وليست أماكن مخصصة للمسرح كما في مسرح العلبة ، وهو ما جعل كل الاماكن المفتوحة والعامة هي ساحة لعروض مسرح الشارع ، كذلك الشعبوية هي لا تقصد الأماكن المخصصة للعمل السياسي في التعبير عن نواياها السياسية ،كما في صناديق الاقتراع، أو المؤسسات الدستورية الأخرى فهي دائما ما تكون في الشارع مع الشعب وهو ما تريد أن تعبر عنه في سياساتها للوصول الى أهدافها السياسية .
  • مسرح الشارع يعمل على افتعال مناظرة بين الرأيين تكتب بحرفية كبيرة يكون هدفها النهائي كشف زيف أطروحات الطرف المناوئ وتفنيدها تفنيدا كاملا ، والشعبوية تتخذ من هذا الاسلوب في طرح القضايا التي من شأنها أن تجعل الطرف الآخر يقع في نفس المناظرات لكن ليس من خلال محطات التلفزة أو وسائل الأعلام الأخرى ، بل من خلال الشارع ذاته الذي يستند اليه مسرح الشارع في ذلك .
  • يزعم مسرح الشارع هو أفضل من يمثل قضايا الشعب من خلال قربه من قضاياه السياسية والأجتماعية ، وهو من يمثلهم كون المسرح التقليدي هو مسرح النخبة ، كذلك فإن الشعبوية زعمها تمثيل الشعب وحدها، وعلى نحو حصري، خصوصاً حين يتمّ ربط ذلك أخلاقيّاً بالشعبويين بصورة دائمة وغير قابلة للقياس، فمنافستها نخبة فاسدة.
  • مسرح الشارع على الرغم أنه لا يعارض المسارح الأخرى علنا ، لكنه يرفض كونها تنافسه في قربه من الجماهير والعمل على تحمل قضاياه ، وهنا يكون رفض التعددية الفنية والثقافية أمر وارد في هذا المجال ، كذلك الشعبوية فيه ترفض التعدّديَّة والاعتراف بالآخر، لأنَّها تعتقد بأنها وحدها من يحقّ لها تمثيل الشعب.
  • كل من مسرح الشارع والشعبوية يعملان على الأسلوب العاطفي في تعاملهما مع الجماهير ومن أجل الوصول الى غاياتهم السياسية والأجتماعية ، جاعلين من العقل وأساليبه وحججه مرتبة ثانية في مقاصدهما ، وبالتالي الركون للعاطفة في أثارة الجماهير هو من الخصائص المهمة في عملهما مع الجماهير.
  • خاصية الارتجال في مسرح الشارع هي من النقاط المهمة التي يتميز بها العمل المسرحي المقدم في الشارع ، كما أن هذا المبدأ في السياسة تعمل عليها الشعبوية في تعاملها مع الأحداث التي تريد زج الجماهير بها في صراعها مع الأنظمة التي تعتقدها فاسدة ، وتتبع نخب سلطوية فاسدة أيضاً.
  • السياسة ونقدها هي الهدف الاسمى التي تعملان عليه كل من مسرح الشارع والشعبوية ، وكأنهما أصبحا من أولوياتهم في العمل الجماهيري مبتعدين عن الاساليب والمعايير التي أوجدها كل من العمل السياسي التقليدي ، والفني التقليدي في مجال النقد .
إن هذه المقاربات بين المصطلحين وغيرها التي لا يسعها هذا المقال أن يشملها كلها ، فكل من المصطلحين يريدان أن يكونا الأقرب الى الجماهير والأقرب الى تطلعاتهم في مجال السياسة والفن ، وكلاهما يعملان على تحطيم القيم التي يستند اليها الطرف المقابل لهما ، فالأنظمة التي تقابل الشعبوية تمتلك مؤسسات تحدد اليات عملها من خلال المؤسسات الدستورية والسلطات الشرعية التي تعد النافذة الرسمية التي يتم من خلالها التغيير على العكس من الشعبوية التي لا تعد هذه المؤسسات هي الوسيلة الحقيقية للتغير ، بل الجماهير هي الحاكمة في طبيعة هذا التغيير من خلال الشارع والاحتجاجات ، كذلك مسرح الشارع الثائر على كل القيم الفنية والجمالية السابقة والتي يرى فيها ترف ليس الا ، كونها لا تتفاعل مع الجماهير ، بل مع النخبة التي أغلبها تكون فنية مغلقة على نفسها ، وهنا يعمل القائمون على مسرح الشارع على هدم هذه القيم لصالح بناء طريقة تواصل جديدة مع الجمهور من خلال الشارع ذاته بمسمياته وأماكنه المختلفة .

الهوامش

(1) موسوعة الجزيرة : الشعبوية.. تيار سياسي يرسم ملامح مستقبل الغرب، مفاهيم ومصطلحات .

(2) موقع معرفة : الشعبوية ، المعرفة,

(3) موسوعة الجزيرة : نفسه .

(4) فرانسيس فوكوياما : ما هي الشعبوية ؟ ترجمة: أ. م. د. حسين أحمد السرحان، شبكة النبأ المعلوماتية.

(5) د. عبد الحسين شعبان : الشعبويَّة والديمقراطيَّة ، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

(6) ألان ماكدونالد ، ستيفن ستكلي ، فيليب هوثورن : مسرح الشارع ، ترجمة : عبد الغني داود ، أحمد عبد الفتاح ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1999، ص12.

(7) مسرح الشارع.. رسالة ثقافية ارتجال فني يحاكي الحياة اليومية :صحيفة البيان الإمارتية ، صفحة :فكر وفن ، 23 رمضان 1441هـ - 16 مايو 2020 م . ثقافة .

(8) مسرح الشارع.. رسالة ثقافية ارتجال فني يحاكي الحياة اليومية :صحيفة البيان الإمارتية ، صفحة :فكر وفن ، 23 رمضان 1441هـ - 16 مايو 2020 م . ثقافة.

تعليقات

أحسنت اخي العزيز لكن هناك نصوص قدمت في مسرح الشارع في العراق كانت قد قدمت في مسرح العلبة بنفس الشخوص وفكرة العمل. خالص محبتي وتقديري
 
شكرا صديقي المبدع ... نعم صدقت لكن الموضوع يتناول المقاصد الساسية والتشابه بين الشعبوية ومسرح الشارع واكيد توجد نصوص متشابة بين مسرح العلبة ومسرح الشارع وكلاهما يشتغل على الافكار التي في الغالب ما يكون هناك تناص بينهما ... شكري وتقدير لك
 
تسلم دكتور الله يبارك فيك احتاج لكتبك ارجو ارسالهم لي انا متواجد في نقابة الفنانين عصر كل يوم. خالص محبتي وتقديري.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...