هو الحب هكذا. لا يحترم سوى نفسه.
يعجبه أن يولد في الظروف والأماكن الأكثر غرابة، كالجنائز مثلا.
في جنازته التقيتُها، وكان الحزن ينهش قلبي على فراقه المباغت إثر حادثة سير غبية. كانت جالسة بجانب والدته، وكان بإمكاني أن أتوصّل إلى معرفتها بين الملايين ودون سابق لقاء. عرفتها من كلامه عنها ومن وصفه الدقيق لها ومن نبض قلبي وهو يصرخ داخلي: إنها هي.. إنها هي.
كنا طلبة في سنتنا الدراسية الأخيرة بالجامعة بالرباط نتقاسم نفس الغرفة بالحيّ الجامعي، ولأننا كنا في الثمانينات من القرن الماضي فلم تكن لنا لا هواتف نقالة ولا فيسبوك ولا شبكة إنترنت. كان لنا التواصل المباشر والكلام لساعات في نفس المواضيع وكان موضوعه المفضل: هي. ريم ابنة عمّته التي أصابت، دون أن تدري، قلبه بعمى العشق. كان يستعين بنزار لكتابة رسالة مطولة لها، استغرق سنة دراسية كاملة في كتابتها ومات قبل أن يرسلها لفرط خجله.
من قال إن مرض الحب غير معد؟
أذكر أنني قد أصبحت أحلم بها، ببشرتها البيضاء وشعرها الأشقر وقوامها الرفيع ويديها الرقيقتين وساقيها الملولبتين.. كان مراد يملك فصاحة ودقة في التعبير لا يوازيهما سوى خجله المرضي. كنت أقول له لو أنت قلت لها ما تقوله لي عنها لجُنّت بحبك. لكن ريثما يفعل، وهذا من المستبعد جدا، فقد جننت أنا بها. ولأنه لم يكن يملك صورة لها فقد أجّج المجهول شغفي بملاك كان يبرعُ خيالي في رسم ملامحه و”الأذن تعشق قبل العين أحيانا”.
كل ليلة قبل أن ننام، ونحن مستلقيان كل على فراشه، كان يبدأ في قراءة قصيدة لنزار بصوت عال كأنه يناجيها ثم يبدأ في وصفها بكلماته الخاصة لأن نزار نفسه لن يوفّيها حقّها. مسرّبا لي فيروس حبها جرعة تلو جرعة.
وذات شجن جاءت فكرة الرسالة. تجب كتابتها أولا ثم التفكير في الكيفية التي تجعلها تتوصل بها، فالبريد العادي من سابع المستحيلات.. سنعثر على حلّ لا محالة عندما نعود خلال العطلة الصيفية إلى الصويرة، هناك سنجد وسيلة لجعلها تعانق أناملها.
كم مرّة كتب تلك الرسالة! وكم مرّة مزّقها وأعاد كتابتها! ما يمكن قوله هي أنها أروع وأرقّ وأحنّ رسالة حب كُتبت عبر التاريخ.
اقتربتُ من والدته تسبقني دموعي فإذا بها تسارع لاحتضاني وتبكي بحرقة جعلتها تهوي بين ذراعي.. نهضت ريم لتساعدني على حملها إلى غرفتها وتمديدها على فراشها. ولحظة، بينما والدة المرحوم مغمى عليها بيننا، رفعتْ عينيها الدامعتين فاخترقت ضباب عيني ولم أدر كم من الوقت ظللنا هكذا متوحدين في دمعة مالحة.
لم تزح عينيها عنّي ولم أفعل، كان الصمت سيد الموقف، كما الحزن سيد الانفعالات. ساعتها تذكرت الرسالة التي كانت بجيب سترتي، فقد كان آخر ما طلب منّي المرحوم قبل الحادثة الرهيبة أن ألتمس من أختي، زميلتها في الثانوية، أن تكون ساعية بريده وتتوسط بينهما. ها هو قد ودعنا مخلفا لي رسالة تعبر بدقة عما يعتريني من ولع وما لن أستطيع التعبير عنه بنفس الجمالية.
قلت متلعثما “ريم..” ارتبكت لسماع اسمها. “أعلم أن الوقت ليس مناسبا، أريد فقط أن أستأذنك في إرسال رسالة لك مع أختي”. طأطأت رأسها وأومأت بنعم وقد احمرّت وجنتاها.
لم أصدّق نفسي، ما هذا الذي أفكر فيه؟ وكيف أجسر على قول كهذا يوم جنازته؟ أهي طريقة نظرتها إليّ ما سرّب الشجاعة بداخلي؟ أم أنه الموت ما يجعلنا نستعجل الحياة؟
لا أعلم. يبدو أن الحب بالفعل لا يحترم شيئا سوى نفسه.
هكذا، وجدتني بعد أربعينية مراد أرسل إليها، مع أختي، الرسالة إياها بعد إعادة كتابتها بخط يدي وتغيير اسم المرسل.
بعد سنة ونصف من تسليم الرسالة، لم تفهم ريم، التي أصبحت زوجتي، سبب إصراري على أن نطلق اسم مراد على ابننا البكر.
قلت في نفسي: من يحسن الكتابة لا يموت.
فاتحة مرشيد
يعجبه أن يولد في الظروف والأماكن الأكثر غرابة، كالجنائز مثلا.
في جنازته التقيتُها، وكان الحزن ينهش قلبي على فراقه المباغت إثر حادثة سير غبية. كانت جالسة بجانب والدته، وكان بإمكاني أن أتوصّل إلى معرفتها بين الملايين ودون سابق لقاء. عرفتها من كلامه عنها ومن وصفه الدقيق لها ومن نبض قلبي وهو يصرخ داخلي: إنها هي.. إنها هي.
كنا طلبة في سنتنا الدراسية الأخيرة بالجامعة بالرباط نتقاسم نفس الغرفة بالحيّ الجامعي، ولأننا كنا في الثمانينات من القرن الماضي فلم تكن لنا لا هواتف نقالة ولا فيسبوك ولا شبكة إنترنت. كان لنا التواصل المباشر والكلام لساعات في نفس المواضيع وكان موضوعه المفضل: هي. ريم ابنة عمّته التي أصابت، دون أن تدري، قلبه بعمى العشق. كان يستعين بنزار لكتابة رسالة مطولة لها، استغرق سنة دراسية كاملة في كتابتها ومات قبل أن يرسلها لفرط خجله.
من قال إن مرض الحب غير معد؟
أذكر أنني قد أصبحت أحلم بها، ببشرتها البيضاء وشعرها الأشقر وقوامها الرفيع ويديها الرقيقتين وساقيها الملولبتين.. كان مراد يملك فصاحة ودقة في التعبير لا يوازيهما سوى خجله المرضي. كنت أقول له لو أنت قلت لها ما تقوله لي عنها لجُنّت بحبك. لكن ريثما يفعل، وهذا من المستبعد جدا، فقد جننت أنا بها. ولأنه لم يكن يملك صورة لها فقد أجّج المجهول شغفي بملاك كان يبرعُ خيالي في رسم ملامحه و”الأذن تعشق قبل العين أحيانا”.
كل ليلة قبل أن ننام، ونحن مستلقيان كل على فراشه، كان يبدأ في قراءة قصيدة لنزار بصوت عال كأنه يناجيها ثم يبدأ في وصفها بكلماته الخاصة لأن نزار نفسه لن يوفّيها حقّها. مسرّبا لي فيروس حبها جرعة تلو جرعة.
وذات شجن جاءت فكرة الرسالة. تجب كتابتها أولا ثم التفكير في الكيفية التي تجعلها تتوصل بها، فالبريد العادي من سابع المستحيلات.. سنعثر على حلّ لا محالة عندما نعود خلال العطلة الصيفية إلى الصويرة، هناك سنجد وسيلة لجعلها تعانق أناملها.
كم مرّة كتب تلك الرسالة! وكم مرّة مزّقها وأعاد كتابتها! ما يمكن قوله هي أنها أروع وأرقّ وأحنّ رسالة حب كُتبت عبر التاريخ.
اقتربتُ من والدته تسبقني دموعي فإذا بها تسارع لاحتضاني وتبكي بحرقة جعلتها تهوي بين ذراعي.. نهضت ريم لتساعدني على حملها إلى غرفتها وتمديدها على فراشها. ولحظة، بينما والدة المرحوم مغمى عليها بيننا، رفعتْ عينيها الدامعتين فاخترقت ضباب عيني ولم أدر كم من الوقت ظللنا هكذا متوحدين في دمعة مالحة.
لم تزح عينيها عنّي ولم أفعل، كان الصمت سيد الموقف، كما الحزن سيد الانفعالات. ساعتها تذكرت الرسالة التي كانت بجيب سترتي، فقد كان آخر ما طلب منّي المرحوم قبل الحادثة الرهيبة أن ألتمس من أختي، زميلتها في الثانوية، أن تكون ساعية بريده وتتوسط بينهما. ها هو قد ودعنا مخلفا لي رسالة تعبر بدقة عما يعتريني من ولع وما لن أستطيع التعبير عنه بنفس الجمالية.
قلت متلعثما “ريم..” ارتبكت لسماع اسمها. “أعلم أن الوقت ليس مناسبا، أريد فقط أن أستأذنك في إرسال رسالة لك مع أختي”. طأطأت رأسها وأومأت بنعم وقد احمرّت وجنتاها.
لم أصدّق نفسي، ما هذا الذي أفكر فيه؟ وكيف أجسر على قول كهذا يوم جنازته؟ أهي طريقة نظرتها إليّ ما سرّب الشجاعة بداخلي؟ أم أنه الموت ما يجعلنا نستعجل الحياة؟
لا أعلم. يبدو أن الحب بالفعل لا يحترم شيئا سوى نفسه.
هكذا، وجدتني بعد أربعينية مراد أرسل إليها، مع أختي، الرسالة إياها بعد إعادة كتابتها بخط يدي وتغيير اسم المرسل.
بعد سنة ونصف من تسليم الرسالة، لم تفهم ريم، التي أصبحت زوجتي، سبب إصراري على أن نطلق اسم مراد على ابننا البكر.
قلت في نفسي: من يحسن الكتابة لا يموت.
فاتحة مرشيد