كان العز عبد السلام يمضي في أحد شوارع المدينة ، وكانت رأسه نهبا لانفعالات شتى انعكست كلها علي وجهه الشاحب ، ونظراته الحائرة ، ولحيته المرتعشة . ومن آن لآخر يرفع رأسه المنكسة ، ثم يجوب بنظراته الشارع طولا وعرضا ، وسرعان ما يضع كفه فوق عينيه أسي ولوعة .. إن ما يراه أمر فظيع حقًا .. هل كان يتصور أن يصل الحقد والانحراف بسلطان دمشق ” الصالح إسماعيل ” إلي حد أن يسمح للصليبيين بدخول المدينة كي يشتروا ما يحتاجون إليه من سلاح وأقوات ؟.. هل كان يصدق أن ذلك السلطان العاق سوف يسلم إليهم بعض قلاع المسلمين ؟ .
والناس في دمشق يتساءلون في حيرة وحزن : متى ينتهي عداء الملك الصالح إسماعيل سلطان دمشق مع ابن أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر ؟ أليس عجيبا أن يستعين حاكم دمشق بالفرنجة ليؤمن ملكه ، ويحمي نفسه من ابن أخيه ؟ أهكذا تنقلب كبريات القيم ، ومقاييس الأخلاق ، ويعبث العابثون بحقائق دينهم ؟ . وغمغم ابن عبد السلام والألم يعتصر فؤاده :
– ” لن تنتهي هذه المأساة إلا بعد أن تنتهي مطامع الملوك ، ولن تنتصر علي الفرنجة إلا إذا انتصرنا علي أنفسنا ” وهيهات ” .
كان الموقف شائكًا حرجاً وطغيان السلطان لا يدع رأسًا ترتفع في اعتراض ، أو فما ينطق باحتجاج ، والسيف مصلت فوق الرقاب . وغياهب السجن الكبير علي استعداد لأن تلقف كل ما تحدثه نفسه بعصيان أو تمرد ، لكن ما معني ذلك ؟ هل نظل نصمت والخوف يبسط رواقه فوق كل مكان ، ويظل السلطان الصالح إسماعيل سادرًا في غيه ، متماديًا في انحرافه ؟ ووصل العز بن عبد السلام إلي بيته ، وجمع أهله ، ثم أرسل كلماته في تؤدة وقوة وإصرار قائلاً :
– ” هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضه ” .. وكلمة الحق فريضة .. فإذا كانت بالنسبة لعامة المسلمين فما بالكم بالعلماء ؟ .. وممالأة أعداء الدين جرم أي جرم .. وسلطان دمشق قد خان الأمانة ، وخالف أصلاً من أصول الدين .. وأنتم يا أهل بيتي خير من يفهمني ، ويفهم أن رسالة العالم ، وحقيقة الإيمان تأبي السكوت علي هذا الضيم .. ولذا قررت أن أخوض المعركة ضد الصالح إسماعيل .. وضد الفرنجة ” .
وأمسك الشيخ عن الحديث بينما ران علي الجميع صمت عميق قطعه الشيخ قائلاً :
فما ترون ؟ ..
فغمغم ابنه عبد اللطيف :
إنك يا أبتي أضعف من أن تتحدي السلطان ، أو تشهر في وجه أنضاره سيفًا ..
فأسرع الشيخ قائلاً في حدة :
غفر الله لك يا بني .. إن كلمة الحق وحدها جيش كامل العدة والعتاد .. وقد قررت أن أقولها .. أتحسب أن أباك يحرص علي حياته ومنصبه ؟ ..
فما الفرق إذن بيني وين السلطان إذا كان هو حريص علي ملكه وأنا حريص علي متاع دنياي ومغرياتها ؟.. سأمشي بين الناس يا عبد اللطيف .. وسأقول لهم فتواي : إن من يتعامل مع الفرنجة المعتدين فهو آثم .. ومن يبيع لهم السلاح أو القوت فهو آثم .. والاستعانة بهم علي إخواننا في مصر ذنب كبير والآن استودعكم الله .
وشاعت في دمشق كلها فتوى الشيخ العز بن عبد السلام ، وتناقلتها الأفواه من مكان إلي مكان ، واهتزت قوائم عرش السلطان وخاصة عندما وقف ابن عبد السلام علي منصب المجتمع الكبير في دمشق ، وأعلنها صيحة مدوية ، وشعر الشيخ الجليل وهو يهاجم السلطان ، ويذم فعلته الشنعاء شعر بغير قليل من الارتياح خاصة حينما أخذ ينتقل ببصره بين الألوف التي احتشدت في المسجد ، والتي أخذت تنصت إلي كلامه ، باهتمام بالغ ، وشغف زائد آنذاك ، وعيونهم تبرق في اعتداد وكبرياء .. أليس فيهم رجل – باله من رجل – يصرخ بما يعتمل في نفوسهم ، ويثور علي السلطان الخائن ويطلق كلمة الحق دون خوف أو وجل ؟!.. ولم يكتف الشيخ بذلك ، بل قطع من الخطبة الدعاء للسلطان وأخذ يدعو قائلاً :
” اللهم إبرام رشد ، تعز فيه أولياءك ، وتذل فيه أعداءك ، ويعمل فيه بطاعتك ، وينهي فيه معصيتك ” .. والناس من حوله يضجون بالدعاء وكأنهم الرعد القاصف .
وصدر أمر السلطان باعتقاله في بيته فلا يزور ولا يزار وعزله من الخطابة في مسجد دمشق ، ومن التدريس أيضًا ، فلا إفتاء ولا وعظ ….. وقال الشيخ لابنه عبد اللطيف في آسي عميق : ها أنت تري يا بني أن أباك أحقر من أن يقتل في سبيل الله إن قصارى ما فعله السلطان هو عزلي عن مناصبي .. إنه شيء فظيع في حد ذاته لكن الذي يزعجني حقيقة هو هذا السجن القاسي ، إني يا بني لا أستطيع أن أعيش سعيدا بعيدا عن عامة الناس .. أتوق دائما إلي الحديث معهم ، ومناقشة قضاياهم ومشاكلهم .. أحس عندئذ أنني أحيا أنني أعبد الله بطريقة مجدية وأحس أيضا أن مشاعري مختلطة بمشاعرهم فكأننا جسد واحد .. بناء واحد يا ولدي ، ولهذا قررت أن أهاجر إلي مصر .. سواء رضي السلطان أم لم يرض .. سأجد هناك إخواننا لنا .. وسأبدأ المعركة أعني سأواصلها .
أحس السلطان أن دمشق من حوله تغلي ، وأن الجو مشحون بالخنق والتحفز ، خاصة بعد أن ارتحل الشيخ العز بن عبد السلام صوب بيت المقدس مهاجرًا ، ولهذا جمع ما تيسر من الجنود وسار يصحبه عدد كبير من جند الفرنجة في طريقه إلي مصر لينقض علي ابن أخيه السلطان كي يضع حد لمخاوفه ، ويأمن علي نفسه وعلي ملكه . وكان السلطان من السذاجة بحيث كان يأمل أن يرجع الشيخ العز بن عبد السلام عن رأيه ، ويضمه إلي صفه ، ولهذا فكر في أن يلحق به ويستميله من جديد ؛ لأنه إذا نجح في ذلك سوف يحقق نصرا أدبيا كبيرا ، فهو رجل يحترمه الناس ، وينصاع لرأيه الكثيرون ، ويدين له العامة بالحب والولاء وهذا ما جعله يبقي علي حياته .
وحينما وصلت جيوش الصالح إسماعيل والفرنجة إلي بيت المقدس ، سير بعض خواصه إلي الشيخ بمنديل ، وقال له : تدفع منديلي إلي الشيخ ، وتتلطف به غاية التلطف ، وتستنزله وتعده بالعودة إلي مناصبه علي أحسن حال ، فإن وافقك فتدخل به علي ، وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلي جانب خيمتي .. فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ثم قال له :
– ” بينك وبين أن تعود إلي مناصبك وما كنت عليه وزيادة ، أن تنكسر للسلطان ، وتقبل يده لا غير ..
فابتسم الشيخ في سخرية مرة ، ثم قال دون وجل أو إبطاء ..
– ” والله يا مسكين ، ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده .. يا قوم أنتم في واد ، وأنا في واد ، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به .. افعلوا ما بدا لكم ” .
وبقي الشيخ في أسره ومن حوله الحراس والعيون ، وشبح الموت يحوم فوق خيمته في كل لحظة ، وعلي الرغم مما كان يقاسيه من أذي وإرهاب ، فإنه بقي كما هو صابرًا صامدًا ، لا يخيقه قهر ، أو ينال منه إيذاء يقضي وقته في قراءة القرآن ، والابتهال إلي الله كي تنجاب هذه الغمة ، وتذهب هذه الفتنة الرعناء وتنمحي تلك الأحقاد الصغيرة ، والمطامع الذاتية الفانية ، ولم يتزعزع إيمانه قط ، فقد كان واثقا أن الله لابد مفرج كربته ، ومؤيدًا لجهاده ..
وحينما اقترب منه الخطر ، وأصبح قاب قوسين أو أدني من الموت ، فوجئ بيت المقدس بجموع غفيرة من جنود مصر يقودها الملك نجم الدين أيوب ، وانقضت علي قوات الفرنجة وقوات الصالح إسماعيل ، فمزقت شملهم وأشبعتهم قتلاً وتنكيلاً ، والسعيد من نجا بجلده ، وبين عشية وضحاها ذهب الخائن وأتباعه .. وضاع ملكهم ، وأصبح أثرًا بعد عين .. وزحف موكب الحرية والحب والأمل من جديد .. أما الشيخ العز بن عبد السلام فقد كان في سجنه الصغير ، يقف وعيناه مشدودتان إلي السماء ، مخضلتان بالدموع ؛ دموع الشكر والاعتراف بالجميل وأحس وهو مستغرق في ابتهالاته بيد تمسح علي كتفه في حنان وتقدير :
أيها الشيخ الجلي .. يا سلطان العلماء .. الطريق إلي مصر مفتوح أمامك ، فلتذهب أني شئت ..
وغمغم الشيخ في أسف :
– ” وأين الخونة والمعتدون ” ؟ .. لقد دالت دولتهم .. وانتهوا .. ولم يبق أحدًا ”
– ” أجل .. ذهبوا .. وبقيت كلمة الحق .. لأنها لن تموت .. إلي مصر غدًا .
د . نجيب الكيلاني
والناس في دمشق يتساءلون في حيرة وحزن : متى ينتهي عداء الملك الصالح إسماعيل سلطان دمشق مع ابن أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر ؟ أليس عجيبا أن يستعين حاكم دمشق بالفرنجة ليؤمن ملكه ، ويحمي نفسه من ابن أخيه ؟ أهكذا تنقلب كبريات القيم ، ومقاييس الأخلاق ، ويعبث العابثون بحقائق دينهم ؟ . وغمغم ابن عبد السلام والألم يعتصر فؤاده :
– ” لن تنتهي هذه المأساة إلا بعد أن تنتهي مطامع الملوك ، ولن تنتصر علي الفرنجة إلا إذا انتصرنا علي أنفسنا ” وهيهات ” .
كان الموقف شائكًا حرجاً وطغيان السلطان لا يدع رأسًا ترتفع في اعتراض ، أو فما ينطق باحتجاج ، والسيف مصلت فوق الرقاب . وغياهب السجن الكبير علي استعداد لأن تلقف كل ما تحدثه نفسه بعصيان أو تمرد ، لكن ما معني ذلك ؟ هل نظل نصمت والخوف يبسط رواقه فوق كل مكان ، ويظل السلطان الصالح إسماعيل سادرًا في غيه ، متماديًا في انحرافه ؟ ووصل العز بن عبد السلام إلي بيته ، وجمع أهله ، ثم أرسل كلماته في تؤدة وقوة وإصرار قائلاً :
– ” هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضه ” .. وكلمة الحق فريضة .. فإذا كانت بالنسبة لعامة المسلمين فما بالكم بالعلماء ؟ .. وممالأة أعداء الدين جرم أي جرم .. وسلطان دمشق قد خان الأمانة ، وخالف أصلاً من أصول الدين .. وأنتم يا أهل بيتي خير من يفهمني ، ويفهم أن رسالة العالم ، وحقيقة الإيمان تأبي السكوت علي هذا الضيم .. ولذا قررت أن أخوض المعركة ضد الصالح إسماعيل .. وضد الفرنجة ” .
وأمسك الشيخ عن الحديث بينما ران علي الجميع صمت عميق قطعه الشيخ قائلاً :
فما ترون ؟ ..
فغمغم ابنه عبد اللطيف :
إنك يا أبتي أضعف من أن تتحدي السلطان ، أو تشهر في وجه أنضاره سيفًا ..
فأسرع الشيخ قائلاً في حدة :
غفر الله لك يا بني .. إن كلمة الحق وحدها جيش كامل العدة والعتاد .. وقد قررت أن أقولها .. أتحسب أن أباك يحرص علي حياته ومنصبه ؟ ..
فما الفرق إذن بيني وين السلطان إذا كان هو حريص علي ملكه وأنا حريص علي متاع دنياي ومغرياتها ؟.. سأمشي بين الناس يا عبد اللطيف .. وسأقول لهم فتواي : إن من يتعامل مع الفرنجة المعتدين فهو آثم .. ومن يبيع لهم السلاح أو القوت فهو آثم .. والاستعانة بهم علي إخواننا في مصر ذنب كبير والآن استودعكم الله .
وشاعت في دمشق كلها فتوى الشيخ العز بن عبد السلام ، وتناقلتها الأفواه من مكان إلي مكان ، واهتزت قوائم عرش السلطان وخاصة عندما وقف ابن عبد السلام علي منصب المجتمع الكبير في دمشق ، وأعلنها صيحة مدوية ، وشعر الشيخ الجليل وهو يهاجم السلطان ، ويذم فعلته الشنعاء شعر بغير قليل من الارتياح خاصة حينما أخذ ينتقل ببصره بين الألوف التي احتشدت في المسجد ، والتي أخذت تنصت إلي كلامه ، باهتمام بالغ ، وشغف زائد آنذاك ، وعيونهم تبرق في اعتداد وكبرياء .. أليس فيهم رجل – باله من رجل – يصرخ بما يعتمل في نفوسهم ، ويثور علي السلطان الخائن ويطلق كلمة الحق دون خوف أو وجل ؟!.. ولم يكتف الشيخ بذلك ، بل قطع من الخطبة الدعاء للسلطان وأخذ يدعو قائلاً :
” اللهم إبرام رشد ، تعز فيه أولياءك ، وتذل فيه أعداءك ، ويعمل فيه بطاعتك ، وينهي فيه معصيتك ” .. والناس من حوله يضجون بالدعاء وكأنهم الرعد القاصف .
وصدر أمر السلطان باعتقاله في بيته فلا يزور ولا يزار وعزله من الخطابة في مسجد دمشق ، ومن التدريس أيضًا ، فلا إفتاء ولا وعظ ….. وقال الشيخ لابنه عبد اللطيف في آسي عميق : ها أنت تري يا بني أن أباك أحقر من أن يقتل في سبيل الله إن قصارى ما فعله السلطان هو عزلي عن مناصبي .. إنه شيء فظيع في حد ذاته لكن الذي يزعجني حقيقة هو هذا السجن القاسي ، إني يا بني لا أستطيع أن أعيش سعيدا بعيدا عن عامة الناس .. أتوق دائما إلي الحديث معهم ، ومناقشة قضاياهم ومشاكلهم .. أحس عندئذ أنني أحيا أنني أعبد الله بطريقة مجدية وأحس أيضا أن مشاعري مختلطة بمشاعرهم فكأننا جسد واحد .. بناء واحد يا ولدي ، ولهذا قررت أن أهاجر إلي مصر .. سواء رضي السلطان أم لم يرض .. سأجد هناك إخواننا لنا .. وسأبدأ المعركة أعني سأواصلها .
أحس السلطان أن دمشق من حوله تغلي ، وأن الجو مشحون بالخنق والتحفز ، خاصة بعد أن ارتحل الشيخ العز بن عبد السلام صوب بيت المقدس مهاجرًا ، ولهذا جمع ما تيسر من الجنود وسار يصحبه عدد كبير من جند الفرنجة في طريقه إلي مصر لينقض علي ابن أخيه السلطان كي يضع حد لمخاوفه ، ويأمن علي نفسه وعلي ملكه . وكان السلطان من السذاجة بحيث كان يأمل أن يرجع الشيخ العز بن عبد السلام عن رأيه ، ويضمه إلي صفه ، ولهذا فكر في أن يلحق به ويستميله من جديد ؛ لأنه إذا نجح في ذلك سوف يحقق نصرا أدبيا كبيرا ، فهو رجل يحترمه الناس ، وينصاع لرأيه الكثيرون ، ويدين له العامة بالحب والولاء وهذا ما جعله يبقي علي حياته .
وحينما وصلت جيوش الصالح إسماعيل والفرنجة إلي بيت المقدس ، سير بعض خواصه إلي الشيخ بمنديل ، وقال له : تدفع منديلي إلي الشيخ ، وتتلطف به غاية التلطف ، وتستنزله وتعده بالعودة إلي مناصبه علي أحسن حال ، فإن وافقك فتدخل به علي ، وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلي جانب خيمتي .. فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ثم قال له :
– ” بينك وبين أن تعود إلي مناصبك وما كنت عليه وزيادة ، أن تنكسر للسلطان ، وتقبل يده لا غير ..
فابتسم الشيخ في سخرية مرة ، ثم قال دون وجل أو إبطاء ..
– ” والله يا مسكين ، ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده .. يا قوم أنتم في واد ، وأنا في واد ، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به .. افعلوا ما بدا لكم ” .
وبقي الشيخ في أسره ومن حوله الحراس والعيون ، وشبح الموت يحوم فوق خيمته في كل لحظة ، وعلي الرغم مما كان يقاسيه من أذي وإرهاب ، فإنه بقي كما هو صابرًا صامدًا ، لا يخيقه قهر ، أو ينال منه إيذاء يقضي وقته في قراءة القرآن ، والابتهال إلي الله كي تنجاب هذه الغمة ، وتذهب هذه الفتنة الرعناء وتنمحي تلك الأحقاد الصغيرة ، والمطامع الذاتية الفانية ، ولم يتزعزع إيمانه قط ، فقد كان واثقا أن الله لابد مفرج كربته ، ومؤيدًا لجهاده ..
وحينما اقترب منه الخطر ، وأصبح قاب قوسين أو أدني من الموت ، فوجئ بيت المقدس بجموع غفيرة من جنود مصر يقودها الملك نجم الدين أيوب ، وانقضت علي قوات الفرنجة وقوات الصالح إسماعيل ، فمزقت شملهم وأشبعتهم قتلاً وتنكيلاً ، والسعيد من نجا بجلده ، وبين عشية وضحاها ذهب الخائن وأتباعه .. وضاع ملكهم ، وأصبح أثرًا بعد عين .. وزحف موكب الحرية والحب والأمل من جديد .. أما الشيخ العز بن عبد السلام فقد كان في سجنه الصغير ، يقف وعيناه مشدودتان إلي السماء ، مخضلتان بالدموع ؛ دموع الشكر والاعتراف بالجميل وأحس وهو مستغرق في ابتهالاته بيد تمسح علي كتفه في حنان وتقدير :
أيها الشيخ الجلي .. يا سلطان العلماء .. الطريق إلي مصر مفتوح أمامك ، فلتذهب أني شئت ..
وغمغم الشيخ في أسف :
– ” وأين الخونة والمعتدون ” ؟ .. لقد دالت دولتهم .. وانتهوا .. ولم يبق أحدًا ”
– ” أجل .. ذهبوا .. وبقيت كلمة الحق .. لأنها لن تموت .. إلي مصر غدًا .
د . نجيب الكيلاني