ما عاد الرجل الذي كان من قبل. هو نفسه كان منشغلا برصد حجم التغير الذي كانت تفصح عنه نظرات الناس وهم يتابعونه. ولم يجد بدا من ان يضع تقديرا في حال ان كانت قامته هي التي طالت،او ما ان كان الآخررون هم الذين تقزموا.
موسي مراقب رخص السفر كان أول من تحدث إليه وهو ينزل من الحافلة. ظل ينظر أليه غير مصدق وبعدها قال: كأن القدر كان في سنة أو غفلة وهو يوزع النصيب.
عانقه و أجاب؛ العبث راحة. و الصرامة حين تمتد بلا نهاية، تصبح علة و آفة. لكن لماذا كل هذا؟
عقب موسى: في كل سفرياتك كنت تعود منهكا و مفلسا، و كأنك كنت تذهب لتشتري الذكريات وتخزنها لزمن شاحب قادم. لكن الآن تبدو واثقا وكأنك مطمئن لشكل المستقبل.
المستقبل؟
ما هو المستقبل؟ و ماذا كان من قبل، و ماذا صار الآن؟...
في كل المرات التي فكر فيها في شئ لم يحدث بعد، أو منى نفسه به ، كان يجد نفسه امام حالة وحيدة لا تتبدل. منه يبدأ الشئ و إليه ينتهي. كل الاشياء و في كل الازمنة كانت تخصه لوحده. لم يستحضر الآخرين و لم يراهن على شئ.و زحفه في الحياة لم يتقاطع فيه مع أحد. ميراثه من أمه كان زاده في الحياة. قد لا يغطيها كلها ، و لكنه و لكي لا يجعل احد يتحمل تبعات ذلك إن أصبح مفلسا، فقد قرر ان يكون هو نهاية السلالة التي انحدر منها. و في حال استمرارها ، فيتوجب أن تكون بلا صلة معلنة، و مجهولة الاصل و الهوية. لكن مع ذلك كان يؤرقه في هذه الحال أن يتولى الآخرون دفع ثمن التبعات. لكنه لم يخلق من أجل أن يكدح.
تلوح صور أجداد الحاج عمور في تراصها و تسلسلها قبالته، و يسترجع سؤال أجداده له. ماذا عنك؟
موسى سحبه للحظته قائلا: لا أعرف ما يدور في بالك،لكني أتوقع أن تكسد تجارتك، فلن يكون بمقدور أحد التكهن بما يمكن أن يحدث حين ستتوقف زوجته أمام قدسية مقامك.
انبهار الناس من شكله شجعه على المضي في استعراضه. و من ثم كان لابد ان يعرج على الحانة. و حين ولجها، أحدث جلبة و اثار فضولا و تعليقات انطلقت من كل جانب احتفاء بنجم سطع بعد غياب ليس بقصير.لكنه لم يأبه بكل هذا. تسمر في المكان نفسه الذي رآها منه أول مرة. و شعر بنفس الحاجز يفصل بينهما. هي عاهرة النخبة. وهو نكرة يبحث عن تعريف. لم يكن بإمكانه سوى قياس المسافة الفاصلة بينهما. بضع خطوات لا غير. لكن هل هي كذلك؟ لا. انها بحجم الفارق الذي يفصله عن الحاج عمور. وهو حين حاول أن يحتضنها أول مرة ،اكتشف حجم التكثيف الذي يختزله كل ميلمتر يفصله عنها. وما يساويه من ألم و أذى. وفهم أن المضي قدما في قطع ما تبقى قد يكلفه حياته فلا يصل إليها آلا شهيدا. لكنه الآن في ظل تحول مثير يتمنى أن يكون قد غير من الظروف شيئا. و الجلبة التي أحدثها دخوله تؤكد ذلك. لقد تصايحوا و هبوا جميعا للقائه. وهو وقف يستعرض شكله المثير كأول رجل في المنطقة يابس لباسا عصريا برباط عنق. لكن لا يبدو ان ذلك قد أثار فيها شيئا. لحد أنه يعتقد الآن أن القدر أحيانا تكون طبقاته بسمك ضخم من المستحيل اختراقه.
في أول حضور له في السوق الأسبوعي، علته نفس الدهشة تقريبا التي أحس بها يوم زار السوق أول مرة رفقة أمه. فقد كانت المرة الأولى التي يرى فيها تجمعا بذلك الحجم و التنوع. و طوال وجوده داخله ، لم يستطع التركيز على شئ. كل صورة و كل وجه كان يشغله للحظة لينتزعه مشهد آخر أو واقعة أخرى. و لم يفهم لماذا ترتفع الاصوات بذلك الشكل الذي كان يجعلها تصل الى ابعد مكان. و لا لماذا تتوالى المشاهد بذاك التسارع و التعاقب ذو الوثيرة المرتفعة و كأن شئ ما يطارد العالم.
الآن هو يحضر للسوق بغاية و صفة أخرى. هو تاجر، و يفترض أنه حضر لكي يحصل على نصيبه من السيولة المالية التي تروج في السوق. لكنه لا يشعر أن هذا قد تحول لديه الى هاجس. غير أنه مهتم بأن يعرف العالم انه أصبح تاجرا. و لعل تلقائيته و روحه المرحة و فضول الناس قد اختصرت عليه المهمة. وهو ما يفسر كيف تجمع الناس حوله مستعرضين ما يعرضه من بضاعة. و لم يشك لحظة في أن رجال الجبل كان لهم تأثير في ذلك التجمع الذي أثار حتى الباعة المجاورين. هل ذلك هو النجاح؟
لا يشعر بأنه حقق إنجازا يبيح له أن يسعد و يفرح. ربما لأن النجاح لا يكون دائما بنفس التعريف عند كل الناس. وهو في النهاية يجد نفسه لا يختلف عن مولود . يتنفس. يتغذى. يبكي أو يضحك تبعا للأحوال، لكنه يدين في كل شئ للآخرين. وهم من يكسبونه الاسم و الصفات و النعوت. وهم من ييسرون أو يعسرون له المسلك الذي سيقطعه كحياة. و ربما لهذا هو يشعر أن كل ما حوله زائف. و يعتبر نفسه بشكل ما غير معني حتى و إن بدا له انه نجح في مد خطوة نحو كسب داخل لعبة مسلية. و الربح المعنوي هو بوابة الربح المادي. هكذا قال له الحاج عمور. غير أنه لا يشعر بأن له روح تاجر. و إن أوجدته الصدف هنا، فلأنه مجرد ممثل لم يتضح له الدور المسند إليه بعد بشكل كامل. و مع ذلك فالامر لا يخلو من فائدة. و الكثير مما قاله الحاج عمور يجد صدى في نفسه. ليس كساع لربح، و إنما كإنسان يسعى لمعرفة أسرار الحياة.
يضحك وهو يستعيد إحدى مقولاته" اللي ما يضرب السداسي، و يخرج فالخماسي، ماشي فاسي".
يتساءل: هل الفاسي هو وضع مرتبط بالكسب المادي، أم بالنسب؟
ربما قصد الحاج أن الإنسان بدون كسب مادي، لا قيمة له. لكن ما رآه بعينيه هو أكبر من هذا التعريف. فليس كل من جمع مالا فاسيا. كما أن الذي يتغوط خلف جدران بيته في العراء، لا يمكن أن يكون فاسيا حتى لو جمع كل أموال المعمور...
.
.
https://www.facebook.com/bakkali.abdh/posts/10157063448146976
موسي مراقب رخص السفر كان أول من تحدث إليه وهو ينزل من الحافلة. ظل ينظر أليه غير مصدق وبعدها قال: كأن القدر كان في سنة أو غفلة وهو يوزع النصيب.
عانقه و أجاب؛ العبث راحة. و الصرامة حين تمتد بلا نهاية، تصبح علة و آفة. لكن لماذا كل هذا؟
عقب موسى: في كل سفرياتك كنت تعود منهكا و مفلسا، و كأنك كنت تذهب لتشتري الذكريات وتخزنها لزمن شاحب قادم. لكن الآن تبدو واثقا وكأنك مطمئن لشكل المستقبل.
المستقبل؟
ما هو المستقبل؟ و ماذا كان من قبل، و ماذا صار الآن؟...
في كل المرات التي فكر فيها في شئ لم يحدث بعد، أو منى نفسه به ، كان يجد نفسه امام حالة وحيدة لا تتبدل. منه يبدأ الشئ و إليه ينتهي. كل الاشياء و في كل الازمنة كانت تخصه لوحده. لم يستحضر الآخرين و لم يراهن على شئ.و زحفه في الحياة لم يتقاطع فيه مع أحد. ميراثه من أمه كان زاده في الحياة. قد لا يغطيها كلها ، و لكنه و لكي لا يجعل احد يتحمل تبعات ذلك إن أصبح مفلسا، فقد قرر ان يكون هو نهاية السلالة التي انحدر منها. و في حال استمرارها ، فيتوجب أن تكون بلا صلة معلنة، و مجهولة الاصل و الهوية. لكن مع ذلك كان يؤرقه في هذه الحال أن يتولى الآخرون دفع ثمن التبعات. لكنه لم يخلق من أجل أن يكدح.
تلوح صور أجداد الحاج عمور في تراصها و تسلسلها قبالته، و يسترجع سؤال أجداده له. ماذا عنك؟
موسى سحبه للحظته قائلا: لا أعرف ما يدور في بالك،لكني أتوقع أن تكسد تجارتك، فلن يكون بمقدور أحد التكهن بما يمكن أن يحدث حين ستتوقف زوجته أمام قدسية مقامك.
انبهار الناس من شكله شجعه على المضي في استعراضه. و من ثم كان لابد ان يعرج على الحانة. و حين ولجها، أحدث جلبة و اثار فضولا و تعليقات انطلقت من كل جانب احتفاء بنجم سطع بعد غياب ليس بقصير.لكنه لم يأبه بكل هذا. تسمر في المكان نفسه الذي رآها منه أول مرة. و شعر بنفس الحاجز يفصل بينهما. هي عاهرة النخبة. وهو نكرة يبحث عن تعريف. لم يكن بإمكانه سوى قياس المسافة الفاصلة بينهما. بضع خطوات لا غير. لكن هل هي كذلك؟ لا. انها بحجم الفارق الذي يفصله عن الحاج عمور. وهو حين حاول أن يحتضنها أول مرة ،اكتشف حجم التكثيف الذي يختزله كل ميلمتر يفصله عنها. وما يساويه من ألم و أذى. وفهم أن المضي قدما في قطع ما تبقى قد يكلفه حياته فلا يصل إليها آلا شهيدا. لكنه الآن في ظل تحول مثير يتمنى أن يكون قد غير من الظروف شيئا. و الجلبة التي أحدثها دخوله تؤكد ذلك. لقد تصايحوا و هبوا جميعا للقائه. وهو وقف يستعرض شكله المثير كأول رجل في المنطقة يابس لباسا عصريا برباط عنق. لكن لا يبدو ان ذلك قد أثار فيها شيئا. لحد أنه يعتقد الآن أن القدر أحيانا تكون طبقاته بسمك ضخم من المستحيل اختراقه.
في أول حضور له في السوق الأسبوعي، علته نفس الدهشة تقريبا التي أحس بها يوم زار السوق أول مرة رفقة أمه. فقد كانت المرة الأولى التي يرى فيها تجمعا بذلك الحجم و التنوع. و طوال وجوده داخله ، لم يستطع التركيز على شئ. كل صورة و كل وجه كان يشغله للحظة لينتزعه مشهد آخر أو واقعة أخرى. و لم يفهم لماذا ترتفع الاصوات بذلك الشكل الذي كان يجعلها تصل الى ابعد مكان. و لا لماذا تتوالى المشاهد بذاك التسارع و التعاقب ذو الوثيرة المرتفعة و كأن شئ ما يطارد العالم.
الآن هو يحضر للسوق بغاية و صفة أخرى. هو تاجر، و يفترض أنه حضر لكي يحصل على نصيبه من السيولة المالية التي تروج في السوق. لكنه لا يشعر أن هذا قد تحول لديه الى هاجس. غير أنه مهتم بأن يعرف العالم انه أصبح تاجرا. و لعل تلقائيته و روحه المرحة و فضول الناس قد اختصرت عليه المهمة. وهو ما يفسر كيف تجمع الناس حوله مستعرضين ما يعرضه من بضاعة. و لم يشك لحظة في أن رجال الجبل كان لهم تأثير في ذلك التجمع الذي أثار حتى الباعة المجاورين. هل ذلك هو النجاح؟
لا يشعر بأنه حقق إنجازا يبيح له أن يسعد و يفرح. ربما لأن النجاح لا يكون دائما بنفس التعريف عند كل الناس. وهو في النهاية يجد نفسه لا يختلف عن مولود . يتنفس. يتغذى. يبكي أو يضحك تبعا للأحوال، لكنه يدين في كل شئ للآخرين. وهم من يكسبونه الاسم و الصفات و النعوت. وهم من ييسرون أو يعسرون له المسلك الذي سيقطعه كحياة. و ربما لهذا هو يشعر أن كل ما حوله زائف. و يعتبر نفسه بشكل ما غير معني حتى و إن بدا له انه نجح في مد خطوة نحو كسب داخل لعبة مسلية. و الربح المعنوي هو بوابة الربح المادي. هكذا قال له الحاج عمور. غير أنه لا يشعر بأن له روح تاجر. و إن أوجدته الصدف هنا، فلأنه مجرد ممثل لم يتضح له الدور المسند إليه بعد بشكل كامل. و مع ذلك فالامر لا يخلو من فائدة. و الكثير مما قاله الحاج عمور يجد صدى في نفسه. ليس كساع لربح، و إنما كإنسان يسعى لمعرفة أسرار الحياة.
يضحك وهو يستعيد إحدى مقولاته" اللي ما يضرب السداسي، و يخرج فالخماسي، ماشي فاسي".
يتساءل: هل الفاسي هو وضع مرتبط بالكسب المادي، أم بالنسب؟
ربما قصد الحاج أن الإنسان بدون كسب مادي، لا قيمة له. لكن ما رآه بعينيه هو أكبر من هذا التعريف. فليس كل من جمع مالا فاسيا. كما أن الذي يتغوط خلف جدران بيته في العراء، لا يمكن أن يكون فاسيا حتى لو جمع كل أموال المعمور...
.
.
https://www.facebook.com/bakkali.abdh/posts/10157063448146976