محمد بنيس - المعنى و ما يبقى

"...وإذا كان كل واحد منا يتمنّى ألا يحدث لنا ما حصل في الصين أو إيران أو إيطاليا، فالتمني وحده لا يكفي. ثمة معطى يتحدى ما نتمناه. وهو يعمل رغماً عنا، فضلاً عن أننا لا نتوافر، للأسف، على ما يلزم من المعدات الطبية لتأمين العلاج لعدد كبير من المصابين المحتملين من العدوى.
أنظر إلى احتمال كهذا، وأنا ألزم البيت كما يلزمه غيري، أو يستعد للزومه. لزوم البيت لفترة لا نعرف عنها شيئاً. أما مقاومة أيّ واحد منّا للوباء فتعني، على مستوى التفكير، ألا ننسى ما يمكن أن تقدمه لنا قراءة أعمال أدبية وربط الصلة مع أعمال فنية. ورغم أن الأدب والفنون لا تقينا من عدوى الوباء، وليست بديلاً عن العلاج الطبي، فهي تنقلنا، نفسياً وتخيُّلياً، إلى عالم أرحب، فيه الكثير من الضوء. هذا ما يعلمنا إياه الأدب وتغوينا به الفنون. عزلتنا كعائلة صغيرة، أو كفرد وحيد، في البيت لأيام (أو لأسابيع)، محرومين من الاتصال بمن تعوّدنا على اللقاء بهم أو العمل معهم، يمكن للأدب والفنون أن تمنحنا فيها فرصة تجديد صلتنا المبدعة بالحياة. ففي عزلتنا داخل البيت، وفي صمتنا، نحتاج إلى الإبداع في مواجهة الوباء. هذا اختياري في الحياة التي أتعلق بها، وبالشعر أعيشها، من خلال الطاقة التي يُمدّني بها، في الإحساس والرؤية والتساؤل. تقول لي نفسي، وأحب أن أتقاسم ما تقوله لي مع سواي. كهذا يكون بيني وبين الآخرين ما يجب من التضامن. لا كلفةَ في موقف مشترك لمواجهة الوباء، ولا عبءَ في مواجهة كل أنواع الاستسلام أو التفريط في القراءة، خاصة قراءة الشعر الذي يزوّدني بإبداع طاقة البقاء، وجهاً لوجه مع الحياة.
لهذا أعطي للشعر قوة العاصفة التي لها أن تهبّ من جميع جهات الأرض على الوباء، حتى نقول «لا» لما يتسبب فيه تدميرُ البيئة من مآسٍ للبشرية، ونقول «لا» للعولمة التي تعطي الأسبقية لطغيان رأس المال واستفحال الهيمنة، ونقول «لا» للفزع الذي ينزع عني وعنك صفة الشخص المواجه للبلايا، ومنها هذا الوباء.
هي عاصفة الصفاء الذي تقدمه القصيدة عبر تاريخها الطويل. بهذه العاصفة أمتثل، من دون تلكؤ، للنصائح الطبية التي لا بدّ من احترامها، وبها أحيّي الهيئة الطبية التي تعمل، متضامنة عبر العالم، على إنقاذ حياة أفراد عاجزين عن التصدي لطاغوت الوباء، وبها أفكر في المآسي.
عاصفة الشعر أو عاصفة الصفاء. فالشعر هو نبع الحيوية التي ترافق كلَّ واحد منا في عزلته، في صمته، وفي حلمه بأن يسعد، في مارس من كل عام، برؤية زهور التفاح، والبرتقال والليمون واللوز، أن يرافق الهواء من يوم ليوم في عالم منفتح، يدلّنا الشعر، نبعُ الصفاء، عليه."
من :
عاصفة الشعر على الوباء
محمد بنيس


ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...