عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل «الجنون» بمعناه الشعبي الساذج، والذي يتمثل في صورة «الدرويش» أو الأحمق الذي يتفوه بكل ما هو «غير مألوف» ويتصرف بطريقة غريبة، ثم امتد المعنى ليطلق بصورة أدبية ومجازية على حالات الهيام والعشق، وهي صورة كرستها قصائد الشعراء في كل الثقافات «مجنون ليلى» حيث اعتبرت حالات الشرود الذهني وأحلام اليقظة التي يعيشها العاشق بوصفها «حالة جنون».
واستمر هذا المعنى الشعبي الذي وجد عند كل المجتمعات منذ القدم، في الموروث الشعبي من قصائد وأمثال وأساطير وحكايات تدور جميعها حول فكرة واحدة، وهي أن «المجنون» شخص غير سوي يفكر بطريقة مختلفة ويتصرف بطريقة مختلفة عما هو سائد ومألوف عند الناس.
ثم ما لبث الإنسان أن استغل هذه الظاهرة الشاذة لتكريس السلطة، والتي بدأت معها حالات الإقصاء والنبذ تأخذ أشكالا أكثر حدة وقسوة، إذ لم يسلم كل صاحب رأي مخالف أو فكر جديد من تهمة الجنون، حتى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لم يسلم من هذه التهمة التي حاول زعماء قريش ترويجها لصد دعوة الإسلام فقالوا (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ـ الشعراء 26)، وهكذا واجه ولايزال كثير من المفكرين والدعاة وأصحاب فكر التجديد هذه التهمة الجاهزة التي تسهل بشكل صارخ نبذ صاحبها وإقصاءه عن المجتمع.
واستمر الحال كذلك إلى أن تغيرت هذه الصورة مع التحول الكبير الذي أحدثه فيليب بينيل وصموئيل توك في القرن التاسع عشر حيث تعاملا مع هذه الظاهرة لأول مرة في تاريخ البشرية بوصفها «حالة مرضية» تستدعي العلاج المبني على أسس علمية، فكان لجهودهما الفضل في تحول المارستانات والمعازل التي كانت مكانا لنبذ وإقصاء «المجذومين والمجذوبين» إلى «المستشفى» الذي يتلقى فيه المريض العلاج المناسب، كما تحول «المجنون» من وحش ودرويش إلى مريض بالمعنى العلمي الحديث، وأصبح لهذا المرض مصطلحاته ومفاهيمه وتقسيماته التي تميز بين حالة وأخرى وتضع لكل منها العلاج والأدوية.
غير أن هذا التحول الكبير لم يكن دوما كما ينبغي له أن يكون، إذ لاتزال كثير من المجتمعات تنظر للمجنون نظرة تخوف واحتراز، كما لاتزال حالات النبذ والإقصاء تمارس ضد المرضى النفسيين أو العقليين والتي فيها الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان، بل إن كثيرا من هذه الانتهاكات تمارس حتى اليوم بصورة علنية ومقننة في أجنحة مستشفيات الطب النفسي وعلى أسرة الأطباء النفسيين.
عالم الجنون عالم مرعب في تفاصيله، يصدمك حين تعرف أن خلف كل هذه الطيبة الإنسانية، كمية لا تطاق من الشر والانتهاكات التي تمارس ضد بشر لا ذنب لهم سوى أنهم مرضى، وللتعرف أكثر على أسرار الجنون وخفايا ما يدور في دهاليز ما كان بالأمس «معزلا» يقصى فيه الدراويش وينبذون، وتحول اليوم بمسميات جديدة ولكن بنفس العقلية والممارسات، حرصت «الأنباء» على سبر أغوار هذا العالم بتاريخه وتفاصيله المرعبة في هذه السطور.
تاريخ الجنون
ربما يعد كتاب «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أحد أبرز ما كتب عن هذا الموضوع، والذي شكل فيما بعد ملامح مسار هذا الفيلسوف الذي شغل الدنيا بأطروحاته الجديدة عن الجنون والسلطة والسجون والعلاقات الجنسية.
في عالم الجنون تختلط المفاهيم وتتداخل بصورة مقززة، إذ حتى الطب الحديث بآلياته التجريبية لا يستطيع أن يتخلص من وطأة الموروث الشعبي في وصف المجنون، وغالبا ما تأتي أحكام الأطباء والناس تحت تأثير أحكام اجتماعية مسبقة ووصفات جاهزة قوامها ذلك الفصل الحاد بين الفرد والمجتمع، بين ما هو «ذاتي» وفريد وبين ما هو عام وشائع، بين «الأسوياء» والمجانين.
والغريب أن مفاهيم الموروثات الشعبية سرعان ما تأخذ صفة الشمول والديمومة، وتصبح بعوالمها الغريبة أطول عمرا وأكثر بقاء من أي حقائق علمية، وتأثيرها على حياة الناس يصبح أكثر وقعا بحيث لا يجدي معها أي محاولات للدفاع والتبرير مهما بلغت.
ومثل هذه المآسي ربما لا يشعر بها إلا من كابد معاناتها مع المجتمع، والمجتمع يصبح في كثير من الأحيان كيانا قاسيا لا يرحم الضعفاء ولا يبالي بالمجانين، ويكفي أن تزور عيادة نفسية أو تستشير طبيبا نفسيا لمرة واحدة في حايتك لتعرف مقدار الألم من نظرة المجتمع إليك بوصفك «مجنونا».
فالجنون منذ البداية أخذ طابع الاختلاف عما هو سائد ومألوف، وهو معنى واسع فضفاض يتسع لكل شخص في غياب المعايير، فالغلبة هنا للأكثرية وليس لأي شيء آخر، هذا ما يجعل الآخرين يطلقون وبكل بساطة صفة الجنون على كل شخص «مختلف»، دون مراعاة لمشروعية هذا الاختلاف، إلا أن هيمنة ما هو «شائع» ومألوف وعام جعلت كثيرا من الناس يتصرفون مع هؤلاء «المختلفين» وكأنهم غرباء عن هذا العالم ويبيحون لأنفسهم حق التعامل معهم بوحشية أحيانا بحجة «الضبط الاجتماعي» والردع والحماية.
«مجنون» حكم من السهل إطلاقه في وجه كل من لا يسير على خطى المجتمع وإيديولوجيته، والمسألة هنا ليست فصلا واضحا بين ما هو «معقول» وما هو «لا معقول»، وإنما بين المعقول وما يعتقده الآخرون ليس معقولا، وهي منطقة غامضة لا تعود ملكيتها لأحد، وبإمكان أي متسلط أن يفرض معاييره لما هو معقول ليمارس بعدها فعل الإقصاء والنبذ والوصف بالجنون لكل من لا يستقيم مع تلك المعايير ـ مثلا بحسب فوكو.. «كل قوى المعارضة هم مجانين في موازين السلطة».
استند فوكو في كتابه تاريخ الجنون إلى كل خبرات الإنسان وتجاربه، واستقى مادته من الطب الوضعي الحديث، ومن الأدب والفن والمسرح والفلسفة، كما استقاها من الشعوذة والسحر ومن تاريخ مؤسسات الدولة بما فيها البرلمانات وممارسات الشرطة والسجون والمستشفيات ومؤسسات الحجز أو «المعزل» الذي يعد من «اختراعات» العصر الكلاسيكي.
وقد كان المستشفى العام، وهو مؤسسة ظهرت عام 1661 تجسيدا للحجز وأداة للقمع، أنشئ أول مستشفى عام في فرنسا بأمر ملكي لمحاربة ظاهرة التسول والتسكع في الشوارع وعلى أبواب الكنائس، ثم تحول بعد ذلك إلى «غول» يبتلع في طريقه كل من يقف على الجانب الآخر المواجه للسلطة ومصلحة المجتمع.
وقد ضم عالم «الحجز» في داخله كل المجانين والشاذين والمبدعين ممن لم تتمكن معايير المجتمع «السائدة» من استيعاب اختلافهم عما هو مألوف وعادي، وضم أيضا كل أصحاب الرأي المخالف لما هو شائع من قيم وممارسات مهما بلغت فيها الوضاعة والانحراف (كل السود كانوا مجانين بالنسبة للبيض العنصريين).
وكم من أديب وشاعر وفيلسوف قضى نحبه بين جدران تلك المعازل، بل إن امرأة ماتت في أحد المعازل التي يوضع فيها المجانين لا لشيء إلا لأنها كانت تردد أينما جلست أنها لا تحب زوجها ولا يوجد من يستطيع أن يجبرها على أن تحبه، فقضت بقية حياتها معزولة عن المجتمع الذي اعتبرها «خطرا» يهدد كيانه.
الجنون، باختصار أصبح في مخيلة الناس مجرد خطأ أو عيب، يدخل في دائرته كل أحمق وغبي وأرعن وأخرق وأبله، وكل من يخرج عن نطاق المألوف ويكون رأيا مغايرا لما هو شائع ويفسر المقدس تفسيرا جديدا، فالإنسان هو الذي اخترع دائرة «الاختلالات» التي لا تنتظم مع السلوك «العادي» المتوقع من الفرد ضمن الجماعة، هكذا بكل بساطة نخترع دائرة للعقل وأخرى للجنون، ثم نصنف الناس ونفرزهم في تلك الدوائر بحسب ما يلائم توقعاتنا وتصوراتنا عما هو مألوف وشائع وعادي وطبيعي.
علىأن الأساس الذي قام عليه فهم العصر الكلاسيكي للجنون يتمثل في الارتباط الوثيق بين العقل والجنون إلى حد التشابك، وهي علاقة تجعل لكل جنون عقلا يحكم عليه ويتحكم فيه، وكل عقل له جنونه الذي يجد بداخله حقيقة تفاهته وغرابته، ورغم أن كلا منهما يرفض الآخر، إلا أنهما لا يوجدان إلا استنادا إلى هذه العلاقة المتبادلة بينهما.
ثنائية العقل ـ الجنون مردها في الواقع إلى سلسلة الثنائيات التي طبعها أفلاطون في ذاكرة البشرية منذ القرن الرابع قبل الميلاد، ثم زادها ديكارت في القرن السابع عشر رسوخا حتى أصبح العالم وكأنه يقف على طرفي نقيض، كل شيء فيه لابد أن يصنف ضمن متناقضين، الخير أو الشر، الموت أو الحياة، البخل أو الكرم، الشجاعة أو الجبن، الحق أو الباطل، الإيمان أو الكفر، العقل أو الجنون.
مثل هذه الثنائيات الحادة تتنافى مع الواقع بلا شك، وتتجاهل عن عمد أو جهل عشرات الامكانات الواقعية التي تقف بين تلك الأطراف المتناقضة.
فهناك الكثير من الدرجات الممكنة بين البخل والكرم، والشجاعة والجبن، والإيمان والكفر، والعقل والجنون بلا شك.
الاستغلال السياسي للطب النفسي
عرفت الأنظمة القمعية عبر التاريخ هذا النوع من الممارسة، حيث كانت تلك الأنظمة تقوم باستخراج شهادات رسمية تفيد بإصابة الأشخاص المغضوب عليهم بالجنون، وقد ثبت تورط الكثير من الأطباء النفسيين في عدة دول التي توسعت في استغلال الطب النفسي ليشمل العصيان السياسي ضمن الأمراض العقلية، ولاتزال كثير من السجون تحتجز بداخلها المعارضين للسلطة حول العالم، والذي يعتبره عالم النفس الأميركي ريتشارد بوني «أحد أشكال القمع الأكثر إيذاء».
وقد أورد بوني في دراسته القيمة حول «الاستغلال السياسي للطب النفسي في الاتحاد السوفييتي والصين» نماذج من الممارسات البشعة في هذين البلدين على مدى عقود في القرن العشرين تحديدا.
كما أبرز أطباء ومؤرخون الممارسات البشعة في ألمانيا النازية، وقد اهتم الأكاديميون اليهود في هذا الجانب بشكل كبير ومن أبرزهم رائيل شتروس وباول فايندلنغ وروبرت يولكن وغيرهم، وهناك العشرات من الكتب المتخصصة والدراسات الرائدة التي تهتم بتتبع حالات انتهاك حقوق الإنسان واستغلال الطب النفسي من قبل السلطة ضد خصومها السياسيين أو من قبل الأفراد في منازعاتهم الشخصية (يزخر الأدب العالمي بنماذج كثيرة حول استغلال الطب النفسي والاتهام بالجنون للاستحواذ على أموال أو ملكية شخصية لبعض الأفراد من قبل عائلته أو منافسيه).
وفي أحد البيانات الختامية لمنتدى «شيزوفرينيا: الاستغلال السياسي للطب النفسي» التي تعقد سنويا في الولايات المتحدة نجد نصا يقول «إن الطب النفسي يتضمن إمكانية للإساءة تفوق غيرها من فروع الطب الأخرى، حيث يتيح تشخيص المرض العقلي للدولة احتجاز الأشخاص ضد إرادتهم والإصرار على أن العلاج يصب في صالحهم وصالح المجتمع.. وفي الدول القمعية يمكن باستغلال الطب النفسي تجاوز الإجراءات القانونية اللازمة لاعتقال أحدهم دون إثارة السخط المعتاد المرتبط بالمحاكمات السياسية، فيتم استخدام المستشفيات حينها بديلا عن السجون لتعذيب المعارضين ونفيهم.
ويعد مرض «انفصام الشخصية» (شيزوفرينيا) من أكثر الأمراض التي يتم استغلالها في هذا الجانب.
ما المقصود بالفصام؟
جذور مصطلح شيزوفرينيا ترجع للكلمة اليونانية القديمة والتي تتكون من مقطعين، «شيزين» بمعنى يقسم أو يفصل، و«فيرون» أي العقل.
وهو مرض عقلي يبدأ بالظهور في مرحلة الشباب ثم يتطور على مدار عمر المريض، وأهم أعراضه ظهور هلوسة سمعية ومشاعر رعب «بارانويا» أو رهاب شديد مصحوبا بكلام غير منطقي وتفكير مضطرب واختلال في الوظائف الاجتماعية.
ويعد هذا المرض إضافة لأمراض أخرى من نفس الفئة مثل «انفصال الهوية» و«تعدد الشخصية الفصامية» من أكثر الأمراض التي تستغل لضرب الخصوم واتهامهم بالجنون.
الجنون من أجل البراءة
وكما تستغل الأمراض العقلية في قمع وإقصاء الآخر، تستغل بنفس الدرجة بل وأبشع أحيانا في تبرئة الأشخاص المرضي عنهم عند ارتكابهم جرائم في وضح النهار وبطريقة لا يمكن معها طمس ملامح الجريمة أو انكار وقوعها.
فالجنون هنا يصبح طوق نجاة للمجرم ذي النفوذ لإعفائه من المسؤولية.
حقوق المرضى العقليين
رغم تطور التشريعات والقوانين المتعلقة بضمان حقوق المرضى العقليين حول العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، ورغم جهود المؤسسات والمنظمات الدولية في هذا الجانب، إلا أن انتهاكات المرضى لاتزال مستمرة في كثير من البلدان وخاصة بلدان العالم الثالث، كما لاتزال ممارسات استغلال الطب النفسي في اقصاء الخصوم وتبرئة الموالين للسلطة من المسؤولية والاستحواذ على ممتلكات الأفراد بدعاوى واتهامات بالجنون.
وربما يمثل تعريف الأمراض العقلية والنفسية التحدي الأكبر في هذا المضمار، بدأ بأهلية وحق من يعرف الجنون ويصنف الأمراض العقلية، وانتهاء بحق الأكثرية في فرض ما يرونه «طبيعيا» وعاديا ومقبولا مقابل حق الآخرين في ممارسة سلوكيات يرونها هم عادية.
ولا تزال رحلة الإنسانية في هذا المسار في أولها ولم تصل بعد لما ينبغي أن يكون.
ميشيل فوكو.. رائد أبحاث الجنون «المضطرب عقليا»
يعد الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل فوكو (توفي عام 1984) رائد أبحاث الجنون والسلطة، وقد عانى هو شخصيا من اضطراب عقلي وتم حجزه في مصح للأمراض العقلية في باريس.
أثار كتابه المهم «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» ضجة كبرى، مارس فيه فعليا فلسفته المشهورة «حفريات المعرفة» و«نظام الخطاب»، والتي تعني البحث عن كل ما يتعلق بمفهوم معين (الجنون مثلا) عبر التاريخ، بطريقة تشبه علماء الآثار الذين يحفرون للبحث عن حفريات تدلهم على حقيقة الحياة قبل ملايين السنين.
وقد قام فوكو فعلا بالحفر والتنقيب الدقيق على مدى 14 عاما في سجلات المستشفيات وفي كتب الأدب والتاريخ القديم والحديث عن كل ما له علاقة بالجنون.
فيليب بينيل «أبوعلم النفس»
طبيب فرنسي توفي عام 1826 ويعود له الفضل في تطوير منهج جديد يتعامل مع المرضى النفسيين بصورة إنسانية وضعت حدا لانتهاكات حقوقهم والتعامل معهم وكأنهم كائنات ممسوخة.
كما ساهم في تصنيف العديد من الإضطرابات العقلية ويطلق عليه لقب «أبوعلم النفس الحديث».
سفينة المجانين
لوحة من أعمال الفنان الهولندي هيرنيموس بوس (توفي عام 1516)، عدها فوكو بداية التأريخ للجنون، وبدأ بها في كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» حيث وضع عنوان الجزء الأول من الكتاب باسم «سفينة الحمقى» وبدأ بها في شرح اللوحة بما تحويه من معان لثقافة الإقصاء والتطهير والنفي التي اجتاحت أوروبا.
يقول فوكو عن ركاب هذه السفينة «...إنه مسجون ضمن السبل الأكثر حرية والأكثر انفتاحا، إنه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية.. والأرض التي سيحط عليها تجهل عنه كل شيء، تماما كما لا تعرف اليابسة التي تطؤها أرجله من أي أرض هو آت، فلا حقيقة له ولا وطن.
اختفى الجذام وتوارى المصاب به من الذاكرة، إلا أن بنيته ستستمر وستشهد لعبة الإقصاء دورا جديدا، وسفينة الحمقى التي حملت المجذومين في القرون الوسطى، هي ذاتها التي ستحمل الفقراء والمشردين والمغضوب عليهم بعد ذلك تحت نفس الحجة والمسمى، أي التطهير».
واستمر هذا المعنى الشعبي الذي وجد عند كل المجتمعات منذ القدم، في الموروث الشعبي من قصائد وأمثال وأساطير وحكايات تدور جميعها حول فكرة واحدة، وهي أن «المجنون» شخص غير سوي يفكر بطريقة مختلفة ويتصرف بطريقة مختلفة عما هو سائد ومألوف عند الناس.
ثم ما لبث الإنسان أن استغل هذه الظاهرة الشاذة لتكريس السلطة، والتي بدأت معها حالات الإقصاء والنبذ تأخذ أشكالا أكثر حدة وقسوة، إذ لم يسلم كل صاحب رأي مخالف أو فكر جديد من تهمة الجنون، حتى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لم يسلم من هذه التهمة التي حاول زعماء قريش ترويجها لصد دعوة الإسلام فقالوا (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ـ الشعراء 26)، وهكذا واجه ولايزال كثير من المفكرين والدعاة وأصحاب فكر التجديد هذه التهمة الجاهزة التي تسهل بشكل صارخ نبذ صاحبها وإقصاءه عن المجتمع.
واستمر الحال كذلك إلى أن تغيرت هذه الصورة مع التحول الكبير الذي أحدثه فيليب بينيل وصموئيل توك في القرن التاسع عشر حيث تعاملا مع هذه الظاهرة لأول مرة في تاريخ البشرية بوصفها «حالة مرضية» تستدعي العلاج المبني على أسس علمية، فكان لجهودهما الفضل في تحول المارستانات والمعازل التي كانت مكانا لنبذ وإقصاء «المجذومين والمجذوبين» إلى «المستشفى» الذي يتلقى فيه المريض العلاج المناسب، كما تحول «المجنون» من وحش ودرويش إلى مريض بالمعنى العلمي الحديث، وأصبح لهذا المرض مصطلحاته ومفاهيمه وتقسيماته التي تميز بين حالة وأخرى وتضع لكل منها العلاج والأدوية.
غير أن هذا التحول الكبير لم يكن دوما كما ينبغي له أن يكون، إذ لاتزال كثير من المجتمعات تنظر للمجنون نظرة تخوف واحتراز، كما لاتزال حالات النبذ والإقصاء تمارس ضد المرضى النفسيين أو العقليين والتي فيها الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان، بل إن كثيرا من هذه الانتهاكات تمارس حتى اليوم بصورة علنية ومقننة في أجنحة مستشفيات الطب النفسي وعلى أسرة الأطباء النفسيين.
عالم الجنون عالم مرعب في تفاصيله، يصدمك حين تعرف أن خلف كل هذه الطيبة الإنسانية، كمية لا تطاق من الشر والانتهاكات التي تمارس ضد بشر لا ذنب لهم سوى أنهم مرضى، وللتعرف أكثر على أسرار الجنون وخفايا ما يدور في دهاليز ما كان بالأمس «معزلا» يقصى فيه الدراويش وينبذون، وتحول اليوم بمسميات جديدة ولكن بنفس العقلية والممارسات، حرصت «الأنباء» على سبر أغوار هذا العالم بتاريخه وتفاصيله المرعبة في هذه السطور.
تاريخ الجنون
ربما يعد كتاب «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أحد أبرز ما كتب عن هذا الموضوع، والذي شكل فيما بعد ملامح مسار هذا الفيلسوف الذي شغل الدنيا بأطروحاته الجديدة عن الجنون والسلطة والسجون والعلاقات الجنسية.
في عالم الجنون تختلط المفاهيم وتتداخل بصورة مقززة، إذ حتى الطب الحديث بآلياته التجريبية لا يستطيع أن يتخلص من وطأة الموروث الشعبي في وصف المجنون، وغالبا ما تأتي أحكام الأطباء والناس تحت تأثير أحكام اجتماعية مسبقة ووصفات جاهزة قوامها ذلك الفصل الحاد بين الفرد والمجتمع، بين ما هو «ذاتي» وفريد وبين ما هو عام وشائع، بين «الأسوياء» والمجانين.
والغريب أن مفاهيم الموروثات الشعبية سرعان ما تأخذ صفة الشمول والديمومة، وتصبح بعوالمها الغريبة أطول عمرا وأكثر بقاء من أي حقائق علمية، وتأثيرها على حياة الناس يصبح أكثر وقعا بحيث لا يجدي معها أي محاولات للدفاع والتبرير مهما بلغت.
ومثل هذه المآسي ربما لا يشعر بها إلا من كابد معاناتها مع المجتمع، والمجتمع يصبح في كثير من الأحيان كيانا قاسيا لا يرحم الضعفاء ولا يبالي بالمجانين، ويكفي أن تزور عيادة نفسية أو تستشير طبيبا نفسيا لمرة واحدة في حايتك لتعرف مقدار الألم من نظرة المجتمع إليك بوصفك «مجنونا».
فالجنون منذ البداية أخذ طابع الاختلاف عما هو سائد ومألوف، وهو معنى واسع فضفاض يتسع لكل شخص في غياب المعايير، فالغلبة هنا للأكثرية وليس لأي شيء آخر، هذا ما يجعل الآخرين يطلقون وبكل بساطة صفة الجنون على كل شخص «مختلف»، دون مراعاة لمشروعية هذا الاختلاف، إلا أن هيمنة ما هو «شائع» ومألوف وعام جعلت كثيرا من الناس يتصرفون مع هؤلاء «المختلفين» وكأنهم غرباء عن هذا العالم ويبيحون لأنفسهم حق التعامل معهم بوحشية أحيانا بحجة «الضبط الاجتماعي» والردع والحماية.
«مجنون» حكم من السهل إطلاقه في وجه كل من لا يسير على خطى المجتمع وإيديولوجيته، والمسألة هنا ليست فصلا واضحا بين ما هو «معقول» وما هو «لا معقول»، وإنما بين المعقول وما يعتقده الآخرون ليس معقولا، وهي منطقة غامضة لا تعود ملكيتها لأحد، وبإمكان أي متسلط أن يفرض معاييره لما هو معقول ليمارس بعدها فعل الإقصاء والنبذ والوصف بالجنون لكل من لا يستقيم مع تلك المعايير ـ مثلا بحسب فوكو.. «كل قوى المعارضة هم مجانين في موازين السلطة».
استند فوكو في كتابه تاريخ الجنون إلى كل خبرات الإنسان وتجاربه، واستقى مادته من الطب الوضعي الحديث، ومن الأدب والفن والمسرح والفلسفة، كما استقاها من الشعوذة والسحر ومن تاريخ مؤسسات الدولة بما فيها البرلمانات وممارسات الشرطة والسجون والمستشفيات ومؤسسات الحجز أو «المعزل» الذي يعد من «اختراعات» العصر الكلاسيكي.
وقد كان المستشفى العام، وهو مؤسسة ظهرت عام 1661 تجسيدا للحجز وأداة للقمع، أنشئ أول مستشفى عام في فرنسا بأمر ملكي لمحاربة ظاهرة التسول والتسكع في الشوارع وعلى أبواب الكنائس، ثم تحول بعد ذلك إلى «غول» يبتلع في طريقه كل من يقف على الجانب الآخر المواجه للسلطة ومصلحة المجتمع.
وقد ضم عالم «الحجز» في داخله كل المجانين والشاذين والمبدعين ممن لم تتمكن معايير المجتمع «السائدة» من استيعاب اختلافهم عما هو مألوف وعادي، وضم أيضا كل أصحاب الرأي المخالف لما هو شائع من قيم وممارسات مهما بلغت فيها الوضاعة والانحراف (كل السود كانوا مجانين بالنسبة للبيض العنصريين).
وكم من أديب وشاعر وفيلسوف قضى نحبه بين جدران تلك المعازل، بل إن امرأة ماتت في أحد المعازل التي يوضع فيها المجانين لا لشيء إلا لأنها كانت تردد أينما جلست أنها لا تحب زوجها ولا يوجد من يستطيع أن يجبرها على أن تحبه، فقضت بقية حياتها معزولة عن المجتمع الذي اعتبرها «خطرا» يهدد كيانه.
الجنون، باختصار أصبح في مخيلة الناس مجرد خطأ أو عيب، يدخل في دائرته كل أحمق وغبي وأرعن وأخرق وأبله، وكل من يخرج عن نطاق المألوف ويكون رأيا مغايرا لما هو شائع ويفسر المقدس تفسيرا جديدا، فالإنسان هو الذي اخترع دائرة «الاختلالات» التي لا تنتظم مع السلوك «العادي» المتوقع من الفرد ضمن الجماعة، هكذا بكل بساطة نخترع دائرة للعقل وأخرى للجنون، ثم نصنف الناس ونفرزهم في تلك الدوائر بحسب ما يلائم توقعاتنا وتصوراتنا عما هو مألوف وشائع وعادي وطبيعي.
علىأن الأساس الذي قام عليه فهم العصر الكلاسيكي للجنون يتمثل في الارتباط الوثيق بين العقل والجنون إلى حد التشابك، وهي علاقة تجعل لكل جنون عقلا يحكم عليه ويتحكم فيه، وكل عقل له جنونه الذي يجد بداخله حقيقة تفاهته وغرابته، ورغم أن كلا منهما يرفض الآخر، إلا أنهما لا يوجدان إلا استنادا إلى هذه العلاقة المتبادلة بينهما.
ثنائية العقل ـ الجنون مردها في الواقع إلى سلسلة الثنائيات التي طبعها أفلاطون في ذاكرة البشرية منذ القرن الرابع قبل الميلاد، ثم زادها ديكارت في القرن السابع عشر رسوخا حتى أصبح العالم وكأنه يقف على طرفي نقيض، كل شيء فيه لابد أن يصنف ضمن متناقضين، الخير أو الشر، الموت أو الحياة، البخل أو الكرم، الشجاعة أو الجبن، الحق أو الباطل، الإيمان أو الكفر، العقل أو الجنون.
مثل هذه الثنائيات الحادة تتنافى مع الواقع بلا شك، وتتجاهل عن عمد أو جهل عشرات الامكانات الواقعية التي تقف بين تلك الأطراف المتناقضة.
فهناك الكثير من الدرجات الممكنة بين البخل والكرم، والشجاعة والجبن، والإيمان والكفر، والعقل والجنون بلا شك.
الاستغلال السياسي للطب النفسي
عرفت الأنظمة القمعية عبر التاريخ هذا النوع من الممارسة، حيث كانت تلك الأنظمة تقوم باستخراج شهادات رسمية تفيد بإصابة الأشخاص المغضوب عليهم بالجنون، وقد ثبت تورط الكثير من الأطباء النفسيين في عدة دول التي توسعت في استغلال الطب النفسي ليشمل العصيان السياسي ضمن الأمراض العقلية، ولاتزال كثير من السجون تحتجز بداخلها المعارضين للسلطة حول العالم، والذي يعتبره عالم النفس الأميركي ريتشارد بوني «أحد أشكال القمع الأكثر إيذاء».
وقد أورد بوني في دراسته القيمة حول «الاستغلال السياسي للطب النفسي في الاتحاد السوفييتي والصين» نماذج من الممارسات البشعة في هذين البلدين على مدى عقود في القرن العشرين تحديدا.
كما أبرز أطباء ومؤرخون الممارسات البشعة في ألمانيا النازية، وقد اهتم الأكاديميون اليهود في هذا الجانب بشكل كبير ومن أبرزهم رائيل شتروس وباول فايندلنغ وروبرت يولكن وغيرهم، وهناك العشرات من الكتب المتخصصة والدراسات الرائدة التي تهتم بتتبع حالات انتهاك حقوق الإنسان واستغلال الطب النفسي من قبل السلطة ضد خصومها السياسيين أو من قبل الأفراد في منازعاتهم الشخصية (يزخر الأدب العالمي بنماذج كثيرة حول استغلال الطب النفسي والاتهام بالجنون للاستحواذ على أموال أو ملكية شخصية لبعض الأفراد من قبل عائلته أو منافسيه).
وفي أحد البيانات الختامية لمنتدى «شيزوفرينيا: الاستغلال السياسي للطب النفسي» التي تعقد سنويا في الولايات المتحدة نجد نصا يقول «إن الطب النفسي يتضمن إمكانية للإساءة تفوق غيرها من فروع الطب الأخرى، حيث يتيح تشخيص المرض العقلي للدولة احتجاز الأشخاص ضد إرادتهم والإصرار على أن العلاج يصب في صالحهم وصالح المجتمع.. وفي الدول القمعية يمكن باستغلال الطب النفسي تجاوز الإجراءات القانونية اللازمة لاعتقال أحدهم دون إثارة السخط المعتاد المرتبط بالمحاكمات السياسية، فيتم استخدام المستشفيات حينها بديلا عن السجون لتعذيب المعارضين ونفيهم.
ويعد مرض «انفصام الشخصية» (شيزوفرينيا) من أكثر الأمراض التي يتم استغلالها في هذا الجانب.
ما المقصود بالفصام؟
جذور مصطلح شيزوفرينيا ترجع للكلمة اليونانية القديمة والتي تتكون من مقطعين، «شيزين» بمعنى يقسم أو يفصل، و«فيرون» أي العقل.
وهو مرض عقلي يبدأ بالظهور في مرحلة الشباب ثم يتطور على مدار عمر المريض، وأهم أعراضه ظهور هلوسة سمعية ومشاعر رعب «بارانويا» أو رهاب شديد مصحوبا بكلام غير منطقي وتفكير مضطرب واختلال في الوظائف الاجتماعية.
ويعد هذا المرض إضافة لأمراض أخرى من نفس الفئة مثل «انفصال الهوية» و«تعدد الشخصية الفصامية» من أكثر الأمراض التي تستغل لضرب الخصوم واتهامهم بالجنون.
الجنون من أجل البراءة
وكما تستغل الأمراض العقلية في قمع وإقصاء الآخر، تستغل بنفس الدرجة بل وأبشع أحيانا في تبرئة الأشخاص المرضي عنهم عند ارتكابهم جرائم في وضح النهار وبطريقة لا يمكن معها طمس ملامح الجريمة أو انكار وقوعها.
فالجنون هنا يصبح طوق نجاة للمجرم ذي النفوذ لإعفائه من المسؤولية.
حقوق المرضى العقليين
رغم تطور التشريعات والقوانين المتعلقة بضمان حقوق المرضى العقليين حول العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، ورغم جهود المؤسسات والمنظمات الدولية في هذا الجانب، إلا أن انتهاكات المرضى لاتزال مستمرة في كثير من البلدان وخاصة بلدان العالم الثالث، كما لاتزال ممارسات استغلال الطب النفسي في اقصاء الخصوم وتبرئة الموالين للسلطة من المسؤولية والاستحواذ على ممتلكات الأفراد بدعاوى واتهامات بالجنون.
وربما يمثل تعريف الأمراض العقلية والنفسية التحدي الأكبر في هذا المضمار، بدأ بأهلية وحق من يعرف الجنون ويصنف الأمراض العقلية، وانتهاء بحق الأكثرية في فرض ما يرونه «طبيعيا» وعاديا ومقبولا مقابل حق الآخرين في ممارسة سلوكيات يرونها هم عادية.
ولا تزال رحلة الإنسانية في هذا المسار في أولها ولم تصل بعد لما ينبغي أن يكون.
ميشيل فوكو.. رائد أبحاث الجنون «المضطرب عقليا»
يعد الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل فوكو (توفي عام 1984) رائد أبحاث الجنون والسلطة، وقد عانى هو شخصيا من اضطراب عقلي وتم حجزه في مصح للأمراض العقلية في باريس.
أثار كتابه المهم «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» ضجة كبرى، مارس فيه فعليا فلسفته المشهورة «حفريات المعرفة» و«نظام الخطاب»، والتي تعني البحث عن كل ما يتعلق بمفهوم معين (الجنون مثلا) عبر التاريخ، بطريقة تشبه علماء الآثار الذين يحفرون للبحث عن حفريات تدلهم على حقيقة الحياة قبل ملايين السنين.
وقد قام فوكو فعلا بالحفر والتنقيب الدقيق على مدى 14 عاما في سجلات المستشفيات وفي كتب الأدب والتاريخ القديم والحديث عن كل ما له علاقة بالجنون.
فيليب بينيل «أبوعلم النفس»
طبيب فرنسي توفي عام 1826 ويعود له الفضل في تطوير منهج جديد يتعامل مع المرضى النفسيين بصورة إنسانية وضعت حدا لانتهاكات حقوقهم والتعامل معهم وكأنهم كائنات ممسوخة.
كما ساهم في تصنيف العديد من الإضطرابات العقلية ويطلق عليه لقب «أبوعلم النفس الحديث».
سفينة المجانين
لوحة من أعمال الفنان الهولندي هيرنيموس بوس (توفي عام 1516)، عدها فوكو بداية التأريخ للجنون، وبدأ بها في كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» حيث وضع عنوان الجزء الأول من الكتاب باسم «سفينة الحمقى» وبدأ بها في شرح اللوحة بما تحويه من معان لثقافة الإقصاء والتطهير والنفي التي اجتاحت أوروبا.
يقول فوكو عن ركاب هذه السفينة «...إنه مسجون ضمن السبل الأكثر حرية والأكثر انفتاحا، إنه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية.. والأرض التي سيحط عليها تجهل عنه كل شيء، تماما كما لا تعرف اليابسة التي تطؤها أرجله من أي أرض هو آت، فلا حقيقة له ولا وطن.
اختفى الجذام وتوارى المصاب به من الذاكرة، إلا أن بنيته ستستمر وستشهد لعبة الإقصاء دورا جديدا، وسفينة الحمقى التي حملت المجذومين في القرون الوسطى، هي ذاتها التي ستحمل الفقراء والمشردين والمغضوب عليهم بعد ذلك تحت نفس الحجة والمسمى، أي التطهير».