أُنثى في أوَّلِ مواسِم تفتُقها.. تُغالِطُ نُضْجَ الطّرِيْقِ، وثقته بطُولِه، ووحشتِه في المُنْعطفات، والفواصِل بينَ أحياءِ المدينةِ. تُحاجِجُ بكَ أيُّها السّابِحُ في الهُناكَ، وهائمٌ في شِعْرٍ شابَ شَعْرُ اللّيلِ منه؛ فغدا ساهرًا كنجلاء تترقبُ عودةَ المُهاجِرِ.. نعم أنت حُجَّتها ودليلُ خلاصها من رهق المسافة، تبدو المدينة كنقطة ضوءٍ في البعيد، أو كسرابٍ في الحقيقة ٍإلّا أنّها لم تحسبها سوى خطوات لو شدّتِ الهمّة تسبيحاً باسمكَ وأناشيدك، وبعضُ ذاكرةِ الدّراسة السخيفة؛ فأنْ تمشي أُنثى وحدها راجلة من مدينة إلى أُخرى.. هي مغامرةٌ ، وأنْ تُرافِقَ أنثى في سرّها المحشوِّ بالصِّبا فهو ما يُمْلِي عليها بلذةِ المُغامرة.
الفتيات في ربيعهنَّ الأوّل يحفظنْ كُلّ شيءٍ أحاطَ بعاطفة الأمكنة ومهارة الزّمن في رسم خيالِ الحبيبِ الأوّل، الذي لا حبيبَ إلّا هو، الظاهر في بريق العيون والمخبّأْ في محاولات القصيدة وحبر الانبلاج وأول الإشراق.
في الوقت الذي كنتُ فيه مشغولة جداً برسم المساقِط لمُجسّمات لم أعِ الهدفَ من دراستها، كانت “رام” مشغولة جداً بشاعرها الهُمام، فاجأتني ذات صباح وأنا أستعدُ للذهاب إلى المدرسة بأنّها تكتبُ شعراً.. نعم شعراً.. أليس الشعرُ هو ما يشعُر به المرءُ وإنْ كان حُمّى أو سعالٌ حادٌ! قالت رام: لمّا قرأتُ قصيدته تلك أحسستُ بجسدٍ آخر يلبسُ فتاتي، يتسللُني، يخلعُ تنورة أحلامي، ويُمْلي عليَّ بلذةِ القصيد.. حقاً لقد هطلتِ السّماءُ، وكنتُ أنا قُدسيّة الرُّوح.
“رام” والصيفُ اللّدِيْحُ في ثُلاثاءِ 16 أبريل 2002 تُملي عليّ سنينَ عُمرها الستة عشر بأنْ: قامَ المُؤذِّنُ للصلاةِ مُحيْعِلاً، فرفعتُ كفي بالدعاءِ الحيلة؛ أغفر لي اللَّهُمْ، وارحمْ بالّذي أهدى الفؤآدَ البُعْدَ والتّعْليلَ.. قفزتْ رام تُباركُ قصيدة لأوّلِ دقّةٍ لقلبها الصّغير، أنستني في ذلك الصّباح دفتر الواجب البيتي المرهق، الذي يُذكّرُني بتلميذاتِ من المرحلةِ السّابقة، كنّ يجْلِسن في آخر الفصل، فُرِضت كراسات الواجب البيتي على الجميع بسببهنّ، كُنَّ ستَ فتياتٍ متينات البِنْيةِ، شداد غلاظ،، يتناوبن على مهامِ الألفا؛ ولأحظي بعطفهنّ جعلتُ لكل منهنَّ اسماً يُشعِرُها بنوعٍ من العظمة، كعبد الرحمن الداخل، وصقر قريش، والسيدة ملكة الدار، أمّا عبد الملك بن مروان فكانت أجملهنّ خطًا إلّا أنّها لا تجيد غير ذلك، لها القدرة على نقل طن من الحروف المرصوصة بإحكام. أنستني رام دفترَ الواجبِ والأقلامِ وصحيفتِي الشّهْرية، التي سهِرْتُ ثلاثَ ليالٍ لإعدادها، ورحتُ أُردِّدُ في حبورٍ:قام المؤذن للصلاة مُحيعلا……………،وابتسامة تعلو شفاه فتاتي ما ينسي مساقط العُلوم الهندسيّة والجدولِ الدّورِيُّ وكُلّ مجهوداتِ التربويين العظام.
رام دائماً ما تُفاجِئُني بسؤالها المُعادِ المُكرّرِ، والذي أندهِشُ لهُ رغماً عن تكراره؛ وهو لمَ لا نذهبُ مع الطالبات في الترحيلِ الجّماعِي صباحاً؟ “لماذا يارام “ياخ عليك النبي عيبي لي بُكسي المعلمين ده ما لو زيّ العجب، وبيتحرّك من خشم الباب” والأهم من ذلك أنه أحيانًا يعبرُ من فوقَ الخزان، أي أنّنا سنرى الجّانب الآخر للبُحيرة.. منظرُ الضّفةِ الأُخرى للنيل الأزرق أجمل ما يكون صباحاً، وحكايات معلمي وزارة التربية المقتربة أعمارُهُم لسن المعاش، ومغالطتهم وضرب الحجة فيما إذا كان الأستاذ حسن قد ذهب بالأمس إلى واشنطون أم تورا بورا وترديدهم لبعض ما كتبوه مزاحاً وتكريماً لبعضهم. لا يا رام إنّ مرافقةَ أبي في طريقِ العلم صباحاً تفتحُ كوةً رؤًى جديدة، ثم إنِّي أدمنتُ تذكُرُهُم لصديقِهم المُربِّي الفاضل، وترديدهم “أحمد كرار خرف خرف وقعد في الرف” إنّ ملامح الأستاذ أحمد سلمان معجمٌ للغةِ العربيّةِ، وفي صمتِ الأستاذ الرّيح وقارٌ لا يحكِيه إلّا صمْتُهُ. صمتتْ رام طويلاً ثم قالت في هدوءِ أُنثى الطّاشر سنة المُفتعل: حسناً ذات يوم ستحتاجينَ مُغادرة هذه العربة وإن أدمن “لستكها” الإسبير جلوسك عليه .
*الخميس 18 يوليو 2002
إصفرّ الباباي.. وتشققت ثمارُ القشدة في أشجارِها.. غسلَ الخريفُ التّعبَ والغبارَ عن ملامحِ المدينةِ، أزهارُ “الوِنكا والياسمين الأصفر” على الطرقات تُغري بالتسكّع. امتلأ دفتر رام بقصائد شاعرها المجيد.. فتق ورد الأناشيد العِذاب وأحلام لقائه ولو على حدود الرُّوح بذاتِ مثاقفة، سطرتْ عدداً من الأوراق النقدية فاقت الخمس ورقات، تحوي تحليلاً لشعره الذي اعتبرته مدرستها الأولى، وبابها نحو قصيدة النثر؛ لترى في الشعر الحر محاولة تجريدية لرؤية الشعر القديم بعين الحركة الجديدة واصطلاحاتها في الوقت نفسه. لم تهتمْ بتعريف الشعر لكنّها اهتمت بالكتابة وقراءةِ الشعرِنفسُه.
بدأ انشغالي برسمِ المساقط يقلُ شيئًا فشيئًا، وكلّما سقط من ذاكرتي مسقطٌ رأسي تمددت عدوى رام أفقياً، حتى أصبحَ الأدب هو شغلي الشاغل؛ حيثُ تقف رام أمامي كمرآة بل إنّها تُحرضُني على البهجة والاستمتاع بكل شيء.
رُفِعَ النداءَ لصلاةِ ظُهْرٍ، وأعلنَ الجّرسُ بعدهُ انتهاء اليوم الدراسي بل انتهاء الأسبوع كله، نظرت رام إليّ ونظرتُ.. وبدأنا رحلة من أجمل المشاوير التي مشيتها في محاولة لقياس المسافة والزمن من الدمازين للروصيرص سيراً على الأقدام مع رصد للمشاهد وتفاصيل الرحلة.
* الساعة الثانية والنصف، دعاشٌ محفزٌ، الدمازين خلفي ورام صوت دواخلي تمسك بيدي، وأمامنا أشجارٌ شائكةٌ، يتخللها طريقٌ، أتلبب الحقيبة المدرسيّة بإحكام، ونتبادل الحديث مع الظل الباهت أمام خطواتنا الهزيلة بسبب الوحل؛ فقد تزايد الهطول، ولم يعد الدعاش دعاشًا، شجيرات اللّعوت على جانبي الطريق حاولت إخافةِ الخطي، ولكن دون جدوى؛ أصبحتِ العودة للدمازين أصعب من مواصلةِ المسير، أتحايلُ على تخويفها بأغنيات فيروز ومحاولات الرّد على فارس قصائدنا، صاحب قصيدة النثر ” تبا أشعرٌ هو أمْ نثرٌ؟” لا يهم يا فتاة إنّه شعورٌ، وأشعرُ الآن بالبردِ الشديد؛ فقد التصق الفستانُ الأزرق بالجّسدِ المُتنامِي..
بدأتْ ملامحُ الخزّانِ تُلوِّحُ من البعيد، همست رام حمداً لله لم يرانا أحدٌ ليُحبطَ خطّة العُبورِ بعدْ، ولا العساكر المنتشرين في الطريقِ، بارك اللهُ المطرَ.. أقلّ من عشرِ دقائقٍ للوصول لمدخلِ خزّانِ الرُوصيرص.. هل يمكنُني عبورُ “الكوبري” راجلة؟ سؤالٌ حسمه ازديادِ الهطول عند وصولنا نقطة التفتيش.
محيعلاً: قال حيّا على الصلاة، حيّا على الفلاح
واشنطون،وتورابورا : يقصد بهما حيين من أحياء مدينة الرصيرص تندُراً منهم
الخرطوم – السودان
الفتيات في ربيعهنَّ الأوّل يحفظنْ كُلّ شيءٍ أحاطَ بعاطفة الأمكنة ومهارة الزّمن في رسم خيالِ الحبيبِ الأوّل، الذي لا حبيبَ إلّا هو، الظاهر في بريق العيون والمخبّأْ في محاولات القصيدة وحبر الانبلاج وأول الإشراق.
في الوقت الذي كنتُ فيه مشغولة جداً برسم المساقِط لمُجسّمات لم أعِ الهدفَ من دراستها، كانت “رام” مشغولة جداً بشاعرها الهُمام، فاجأتني ذات صباح وأنا أستعدُ للذهاب إلى المدرسة بأنّها تكتبُ شعراً.. نعم شعراً.. أليس الشعرُ هو ما يشعُر به المرءُ وإنْ كان حُمّى أو سعالٌ حادٌ! قالت رام: لمّا قرأتُ قصيدته تلك أحسستُ بجسدٍ آخر يلبسُ فتاتي، يتسللُني، يخلعُ تنورة أحلامي، ويُمْلي عليَّ بلذةِ القصيد.. حقاً لقد هطلتِ السّماءُ، وكنتُ أنا قُدسيّة الرُّوح.
“رام” والصيفُ اللّدِيْحُ في ثُلاثاءِ 16 أبريل 2002 تُملي عليّ سنينَ عُمرها الستة عشر بأنْ: قامَ المُؤذِّنُ للصلاةِ مُحيْعِلاً، فرفعتُ كفي بالدعاءِ الحيلة؛ أغفر لي اللَّهُمْ، وارحمْ بالّذي أهدى الفؤآدَ البُعْدَ والتّعْليلَ.. قفزتْ رام تُباركُ قصيدة لأوّلِ دقّةٍ لقلبها الصّغير، أنستني في ذلك الصّباح دفتر الواجب البيتي المرهق، الذي يُذكّرُني بتلميذاتِ من المرحلةِ السّابقة، كنّ يجْلِسن في آخر الفصل، فُرِضت كراسات الواجب البيتي على الجميع بسببهنّ، كُنَّ ستَ فتياتٍ متينات البِنْيةِ، شداد غلاظ،، يتناوبن على مهامِ الألفا؛ ولأحظي بعطفهنّ جعلتُ لكل منهنَّ اسماً يُشعِرُها بنوعٍ من العظمة، كعبد الرحمن الداخل، وصقر قريش، والسيدة ملكة الدار، أمّا عبد الملك بن مروان فكانت أجملهنّ خطًا إلّا أنّها لا تجيد غير ذلك، لها القدرة على نقل طن من الحروف المرصوصة بإحكام. أنستني رام دفترَ الواجبِ والأقلامِ وصحيفتِي الشّهْرية، التي سهِرْتُ ثلاثَ ليالٍ لإعدادها، ورحتُ أُردِّدُ في حبورٍ:قام المؤذن للصلاة مُحيعلا……………،وابتسامة تعلو شفاه فتاتي ما ينسي مساقط العُلوم الهندسيّة والجدولِ الدّورِيُّ وكُلّ مجهوداتِ التربويين العظام.
رام دائماً ما تُفاجِئُني بسؤالها المُعادِ المُكرّرِ، والذي أندهِشُ لهُ رغماً عن تكراره؛ وهو لمَ لا نذهبُ مع الطالبات في الترحيلِ الجّماعِي صباحاً؟ “لماذا يارام “ياخ عليك النبي عيبي لي بُكسي المعلمين ده ما لو زيّ العجب، وبيتحرّك من خشم الباب” والأهم من ذلك أنه أحيانًا يعبرُ من فوقَ الخزان، أي أنّنا سنرى الجّانب الآخر للبُحيرة.. منظرُ الضّفةِ الأُخرى للنيل الأزرق أجمل ما يكون صباحاً، وحكايات معلمي وزارة التربية المقتربة أعمارُهُم لسن المعاش، ومغالطتهم وضرب الحجة فيما إذا كان الأستاذ حسن قد ذهب بالأمس إلى واشنطون أم تورا بورا وترديدهم لبعض ما كتبوه مزاحاً وتكريماً لبعضهم. لا يا رام إنّ مرافقةَ أبي في طريقِ العلم صباحاً تفتحُ كوةً رؤًى جديدة، ثم إنِّي أدمنتُ تذكُرُهُم لصديقِهم المُربِّي الفاضل، وترديدهم “أحمد كرار خرف خرف وقعد في الرف” إنّ ملامح الأستاذ أحمد سلمان معجمٌ للغةِ العربيّةِ، وفي صمتِ الأستاذ الرّيح وقارٌ لا يحكِيه إلّا صمْتُهُ. صمتتْ رام طويلاً ثم قالت في هدوءِ أُنثى الطّاشر سنة المُفتعل: حسناً ذات يوم ستحتاجينَ مُغادرة هذه العربة وإن أدمن “لستكها” الإسبير جلوسك عليه .
*الخميس 18 يوليو 2002
إصفرّ الباباي.. وتشققت ثمارُ القشدة في أشجارِها.. غسلَ الخريفُ التّعبَ والغبارَ عن ملامحِ المدينةِ، أزهارُ “الوِنكا والياسمين الأصفر” على الطرقات تُغري بالتسكّع. امتلأ دفتر رام بقصائد شاعرها المجيد.. فتق ورد الأناشيد العِذاب وأحلام لقائه ولو على حدود الرُّوح بذاتِ مثاقفة، سطرتْ عدداً من الأوراق النقدية فاقت الخمس ورقات، تحوي تحليلاً لشعره الذي اعتبرته مدرستها الأولى، وبابها نحو قصيدة النثر؛ لترى في الشعر الحر محاولة تجريدية لرؤية الشعر القديم بعين الحركة الجديدة واصطلاحاتها في الوقت نفسه. لم تهتمْ بتعريف الشعر لكنّها اهتمت بالكتابة وقراءةِ الشعرِنفسُه.
بدأ انشغالي برسمِ المساقط يقلُ شيئًا فشيئًا، وكلّما سقط من ذاكرتي مسقطٌ رأسي تمددت عدوى رام أفقياً، حتى أصبحَ الأدب هو شغلي الشاغل؛ حيثُ تقف رام أمامي كمرآة بل إنّها تُحرضُني على البهجة والاستمتاع بكل شيء.
رُفِعَ النداءَ لصلاةِ ظُهْرٍ، وأعلنَ الجّرسُ بعدهُ انتهاء اليوم الدراسي بل انتهاء الأسبوع كله، نظرت رام إليّ ونظرتُ.. وبدأنا رحلة من أجمل المشاوير التي مشيتها في محاولة لقياس المسافة والزمن من الدمازين للروصيرص سيراً على الأقدام مع رصد للمشاهد وتفاصيل الرحلة.
* الساعة الثانية والنصف، دعاشٌ محفزٌ، الدمازين خلفي ورام صوت دواخلي تمسك بيدي، وأمامنا أشجارٌ شائكةٌ، يتخللها طريقٌ، أتلبب الحقيبة المدرسيّة بإحكام، ونتبادل الحديث مع الظل الباهت أمام خطواتنا الهزيلة بسبب الوحل؛ فقد تزايد الهطول، ولم يعد الدعاش دعاشًا، شجيرات اللّعوت على جانبي الطريق حاولت إخافةِ الخطي، ولكن دون جدوى؛ أصبحتِ العودة للدمازين أصعب من مواصلةِ المسير، أتحايلُ على تخويفها بأغنيات فيروز ومحاولات الرّد على فارس قصائدنا، صاحب قصيدة النثر ” تبا أشعرٌ هو أمْ نثرٌ؟” لا يهم يا فتاة إنّه شعورٌ، وأشعرُ الآن بالبردِ الشديد؛ فقد التصق الفستانُ الأزرق بالجّسدِ المُتنامِي..
بدأتْ ملامحُ الخزّانِ تُلوِّحُ من البعيد، همست رام حمداً لله لم يرانا أحدٌ ليُحبطَ خطّة العُبورِ بعدْ، ولا العساكر المنتشرين في الطريقِ، بارك اللهُ المطرَ.. أقلّ من عشرِ دقائقٍ للوصول لمدخلِ خزّانِ الرُوصيرص.. هل يمكنُني عبورُ “الكوبري” راجلة؟ سؤالٌ حسمه ازديادِ الهطول عند وصولنا نقطة التفتيش.
محيعلاً: قال حيّا على الصلاة، حيّا على الفلاح
واشنطون،وتورابورا : يقصد بهما حيين من أحياء مدينة الرصيرص تندُراً منهم
الخرطوم – السودان