محمد حسيب القاضي - مقاطع من سيرة كتابة

تقدمة

كل شاعر يكتب ذاته بطريقة أو بأخرى، ويسعى جاهداً للتكامل مع نصه، وتكامل نصه مع نفسه، لكن الكمال في الفن والحياة غاية لا تدرك، ولو أن الأمر عكس ذلك لما حطّم (بجماليون) تمثاله بعد أن تنبه إلى أنه تمثال ناقص لا ينبض بالحياة مهما بلغ من السحر والروعة في الفن. شعراء كثيرون مزقوا قصائدهم أو حذفوها من دواوينهم لأنهم اكتشفوا أنها غير مكتملة ولن تعبر عن رغباتهم وجموحهم إزاء محاولة امتلاك العالم بالشعر.

وهذا ما فعله (ديلان توماس) الذي حذف 70% من ديوانه، و (أودن) و(جوته).. الخ وهؤلاء جميعاً توصلوا إلى حقيقة مؤداها أن القوى المحيطة بالإنسان أكبر منه وأكثر تعقيداً من الكلمات والفن وأن الإنسان مهما حاول يبقى عاجزاً عن إدراك الإشارات والرموز الكونية التي أرسلها الله إلى البشر فضلاً عن أنها تذكره بسرعة زواله.. إنه التحدي الأزلي، حيث نجد المأساة بجوار الخلاص. والفناء في الخلود. مسعى أزلي حيث الترياق في السم.. والنشوة في العذاب. واللذة في الألم. الشاعر إنسان الأرق. الإنسان اللغوي حسب تعبير (صلاح ستيتية) الشاعر الذي يكتب بالفرنسية من أصل لبناني.. الإنسان اللغوي المطلّ على الإنسان الروحي والإنسان التاريخي والاجتماعي.. ثمة وراء كل شيء مرئي معنى خفي.. هو حقيقة الشيء نفسه.. وبقدر ما نغوص وراء ذلك المعنى بحثاً عن الحقيقة بقدر ما نجد أنفسنا أمام مزيد من الغموض والأسئلة التي لا تنتهي.. الشعر يروي بدقة ووضوح أشياء غامضة حسب (جان كوكتو).

وأنا أبحث في قصيدتي عن لحظة كشف.. لحظة حلول بالمعنى الصوفي للإمساك بالحقيقة الكامنة وسط الفخاخ المفتوحة، على الطيور العصيّة، صعبة المنال، والمسألة تحتاج إلى يقظة وصبر وأناة إذا أردنا أن نخرج بصيد ثمين. لهذا السبب فأنا أكتب كثيراً وأمزق كثيراً ولا أرتاح أو أستقر داخل شكل أو قالب واحد لأن معنى ذلك هو موت الشعر بسبب تحديد إقامته داخل قفص أو حجرة مغلقة بدون نوافذ وهواء.

لذا تراني أكتب الأغنية، والقصيدة الفصيحة، وقصيدة العامية، والمسرح الشعري، والنص المفتوح. وفي كل هذه الكتابات يبقى الشعر هو الأساس في تجربتي مع الكتابة.

يقول (بورخيس): “قد يكتب الشاعر مئات القصائد وفي النهاية لا يبقي سوى عدة أبيات” وهذه الحقيقة تؤكد أننا أعجز من أن نحيط بكل قوى الطبيعة الظاهر منها والباطن. ويبقى النقصان هو العلامة الفارقة على الامتلاء حتى الحافة.

أشياء كثيرة غامضة، وغير محددة تشكل القصيدة ولا يملك أحد أن يفسر بوضوح كافٍ لحظة الكتابة دون أن تختلط عليه تلك الأشياء. ومن هنا تختلف التأويلات وتتعدد التفاسير من ناقد إلى آخر كلٌ حسب استيعابه ومعايشته للنص ويبقى دائماً الشيء المجهول الرابض في لا وعي اللحظة مستعصياً على كل تفسير وتأويل.

ليس لدي وقت محدد للكتابة. فالقصيدة لا تهبط من السماء على أجنحة الوحي، بل هي تخرج من الأرض ومن اللحظة نفسها ومن الكائن ومشاغله اليومية. وأنا لا أكتب قصيدة ذات بعدٍ واحد، وإنما قصيدة بعدة وجوه وهي بمعنى من المعاني تنطوي على تركيب ما قائم على عدة مستويات حيث يبدو العالم عبارة عن شظايا مبعثرة لا تلبث أن تلتئم في خيط رفيع غير مرئي، والإمساك بهذا الخيط يُفضي بالضرورة إلى داخل القصيدة بخفة، ويسر. هنا العودة إلى المفاتيح غير الصدئة التي ينبغي أن يضعها الشاعر في يد قارئه.

القصيدة تختزل العالم بعدد قليل من الكلمات.. فأنا ضد الثرثرة التي أعتبرها من أمراض الشعر الموروثة من قديم الزمان. القصيدة ومضة خاطفة، إيماءة، إشارة عابرة لا تحتمل الإطالة والشرح لأي سبب من الأسباب غير الشعرية على أية حال.

ما يهمني هو الجوهر العميق في التجربة، لمس الغائب، والمهمش تحت قشرة الوعي بما حولنا. أيضاً يقول (كوكتو): “كل يوم أمام المرآة أرى الموت يعمل” وأنا أسأل هل نركن إلى سطوة المرآة أم نحطمها ونغري أنفسنا بأن الكتابة هي في الأساس ضد الموت وضد أنفسنا كذلك. الإبداع عموماً مشروط بحرية المبدع إذ لا يوجد شعر حقيقي بدون الرغبة في العصيان والتمرد على مواضعات اجتماعية وأخلاقية وسياسية من أجل بناء إنسان جديد ومجتمع خالٍ من عقدة الاضطهاد والاستلاب والقهر. ولا شك أن التعبير عن ذلك لا يتأتّى إلا عبر لغة الشعر وليس الشعار. ومن خلال الفن وليس الوعظ والخطابة . كل شاعر يحاول أن يتجاوز ذاته والآخرين ولا يتحقق هذا التجاوز من خلال الفوضى والارتجال، ولكن بكيفيات تجعل من الشعر لغة احتمالية على مستوى الدلالة والإيماءة.. بمعنى كيف أسعى إلى تحويل الأشياء إلى شعر.. أي إلى كلام غير عادي وغير مستهلك.. فالكتابة عندي “مغامرة” جمالية تحمل تقنيات مختلفة، من بينها النثر والأسطرة ولغة الحواس والتفاصيل التي تؤلف المشهد، أو المشاهد المتعددة داخل القصيدة حيث يوجد غالباً حالة ما، حوار ما، حادث ما، أو شيء من هذا القبيل تجعل من القصيدة مسرحاً يطل على عبثية الحياة وفلسفة الأشياء المبعثرة في أركان العالم.

(3)

إذا اتفقنا، ولا بد أن نتفق على أن لحظة الكتابة هي لحظة مكاشفة بين الذات والعالم. فهذا من شأنه أن يأخذني شخصياً إلى منطقة بعيدة عن السائد والمكرر.. فالشعر يموت عندما يوضع في قوالب جاهزة أو توابيت محكمة الإغلاق، الشعر أكبر وأعمق من حدود اللحظة، وأبعد من المساحة المكتشفة.. فنحن لا نرى سوى جزء ضئيل من هذه المساحة، تضيق وتتسع بمقدار رؤيتنا لها، والمدى الذي تصل إليه عيوننا وبصائرنا.

لا شعر بدون مخيلة جامحة ومدرّبة على اقتناص العالم بواسطة الكلمات، وإعادة صياغته جمالياً ومعرفياً وجعله في متناول ذائقة القارئ وتذوقه لكل ما هو جديد ومدهش في القصيدة. لم تعد القضايا والمقولات الكبيرة والأفكار الضخمة هي مادة الشعر شأن ما درج عليه شعراء الستينيات ومن قبلهم فبدلاً من البلاغة حلّت لغة التفاصيل، وبدلاً من الرؤية حلّ المشهد في بناء القصيدة.. وأصبحت القصيدة تعبر عن وجهة نظر شخصية في الحياة. ولم تعد البطولة المطلقة للشاعر وإنما للأشياء الصغيرة المحيطة بنا كبشر أثناء اجتيازنا تاريخاً آخر..وهذا ما اتفق علية الكثيرون لسنا بحاجة إلى أقنعة كي نغطي بها ذواتنا الحقيقية والبطولة لليومي والعادي. وأن نتأمل يعني أن نعرف، وأن نعرف يعني أن نواجه أنفسنا عراة أمام بياض الورق، ونقاط الحبر الساخنة. يقول (ريتسوس): “أيها القارئ حاول أن تعثر عليّ من خلال كلماتي لأنني أريد اللقاء ولا يهمّ مدى الصعوبة التي تواجهنا من أجل أن يصل كل منا إلى الآخر.. في الحقيقة إنني أصرّ على اللقاء”.

يجب ألا نفشل في التواصل والعثور على بعضنا البعض وألا نعيش بعيدين في جزر مغلقة وأن تكون المسافة قريبة بيننا حتى نصل إلى السطر الأخير في القصيدة. ربما أنني أفعل شيئاً من هذا القبيل بمعنى الاختباء خلف الكلمات أو ظلال الكلمات على حد تعبير مالارميه.. ولعبة التخفي والتجلي هي لعبة الشعر الأثيرة والممتعة، وقد تكمن لذة النص في هذه اللعبة الماكرة التي تعيدنا إلى أيام البراءة الأولى والرغبات الدفينة وأحلام الطفولة التي مازلنا نحملها تحت الجفن وفي حدقة القلب. إنه امتزاج الواقع بالمتخيل في إطار البسيط والمألوف.. وهكذا يرى القارئ أنه من الصعب على الشاعر أن يحدد طريقة معينة في الكتابة.. فالكتابة ليست وصفة جاهزة يمكن استخدامها لإنتاج الشعر، وإذا كان للشعر قوانينه الخاصة كما هو معروف فأنه ينبغي ألا يعكس المناخ السائد بقدر ما يخرج عليه.. ليخلق تجربة توازي الواقع أو تحوّره فنياً ولا تكتفي بنقله أو تسجيله..

عندما أشرع في كتابة قصيدة لا يبقى في ذهني أي قيد نظري يحدد البداية أو يوجّه السياق الشعري، لأن الشاعر يكتب من تلقاء نفسه، ولا يخضع للمقاييس ومعايير النقد التي تتنافى مع عفوية الكتابة وطبيعة اللحظة المنبثقة من ذات الشاعر.

أنا أسلّم نفسي للحالة الشعرية دون قيد أو شرط من الخارج، وأترك القصيدة تنمو تلقائياً على الورق إلى أن تنتهي أو لا تنتهي.

(4)

هل هي رحلة بلا متاع، كما يقول (ريتسوس) ونار بلا فحم. جوع بلا خبز. عطش ونشوة بلا نبيذ؟ هل الأمر يتعلق باللاجدوى والعزاء تجاه ما سقط منا أثناء الرحلة، أو يتعلق بالسخرية في مواجهة الانكسار والعجز عن التقاط ما تبقى لنا، من أحلام وظلال فوق المساحة الضيقة والمتاحة؟ هل هو سؤال الحياة عن نفسها، أم الإحساس بالأبد المطلق بلا حدود. والإنسان نقطة في محيط وسط دوامات وهدير لا نهائي وحوار النقطة مع المحيط هو حوار بين الوجود والعدم.. الإنسان وحكمة الزمن وسط اللامبالاة والقهر والموت..

وأحسب أن تراجيديا الفلسطيني تحمل بعض هذه المعاني الوجودية.. كما أنها قد تشي بالغياب الملموس أثناء الحضور الصاخب والسريع للعالم والأشياء. وفي كل الحالات أجدني دائب البحث عن هذا المعنى المتخفي وراء الكلمات، وهو بحث عن الحقيقة الضائعة في خضم الوجوه والألوان والدمامة التي تملأ واقعنا وعصرنا المنحط بامتياز..

ولا أدري إن كان الشعر قادراً حقاً على تغيير العالم كما يقول الفلاسفة والشعراء في كل العصور. أو أنه يستطيع أن ينفض غبار اللحظة عن أثاث المنزل، ويجدد محتويات الغرف وهواءها الفاسد خلف النوافذ المغلقة.

2007



ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...