د. أريج البدراوي زهران - أنواع السخرية ووظيفتها الاجتماعية

الهدف من السخرية الاضحاك إلا أنه ليس الهدف الأساسي بقدر ما يكون هدفها مهاجمة شيئًا معينًا أو ممارسة معينة لا يوافق عليها مستخدم سلاح السخرية. ويلاحظ أن فن السخرية ليس مرتبطًا فقط بالتعبير بالكلمات، بل يمكن أن نجده في الفنون المختلفة مثل الفنون التشكيلية، فمثلاً نجد (دومييه) الذي عاش في عصر الإمبراطورية الثانية في فرنسا، تناول كثيرًا من ملامح عصره بالسخرية في رسوماته.
وفن الكاريكاتير Caricature هو رسم ساخر وتجسيد، أو وصف تشكيلي يجري خلاله التضخيم والمبالغة في أحد الجوانب المميزة لشخصية معينة بحيث تبدو مثيرة للضحك. وهدف الكاريكاتير هو السخرية الاجتماعية أو السياسية أو الشخصية. ويقول بعض الكتاب: إن الكاريكاتير ليس محصورًا في الأعمال المرسومة فقط؛ فهناك كتاب، أمثال (تشارلز ديكنز)، قاموا في أعمالهم الأدبية بتصوير بعض الشخصيات بطرائق كاريكاتيرية أيضًا.
وكذلك يُعد الكوميكس أحد فنون الصورة، ويتمثل في مجموعة صور تحكي أحداثًا من خلال حوار مكتوب للشخصيات، وقد عرف فن الكوميكس منذ فترة طويلة من خلال قصص الأطفال، ويظهر في مجلات ميكي وتان تان وغيرهما.
ويجمع الجرافيتي بين فن الرسم والكتابة المباشرة على الأسطح الجدارية المختلفة، ويعد من أحدث الفنون التشكيلية وأسرعها انتشارًا، وعرف كفن معترف به لأول مرة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وكان مولده مدينة باريس حيث كان ينفذ على هيئة رسومات وكتابات على الواجهات للمباني والأسوار وفي الطرقات وعلى أسطح عربات القطار والحاويات، وحمل تعبيرات احتجاجية وتهكمية وإباحية أحيانًا، ومنها انتقل إلى باقي المدن الأوروبية وأمريكا الشمالية والجنوبية وقوبل بالرفض والمقاومة من قبل الأنظمة والحكومات، وأخيرًا ومع بدايات القرن الواحد والعشرين وصل فن الجرافيتي إلى منطقتنا العربية.
وعن النظريات الاجتماعية المفسرة للسخرية فقد شارك في تأسيسها عدد كبير من المؤلفين متباينين في فهمهم لعلاقة السخرية بالمجتمع، فقد كتب (مايكل مولكاي Mulkay ) عن السخرية في المجتمعات الصناعية الديمقراطية المتقدمة مفرقًا بين المزاج الجاد والمزاج الفكاهي وخصائص كل من المزاجين. فتحت المزاج الجاد، نفترض أننا نتشارك نفس العالم ونعتقد أن الآخرين يدركونه كما ندركه، وهناك دائمًا في العالم الجاد فارقًا واضحًا بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، فهو عالم مؤسس على العقل والمنطق لا يتم فيه النظر للمتناقضات على أنها إشكاليات عندما يكون الشيء الواحد كائنًا وغير كائن في نفس الوقت أو يتواجد شيء في مكانين في عين الوقت، وينظر لهذه الإشكاليات على أنها فشل في الاتصال نتيجة لسوء الفهم. وعلى النقيض من ذلك، ففي العالم الفكاهي لابد من وجود المتناقضات لأنها القاعدة الأساسية للمزاج الساخر، فالمتناقضات ليست إشكالية لابد أن تحل ولكنها صفة أساسية، فحتى تكون النكتة مضحكة لابد أن تنقلب الأشياء رأسًا على عقب ويقدم الشيء في أكثر من إطار في الوقت نفسه.
ويرى(ستيفن بريجهام Brigham) أنه من خلال التناقض والعبث يمكن أن نحصل على رؤى جديدة مبدعة حيال العالم لم نكن لنصل إليها لو طبقنا فقط قواعد العقل والمنطق، فرؤية الأشياء من خلال منظور العبث والسخرية يعني أن العقلانية يمكن التعالي عليها والاستغناء عنها أحيانًا.
وهذا يختلف عن علاقة المزاحJoking Relationships فهي رابطة خاصة للصداقة والعداء بين الأفراد والجماعات في مواقف اجتماعية معينة، حيث يسمح للفرد أو الجماعة تبادل السخرية أو التهكم مع الآخرين دون إحساس بالإهانة أو الإساءة. وقد ميز (راد كليف براونRadcliffe-Brown ) في كتابه (البنية والوظيفة في المجتمع البدائي) بين علاقات المزاح المتكافئة حيث يكون لكل طرف الحق في أن يمزح مع الطرف الآخر، وبين علاقات المزاح غير المتكافئة التي يعطي فيها طرف واحد فقط هذا الامتياز على الطرف الآخر. وتوجد علاقات المزاح في كثير من المجتمعات بين الرجل وأخوته وأخوة زوجته، أو بين المرأة وأخواتها وأخوة زوجها. كما توجد أيضًا بين الرجال أو النساء ممن ينتمون إلى أجيال مختلفة. كما يحدث بين الجد والأحفاد. وقد توجد علاقات المزاح أيضًا خارج علاقات القرابة والنسب المباشرة. أو بين جماعات، كما يحدث بين عشائر القبيلة الواحدة أو بين القبائل.
وقد حلل(ألفرد أدلر) السخرية كانفعال مركب إلى الغرائز البسيطة التي تتركب منها، فقال: "هي خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز: فنحن إذ تثور فينا غريزة النفور نشمئز، فإذا عدا الشيء الذي أثار اشمئزازنا على صفاء عيشنا، من أية ناحية من النواحي، بعثت فينا غريزة المقاتلة والانفعال المقترن بها، وهو الغضب، فدفع بنا إلى السخرية مما بعث اشمئزازنا أو ممن أثاره في نفوسنا. ولا يخلو هذا من عنصر الزهو، لأننا ننزع إلى الرضى عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها".
بعض الوظائف الاجتماعية للفكاهة:
1. تحقيق التواصل والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات.
2. ممارسة التحكم في سلوك الآخرين عن طريق السخرية مثلاً، أو عن طريق إثارة الاهتمام، وإزالة الخوف، والتشجيع من خلال تجاوز الرسميات.
3. تعكس الفكاهة الفروق في المكانة التراتبية بين الأفراد والجماعات.
4. قد تستخدم الفكاهة في مهاجمة السلطة بأشكالها كافة السياسية أو الدينية أو الأسرية.
5. قد تعمل الفكاهة على تحديد أنماط السلوك المقبول من خلال النشاطات الطقسية لبعض المهرجين في المجتمعات الحديثة، وذلك من خلال النقد والسخرية والكشف للمثالب والعيوب الاجتماعية السائدة.
6. قد يساعد تحليل بعض أنماط الفكاهة، كالنكات أو الكاريكاتير، على معرفة اتجاهات الناس وميولهم، مما قد يساعد صناع القرارات على تعديل القرارات الخاطئة وتحسين الظروف السيئة إذا توافر لديهم الوعي بأهمية هذه التحليلات وتوافرت لديهم الرغبة والإرادة أيضًا.
نماذج لفن السخرية في مصر:
يمتاز الشعب المصري بحس الفكاهة، فوفقًا لنتائج البحث الذي أجرته الباحثة من قبل على عينة من المصريين، وبسؤالهم عن نظرتهم لأنفسهم وأهم السمات التي يروا أنها تتوافرها لديهم جاءت صفة الفكاهة والمرح في المركز الأول بنسبة (94.80%). كما يلاحظ أن النكتة هي أحد الميكانيزمات التي يقاوم ويواجه المصري من خلالها مصاعب الحياة ومشاكله.
فنجد المصري يطلق العديد من النكات أثناء ثورة 30 يونيو ويواجه ثورته بالسخرية المبدعة من خلال تصوير أسباب ثورته بعبارات بسيطة وبلغته الساخرة. وقد سبق ذلك سخرية المصريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي من سلوكيات الرئيس المخلوع محمد مرسي. فعلى سبيل المثال حين نظر إلى ساعته أثناء إلقاء ميركل لكلمتها، والتي نظرت بدورها له باستياء واندهاش، مما أثار حفيظة الكثير من زوار موقع التواصل الاجتماعي وتعددت التعليقات في وصف الصورة ما بين السخرية والاستهزاء فمن بين التعليقات وصف تصرفه بأنه "مستعجل عنده نهضة عايز يعملها في مصر". وغيرها من العبارات الساخرة التي رصدتها الباحثة من الميدان.
وفي ظل الأحداث الراهنة المتعلقة بفيرس (كورونا المستجد) نجد العديد من العبارات الساخرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في موقع الفيسبوك بصورة شبه يومية. فالإنترنت الذي دأب كثيرون حول العالم على وصفه بأنه عالم افتراضي ليس كذلك على المستوى العملي، فالشبكات الاجتماعية –التي تستضيف محتوى الصحافة الشعبية- طورها أشخاص حقيقيون بناء على دراسات للسوق والمستخدمين، وهي دراسات واقعية. ومستخدمي هذه الشبكات هم أشخاص حقيقيون ويشكلون عنصرًا من الواقع. وفي كتاب "الإعلام الاجتماعي؛ مقدمة نقدية" أستند (كريستيان فوكس) إلى النظرية الاجتماعية ليشرح أشكال العلاقة بين الإعلام الاجتماعي والمجتمع، ليجد أنه وفقًا لأفكار عالم الاجتماع الشهير إيميل دوركايم، الكتابة في حد ذاتها فعلاً مرتبط بالمجتمع، حتى لو لم يتشارك الكاتب أفكاره المكتوبة مع آخرين، لأن هذه الأفكار إمّا أنها عن مفردات المجتمع أو أنها تكونت في عقله بفعل المجتمع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...