خلافا لما قد يعتقده البعض فان الاحتلال العسكري مهما كاف فظا قد يصيبه النجاح. فلنأخذ على ذلك مثال احتلال هتلر لأوروبا الغربية واحتلال روسيا السوفياتية لأوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الحالتين كان على رأس تلك البلدان المحتلة قيادات متعاملة تمتلك أجهزة داخلية وتلقى الدعم الرئيسي من قوات الاحتلال. وقد نمت مقاومة جريئة ضد هتلر وبدون المساعدة الخارجية لكان تم القضاء عليها بسهولة. وفي أوروبا الشرقية كما في روسيا حاولت الولايات المتحدة دعم المقاومة للشيوعية حتى مطلع الخمسينات دون نجاح.
فلنلاحظ في المقابل مسألة اجتياح العراق الذي أنهى نظامين رهيبين، الأول هو بالطبع حكم الطاغية أما الثاني والذي لا يصار للتطرق إليه فهو نظام العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة وبريطانيا والذي أدى إلى مقتل مئات آلاف الأشخاص وتدمير المجتمع وتدعيم المستبد بإرغام الشعب على اللجؤ إليه من خلال التقنين مما أطال عمره خلافا لسائر الديكتاتوريين المدعومين من الولايات المتحدة أمثال سوهارتو وماركوس ودوفالييه وموبوتو وغيرهم الذين أطيح بهم من الداخل وهذا كان احتمالا واردا قبل الحرب على العراق.
لا شك أن العراقيين رحبوا بنهاية الحصار وسقوط صدام حسين. لكن كان يمكن وضح حد لتدابير الحصار دون حرب خصوصا وإنها لو أزيلت لكان العراقيون تمكنوا من إزاحة الطاغية بأنفسهم. أما التحقيق الذي قام به ديفيد كاي بتكليف من الرئيس بوش بعد تحقيق النصر، فقد جاء ليكذب بكل وضوح المزاعم عن امتلاك نظام السيد صدام حسين أسلحة دمار شامل. إلا أن التحقيق قد بين أيضاً أن حكم السيد صدام حسين في سنوات ما قبل الاجتياح الأميركي كان ضعيفاً جداً. وهذا ما أكدته لاحقاً مقولات العديد من الخبراء المطلعين جيداً على الوضع الداخلي العراقي، ومنهم مثلاً دنيس هوليداي وهانز فان سبونيك [1]، منسّقا المساعدات الإنسانية من الأمم المتحدة. فقد كررا مراراً أنه لو لم يطل الحصار والعقوبات الشعب، لكان العراقيون أنفسهم أطاحوا السيد صدام حسين.
الجميع يعرف انه للاجتياحات العسكرية نتائج ثانوية ايجابية كأن أدى مثلا قصف مرفأ بيرل هاربور من قبل الطيران الياباني في كانون الأول/ديسمبر 1941 إلى طرد الامبرطوريات الغربية من آسيا مما أنقذ حياة ملايين البشر كان سيقضى عليهم في حروب التحرير. لكن هل يبرر ذلك الفاشية اليابانية وجرائمها؟ بالطبع لا. وأنا مقتنع أن العدوان الياباني على الولايات المتحدة كان جريمة حرب وهي "الجريمة القصوى" بحسب محكمة نورمبرغ.
هذا ما دفع أكثر المؤرخين الاميركيين تقديرا، آرثر شلسنجر، إلى التذكير ببيرل هاربر ما أن بدأ القصف الاميركي للعراق. وكتب شلسنجر قائلا أن الرئيس روزفلت كان محقا في قوله أن الهجوم الياباني مهانة في التاريخ وان على الاميركيين أن يعيشوا تلك المهانة مع قصف بغداد في تشابه مع السياسة الامبراطورية اليابانية.
مع نهاية العقوبات وصدام، كان لدى أميركا العديد من الموارد لإعادة إعمار العراق. كان الشعب مرتاحا ولم يكن للمقاومة أي دعم خارجي لكنها تتطورت من الداخل كجواب على فظاظة الاحتلال وعنف المحتلين. كان يلزم موهبة فعلية للوصول إلى هذا الفشل...
إن هذا الهجوم قد أطلق دورة من العنف ولّدت هي بدورها أعمال عنف أشد كما تدل على ذلك اشتباكات الفلوجة التي توقع الضحايا بين المدنيين بشكل رئيسي. أما العلاقات بين النظام العراقي السابق وتنظيم "القاعدة" فإنها لم تقم أبداً. لكن من "انتصار" الولايات المتحدة بات الجميع يقر بأن العراق تحت الاحتلال أصبح "مرتعاً للإرهابيين". وهذا ما بينته جيسيكا شتيرن، الاختصاصية في شؤون الإرهاب من جامعة هارفرد، في دراسة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" [2] بعد تدمير مقر الأمم المتحدة في بغداد.
وقد وقعت الحرب على العراق بالرغم من معارضة الرأي العام الدولي الذي خشي أن يؤدي هذا الاعتداء، وبنوع من "مفعول البومرنغ" الارتدادي، إلى نشر أسلحة الدمار الشامل والى تفشي الإرهاب. وهذه المخاطر اعتبرتها إدارة السيد جورج دبليو بوش غير ذات أهمية بالمقارنة مع التطلع إلى السيطرة على العراق وثرواته والى إطلاق "الحرب الوقائية" الأولى وإلى تعزيز القبضة على الساحة الأميركية الداخلية.
من جهة أخرى فان "الحرب على الإرهاب" فشلت فشلا ذريعا وتنامت الهجمات الدموية في كل مكان. ولسوء حظ سكانها فان عدد المدن التي ضرب فيها الإرهاب منذ 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 يتزايد باستمرار ومنها حتى الآن بغداد وبالي والدار البيضاء واسطنبول وجاكرتا والقدس وحيفا وأشدود ومومباسا والرياض ومدريد. وبهذا الإيقاع سيكون من الممكن عاجلاً أو آجلاً أن تجمع منظمة عنيفة واحدة بين الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل لتصبح ضرباتها فعلاً أكثر رعباً.
وقد انفضح مفهوم "الحرب الوقائية" العزيز على السيد بوش على حقيقته، فهو ليس عبارة تمويهية من أجل التمكن من مهاجمة الطرف الذي يستهدف بكل حرية. وهذا الطابع الاعتباطي والخطير والعدائي في هذه السياسة هو الذي أثار في شباط/فبراير عام 2003 موجة الاحتجاجات الكبيرة ضد اجتياح العراق. ونظراً إلى النتائج المدمرة لهذه "الحرب الوقائية" الأولى فان الاستياء الدولي من الناهضين بها لا يزال يتزايد إلا سيما مع عدم تمكن واشنطن من تقديم البرهان على امتلاك صدام أسلحة الدمار الشامل. فهذه التهمة خاطئة بكل بساطة، إنها كذبة دولة كبيرة.
ومنذ نيسان/أبريل عام 2003 بينت استطلاعات الرأي أن المواطنين الأميركيين يتمنون أن تتولى الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة المسؤولية الرئيسية بعد الحرب من أجل إعادة بناء العراق سياسياً واقتصادياً. وبالرغم من كل شيء فان فشل الاحتلال أمر مفاجئ نظراً للقوة العسكرية والقدرات التي تتمتع بها الولايات المتحدة وإذا أخذنا في الاعتبار غياب أي دعم من الخارج للمقاومة. وهذا الفشل هو الذي حمل إدارة بوش على التراجع والانصياع لتطلب مساعدة الأمم المتحدة التي أرادت أن تعرف ما إذا كان يمكن للعراق ألا يكون مجرد دولة تابعة لواشنطن، إذ أن أميركا تشكل في بغداد بعثتها الدبلوماسية الأكبر في العالم ليبلغ عدد موظفيها ثلاثة آلاف مما يعني بكل وضوح أن عملية نقل السيادة المقررة في 30 حزيران/يونيو المقبل سوف تكون محدودة.
وما يعزز هذا الشعور هو مطالبة الأميركية بالاحتفاظ في العراق بقواعد عسكرية مهمة وبوجود قوي لكل قواتها العسكرية. كما أن هذه الرغبة في استتباع العراق قد عززتها الأوامر الصادرة عن بول بريمر، مندوب واشنطن، لإبقاء الاقتصاد المحلي منفتحاً وخاضعاً لسيطرة الأجانب (وخصوصاً من الشركات الأميركية المقربة من السيد بوش وحاشيته)، وهو من الشروط التي لا تتقبلها أي دولة تحترم سيادتها. ففقدان السيطرة على الاقتصاد يحد بشكل جذري من السيادة السياسية كما من التطلعات إلى حركة نمو سليمة. وهذا من دروس التاريخ الأكثر وضوحاً إذ لم يتمكن أي بلد مستعمر من تحقيق التطور طالما ظلت سياسته واقتصاده تحت هيمنة القوة المحتلة.
في كانون الأول/ديسمبر عام 2003 أشار تحقيق أجرته "بيبا/نولدج نتوورك" إلى أن الشعب الأميركي نفسه بات متراجعاً جداً في دعمه قرار إدارة بوش الاحتفاظ بوجود عسكري قوي دائم في العراق. وتنتج هذه المخاوف الشعبية من كون الناس لا يؤمنون بصوابية القضية. ومن شأن هذا، إذا ما ترجم في الانتخابات المرتقبة في تشرين الثاني/نوفمبر، أن يؤدي إلى تغيير سياسي أساسي، حتى وإن كانت الانتخابات في الولايات المتحدة لا تقدم الكثير وإن كان الناس يعرفون أن الانتخابات فيها تشرى شراء بشكل عام. فالمرشح الديموقراطي جون كيري وصف أحياناً بأنه "بوش تنقصه بعض الحرارة". إلا انه من الممكن أن تؤدي أحياناً عملية الاختيار بين فصيلين مما يسمّى "حزب الأسياد" إلى سياسات مختلفة، سواء في الشؤون الداخلية أو في السياسة الدولية. فبعض الفوارق في البداية بين هذا المرشح أو ذاك قد تترجم عند الوصول إلى السلطة بتأثيرات ضخمة وذات طبيعة متناقضة جداً سواء انتخب السيد بوش أو السيد كيري. وهذا ما يمكن أن يحدث في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل كما حدث في العام 2000 حين تواجه السيدان بوش وغور.
سياسة بوش صيغتها هي التالية: "تحرير العالم من الشر والإرهاب". فبعد 11 أيلول/سبتمبر أكد أن "إعلان الحرب على الإرهاب هو أيضاً إعلان حرب على كل دولة تقدم الملجأ للإرهابيين. ذاك أن كل دولة تؤوي إرهابيين على أرضها تكون هي نفسها دولة إرهابية ويجب أن تعامل على هذا الأساس". وباسم هذه السياسة خاض السيد بوش الحرب في أفغانستان في العام 2001 وفي العراق عام 2002، وهو اليوم يهدد دولاً أخرى مثل سوريا. وهنا يمكن التساؤل هل أن موقف بوش متماسك فعلاً إذ أن هناك الكثير من الدول الأخرى التي نؤوي إرهابيين وتحميهم ولم تتعرض لا للقصف ولا للاجتياح، وبدءاً بـ...الولايات المتحدة نفسها!
فكما هو معروف، فقد أشرفت الولايات المتحدة منذ العام 1959، على اعتداءات إرهابية على كوبا. فقد كان هناك اجتياح خليج الخنازير في العام 1961 وإطلاق نيران الرشاشات المضادة للطيران على المدنيين، وزرع القنابل في الأماكن العامة في هافانا وغيرها من المدن، واغتيال الموظفين وتدمير طائرة تجارية أثناء رحلة لها في العام 1961 سقط فيها ثمانون قتيلاً، ناهيك بعشرات المؤامرات لاغتيال السيد فيديل كاسترو. فأورلاندو بوش (Bosch) هو من الإرهابيين المعادين لكاسترو الأكثر بروزاً، والمتهم بكونه العقل المدبر للاعتداء على الطائرة المدنية في العام 1976. وفي العام 1989 ألغى السيد جورج بوش (Bush) الأب قرار وزارة العدل التي كانت رفضت طلب اللجوء السياسي الذي تقدم به السيد بوش. وها أن هذا الأخير يعيش اليوم بأمان في الولايات المتحدة مواصلاً نشاطاته المعادية لنظام كاسترو.
وتتضمن أيضاً لائحة الإرهابيين الذين وجدوا ملاذاً في الولايات المتحدة السيد إيمانويل كونستان الملقب "توتو"، من هايتي، وهو زعيم سابق من القوات شبه العسكرية من زمن دوفالييه. و"توتو" هذا هو مؤسس "الجبهة الثورية للتقدم والتطور في هايتي"، وهي مجموعة شبه عسكرية أرهبت السكان ما بين العامين 1990 و1994 بناء على أوامر من المجلس الحاكم الذي كان قد أطاح الرئيس أريستيد. وبحسب معلومات حديثة فان "توتو" هذا يعيش حالياً في حي "كوينز" في نيويورك. وقد رفضت واشنطن الطلب الذي قدمته هايتي لتسليم المجرمين. ولماذا؟ لأن من الممكن أن يفضح "توتو" العلاقة بين الولايات المتحدة والمجلس الحاكم المسؤول عن قتل ما بين 4000 و5000 هايتي، على يد المجلس الثوري للتقدم والتطور في هايتي... وما يجدر ذكره أيضاً هو أنه كان بين رجال العصابات الذين شاركوا إلى جانب القوات الأميركية في الانقلاب الأخير على الرئيس أريستيد العديد من الزعماء السابقين في "الجبهة الثورية للتقدم والتطور في هايتي" الإرهابية...
ولا تزال واشنطن ترفض تسليم أولئك الذين خدموها فعلاً حتى وإن كانوا من الإرهابيين. ففنزويلا طالبت، في شباط/فبراير عام 2003 بتسليمها ضابطين شاركا في انقلاب 11 نيسان/أبريل على الرئيس هوغو شافيز ثم أعدا في ما بعد لاعتداء في كاراكاس قبل أن يفرا إلى ميامي حيث وجدا لهما ملاذاً. وبالطبع فان واشنطن رفضت التسليم.
ما يعني أن ليس الإرهابيون جميعاً من طينة واحدة. وأولئك الذين يخدمون مصالح الولايات المتحدة لا يمكن وصفهم بالعبارة المحقرة "إرهابيون". فهم "المناضلون الجدد من أجل الحرية" كما كانت وسائل الإعلام تصف في ما مضى السيد أسامة بن لادن نفسه يوم كان يرهب السوفيات لحساب أميركا...
* أستاذ علوم اللغويّات في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا MIT، بوسطن، الولايات المتحدة.
مايو 2004
فلنلاحظ في المقابل مسألة اجتياح العراق الذي أنهى نظامين رهيبين، الأول هو بالطبع حكم الطاغية أما الثاني والذي لا يصار للتطرق إليه فهو نظام العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة وبريطانيا والذي أدى إلى مقتل مئات آلاف الأشخاص وتدمير المجتمع وتدعيم المستبد بإرغام الشعب على اللجؤ إليه من خلال التقنين مما أطال عمره خلافا لسائر الديكتاتوريين المدعومين من الولايات المتحدة أمثال سوهارتو وماركوس ودوفالييه وموبوتو وغيرهم الذين أطيح بهم من الداخل وهذا كان احتمالا واردا قبل الحرب على العراق.
لا شك أن العراقيين رحبوا بنهاية الحصار وسقوط صدام حسين. لكن كان يمكن وضح حد لتدابير الحصار دون حرب خصوصا وإنها لو أزيلت لكان العراقيون تمكنوا من إزاحة الطاغية بأنفسهم. أما التحقيق الذي قام به ديفيد كاي بتكليف من الرئيس بوش بعد تحقيق النصر، فقد جاء ليكذب بكل وضوح المزاعم عن امتلاك نظام السيد صدام حسين أسلحة دمار شامل. إلا أن التحقيق قد بين أيضاً أن حكم السيد صدام حسين في سنوات ما قبل الاجتياح الأميركي كان ضعيفاً جداً. وهذا ما أكدته لاحقاً مقولات العديد من الخبراء المطلعين جيداً على الوضع الداخلي العراقي، ومنهم مثلاً دنيس هوليداي وهانز فان سبونيك [1]، منسّقا المساعدات الإنسانية من الأمم المتحدة. فقد كررا مراراً أنه لو لم يطل الحصار والعقوبات الشعب، لكان العراقيون أنفسهم أطاحوا السيد صدام حسين.
الجميع يعرف انه للاجتياحات العسكرية نتائج ثانوية ايجابية كأن أدى مثلا قصف مرفأ بيرل هاربور من قبل الطيران الياباني في كانون الأول/ديسمبر 1941 إلى طرد الامبرطوريات الغربية من آسيا مما أنقذ حياة ملايين البشر كان سيقضى عليهم في حروب التحرير. لكن هل يبرر ذلك الفاشية اليابانية وجرائمها؟ بالطبع لا. وأنا مقتنع أن العدوان الياباني على الولايات المتحدة كان جريمة حرب وهي "الجريمة القصوى" بحسب محكمة نورمبرغ.
هذا ما دفع أكثر المؤرخين الاميركيين تقديرا، آرثر شلسنجر، إلى التذكير ببيرل هاربر ما أن بدأ القصف الاميركي للعراق. وكتب شلسنجر قائلا أن الرئيس روزفلت كان محقا في قوله أن الهجوم الياباني مهانة في التاريخ وان على الاميركيين أن يعيشوا تلك المهانة مع قصف بغداد في تشابه مع السياسة الامبراطورية اليابانية.
مع نهاية العقوبات وصدام، كان لدى أميركا العديد من الموارد لإعادة إعمار العراق. كان الشعب مرتاحا ولم يكن للمقاومة أي دعم خارجي لكنها تتطورت من الداخل كجواب على فظاظة الاحتلال وعنف المحتلين. كان يلزم موهبة فعلية للوصول إلى هذا الفشل...
إن هذا الهجوم قد أطلق دورة من العنف ولّدت هي بدورها أعمال عنف أشد كما تدل على ذلك اشتباكات الفلوجة التي توقع الضحايا بين المدنيين بشكل رئيسي. أما العلاقات بين النظام العراقي السابق وتنظيم "القاعدة" فإنها لم تقم أبداً. لكن من "انتصار" الولايات المتحدة بات الجميع يقر بأن العراق تحت الاحتلال أصبح "مرتعاً للإرهابيين". وهذا ما بينته جيسيكا شتيرن، الاختصاصية في شؤون الإرهاب من جامعة هارفرد، في دراسة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" [2] بعد تدمير مقر الأمم المتحدة في بغداد.
وقد وقعت الحرب على العراق بالرغم من معارضة الرأي العام الدولي الذي خشي أن يؤدي هذا الاعتداء، وبنوع من "مفعول البومرنغ" الارتدادي، إلى نشر أسلحة الدمار الشامل والى تفشي الإرهاب. وهذه المخاطر اعتبرتها إدارة السيد جورج دبليو بوش غير ذات أهمية بالمقارنة مع التطلع إلى السيطرة على العراق وثرواته والى إطلاق "الحرب الوقائية" الأولى وإلى تعزيز القبضة على الساحة الأميركية الداخلية.
من جهة أخرى فان "الحرب على الإرهاب" فشلت فشلا ذريعا وتنامت الهجمات الدموية في كل مكان. ولسوء حظ سكانها فان عدد المدن التي ضرب فيها الإرهاب منذ 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 يتزايد باستمرار ومنها حتى الآن بغداد وبالي والدار البيضاء واسطنبول وجاكرتا والقدس وحيفا وأشدود ومومباسا والرياض ومدريد. وبهذا الإيقاع سيكون من الممكن عاجلاً أو آجلاً أن تجمع منظمة عنيفة واحدة بين الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل لتصبح ضرباتها فعلاً أكثر رعباً.
وقد انفضح مفهوم "الحرب الوقائية" العزيز على السيد بوش على حقيقته، فهو ليس عبارة تمويهية من أجل التمكن من مهاجمة الطرف الذي يستهدف بكل حرية. وهذا الطابع الاعتباطي والخطير والعدائي في هذه السياسة هو الذي أثار في شباط/فبراير عام 2003 موجة الاحتجاجات الكبيرة ضد اجتياح العراق. ونظراً إلى النتائج المدمرة لهذه "الحرب الوقائية" الأولى فان الاستياء الدولي من الناهضين بها لا يزال يتزايد إلا سيما مع عدم تمكن واشنطن من تقديم البرهان على امتلاك صدام أسلحة الدمار الشامل. فهذه التهمة خاطئة بكل بساطة، إنها كذبة دولة كبيرة.
ومنذ نيسان/أبريل عام 2003 بينت استطلاعات الرأي أن المواطنين الأميركيين يتمنون أن تتولى الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة المسؤولية الرئيسية بعد الحرب من أجل إعادة بناء العراق سياسياً واقتصادياً. وبالرغم من كل شيء فان فشل الاحتلال أمر مفاجئ نظراً للقوة العسكرية والقدرات التي تتمتع بها الولايات المتحدة وإذا أخذنا في الاعتبار غياب أي دعم من الخارج للمقاومة. وهذا الفشل هو الذي حمل إدارة بوش على التراجع والانصياع لتطلب مساعدة الأمم المتحدة التي أرادت أن تعرف ما إذا كان يمكن للعراق ألا يكون مجرد دولة تابعة لواشنطن، إذ أن أميركا تشكل في بغداد بعثتها الدبلوماسية الأكبر في العالم ليبلغ عدد موظفيها ثلاثة آلاف مما يعني بكل وضوح أن عملية نقل السيادة المقررة في 30 حزيران/يونيو المقبل سوف تكون محدودة.
وما يعزز هذا الشعور هو مطالبة الأميركية بالاحتفاظ في العراق بقواعد عسكرية مهمة وبوجود قوي لكل قواتها العسكرية. كما أن هذه الرغبة في استتباع العراق قد عززتها الأوامر الصادرة عن بول بريمر، مندوب واشنطن، لإبقاء الاقتصاد المحلي منفتحاً وخاضعاً لسيطرة الأجانب (وخصوصاً من الشركات الأميركية المقربة من السيد بوش وحاشيته)، وهو من الشروط التي لا تتقبلها أي دولة تحترم سيادتها. ففقدان السيطرة على الاقتصاد يحد بشكل جذري من السيادة السياسية كما من التطلعات إلى حركة نمو سليمة. وهذا من دروس التاريخ الأكثر وضوحاً إذ لم يتمكن أي بلد مستعمر من تحقيق التطور طالما ظلت سياسته واقتصاده تحت هيمنة القوة المحتلة.
في كانون الأول/ديسمبر عام 2003 أشار تحقيق أجرته "بيبا/نولدج نتوورك" إلى أن الشعب الأميركي نفسه بات متراجعاً جداً في دعمه قرار إدارة بوش الاحتفاظ بوجود عسكري قوي دائم في العراق. وتنتج هذه المخاوف الشعبية من كون الناس لا يؤمنون بصوابية القضية. ومن شأن هذا، إذا ما ترجم في الانتخابات المرتقبة في تشرين الثاني/نوفمبر، أن يؤدي إلى تغيير سياسي أساسي، حتى وإن كانت الانتخابات في الولايات المتحدة لا تقدم الكثير وإن كان الناس يعرفون أن الانتخابات فيها تشرى شراء بشكل عام. فالمرشح الديموقراطي جون كيري وصف أحياناً بأنه "بوش تنقصه بعض الحرارة". إلا انه من الممكن أن تؤدي أحياناً عملية الاختيار بين فصيلين مما يسمّى "حزب الأسياد" إلى سياسات مختلفة، سواء في الشؤون الداخلية أو في السياسة الدولية. فبعض الفوارق في البداية بين هذا المرشح أو ذاك قد تترجم عند الوصول إلى السلطة بتأثيرات ضخمة وذات طبيعة متناقضة جداً سواء انتخب السيد بوش أو السيد كيري. وهذا ما يمكن أن يحدث في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل كما حدث في العام 2000 حين تواجه السيدان بوش وغور.
سياسة بوش صيغتها هي التالية: "تحرير العالم من الشر والإرهاب". فبعد 11 أيلول/سبتمبر أكد أن "إعلان الحرب على الإرهاب هو أيضاً إعلان حرب على كل دولة تقدم الملجأ للإرهابيين. ذاك أن كل دولة تؤوي إرهابيين على أرضها تكون هي نفسها دولة إرهابية ويجب أن تعامل على هذا الأساس". وباسم هذه السياسة خاض السيد بوش الحرب في أفغانستان في العام 2001 وفي العراق عام 2002، وهو اليوم يهدد دولاً أخرى مثل سوريا. وهنا يمكن التساؤل هل أن موقف بوش متماسك فعلاً إذ أن هناك الكثير من الدول الأخرى التي نؤوي إرهابيين وتحميهم ولم تتعرض لا للقصف ولا للاجتياح، وبدءاً بـ...الولايات المتحدة نفسها!
فكما هو معروف، فقد أشرفت الولايات المتحدة منذ العام 1959، على اعتداءات إرهابية على كوبا. فقد كان هناك اجتياح خليج الخنازير في العام 1961 وإطلاق نيران الرشاشات المضادة للطيران على المدنيين، وزرع القنابل في الأماكن العامة في هافانا وغيرها من المدن، واغتيال الموظفين وتدمير طائرة تجارية أثناء رحلة لها في العام 1961 سقط فيها ثمانون قتيلاً، ناهيك بعشرات المؤامرات لاغتيال السيد فيديل كاسترو. فأورلاندو بوش (Bosch) هو من الإرهابيين المعادين لكاسترو الأكثر بروزاً، والمتهم بكونه العقل المدبر للاعتداء على الطائرة المدنية في العام 1976. وفي العام 1989 ألغى السيد جورج بوش (Bush) الأب قرار وزارة العدل التي كانت رفضت طلب اللجوء السياسي الذي تقدم به السيد بوش. وها أن هذا الأخير يعيش اليوم بأمان في الولايات المتحدة مواصلاً نشاطاته المعادية لنظام كاسترو.
وتتضمن أيضاً لائحة الإرهابيين الذين وجدوا ملاذاً في الولايات المتحدة السيد إيمانويل كونستان الملقب "توتو"، من هايتي، وهو زعيم سابق من القوات شبه العسكرية من زمن دوفالييه. و"توتو" هذا هو مؤسس "الجبهة الثورية للتقدم والتطور في هايتي"، وهي مجموعة شبه عسكرية أرهبت السكان ما بين العامين 1990 و1994 بناء على أوامر من المجلس الحاكم الذي كان قد أطاح الرئيس أريستيد. وبحسب معلومات حديثة فان "توتو" هذا يعيش حالياً في حي "كوينز" في نيويورك. وقد رفضت واشنطن الطلب الذي قدمته هايتي لتسليم المجرمين. ولماذا؟ لأن من الممكن أن يفضح "توتو" العلاقة بين الولايات المتحدة والمجلس الحاكم المسؤول عن قتل ما بين 4000 و5000 هايتي، على يد المجلس الثوري للتقدم والتطور في هايتي... وما يجدر ذكره أيضاً هو أنه كان بين رجال العصابات الذين شاركوا إلى جانب القوات الأميركية في الانقلاب الأخير على الرئيس أريستيد العديد من الزعماء السابقين في "الجبهة الثورية للتقدم والتطور في هايتي" الإرهابية...
ولا تزال واشنطن ترفض تسليم أولئك الذين خدموها فعلاً حتى وإن كانوا من الإرهابيين. ففنزويلا طالبت، في شباط/فبراير عام 2003 بتسليمها ضابطين شاركا في انقلاب 11 نيسان/أبريل على الرئيس هوغو شافيز ثم أعدا في ما بعد لاعتداء في كاراكاس قبل أن يفرا إلى ميامي حيث وجدا لهما ملاذاً. وبالطبع فان واشنطن رفضت التسليم.
ما يعني أن ليس الإرهابيون جميعاً من طينة واحدة. وأولئك الذين يخدمون مصالح الولايات المتحدة لا يمكن وصفهم بالعبارة المحقرة "إرهابيون". فهم "المناضلون الجدد من أجل الحرية" كما كانت وسائل الإعلام تصف في ما مضى السيد أسامة بن لادن نفسه يوم كان يرهب السوفيات لحساب أميركا...
* أستاذ علوم اللغويّات في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا MIT، بوسطن، الولايات المتحدة.
مايو 2004