مقاهي شارع الحمراء في بيروت «في خبر كان» والمثقفون «تهجّروا» إلى البحر
طوى شارع الحمراء صفحة مقاهيه العتيقة. الشارع الذي تحوّل قبلة المثقفين اللبنانيين والعرب منذ خمسينات القرن الماضي، صمدت فيه ثلاثة مقاهٍ بعد انتهاء الحرب شكّلت ثلاثياً ذاع صيته في لبنان والعالم العربي. لكن بداية النهاية كانت مع اغلاق مقهيي «مودكا» و«ويمبي»، واكتملت الشهر الفائت مع اغلاق مقهى «كافيه دو باري».
انتهت اذا قصة المقاهي في شارع الحمراء الذي شهد في 22 نوفمبر 1959 افتتاح أول مقهى رصيف لصاحبه منح الدبغي هو مقهى «هورس شو» الذي أصبح نقطة استقطاب الأدباء والمثقفين والسياسيين اللبنانيين والعرب، تبعه مقهى «لكسبرس» في مركز صباغ مطلع السبعينات، ومقهى «مانهاتن» في مركز فرح، ومقاهي «نيغرسكو» و«ستراند» و«الدورادو» و«كافيه دو باري» و«مودكا» و«ويمبي» الذي كان آخر العنقود. وقد أقفلت هذه المقاهي تباعا.
في الفصل الأخير من قصة مقاهي الحمراء، كان «مودكا» أول المغادرين في 28 فبراير العام 2003 . يومها، نزل عشرات الشبان والشابات الى رصيف المقهى في تظاهرة صغيرة كان الهدف منها محاولة منع اقفاله. ولم يرتكز هذا التحرك إلى أسباب منطقية أو قانونية، بل إلى أسباب عاطفية. وشكّل المحتجون على الإقفال لجنة سموْها «لجنة متابعة إنقاذ المودكا».
ثم سال «دم» المقهى غزيراً على صفحات الجرائد التي كان «مودكا» يحتضن كثيرين من كتابها. وقيل يومها إنّ «مودكا» سقط صعوداً، من سفح الواقع الى عرش الذاكرة، فكان سقوطه حنوناً، متواضعاً وأبياً.
ولم يلبث أن لحق به مقهى «ويمبي» في 4 فبراير 2007 . يومها أيضاً، امتلأت صفحات الجرائد والمجلات بتغطيات وتحقيقات ومقالات، إما تندب المقهى والشارع وتتحسر لايام عزّه وشبابه، واما ترثي الإقفال بكثير من الحنين والانحياز.
رثاء ... إيجابي
أقفل باب الرصيف إذا في وجوه الشعراء والمثقفين، الذين تعودوا تمضية أوقاتهم في المكان الذي كان يسمى «كافيه دو باري»، وتحوّل ورشة عمل تمهيداً ليتحول مطعم وجبات سريعة.
الشاعر اللبناني عصام العبد الله يرفض استخدام تعبير «الرثاء» بالمعنى السلبي، ويقول: «مازال تاريخنا الشخصي على الكراسي، حيث النادلون يلملمون حكاياتنا في جيوبهم ويبيعونها في أماكن أخرى». ويضيف: «يجب ألا ننسى، ومن الضروري أن نتذكر، وهذا ليس حنيناً مرضياً بل هذه تسمّى ذاكرة، لأنّ أمثالنا، في عمرنا، يلعبون بالذاكرة وليس بالمستقبل الذي صار صغيراً. والذاكرة جميلة ومليئة بالشعر والحوادث والنميمة والنكات والسخرية، ولا إنسان من دون ذاكرة».
العبد الله يشبّه المقهى بـ «ملعب الكلام، لأننا «حكوجيون» وعملنا هو الكلام والحكي، والمقهى هو ملعب والطاولة مثل ملعب الفوتبول، وكرتنا بدل الطابة هي الكلام الذي نعيش على تبادله».
اما الشاعر السوري ماهر شرف الدين، الذي عاش فترة طويلة في بيروت، فيعتبر أن «ما يحصل هو أخطر من مسألة إقفال مقهى. فاليوم، تقذف المدن مقاهيها إلى أطرافها، كما يقذف البحر الأجسام الغريبة إلى شاطئه. فالمقهى هو رمز ثقافي مديني، وفي هذا المعنى تكون المدينة قد لفظت ثقافتها إلى أطرافها، إلى الهامش. والأنكى من ذلك أن ما يحلّ محلّ المقهى المقفل هو محال الألبسة الفاخرة الخاصة بالسيّاح. وبكلام آخر، بيروت اليوم تطرد مثقفيها كرمى لاعين السيّاح، وفي ذلك معنى خطير يستحقّ التوجّس منه».
وتذكر الرسامة اللبنانية سهى صباغ بأنّه «في فرنسا يمنع إقفال المقاهي إذا تخطّى عمرها خمسة وعشرين عاماً، لأنها تصير جزءاً من ذاكرة المكان»، وتضيف: «حتى البيوت القديمة التي تعتبر أثرية تهدم في لبنان لأنّ ثقافة احترام الذاكرة غير موجودة، والمواطنون الساكتون يتحملون المسؤولية إلى جانب المسؤولين والدولة».
ويتابع شرف الدين المفتون بقصص المقاهي «لا نبالغ حين نقول أن المقهى رمز ثقافي، بل إن المقهى في الحقيقة هو أكثر من ذلك. كان مقهى «ريش» في القاهرة يمنع تدخين الشيشة أو لعب الكوتشينة (ورق الشدة) أو طاولة الزهر لأنه ذو طبيعة ثقافية وروّاده من المثقفين. فهؤلاء الروّاد عاشوا قصص حبهم فيه، مكللين بعضها بالزواج: الشاعر أمل دنقل والصحافية عبلة الرويني، الشاعر أحمد فؤاد نجم والكاتبة صافيناز كاظم، الفنان محمد عبد القدوس وروز اليوسف. حتى أن دواوين عدّة صدرت تتغزل بهذا المقهى، كديوان «بروتوكولات ريش» لنجيب سرور، والقصيدة الشهيرة لأحمد فؤاد نجم، التي طالما تغنّى بها الشيخ إمام عيسى في السبعينات. هذا المقهى ارتاده جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وعبد الفتاح إسماعيل رئيس جمهورية اليمن الشعبي الأسبق، وفيه كان لنجيب محفوظ (الزبون المشترك لكل المقاهي الشهيرة في مصر) ندوة كل يوم جمعة من السادسة مساءً إلى الثامنة والنصف، استمر في إلقائها حتى منتصف الستينات. كما أن اجتماعاً عُقد فيه ضمّ أبرز فناني مصر، على رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب في الأربعينات من القرن المنصرم، وأسفر عن إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر والعالم العربي». ويقول ايضا: «مثلما كانت المقاهي أشبه بدور نشر شعبية أو جامعات غير رسمية، شكّلت أيضاً، في بعض المراحل، مراكز بريد بين الريف والمدينة. كما كان بعضها ملتقى للسياسيين في سبيل الاقتراب من الشعب وأبناء المناطق البعيدة، حتى أن الحاج متري، صاحب مقهى «متري» البيروتي، كان يُطلب رضاه في الانتخابات النيابية في لبنان».
روّاد «كافيه دو باري» كانوا روّاد مقاه أخرى في الشارع نفسه. بعضهم تهجّر من مقهى «مودكا»، الذي تحوّل متجرا لبيع الألبسة، وآخرون من مقهى «ويمبي»، الذي صار متجر ألبسة أيضاً. أما العبد الله فتهجّر في العام 1994 من مقهى «لكسبرس» الشهير شرق شارع الحمراء، الذي تحوّل مطعم «بيتزا هات» ثم مقهى حديثاً.
وتعتبر صبّاغ انه «بإقفال مقهى أو مكان عام يقفل شيئا من الذاكرة». لهذا السبب لا يستطيع عصام وسهى وآخرون التأقلم مع المقاهي الجديدة، الحديثة، التي حلّت محلّ المثلثّ القديم.
اما نعيم صالح فيعتبر شاهدا على أفول المقاهي، هو الذي يبيع الجرائد في الحمراء منذ العام 1965 «الحمرا كلها تتراجع والمكان الذي نقف فيه يتغير باستمرار، ولا أظنّ نحو الأفضل، لأن ما يذهب لا يعود».
مقهى «الروضة»
من هنا، ارتحل الشعراء والفنانون والمثقفون نحو البحر، وأذعنوا لحركة الشارع الجديدة، التي حذفت المقاهي القديمة من الصورة واقترحت بدلاً منها مقاهي حديثة ومتاجر ألبسة. وقد اختار آخر المطرودين مقهى «الروضة» البحري في عين المريسة «لأننا نفتش عن الاماكن التي لا تنزعج منّا، وحيث لا يقف النادل على رأسك ريثما تنتهي من فنجان القهوة وتغادر. هنا في الروضة (حيث أجرينا المقابلة) تنسى نفسك ولا أحد يزعجك وهو من أجمل الأماكن في بيروت ونرجو ألا يقفلوه»، على قول صباغ.
أما العبد الله فيوضح «اننا جربنا مقهى «ليناس» الحديث غرب الحمرا فلم يعجبنا، فأكملنا في اتجاه الغرب لنصل إلى الروضة، وإذا أقفلوا الروضة نكمل إلى البحر أو إلى قبرص او الى الماء». ويعلق حزينا: «أظن أنّ هناك من يطردنا من المدينة، قد تكون الحرب هي من بدأ يطردنا». ويبرر هذا الطرد: «نحن صنف لا يطاق من الناس، نمد ألسنتنا على السياسين والتاريخ والجغرافيا والاهل والاصدقاء والعرب والعجم والاميركيين، لذلك هناك من هو منزعج منا، ربما روح شريرة هي روح العالم الاستهلاكي الجديد والعولمة المتوحشة، التي يقول البعض عنها إنها جميلة، ولم يعد أمامنا سوى الملح». لكنّه يعتب على الروضة «لأنّنا نشعر بأننا محذوفون من المدينة بعدما كنا داخل المدينة وفي وسطها في الحمرا. هناك، نرى الناس من دون موعد، أما هنا على البحر فلا يصل إلا من يقصد المكان بينما على رصيف الحمرا تلتقي شخصاً لم تره منذ عشرين عاماً، كأنك على قارعة الطريق أو تفتح بيتك على الدرب في ساحة الضيعة».
ويروي شرف الدين بشعرية لافتة «قصة الأدباء مع المقاهي وقصة الأدب مع فنجان القهوة» ويضيف «المقهى طاحونة فعلاً، طاحونة للوقت والأفكار والسجال، طاحونة بالمعنى الإيجابي طبعاً. لكن ـ مع إقفال المقاهي في هذا الشكل المريب ـ يبدو أن ثمة طاحونة أخرى عملاقة ومتوحشة قررت أن تأتي على مقاهي المدينة ومثقفيها».
في اي حال، لن يعيد هذا الرثاء للمنتحبين كراسيهم العتيقة، ولن يبني الشعر لهم أرصفة من الكلام ومقاهي من المجاز. الثابت الوحيد هو أنّ ذاكرة المدينة خسرت صورة ثقافية وتاريخية كان يمكن المحافظة عليها بطريقة أو بأخرى.
يبقى أنّ شارع الحمراء غرق في المتاجر والمطاعم، وبدلا من المقاهي خرجت إلى واجهته اليوم النوادي الليلية، مثل «ريغوستو»، «بارومتر» و«دو براغ».
طوى شارع الحمراء صفحة مقاهيه العتيقة. الشارع الذي تحوّل قبلة المثقفين اللبنانيين والعرب منذ خمسينات القرن الماضي، صمدت فيه ثلاثة مقاهٍ بعد انتهاء الحرب شكّلت ثلاثياً ذاع صيته في لبنان والعالم العربي. لكن بداية النهاية كانت مع اغلاق مقهيي «مودكا» و«ويمبي»، واكتملت الشهر الفائت مع اغلاق مقهى «كافيه دو باري».
انتهت اذا قصة المقاهي في شارع الحمراء الذي شهد في 22 نوفمبر 1959 افتتاح أول مقهى رصيف لصاحبه منح الدبغي هو مقهى «هورس شو» الذي أصبح نقطة استقطاب الأدباء والمثقفين والسياسيين اللبنانيين والعرب، تبعه مقهى «لكسبرس» في مركز صباغ مطلع السبعينات، ومقهى «مانهاتن» في مركز فرح، ومقاهي «نيغرسكو» و«ستراند» و«الدورادو» و«كافيه دو باري» و«مودكا» و«ويمبي» الذي كان آخر العنقود. وقد أقفلت هذه المقاهي تباعا.
في الفصل الأخير من قصة مقاهي الحمراء، كان «مودكا» أول المغادرين في 28 فبراير العام 2003 . يومها، نزل عشرات الشبان والشابات الى رصيف المقهى في تظاهرة صغيرة كان الهدف منها محاولة منع اقفاله. ولم يرتكز هذا التحرك إلى أسباب منطقية أو قانونية، بل إلى أسباب عاطفية. وشكّل المحتجون على الإقفال لجنة سموْها «لجنة متابعة إنقاذ المودكا».
ثم سال «دم» المقهى غزيراً على صفحات الجرائد التي كان «مودكا» يحتضن كثيرين من كتابها. وقيل يومها إنّ «مودكا» سقط صعوداً، من سفح الواقع الى عرش الذاكرة، فكان سقوطه حنوناً، متواضعاً وأبياً.
ولم يلبث أن لحق به مقهى «ويمبي» في 4 فبراير 2007 . يومها أيضاً، امتلأت صفحات الجرائد والمجلات بتغطيات وتحقيقات ومقالات، إما تندب المقهى والشارع وتتحسر لايام عزّه وشبابه، واما ترثي الإقفال بكثير من الحنين والانحياز.
رثاء ... إيجابي
أقفل باب الرصيف إذا في وجوه الشعراء والمثقفين، الذين تعودوا تمضية أوقاتهم في المكان الذي كان يسمى «كافيه دو باري»، وتحوّل ورشة عمل تمهيداً ليتحول مطعم وجبات سريعة.
الشاعر اللبناني عصام العبد الله يرفض استخدام تعبير «الرثاء» بالمعنى السلبي، ويقول: «مازال تاريخنا الشخصي على الكراسي، حيث النادلون يلملمون حكاياتنا في جيوبهم ويبيعونها في أماكن أخرى». ويضيف: «يجب ألا ننسى، ومن الضروري أن نتذكر، وهذا ليس حنيناً مرضياً بل هذه تسمّى ذاكرة، لأنّ أمثالنا، في عمرنا، يلعبون بالذاكرة وليس بالمستقبل الذي صار صغيراً. والذاكرة جميلة ومليئة بالشعر والحوادث والنميمة والنكات والسخرية، ولا إنسان من دون ذاكرة».
العبد الله يشبّه المقهى بـ «ملعب الكلام، لأننا «حكوجيون» وعملنا هو الكلام والحكي، والمقهى هو ملعب والطاولة مثل ملعب الفوتبول، وكرتنا بدل الطابة هي الكلام الذي نعيش على تبادله».
اما الشاعر السوري ماهر شرف الدين، الذي عاش فترة طويلة في بيروت، فيعتبر أن «ما يحصل هو أخطر من مسألة إقفال مقهى. فاليوم، تقذف المدن مقاهيها إلى أطرافها، كما يقذف البحر الأجسام الغريبة إلى شاطئه. فالمقهى هو رمز ثقافي مديني، وفي هذا المعنى تكون المدينة قد لفظت ثقافتها إلى أطرافها، إلى الهامش. والأنكى من ذلك أن ما يحلّ محلّ المقهى المقفل هو محال الألبسة الفاخرة الخاصة بالسيّاح. وبكلام آخر، بيروت اليوم تطرد مثقفيها كرمى لاعين السيّاح، وفي ذلك معنى خطير يستحقّ التوجّس منه».
وتذكر الرسامة اللبنانية سهى صباغ بأنّه «في فرنسا يمنع إقفال المقاهي إذا تخطّى عمرها خمسة وعشرين عاماً، لأنها تصير جزءاً من ذاكرة المكان»، وتضيف: «حتى البيوت القديمة التي تعتبر أثرية تهدم في لبنان لأنّ ثقافة احترام الذاكرة غير موجودة، والمواطنون الساكتون يتحملون المسؤولية إلى جانب المسؤولين والدولة».
ويتابع شرف الدين المفتون بقصص المقاهي «لا نبالغ حين نقول أن المقهى رمز ثقافي، بل إن المقهى في الحقيقة هو أكثر من ذلك. كان مقهى «ريش» في القاهرة يمنع تدخين الشيشة أو لعب الكوتشينة (ورق الشدة) أو طاولة الزهر لأنه ذو طبيعة ثقافية وروّاده من المثقفين. فهؤلاء الروّاد عاشوا قصص حبهم فيه، مكللين بعضها بالزواج: الشاعر أمل دنقل والصحافية عبلة الرويني، الشاعر أحمد فؤاد نجم والكاتبة صافيناز كاظم، الفنان محمد عبد القدوس وروز اليوسف. حتى أن دواوين عدّة صدرت تتغزل بهذا المقهى، كديوان «بروتوكولات ريش» لنجيب سرور، والقصيدة الشهيرة لأحمد فؤاد نجم، التي طالما تغنّى بها الشيخ إمام عيسى في السبعينات. هذا المقهى ارتاده جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وعبد الفتاح إسماعيل رئيس جمهورية اليمن الشعبي الأسبق، وفيه كان لنجيب محفوظ (الزبون المشترك لكل المقاهي الشهيرة في مصر) ندوة كل يوم جمعة من السادسة مساءً إلى الثامنة والنصف، استمر في إلقائها حتى منتصف الستينات. كما أن اجتماعاً عُقد فيه ضمّ أبرز فناني مصر، على رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب في الأربعينات من القرن المنصرم، وأسفر عن إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر والعالم العربي». ويقول ايضا: «مثلما كانت المقاهي أشبه بدور نشر شعبية أو جامعات غير رسمية، شكّلت أيضاً، في بعض المراحل، مراكز بريد بين الريف والمدينة. كما كان بعضها ملتقى للسياسيين في سبيل الاقتراب من الشعب وأبناء المناطق البعيدة، حتى أن الحاج متري، صاحب مقهى «متري» البيروتي، كان يُطلب رضاه في الانتخابات النيابية في لبنان».
روّاد «كافيه دو باري» كانوا روّاد مقاه أخرى في الشارع نفسه. بعضهم تهجّر من مقهى «مودكا»، الذي تحوّل متجرا لبيع الألبسة، وآخرون من مقهى «ويمبي»، الذي صار متجر ألبسة أيضاً. أما العبد الله فتهجّر في العام 1994 من مقهى «لكسبرس» الشهير شرق شارع الحمراء، الذي تحوّل مطعم «بيتزا هات» ثم مقهى حديثاً.
وتعتبر صبّاغ انه «بإقفال مقهى أو مكان عام يقفل شيئا من الذاكرة». لهذا السبب لا يستطيع عصام وسهى وآخرون التأقلم مع المقاهي الجديدة، الحديثة، التي حلّت محلّ المثلثّ القديم.
اما نعيم صالح فيعتبر شاهدا على أفول المقاهي، هو الذي يبيع الجرائد في الحمراء منذ العام 1965 «الحمرا كلها تتراجع والمكان الذي نقف فيه يتغير باستمرار، ولا أظنّ نحو الأفضل، لأن ما يذهب لا يعود».
مقهى «الروضة»
من هنا، ارتحل الشعراء والفنانون والمثقفون نحو البحر، وأذعنوا لحركة الشارع الجديدة، التي حذفت المقاهي القديمة من الصورة واقترحت بدلاً منها مقاهي حديثة ومتاجر ألبسة. وقد اختار آخر المطرودين مقهى «الروضة» البحري في عين المريسة «لأننا نفتش عن الاماكن التي لا تنزعج منّا، وحيث لا يقف النادل على رأسك ريثما تنتهي من فنجان القهوة وتغادر. هنا في الروضة (حيث أجرينا المقابلة) تنسى نفسك ولا أحد يزعجك وهو من أجمل الأماكن في بيروت ونرجو ألا يقفلوه»، على قول صباغ.
أما العبد الله فيوضح «اننا جربنا مقهى «ليناس» الحديث غرب الحمرا فلم يعجبنا، فأكملنا في اتجاه الغرب لنصل إلى الروضة، وإذا أقفلوا الروضة نكمل إلى البحر أو إلى قبرص او الى الماء». ويعلق حزينا: «أظن أنّ هناك من يطردنا من المدينة، قد تكون الحرب هي من بدأ يطردنا». ويبرر هذا الطرد: «نحن صنف لا يطاق من الناس، نمد ألسنتنا على السياسين والتاريخ والجغرافيا والاهل والاصدقاء والعرب والعجم والاميركيين، لذلك هناك من هو منزعج منا، ربما روح شريرة هي روح العالم الاستهلاكي الجديد والعولمة المتوحشة، التي يقول البعض عنها إنها جميلة، ولم يعد أمامنا سوى الملح». لكنّه يعتب على الروضة «لأنّنا نشعر بأننا محذوفون من المدينة بعدما كنا داخل المدينة وفي وسطها في الحمرا. هناك، نرى الناس من دون موعد، أما هنا على البحر فلا يصل إلا من يقصد المكان بينما على رصيف الحمرا تلتقي شخصاً لم تره منذ عشرين عاماً، كأنك على قارعة الطريق أو تفتح بيتك على الدرب في ساحة الضيعة».
ويروي شرف الدين بشعرية لافتة «قصة الأدباء مع المقاهي وقصة الأدب مع فنجان القهوة» ويضيف «المقهى طاحونة فعلاً، طاحونة للوقت والأفكار والسجال، طاحونة بالمعنى الإيجابي طبعاً. لكن ـ مع إقفال المقاهي في هذا الشكل المريب ـ يبدو أن ثمة طاحونة أخرى عملاقة ومتوحشة قررت أن تأتي على مقاهي المدينة ومثقفيها».
في اي حال، لن يعيد هذا الرثاء للمنتحبين كراسيهم العتيقة، ولن يبني الشعر لهم أرصفة من الكلام ومقاهي من المجاز. الثابت الوحيد هو أنّ ذاكرة المدينة خسرت صورة ثقافية وتاريخية كان يمكن المحافظة عليها بطريقة أو بأخرى.
يبقى أنّ شارع الحمراء غرق في المتاجر والمطاعم، وبدلا من المقاهي خرجت إلى واجهته اليوم النوادي الليلية، مثل «ريغوستو»، «بارومتر» و«دو براغ».