أهذه غيبوبة الموت.. أم الحلول في الأشياء؟
أيتها الكآبة المحروقة المشوهة
الشمس في دمي.. والنار في عروقي
فكيف تصلبينني.. على صقيع الحزن والكآبة؟
الشاعر/ علي عبد القيوم
صدفة نافرة:
تراه هناك بقلب مفطور، يتسلل خلسة إلى البناء الطيني الدائري ذي السقف العشبي، مباغتاً غفلتها بالمزاح،..يدس قامته القصيرة بين سيقان الذرة المترنحة؛ بعد أن سكرت رؤوسها خصباً وحباً، ،يتقافز حولها وكلبه باسط ذراعيه بالوصيد،.. تبصره من على البعد في مصارعة الصبيان أسفل حضن الجبل، تحت قامات أشجار التبلدي، وقد أخذت الأرض زخرفها وازينت على بساط الخضرة، مزهواً بقوته، بعد أن ظفر بخصمه، يرقص على إيقاع الكمبلا الذي تعزفه أعماقه بابتهاج، وصياح هستيري من قبلهم:(عاش الثور الأسود.. عاش الثور الأسود)، .
تهتف الشوارع وتصرخ.. تئن وتهتز.. تبكي وتنتحب،(أم الشهيد أمي..دم الشهيد دمي) لكن مريم كانت في صمم عن كل ذلك، كأن في أذنيها وقر،تجد صعوبة في شد قامتها؛ ساهمت المأساة في ازدياد تقوس ظهرها؛ وانكباب وجهها على الأرض، وبينها وبين ذلك الحشد البشري الذي تتوسطه برزخ من الألم، وسنين مبددة من المعاناة بعد أن تلاشى طعم السعادة، وحلت محله مرارة بطعم الحنظل، التصقت بأسفل حلقها وبأيامها، وحده ذلك النابض كان يقاسي، يصارع من أجل أن يبقى على قيد الحياة، لكن حياتها الآن بلا معنى ولا هدف، كل شيء أضحى مقفراً، تمنت في أعماقها أن يتوقف عن ضخ عصارته، عله يسكت هذا الألم وينهي هذا الرهق.
يتراءى لها من على البعد، هناك.. في مقدمة الموكب محمولاً على هامات الشباب، يتجه ناحيتها وقد رفع لافتة تقطر أحمراً قانياً (حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب)، كاد قلبها السقيم الذي يحمل كل آهات الثكالى، وأحزان اليتامى، وبؤس الفقراء أن يتوقف؛ حين أنزل عيسى تلك اللافتة ولوح لها بيده عالياً، قفزت الدموع من عينيها ترد تحيته وهي تصرخ، لكن صورته أخذت بالأفول تدريجياً، إلى أن غابت عن ناظريها، تتساءل في أعماقها:لم الضوء يسلبنا طيف من نحب؟.
عقلها الباطن يصر على استعادة صورته، رأته يوم ختانه، محاطاً بأمنيات والده بعد أن كناه (بالثور الأسود)؛عله يكون من المصارعين الأشداء الذين تفخر بهم القبيلة، يزين عنقه بتلك القلادة التي صنعتها العرافة، من أنياب الثعابين وثنايا الثيران وبعض حبات الخرز، انقبض قلبها إذ تذكرت تلك الحادثة، حين نثرت العرافة أصداف البحر؛ وهي تتنبأ بطالعه، لمعت عيناها حين رأت تلك الصدفة تبتعد عن المجموعة، وهو ما اعتبرته نذير شؤم، لكن لم يخطر ببالها أن تحل تلك المأساة بوحيدها،.. وحين بدد أزيز طيور النار الضخمة سكون الجبل، وأضحى خصبه رماداً وخراباً، نزحت وعيسى باتجاه مسقط رأس تلك الطيور، بعد أن دفنت أمان زوج وشفقة والد، عانت شظف الحياة وبؤسها، حتى شب وترعرع فلذة كبدها.. تذكرت سيل الدموع وهو ينهمر على وجهه الأبنوسي، يوم ذبح الثور الأسود؛ عندما بتر طرف الوطن السفلي، كيف ذهب مغاضباً، متمنياً الموت ألف مرة قبل أن يفعلوا ذلك، تساءلت عندها؟ من أجل ماذا يقتل الانسان أخاه الانسان؟
تراه جالساً عند قدميها يفرقع في متعةٍ التعب من أصابعها، آملاً أن تدخلاه الجنة، يقبل جبينها بينما تتحسس شعره الأجعد، يتمنى حين ينهي دراسة الطب في الجامعة العاصمية، ان يعود لمسقط رأسه في الجبال، يبحث عن هويته وتراث أجداده، لكنه قبل ذلك آمن بقضية وطنه، كادت أن تتعثر، ساعدتها النسوة من حولها في حفظ توازنها، ومن ثم كانت الخطى تتقدم من جديد.
كان قول إحدى النساء لها بأنه الآن في حوصلة طائر أخضر ضخم، أشد رعباً من الفجيعة نفسها، وازداد ذلك الرعب حين أمنت بعض النساء على كلامها، لم يستوعب عقلها تلك الكلمات، تحدث نفسها في أسى وفزع: ألا تكفي وحشية قتله في حياته؟ لينال منه ذلك الطائر بعد سكون جسده!؟ أهو ذاك الموت الذي يخشاه الناس؟ ولم القبر إذن!؟ في ذات المساء كان عقلها الباطن يرى الطائر الضخم معكوف المنقار؛ وقد التصقت مزعة لحم من الجسد بمنقاره، كان جاثماً على ذلك الجسد غارساً مخالب قدميه الحادة والقوية،وقد امتلأت نصف حوصلته، وعند ذاك الحد تماماً كانت صرختها تجلجل في الظلام.
حين حلت تلك اللحظة بعينها؛ التي ذبح فيها الثور الأسود مرتين، عندما لون غسق المساء السماء بلون الدماء، تلك اللحظة التي تقتلها ألف مرة، عاد الطيف مرة أخرى متسربلاً بدماءه في تلك البقعة، لكنه لم يكن يتألم هذه المرة، رأت صفحة وجهه بقسماته الهادئة، وابتسامته الساحرة بأسنانه البيضاء كحبات اللؤلؤ، ثم بدأ ذلك الطيف يتشكل كدهمة سوداء، ما لبث أن استقر في هيئة رأس طائر أخضر ضخم، سرعان ما اكتملت هيئته وأطرافه، ثم بدأ يجوب الأفق، مبدداً على وقع رفرفة أجنحته بعض ندف السحب، يجرد السماء من لون الدماء ، حتى عادت صافية كقلب الرضيع، ومن ثم جمع كل ألوان السواد من الحشد في منظر مهيب، يقصد البقعة التي تتوسط المسيرة، وحط مباعداً بين ريش أجنحته وذيله للأسفل.. اقترب منها.. أحنى رأسه..يمسح بمقدمة منقاره المعكوف مشط قدمها.. ومن ثم كان يقرفص لتصعد على ظهره، ..كان ذلك آخر ما رأته، قبل أن ينطلق بها من جديد،.. باتجاه الأعالي، كصدفة بحر نافرة تبحث عن الخلود.
أيتها الكآبة المحروقة المشوهة
الشمس في دمي.. والنار في عروقي
فكيف تصلبينني.. على صقيع الحزن والكآبة؟
الشاعر/ علي عبد القيوم
صدفة نافرة:
تراه هناك بقلب مفطور، يتسلل خلسة إلى البناء الطيني الدائري ذي السقف العشبي، مباغتاً غفلتها بالمزاح،..يدس قامته القصيرة بين سيقان الذرة المترنحة؛ بعد أن سكرت رؤوسها خصباً وحباً، ،يتقافز حولها وكلبه باسط ذراعيه بالوصيد،.. تبصره من على البعد في مصارعة الصبيان أسفل حضن الجبل، تحت قامات أشجار التبلدي، وقد أخذت الأرض زخرفها وازينت على بساط الخضرة، مزهواً بقوته، بعد أن ظفر بخصمه، يرقص على إيقاع الكمبلا الذي تعزفه أعماقه بابتهاج، وصياح هستيري من قبلهم:(عاش الثور الأسود.. عاش الثور الأسود)، .
تهتف الشوارع وتصرخ.. تئن وتهتز.. تبكي وتنتحب،(أم الشهيد أمي..دم الشهيد دمي) لكن مريم كانت في صمم عن كل ذلك، كأن في أذنيها وقر،تجد صعوبة في شد قامتها؛ ساهمت المأساة في ازدياد تقوس ظهرها؛ وانكباب وجهها على الأرض، وبينها وبين ذلك الحشد البشري الذي تتوسطه برزخ من الألم، وسنين مبددة من المعاناة بعد أن تلاشى طعم السعادة، وحلت محله مرارة بطعم الحنظل، التصقت بأسفل حلقها وبأيامها، وحده ذلك النابض كان يقاسي، يصارع من أجل أن يبقى على قيد الحياة، لكن حياتها الآن بلا معنى ولا هدف، كل شيء أضحى مقفراً، تمنت في أعماقها أن يتوقف عن ضخ عصارته، عله يسكت هذا الألم وينهي هذا الرهق.
يتراءى لها من على البعد، هناك.. في مقدمة الموكب محمولاً على هامات الشباب، يتجه ناحيتها وقد رفع لافتة تقطر أحمراً قانياً (حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب)، كاد قلبها السقيم الذي يحمل كل آهات الثكالى، وأحزان اليتامى، وبؤس الفقراء أن يتوقف؛ حين أنزل عيسى تلك اللافتة ولوح لها بيده عالياً، قفزت الدموع من عينيها ترد تحيته وهي تصرخ، لكن صورته أخذت بالأفول تدريجياً، إلى أن غابت عن ناظريها، تتساءل في أعماقها:لم الضوء يسلبنا طيف من نحب؟.
عقلها الباطن يصر على استعادة صورته، رأته يوم ختانه، محاطاً بأمنيات والده بعد أن كناه (بالثور الأسود)؛عله يكون من المصارعين الأشداء الذين تفخر بهم القبيلة، يزين عنقه بتلك القلادة التي صنعتها العرافة، من أنياب الثعابين وثنايا الثيران وبعض حبات الخرز، انقبض قلبها إذ تذكرت تلك الحادثة، حين نثرت العرافة أصداف البحر؛ وهي تتنبأ بطالعه، لمعت عيناها حين رأت تلك الصدفة تبتعد عن المجموعة، وهو ما اعتبرته نذير شؤم، لكن لم يخطر ببالها أن تحل تلك المأساة بوحيدها،.. وحين بدد أزيز طيور النار الضخمة سكون الجبل، وأضحى خصبه رماداً وخراباً، نزحت وعيسى باتجاه مسقط رأس تلك الطيور، بعد أن دفنت أمان زوج وشفقة والد، عانت شظف الحياة وبؤسها، حتى شب وترعرع فلذة كبدها.. تذكرت سيل الدموع وهو ينهمر على وجهه الأبنوسي، يوم ذبح الثور الأسود؛ عندما بتر طرف الوطن السفلي، كيف ذهب مغاضباً، متمنياً الموت ألف مرة قبل أن يفعلوا ذلك، تساءلت عندها؟ من أجل ماذا يقتل الانسان أخاه الانسان؟
تراه جالساً عند قدميها يفرقع في متعةٍ التعب من أصابعها، آملاً أن تدخلاه الجنة، يقبل جبينها بينما تتحسس شعره الأجعد، يتمنى حين ينهي دراسة الطب في الجامعة العاصمية، ان يعود لمسقط رأسه في الجبال، يبحث عن هويته وتراث أجداده، لكنه قبل ذلك آمن بقضية وطنه، كادت أن تتعثر، ساعدتها النسوة من حولها في حفظ توازنها، ومن ثم كانت الخطى تتقدم من جديد.
كان قول إحدى النساء لها بأنه الآن في حوصلة طائر أخضر ضخم، أشد رعباً من الفجيعة نفسها، وازداد ذلك الرعب حين أمنت بعض النساء على كلامها، لم يستوعب عقلها تلك الكلمات، تحدث نفسها في أسى وفزع: ألا تكفي وحشية قتله في حياته؟ لينال منه ذلك الطائر بعد سكون جسده!؟ أهو ذاك الموت الذي يخشاه الناس؟ ولم القبر إذن!؟ في ذات المساء كان عقلها الباطن يرى الطائر الضخم معكوف المنقار؛ وقد التصقت مزعة لحم من الجسد بمنقاره، كان جاثماً على ذلك الجسد غارساً مخالب قدميه الحادة والقوية،وقد امتلأت نصف حوصلته، وعند ذاك الحد تماماً كانت صرختها تجلجل في الظلام.
حين حلت تلك اللحظة بعينها؛ التي ذبح فيها الثور الأسود مرتين، عندما لون غسق المساء السماء بلون الدماء، تلك اللحظة التي تقتلها ألف مرة، عاد الطيف مرة أخرى متسربلاً بدماءه في تلك البقعة، لكنه لم يكن يتألم هذه المرة، رأت صفحة وجهه بقسماته الهادئة، وابتسامته الساحرة بأسنانه البيضاء كحبات اللؤلؤ، ثم بدأ ذلك الطيف يتشكل كدهمة سوداء، ما لبث أن استقر في هيئة رأس طائر أخضر ضخم، سرعان ما اكتملت هيئته وأطرافه، ثم بدأ يجوب الأفق، مبدداً على وقع رفرفة أجنحته بعض ندف السحب، يجرد السماء من لون الدماء ، حتى عادت صافية كقلب الرضيع، ومن ثم جمع كل ألوان السواد من الحشد في منظر مهيب، يقصد البقعة التي تتوسط المسيرة، وحط مباعداً بين ريش أجنحته وذيله للأسفل.. اقترب منها.. أحنى رأسه..يمسح بمقدمة منقاره المعكوف مشط قدمها.. ومن ثم كان يقرفص لتصعد على ظهره، ..كان ذلك آخر ما رأته، قبل أن ينطلق بها من جديد،.. باتجاه الأعالي، كصدفة بحر نافرة تبحث عن الخلود.