تشرق شمسه كل يوم وضجيج الحزن يعكر محياه.. عصبي المزاج، قلق القسمات يبعثر من أنفاسه ألماً دفيناً عميقاً.. يبتلع الآهات فيرسم على شفتيه ابتسامة صفراء يغطي بها آلامه الحادة أعماله اليومية ومشاريعه متناثرة بعيداً. غرس حـوله روضاً من الزهرات الفاتنات ينتشرن حوله.. يتخاطف النظر إليهن (سمراء – شقراء- طويلة.. قصيرة) جميعهن يسارعن إلى إرضائه وتلبية أوامره بأقصى سرعة.. يفتخر بهن أنهن نخبة (جمال وعلم.. فطنة وذكاء، خبرة ولغات) وهو رب العمل ومالك القلم والقرار.
كنت قاموسه المتحرك في كل صغيرة وكبيرة ومجمع أسراره العامة والخاصة إلا شيئاً واحداً، احتفظ به لنفسه. ذات يوم وفي جلسة ودية معه سألته عن رأيه بإحدى زهراته وعقدت العزم على الارتباط بها.. فجن جنونه.. وتمادى بلومي وتقريعي.. وأصبحتُ لا أعرف حدودي ولا أعي على أية درجة أقف.. ومن أنا.. (برغم أنني وبلا فخر أفوقه درجات بالعلم والموهبة أجبته بهدوء: ألم أكن المفتاح الذي أدرتَ به عملك؟.. ألم أكن اليد التي بنت وأسست وجهزت لك هذا الكرسي؟. ألم أكن العقل المفكر الذي وضع اللبنة الأولى لمجدك هذا ؟.. ألم أجمع لك أموالك المبعثرة هنا وهناك ومع فلان وفلان وخارج القطر؟.
طرحت عليه أسئلتي تلك وهو يهز رأسه غاضباً ثم سرق مني السؤال وطرحه عليّ ألا يمكن أن أتزوجها أنا؟؟.. لقد باغته سؤالي كما هزني جوابه قلت لكنك متزوج من ثلاث. وكلهن غادرن البلاد بعد الانفصال عنك دون أن يعلم أحد بذلك حتى أنت كما ادعيت ..وانسحبتُ.
كان يخشى على كلامه من نور النهار .. وضوء المصباح.. بين ابتسامة ماكرة.. وخوف من المستقبل لف حول عنقي كذبة غريبة ثم قذف بي بعيداً عن عمله.. مكثت شهوراً أبحث عن عمل ما.. يكافئ شهاداتي العلمية وخبراتي الفنية..
عاد إلى صمت أشد وألم أقسى، وازداد دفق التعاسة في صدره لم يبق من يتصدى لمشاكله اليومية، ويمتص غضبه المتكرر، الزهرات الفاتنات اللواتي يحركهن لهيب الإغراء الذي يوقظ فيهن شهوة العظمة والفوز، وشراسة الحلم والمستقبل في الوقت نفسه كن محركاً ومؤججاً لجمر الألم في داخله.
فهناك سر دفين في عمره تظهر ملامحه واضحة بين الفينة والأخرى من خلال إهماله وعدم اكتراثه لما يجري حوله بين طيات الورق.
تحفه الشكليات الناعمة ووابل من الإطراءات المبجلة تتدفق عليه في حين تتآكله التواقيع وركام الأوراق رغم إدعائه الذكاء. هذا أحد عناوين السر الدفين لكنه عنوان باهت لا يلفت الأنظار.
بدأ يلهو بالعاملين. فكل يوم بلاغ جديد يُنقّل العاملين بين المعامل التي أصبحت مترامية متباعدة ثم بدأ بالنقل… يُنقل المكتب الفلاني بما فيه من أثاث وأجهزة وتركيبات.. يُحمل عدة طوابق.. وما أن يستقر دمه الذي تخبط ومفاصله التي تخلعت حتى يعود للنقل من جديد إما إلى مكان آخر.. أو ربما يعيدها إلى مكانها السابق.. وهكذا فقد دخلت الأجهزة في قائمة العاملين لديه.
لم ينطفئ حزنه يوماً.. ولم يشتعل رماد أحلامه.. رغم تفننه في اصطياد الزهرات وسرعة إبدالهن كل يوم كان يحمل له زهرة جديدة.. أكثر فتوناً أو أقل من زهرة الأمس لا فرق.
بعد أن أفرغتُ له الساحة.. بدا أكثر كذباً وخداعاً وأخذ يتمتع بلعبة الهدية.. تعلم كيف يصنع المناسبات ليُقدم أجمل زهراته هدية إلى مدير عام يزوره. أو مسؤول ما يصافحه. وكثر أيضاً إعفاء الزهرات من العمل بصورة مفاجئة كما تميز بلعبة المحادثة والحوار معهن رغم أن حوافه تتآكل.. وجيوب غيره تنتفخ وبقي يدور في دوامة لا أحد يعلم إلى أين يمضي.. وماذا يريد..
انتشرت رائحة غبائه وفوضويته أو لنقل طعم تعاسته ومرارتها- وباتت ازدواجية نفسه على كل لسان- فكان في اللحظة الواحدة يبدو موجوعاً ومتمرداً، قوياً، وضعيفاً، ذكياً وساذجاً، الجميع يتساءلون أهي عقدة نفسيه تغلغلت إلى جذوره فهزت كيان الرأي السديد لديه؟ وشوشت على الرؤيا البصرية؟ أم أن عدم الاستقرار نهج جديد لابتلاع الألم وقتل الفراغ النفسي؟ أم أنه يطبق نظريات الاحتمالات بأمور الإدارة والعاملين..؟…؟
أسئلة كثيرة تُطرح وتشكل علامات استفهام ودوائر سوداء.. فطن أخيرا إلى لعبة الإعلان عن مسابقة انتقاء للزهرات ومرت الأيام تطوي بين ساعاتها عشرات العشرات من المتقدمات لتلك المسابقات جميعهن يرسبن إثر سؤال مفاجئ يطرحه على الزهرة – وكالحرب تصبح فيها المفاجأة هي الأمر الحاسم- فيقرر رسوبها وتنصرف بعد التهديد والوعيد إن باحت بأي كلمة- عن المسابقة ويستفيض بشرح التفاصيل عن إمكانياته الاجتماعية والسلطوية والمادية التي يتمتع بها..
كل العاملين يرون ويقرؤون صامتين يريدون فقط أجرهم الشهري لا أكثر – مع تلك الاحتمالات سادت شريعة الغاب واصطياد الفرص، واقتناص الرغبات من قبل متسلقي الأحداث كيف لا وهو كالنبات الصحراوي تهزه أي نسمة وتصهره حتى اليباس حرارة الشمس..
بعد عشرات الإعلانات دخلت إحدى المتسابقات تسبقها ثقة عمياء بنجاحها رغم بشاعة وجهها ودمامة شكلها.. وقفت أمام المدير.. قدمت نفسها: إنني خليط غير متجانس فأبواي من قارتين مختلفتين وجدتي لأبي أرمنية الأصل. من القوقاز.. وجدتي لأمي استرالية الأصل وجدي تركي.. أخواتي اثنتان إحداهن في جنوب أمريكا والأخرى في تشاد واخوتي ثلاث متفرقون في المعمورة. أما أنا فقد ساقتني الرياح إلى سورية بلد الحرية والشهامة.
وفرت كلماتها الجريئة ونسبها الفوضوي مساحة من الزمن للدخول إلى عالم الأسئلة الحرجة.. وسرعان ما انسجمت نغماتها المختلفة مع أمواجه الصاخبة. رن الجرس دخلت إحداهن فقال: اذهبي مع الآنسة إلى مكتب القبول –وبالسرعة القصوى اطبعوا لها كتاب المباشرة منذ اليوم.
خرجت الفتاة ونشوة الفوز تكلل أساريرها- ومنذ تلك اللحظة.. بدأت باستلام العمل شيئاً فشيئاً. مظهرة أسرع الخطا في التقدم. والإلمام بكل التفاصيل... لم يمض وقت طويل حتى استحوذت على كافة المسؤوليات وباتت مشرفة عامة ونائبة رئيس ومسؤولة التنفيذ في كل المعامل والمشاريع التابعة له..
مررت به يوماً بعد عدة اتصالات منه وعتاب حميم لأزوره، وكنت حينها مستشاراً في إحدى الوزارات لكنني كنت لم أزل أحتفظ له بقدر من الاحترام ومودة الصُحبة القديمة. قابلني بالترحاب والعتاب والمجاملات طلب لي فنجان قهوة ـ وبالمرآة المكبرة شرح لي عن إنجازاته ومساحة مشاريعه وتطلعاته وإذا بالباب يفتح دون إذن.. دخلت فتاة قصيرة القامة، جعدة الشعر، خشنة الصوت.. جفت الأنوثة من ملامح وجهها ليحتلها ذكاء النظرات.. واثقة الخطوة.. حادة النبرات.. حيت تحية باردة لم تتجاوز أطراف شفتيها.. قالت: بعد أن وضعت البريد أمامه.. لقد طردت فلان من العمل- وحسمت لفلانة أجرة يومين لتأخرها نصف ساعة.. الخ. كان يوقع البريد دون أن يقرأه مكتفياً بشرحها الموجز- أنهى البريد ودون أن يلتفت إليّ – قال: هل دعيتِ السيد الدكتور لحضور حفل زفافك غداً.. هزت برأسها.. ووجهت لي دعوة رسمية خرجت من فمها كسوط الجلاد. ثم أقفلت الباب وراءها.. التفت إلى المدير أسأله من هذه؟ قال إنها آخر الزهرات التي دخلت حديقتي وهي زهرة مهجنة.. أليست ملكة جمال؟.. إضافة لذلك إنها قمة في كل شيء وغداً سيتم زفافها على ابن عمها وستذهب معه إلى أمريكا حيث يُقيم.. خرجتُ وقد سقطت آخر ورقة له في نفسي..
في اليوم التالي شهد المعمل حفلاً صغيراً بسيط ضم جميع العاملين احتفالاً بزواج الفاتنة من ابن عمها الغائب.
غابت شمس ذاك اليوم بغيابها من العمل.. وبدأت ورشة الترميم تضع لمسات إضافية على منزل الدكتور ورب العمل الذي يشبه أجمل قلعة أثرية في بلادنا.
كان المشهد عنواناً كبيراً مبهماً لشيء ما يختلج في قلب الزهرة إذ قذفتها الرياح إلى العمل ثانية بعد غياب شهرين وفجأة مزق دهشة العاملين شوقها الزائد للعمل.. وإلا فماذا غير الرغبة في الامتلاك يأتي بها إلى ذاك المعمل؟.. ويُفترض أنها في أمريكا عند زوجها.
لم يكن المدير يرى أو يحس سوى تلك الصور الرومانسية التي يرسمها لمستقبله معها ـ فتنفرج شفتاه عن ابتسامات شبه بلهاء خاصة عندما كان يراقب نمو حملها. الذي زاد في تراجع أنوثتها.. وقصر قامتها. وازدياد غرورها..
تسعة أشهر وجاء المخاض يحمل معه جناحين للمدير.. الواحدة ليلاً وصوت زعيق الفرامل أيقظ كل الحي.. حملها بين ذراعيه وغاب بها لتعود في اليوم التالي تتبختر كامبراطور توّج لتوه ولم يألف لباس التاج بعد والمدير يحمل الطفل على ذراعيه يطأ الأرض وراءها بتؤدة ينظر إلى الطفل ويتمتم الله وأكبر.. الله وأكبر.. إنها الحياة.. إنها الدنيا..
راقه هدوء نفسه وها هي أنجبت طفلاً. شمل التغير كل شيء في المعامل وفي التعامل ـ وانفرجت أسارير المدير رغم ازدياد فوضويته. وتسرب أمواله من شقوق الإختلاس المشروع. انقشعت بعض غيومه، فتميز وقع أقدامه على الأرض حتى خياله بدا ظلاً حقيقياً لشخص جذّر طفلاً في تربة ما.
الموظفون يتبادلون أطراف السؤال أين زوجها؟ ولماذا يأخذها المدير إلى المشفى؟ و.. و.. وهي مشغولة تنثر شفافية مشاعرها المحمومة على المدير.. وشيئاً فشيئاً ترجل المدير عن دفة القيادة.. واستلت الزهرة أختام الإدارة واحدة تلو الأخرى.
سحبت الأيام أرقام السنة وقدمت بداية لتاريخ العام الثاني كل التغيير في المعامل والإدارات كان حسب رغبتها ومبتغاها وامتلأت رغباتها صبراً. فانفجر الصمام الذي كانت تحيطه بكل حواسها.
صباح مشرق جميل حمل معه الحدث الهام، وبعد لحظات من إغلاق الباب على الزهرة والمدير: انطرح صوت الشجار بينهما.. فقالت هل أنا عشيقتك؟ أم خادمتك؟.. واعلم أن لا وجود لك في هذه الحياة.. إلا بفضلي وشقائي وذكائي.. لا تقتل المسافة بيني وبينك إنك الخاسر الوحيد وقد تتحول دموعي إلى طلقات قرصنة.. اليوم عيد ميلاد ابننا.. اختزل الزمن وضمه إلى صدرك خلع صمته بكلمات موجزة .. مضت سنة ولم تتحركي.. نفذي وعدك لأنفذ وعدي ولتمت الفضيلة التي تتكلمين عنها..
هبطت كلماته كالثلج على جمر متقد.. صمتت تبتلع أفكارها.. وتهز رأسها.. ونادت إحداهن دخلت الزهرة لتخرج بأوامر المدير.. اصرفوا لفلانة مبلغ الفين وخمسمائة دولار. ونظموا لها أذن سفر خارج القطر..
جالت آذان العاملين وانتشرت رائحة الشماتة به وسقط احترامه كورقة صفراء قذفها الخريف. لقد جاء من يمرغ كرامته بالتراب مثلما فعل مع عشرات المهندسين والموظفين الذين طردهم لأتفه الأسباب وكأنه خُلِق ليُسعد بآلام الآخرين.
بهذا الخبر طوى ذاك النهار أحداثه العريقة وغادرت إلى لبنان.. تراشقت الأيام لغط العاملين وأخبار الطفل الذي بقي في البيت مع المربية..
دنت لحظة الضباب بعد شهرين وزف عصر ذلك اليوم عودتها من لبنان وفي أحشائها نطفة تترعرع وتترعرع معها سعادة المدير لينجلي السر الدفين.. سباق عنيف بين الرغبة الجامحة من المدير بسماع نبأ الولادة وبين الزهرة التي تلهث وراء المهر والمعمل والقبضة الفولاذية
انقشع الضباب ودوت الصرخة الأولى للولد الثاني وتعفر وجه الحق بالخديعة التي شقت طريقها إلى قلبه وبات المدير أباً لولدين ذكرين واعتلت الزهرة سدة الزمن وحصلت على مهر مؤجل باهظ بل تربعت على كل أملاك المدير بعدما أعلنها زوجة شرعية يتفاخر بها أمام الجميع.
ومنذ ذاك التاريخ بدأ رسم الأحلام بينهما وتخطيط مستقبل الرفاهية والسعادة. بعدما انجلت آخر ومضة من سر دفين كان قد قضَّ مضجع الدكتور وبدد سعادته وثروته..
وصل الخبر بسرعة إلى إحدى مطلقاته في فرنسا لم تدم فرحته شهوراً حتى وصلت رسائل تتضمن تقريراً من أكبر مشفى في فرنسا لمعالجة العقم فحواه ( إن السيد فلان ابن فلان مواليد../ ونتيجة لعدد كبير من التحاليل والفحوص المخبرية تبين أنه مصاب وهو في سن البلوغ بمرض النكاف (أبو كعب) ونتيجة لتأزم المرض معه فقد سبب له عقماً تاماً وترى المشفى أنه من المستحيل جداً علاجه.. إضافة لوجود بعض الأمراض الجنسية التي تعيق حركة الإخصاب لديه (قد تكون عدوى أو وراثة).. وقد ختم التقرير بأسماء لجنة من الأطباء من تاريخ عدة سنوات أي منذ كانت تلك الزوجة على عصمته. وقد ضمت الرسائل شرحاً لعرضه الرخيص لها في تلك الآونة ولو باعت كرامتها كما عرض لكانت اليوم هي الأم التي تتربع على عرش الثروة والزوج والأولاد اللقطاء.
وهكذا لم يستطيع المدير تكذيب تلك الإشاعات عند جميع من أُرسلت إليهم لكنه كذبها عند البعض محاولاً إرضاء نفسه وزوجته .. مردداً كلمة هراء .. وتدجيل ولتفيق وغيرة
كنت قاموسه المتحرك في كل صغيرة وكبيرة ومجمع أسراره العامة والخاصة إلا شيئاً واحداً، احتفظ به لنفسه. ذات يوم وفي جلسة ودية معه سألته عن رأيه بإحدى زهراته وعقدت العزم على الارتباط بها.. فجن جنونه.. وتمادى بلومي وتقريعي.. وأصبحتُ لا أعرف حدودي ولا أعي على أية درجة أقف.. ومن أنا.. (برغم أنني وبلا فخر أفوقه درجات بالعلم والموهبة أجبته بهدوء: ألم أكن المفتاح الذي أدرتَ به عملك؟.. ألم أكن اليد التي بنت وأسست وجهزت لك هذا الكرسي؟. ألم أكن العقل المفكر الذي وضع اللبنة الأولى لمجدك هذا ؟.. ألم أجمع لك أموالك المبعثرة هنا وهناك ومع فلان وفلان وخارج القطر؟.
طرحت عليه أسئلتي تلك وهو يهز رأسه غاضباً ثم سرق مني السؤال وطرحه عليّ ألا يمكن أن أتزوجها أنا؟؟.. لقد باغته سؤالي كما هزني جوابه قلت لكنك متزوج من ثلاث. وكلهن غادرن البلاد بعد الانفصال عنك دون أن يعلم أحد بذلك حتى أنت كما ادعيت ..وانسحبتُ.
كان يخشى على كلامه من نور النهار .. وضوء المصباح.. بين ابتسامة ماكرة.. وخوف من المستقبل لف حول عنقي كذبة غريبة ثم قذف بي بعيداً عن عمله.. مكثت شهوراً أبحث عن عمل ما.. يكافئ شهاداتي العلمية وخبراتي الفنية..
عاد إلى صمت أشد وألم أقسى، وازداد دفق التعاسة في صدره لم يبق من يتصدى لمشاكله اليومية، ويمتص غضبه المتكرر، الزهرات الفاتنات اللواتي يحركهن لهيب الإغراء الذي يوقظ فيهن شهوة العظمة والفوز، وشراسة الحلم والمستقبل في الوقت نفسه كن محركاً ومؤججاً لجمر الألم في داخله.
فهناك سر دفين في عمره تظهر ملامحه واضحة بين الفينة والأخرى من خلال إهماله وعدم اكتراثه لما يجري حوله بين طيات الورق.
تحفه الشكليات الناعمة ووابل من الإطراءات المبجلة تتدفق عليه في حين تتآكله التواقيع وركام الأوراق رغم إدعائه الذكاء. هذا أحد عناوين السر الدفين لكنه عنوان باهت لا يلفت الأنظار.
بدأ يلهو بالعاملين. فكل يوم بلاغ جديد يُنقّل العاملين بين المعامل التي أصبحت مترامية متباعدة ثم بدأ بالنقل… يُنقل المكتب الفلاني بما فيه من أثاث وأجهزة وتركيبات.. يُحمل عدة طوابق.. وما أن يستقر دمه الذي تخبط ومفاصله التي تخلعت حتى يعود للنقل من جديد إما إلى مكان آخر.. أو ربما يعيدها إلى مكانها السابق.. وهكذا فقد دخلت الأجهزة في قائمة العاملين لديه.
لم ينطفئ حزنه يوماً.. ولم يشتعل رماد أحلامه.. رغم تفننه في اصطياد الزهرات وسرعة إبدالهن كل يوم كان يحمل له زهرة جديدة.. أكثر فتوناً أو أقل من زهرة الأمس لا فرق.
بعد أن أفرغتُ له الساحة.. بدا أكثر كذباً وخداعاً وأخذ يتمتع بلعبة الهدية.. تعلم كيف يصنع المناسبات ليُقدم أجمل زهراته هدية إلى مدير عام يزوره. أو مسؤول ما يصافحه. وكثر أيضاً إعفاء الزهرات من العمل بصورة مفاجئة كما تميز بلعبة المحادثة والحوار معهن رغم أن حوافه تتآكل.. وجيوب غيره تنتفخ وبقي يدور في دوامة لا أحد يعلم إلى أين يمضي.. وماذا يريد..
انتشرت رائحة غبائه وفوضويته أو لنقل طعم تعاسته ومرارتها- وباتت ازدواجية نفسه على كل لسان- فكان في اللحظة الواحدة يبدو موجوعاً ومتمرداً، قوياً، وضعيفاً، ذكياً وساذجاً، الجميع يتساءلون أهي عقدة نفسيه تغلغلت إلى جذوره فهزت كيان الرأي السديد لديه؟ وشوشت على الرؤيا البصرية؟ أم أن عدم الاستقرار نهج جديد لابتلاع الألم وقتل الفراغ النفسي؟ أم أنه يطبق نظريات الاحتمالات بأمور الإدارة والعاملين..؟…؟
أسئلة كثيرة تُطرح وتشكل علامات استفهام ودوائر سوداء.. فطن أخيرا إلى لعبة الإعلان عن مسابقة انتقاء للزهرات ومرت الأيام تطوي بين ساعاتها عشرات العشرات من المتقدمات لتلك المسابقات جميعهن يرسبن إثر سؤال مفاجئ يطرحه على الزهرة – وكالحرب تصبح فيها المفاجأة هي الأمر الحاسم- فيقرر رسوبها وتنصرف بعد التهديد والوعيد إن باحت بأي كلمة- عن المسابقة ويستفيض بشرح التفاصيل عن إمكانياته الاجتماعية والسلطوية والمادية التي يتمتع بها..
كل العاملين يرون ويقرؤون صامتين يريدون فقط أجرهم الشهري لا أكثر – مع تلك الاحتمالات سادت شريعة الغاب واصطياد الفرص، واقتناص الرغبات من قبل متسلقي الأحداث كيف لا وهو كالنبات الصحراوي تهزه أي نسمة وتصهره حتى اليباس حرارة الشمس..
بعد عشرات الإعلانات دخلت إحدى المتسابقات تسبقها ثقة عمياء بنجاحها رغم بشاعة وجهها ودمامة شكلها.. وقفت أمام المدير.. قدمت نفسها: إنني خليط غير متجانس فأبواي من قارتين مختلفتين وجدتي لأبي أرمنية الأصل. من القوقاز.. وجدتي لأمي استرالية الأصل وجدي تركي.. أخواتي اثنتان إحداهن في جنوب أمريكا والأخرى في تشاد واخوتي ثلاث متفرقون في المعمورة. أما أنا فقد ساقتني الرياح إلى سورية بلد الحرية والشهامة.
وفرت كلماتها الجريئة ونسبها الفوضوي مساحة من الزمن للدخول إلى عالم الأسئلة الحرجة.. وسرعان ما انسجمت نغماتها المختلفة مع أمواجه الصاخبة. رن الجرس دخلت إحداهن فقال: اذهبي مع الآنسة إلى مكتب القبول –وبالسرعة القصوى اطبعوا لها كتاب المباشرة منذ اليوم.
خرجت الفتاة ونشوة الفوز تكلل أساريرها- ومنذ تلك اللحظة.. بدأت باستلام العمل شيئاً فشيئاً. مظهرة أسرع الخطا في التقدم. والإلمام بكل التفاصيل... لم يمض وقت طويل حتى استحوذت على كافة المسؤوليات وباتت مشرفة عامة ونائبة رئيس ومسؤولة التنفيذ في كل المعامل والمشاريع التابعة له..
مررت به يوماً بعد عدة اتصالات منه وعتاب حميم لأزوره، وكنت حينها مستشاراً في إحدى الوزارات لكنني كنت لم أزل أحتفظ له بقدر من الاحترام ومودة الصُحبة القديمة. قابلني بالترحاب والعتاب والمجاملات طلب لي فنجان قهوة ـ وبالمرآة المكبرة شرح لي عن إنجازاته ومساحة مشاريعه وتطلعاته وإذا بالباب يفتح دون إذن.. دخلت فتاة قصيرة القامة، جعدة الشعر، خشنة الصوت.. جفت الأنوثة من ملامح وجهها ليحتلها ذكاء النظرات.. واثقة الخطوة.. حادة النبرات.. حيت تحية باردة لم تتجاوز أطراف شفتيها.. قالت: بعد أن وضعت البريد أمامه.. لقد طردت فلان من العمل- وحسمت لفلانة أجرة يومين لتأخرها نصف ساعة.. الخ. كان يوقع البريد دون أن يقرأه مكتفياً بشرحها الموجز- أنهى البريد ودون أن يلتفت إليّ – قال: هل دعيتِ السيد الدكتور لحضور حفل زفافك غداً.. هزت برأسها.. ووجهت لي دعوة رسمية خرجت من فمها كسوط الجلاد. ثم أقفلت الباب وراءها.. التفت إلى المدير أسأله من هذه؟ قال إنها آخر الزهرات التي دخلت حديقتي وهي زهرة مهجنة.. أليست ملكة جمال؟.. إضافة لذلك إنها قمة في كل شيء وغداً سيتم زفافها على ابن عمها وستذهب معه إلى أمريكا حيث يُقيم.. خرجتُ وقد سقطت آخر ورقة له في نفسي..
في اليوم التالي شهد المعمل حفلاً صغيراً بسيط ضم جميع العاملين احتفالاً بزواج الفاتنة من ابن عمها الغائب.
غابت شمس ذاك اليوم بغيابها من العمل.. وبدأت ورشة الترميم تضع لمسات إضافية على منزل الدكتور ورب العمل الذي يشبه أجمل قلعة أثرية في بلادنا.
كان المشهد عنواناً كبيراً مبهماً لشيء ما يختلج في قلب الزهرة إذ قذفتها الرياح إلى العمل ثانية بعد غياب شهرين وفجأة مزق دهشة العاملين شوقها الزائد للعمل.. وإلا فماذا غير الرغبة في الامتلاك يأتي بها إلى ذاك المعمل؟.. ويُفترض أنها في أمريكا عند زوجها.
لم يكن المدير يرى أو يحس سوى تلك الصور الرومانسية التي يرسمها لمستقبله معها ـ فتنفرج شفتاه عن ابتسامات شبه بلهاء خاصة عندما كان يراقب نمو حملها. الذي زاد في تراجع أنوثتها.. وقصر قامتها. وازدياد غرورها..
تسعة أشهر وجاء المخاض يحمل معه جناحين للمدير.. الواحدة ليلاً وصوت زعيق الفرامل أيقظ كل الحي.. حملها بين ذراعيه وغاب بها لتعود في اليوم التالي تتبختر كامبراطور توّج لتوه ولم يألف لباس التاج بعد والمدير يحمل الطفل على ذراعيه يطأ الأرض وراءها بتؤدة ينظر إلى الطفل ويتمتم الله وأكبر.. الله وأكبر.. إنها الحياة.. إنها الدنيا..
راقه هدوء نفسه وها هي أنجبت طفلاً. شمل التغير كل شيء في المعامل وفي التعامل ـ وانفرجت أسارير المدير رغم ازدياد فوضويته. وتسرب أمواله من شقوق الإختلاس المشروع. انقشعت بعض غيومه، فتميز وقع أقدامه على الأرض حتى خياله بدا ظلاً حقيقياً لشخص جذّر طفلاً في تربة ما.
الموظفون يتبادلون أطراف السؤال أين زوجها؟ ولماذا يأخذها المدير إلى المشفى؟ و.. و.. وهي مشغولة تنثر شفافية مشاعرها المحمومة على المدير.. وشيئاً فشيئاً ترجل المدير عن دفة القيادة.. واستلت الزهرة أختام الإدارة واحدة تلو الأخرى.
سحبت الأيام أرقام السنة وقدمت بداية لتاريخ العام الثاني كل التغيير في المعامل والإدارات كان حسب رغبتها ومبتغاها وامتلأت رغباتها صبراً. فانفجر الصمام الذي كانت تحيطه بكل حواسها.
صباح مشرق جميل حمل معه الحدث الهام، وبعد لحظات من إغلاق الباب على الزهرة والمدير: انطرح صوت الشجار بينهما.. فقالت هل أنا عشيقتك؟ أم خادمتك؟.. واعلم أن لا وجود لك في هذه الحياة.. إلا بفضلي وشقائي وذكائي.. لا تقتل المسافة بيني وبينك إنك الخاسر الوحيد وقد تتحول دموعي إلى طلقات قرصنة.. اليوم عيد ميلاد ابننا.. اختزل الزمن وضمه إلى صدرك خلع صمته بكلمات موجزة .. مضت سنة ولم تتحركي.. نفذي وعدك لأنفذ وعدي ولتمت الفضيلة التي تتكلمين عنها..
هبطت كلماته كالثلج على جمر متقد.. صمتت تبتلع أفكارها.. وتهز رأسها.. ونادت إحداهن دخلت الزهرة لتخرج بأوامر المدير.. اصرفوا لفلانة مبلغ الفين وخمسمائة دولار. ونظموا لها أذن سفر خارج القطر..
جالت آذان العاملين وانتشرت رائحة الشماتة به وسقط احترامه كورقة صفراء قذفها الخريف. لقد جاء من يمرغ كرامته بالتراب مثلما فعل مع عشرات المهندسين والموظفين الذين طردهم لأتفه الأسباب وكأنه خُلِق ليُسعد بآلام الآخرين.
بهذا الخبر طوى ذاك النهار أحداثه العريقة وغادرت إلى لبنان.. تراشقت الأيام لغط العاملين وأخبار الطفل الذي بقي في البيت مع المربية..
دنت لحظة الضباب بعد شهرين وزف عصر ذلك اليوم عودتها من لبنان وفي أحشائها نطفة تترعرع وتترعرع معها سعادة المدير لينجلي السر الدفين.. سباق عنيف بين الرغبة الجامحة من المدير بسماع نبأ الولادة وبين الزهرة التي تلهث وراء المهر والمعمل والقبضة الفولاذية
انقشع الضباب ودوت الصرخة الأولى للولد الثاني وتعفر وجه الحق بالخديعة التي شقت طريقها إلى قلبه وبات المدير أباً لولدين ذكرين واعتلت الزهرة سدة الزمن وحصلت على مهر مؤجل باهظ بل تربعت على كل أملاك المدير بعدما أعلنها زوجة شرعية يتفاخر بها أمام الجميع.
ومنذ ذاك التاريخ بدأ رسم الأحلام بينهما وتخطيط مستقبل الرفاهية والسعادة. بعدما انجلت آخر ومضة من سر دفين كان قد قضَّ مضجع الدكتور وبدد سعادته وثروته..
وصل الخبر بسرعة إلى إحدى مطلقاته في فرنسا لم تدم فرحته شهوراً حتى وصلت رسائل تتضمن تقريراً من أكبر مشفى في فرنسا لمعالجة العقم فحواه ( إن السيد فلان ابن فلان مواليد../ ونتيجة لعدد كبير من التحاليل والفحوص المخبرية تبين أنه مصاب وهو في سن البلوغ بمرض النكاف (أبو كعب) ونتيجة لتأزم المرض معه فقد سبب له عقماً تاماً وترى المشفى أنه من المستحيل جداً علاجه.. إضافة لوجود بعض الأمراض الجنسية التي تعيق حركة الإخصاب لديه (قد تكون عدوى أو وراثة).. وقد ختم التقرير بأسماء لجنة من الأطباء من تاريخ عدة سنوات أي منذ كانت تلك الزوجة على عصمته. وقد ضمت الرسائل شرحاً لعرضه الرخيص لها في تلك الآونة ولو باعت كرامتها كما عرض لكانت اليوم هي الأم التي تتربع على عرش الثروة والزوج والأولاد اللقطاء.
وهكذا لم يستطيع المدير تكذيب تلك الإشاعات عند جميع من أُرسلت إليهم لكنه كذبها عند البعض محاولاً إرضاء نفسه وزوجته .. مردداً كلمة هراء .. وتدجيل ولتفيق وغيرة