نشأ الشعر الشعبي لحاجة ثقافية وجمالية في الأساس، تستهدف مخاطبة البسطاء، والتفاعل مع مناسبات حياتهم، والتعبير عما يجيش في أعماقهم، فليس متوهما أن الشاعر الشعبي ضعيف الثقافة، جاهل، أمي، بما يعني أنه لا يمكنه تكوين إبداع متميز، لأن الأمية لا تعني الجهل، وتغييب الإبداع، فقد حفل التاريخ بمبدعين عظماء، كانوا أميين، أو لم يدرسوا ضمن أي نظم تعليمية، وشعراء الشعر الشعبي، خير مثال على ذلك، فلا يعقل أن تكون نصوصهم وأغانيهم رائعة البناء والصورة والطرح، صادرة عن جهلاء محدودي الفكر والثقافة.
وقد ذكر ابن خلدون نماذج لشعراء وأشعار، وهو بصدد الحديث عن الشعر النبطي عند قبائل البادية، حيث أشار إلى أشعار الهلاليين في المغرب العربي، الذين هاجروا من الجزيرة العربية في بداية القرن الرابع الهجري، واستمرت هجرتهم حتى منتصف القرن الخامس الهجري، واستوطنوا بادية المغرب العربي، وشكلوا في ما بعد السيرة الهلالية، وهي أشعار دالة على تأثر لهجة الهلاليين بالهجرة، ومخالطة أقوام آخرين، وابتعادها تدريجيا عن فصاحة العرب في الجزيرة العربية.
وتفيدنا دراسة الجانب اللغوي في القصائد التي يوردها ابن خلدون، لأشعار الهلاليين بأن نلحظ وجود ظواهر لغوية وإبداعية عديدة، فهذا نص للشاعر علي بن عمر بن إبراهيم، من رؤساء بني عامر لهذا العهد، أحد بطون زغبة، يعاتب فيه بني عمه المتطاولين، فيقول:
ألا يا ربوعٍ كان بالأمس عامر بحـيٍ وحله والقطين لمامِ
وغيدٍ تدانى للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر ونيامِ
ونعمٍ يشوف الناظرين التمامه ليا ما بدا من مفرق وكظامِ
يلاحظ هنا: تساهل بيّن في الحركات الإعرابية، بدا في التنوين بالكسر في لفظة «ربوع» بدلا من ضمها بوصفها منادى مبني على الضم لأنه نكرة مقصودة، وإهمال التنوين في لفظة «عامر» بدلا من نصبه بوصفها خبر كان، ثم كسر لفظة «لمام» بدلا من رفعها بوصفها خبر للقطين، والأمر نفسه في لفظة نيام لتلائم القافية المكسورة، بما يعني التخلي عن قواعد الإعراب والضبط. وهذا ما يبرره ابن خلدون بقوله: «فالإعراب لا مدخل له في البلاغة… سواء كان الرفع دالا على الفاعل، والنصب دالا على المفعول أو بالعكس، وإنما تدل على ذلك قرائن الكلام، كما هي في لغتهم هذه، فالدلالة حسب ما يصطلح عليه أهل الملكة، فإذا عرف اصطلاح في ملكة، واشتهرت صحة الدلالة، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحب البلاغة، ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك».
فالقاعدة الذهبية في تلقي هذا الشعر في رأي ابن خلدون، أنه يمكن التغاضي عن الإعراب في سبيل توصيل المعنى، وأن قرائن الكلام في اللغة سبيل آخر في إيضاح المعنى وتحقيق وشائج الصلة بين التراكيب، وبناء عليه تصح الدلالة.
ويؤكد هذا المنحى زويتلر، فيقول: «إن البحث العلمي في المأثور الشعبي أصبح يقابل الخواص الخالصة للمرونة الصياغية، كخواص تجنب الأصالة بالوعي الذاتي Avidance of self-consicous originalty، ونسبة الشعر غير المتيقنة، والاستعمال اللغوي المهجور، وغيرها على أنها نتائج ضمنية للرواية الشفوية عند الجمهور، وإنه من الأفضل جدا، بل من المعقول جدا؛ فهم ذلك على أساس أنه لوازم طبيعية لتقليد حي متواصل في الأداء الشفوي عند الشعب الأمي». والمثال الأبرز في هذا السياق، نصوص فن الزجل ـ في الأندلس مثلا- التي توضح كيف أنه نشأ عن حاجة جمالية مجتمعية، وكانت نصوصه الأولى صادرة عن شعراء يمتلكون حظا غير قليل من الثقافة العربية القديمة، وأنهم تأثروا بالقصيدة العربية، والموشحة الأندلسية، كما أن لغة الزجل لم تكن عامية خالصة، بل كانت تزاحمها لغة الكتابة، ولذلك كانت مفهومة من أبناء العالم العربي، فرويت أزجال «ابن قزمان» في العراق، ودونت في الشام، وظلت آثار الزجل الأندلسي ماثلة قرونا عديدة وإلى عصرنا الحاضر، نظرا لوجود صنعة فنية ولغة خاصة به، اصطلح الزجالون عليها، ونرى فيها أن الزجال فنان يقف موقفا وسطيا بين الفنان الشعبي (الفطري)، والفنان المدرسي (المشبع والمعبر عن الثقافة الرسمية العربية الفصيحة)، ومن أزجاله:
إنما نفرح ونضحك إنما نلـعب ونـلهو
من طلب بحال يهزو أو تقول العامة يذه
ويلح طالبا ثوبا فيقول:
أعجبتني نفسيتي أيام حتى كسرت شعري فالحمام
واعتدل من ورا ومن قدام وضربت وجان من جلال
وأنا النس مذ كنت لباس ثياب لاذ على بطاين لاس
وغفاير ملامح على أجناس وعمايم دبيق تسوى مال
ويظهر الزجّال مدغليس، الذي وصل الزجل بالقصيدة العربية، واقترن باسمه ما يسمى القصيدة الزجلية، وشاركه في إنتاجها زجالون آخرون، وعدّه أهل الأندلس بمنزلة أبي تمام في الشعر الفصيح، بينما عدوا ابن قزمان بمنزلة المتنبي، وهي موازنة دلت على براعة الأول في الصنعة، والثاني في الطروحات والمعاني، وقد ضاع الكثير من ديوان مدغليس، والموجود منه متفرقات، منها قوله:
لقد أقبلت يا نسيم السحر بروائـح قد بورك للمسوك
توقد أنفاسك الذكية شمع في قلوبنا متى ما نستنشقوك
وهو ما وضح أيضا في القرنين السابع والثامن الهجريين، حيث تنافس الزجالون مع شعراء الفصحى في الاستحواذ على قلوب العامة والنخبة والأمراء، وسار الزجالون على خطى ابن قزمان ومدغليس، وإن تنازعهم الميل بين لغة العامة والمثقفين، وكان أكثرهم من المثقفين والقراء، وتعمّدهم الكتابة بالزجل مستخدمين لغة العامة والبسطاء، وهذا لا يعني أنهم يستهدفون عامة الشعب فقط، معبرين عن أحلامهم وقضاياهم، وإنما توجهوا لكل طوائف المجتمع ونخبهم.
والشاهد في هذا العرض، أن دراسة مسيرة الزجل في الأندلس أعطى صورة لغوية وأدبية عن الزجالين، وعن اللغة في قرون عديدة، وهي صورة لا تتضح جليا في الإبداعات الفصيحة، التي تلتزم بقاموس لغوي متقارب، لا يكون ـ بالضرورة ـ معبرا عن البيئة اللغوية والنفسية لدى الناس في عصور عدة. والملاحظ على الزجالين أنهم كانوا على علم وثقافة وأدب، وكثيرون منهم أبدع الشعر الفصيح، ثم تركوه إلى الزجل، أو أبدع الاثنين معا.
وخلاصة القول إن الشعر الشعبي ضارب بجذوره في التراث العربي، ويشكل رافدا مغذيا لمسيرة الإبداع العربي، ومن المهم النظر إليه بوصفه إبداعا حقيقيا معبرا عن حاجة جمالية لجماهير العروبة، وعدم الاقتصار على الثقافة الرسمية بلغتها الفصيحة.
٭ كاتب من مصر
وقد ذكر ابن خلدون نماذج لشعراء وأشعار، وهو بصدد الحديث عن الشعر النبطي عند قبائل البادية، حيث أشار إلى أشعار الهلاليين في المغرب العربي، الذين هاجروا من الجزيرة العربية في بداية القرن الرابع الهجري، واستمرت هجرتهم حتى منتصف القرن الخامس الهجري، واستوطنوا بادية المغرب العربي، وشكلوا في ما بعد السيرة الهلالية، وهي أشعار دالة على تأثر لهجة الهلاليين بالهجرة، ومخالطة أقوام آخرين، وابتعادها تدريجيا عن فصاحة العرب في الجزيرة العربية.
وتفيدنا دراسة الجانب اللغوي في القصائد التي يوردها ابن خلدون، لأشعار الهلاليين بأن نلحظ وجود ظواهر لغوية وإبداعية عديدة، فهذا نص للشاعر علي بن عمر بن إبراهيم، من رؤساء بني عامر لهذا العهد، أحد بطون زغبة، يعاتب فيه بني عمه المتطاولين، فيقول:
ألا يا ربوعٍ كان بالأمس عامر بحـيٍ وحله والقطين لمامِ
وغيدٍ تدانى للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر ونيامِ
ونعمٍ يشوف الناظرين التمامه ليا ما بدا من مفرق وكظامِ
يلاحظ هنا: تساهل بيّن في الحركات الإعرابية، بدا في التنوين بالكسر في لفظة «ربوع» بدلا من ضمها بوصفها منادى مبني على الضم لأنه نكرة مقصودة، وإهمال التنوين في لفظة «عامر» بدلا من نصبه بوصفها خبر كان، ثم كسر لفظة «لمام» بدلا من رفعها بوصفها خبر للقطين، والأمر نفسه في لفظة نيام لتلائم القافية المكسورة، بما يعني التخلي عن قواعد الإعراب والضبط. وهذا ما يبرره ابن خلدون بقوله: «فالإعراب لا مدخل له في البلاغة… سواء كان الرفع دالا على الفاعل، والنصب دالا على المفعول أو بالعكس، وإنما تدل على ذلك قرائن الكلام، كما هي في لغتهم هذه، فالدلالة حسب ما يصطلح عليه أهل الملكة، فإذا عرف اصطلاح في ملكة، واشتهرت صحة الدلالة، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحب البلاغة، ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك».
فالقاعدة الذهبية في تلقي هذا الشعر في رأي ابن خلدون، أنه يمكن التغاضي عن الإعراب في سبيل توصيل المعنى، وأن قرائن الكلام في اللغة سبيل آخر في إيضاح المعنى وتحقيق وشائج الصلة بين التراكيب، وبناء عليه تصح الدلالة.
ويؤكد هذا المنحى زويتلر، فيقول: «إن البحث العلمي في المأثور الشعبي أصبح يقابل الخواص الخالصة للمرونة الصياغية، كخواص تجنب الأصالة بالوعي الذاتي Avidance of self-consicous originalty، ونسبة الشعر غير المتيقنة، والاستعمال اللغوي المهجور، وغيرها على أنها نتائج ضمنية للرواية الشفوية عند الجمهور، وإنه من الأفضل جدا، بل من المعقول جدا؛ فهم ذلك على أساس أنه لوازم طبيعية لتقليد حي متواصل في الأداء الشفوي عند الشعب الأمي». والمثال الأبرز في هذا السياق، نصوص فن الزجل ـ في الأندلس مثلا- التي توضح كيف أنه نشأ عن حاجة جمالية مجتمعية، وكانت نصوصه الأولى صادرة عن شعراء يمتلكون حظا غير قليل من الثقافة العربية القديمة، وأنهم تأثروا بالقصيدة العربية، والموشحة الأندلسية، كما أن لغة الزجل لم تكن عامية خالصة، بل كانت تزاحمها لغة الكتابة، ولذلك كانت مفهومة من أبناء العالم العربي، فرويت أزجال «ابن قزمان» في العراق، ودونت في الشام، وظلت آثار الزجل الأندلسي ماثلة قرونا عديدة وإلى عصرنا الحاضر، نظرا لوجود صنعة فنية ولغة خاصة به، اصطلح الزجالون عليها، ونرى فيها أن الزجال فنان يقف موقفا وسطيا بين الفنان الشعبي (الفطري)، والفنان المدرسي (المشبع والمعبر عن الثقافة الرسمية العربية الفصيحة)، ومن أزجاله:
إنما نفرح ونضحك إنما نلـعب ونـلهو
من طلب بحال يهزو أو تقول العامة يذه
ويلح طالبا ثوبا فيقول:
أعجبتني نفسيتي أيام حتى كسرت شعري فالحمام
واعتدل من ورا ومن قدام وضربت وجان من جلال
وأنا النس مذ كنت لباس ثياب لاذ على بطاين لاس
وغفاير ملامح على أجناس وعمايم دبيق تسوى مال
ويظهر الزجّال مدغليس، الذي وصل الزجل بالقصيدة العربية، واقترن باسمه ما يسمى القصيدة الزجلية، وشاركه في إنتاجها زجالون آخرون، وعدّه أهل الأندلس بمنزلة أبي تمام في الشعر الفصيح، بينما عدوا ابن قزمان بمنزلة المتنبي، وهي موازنة دلت على براعة الأول في الصنعة، والثاني في الطروحات والمعاني، وقد ضاع الكثير من ديوان مدغليس، والموجود منه متفرقات، منها قوله:
لقد أقبلت يا نسيم السحر بروائـح قد بورك للمسوك
توقد أنفاسك الذكية شمع في قلوبنا متى ما نستنشقوك
وهو ما وضح أيضا في القرنين السابع والثامن الهجريين، حيث تنافس الزجالون مع شعراء الفصحى في الاستحواذ على قلوب العامة والنخبة والأمراء، وسار الزجالون على خطى ابن قزمان ومدغليس، وإن تنازعهم الميل بين لغة العامة والمثقفين، وكان أكثرهم من المثقفين والقراء، وتعمّدهم الكتابة بالزجل مستخدمين لغة العامة والبسطاء، وهذا لا يعني أنهم يستهدفون عامة الشعب فقط، معبرين عن أحلامهم وقضاياهم، وإنما توجهوا لكل طوائف المجتمع ونخبهم.
والشاهد في هذا العرض، أن دراسة مسيرة الزجل في الأندلس أعطى صورة لغوية وأدبية عن الزجالين، وعن اللغة في قرون عديدة، وهي صورة لا تتضح جليا في الإبداعات الفصيحة، التي تلتزم بقاموس لغوي متقارب، لا يكون ـ بالضرورة ـ معبرا عن البيئة اللغوية والنفسية لدى الناس في عصور عدة. والملاحظ على الزجالين أنهم كانوا على علم وثقافة وأدب، وكثيرون منهم أبدع الشعر الفصيح، ثم تركوه إلى الزجل، أو أبدع الاثنين معا.
وخلاصة القول إن الشعر الشعبي ضارب بجذوره في التراث العربي، ويشكل رافدا مغذيا لمسيرة الإبداع العربي، ومن المهم النظر إليه بوصفه إبداعا حقيقيا معبرا عن حاجة جمالية لجماهير العروبة، وعدم الاقتصار على الثقافة الرسمية بلغتها الفصيحة.
٭ كاتب من مصر
الشعر الشعبي في تراثنا العربي | مصطفى عطية جمعة
نشأ الشعر الشعبي لحاجة ثقافية وجمالية في الأساس، تستهدف مخاطبة البسطاء، والتفاعل مع مناسبات حياتهم، والتعبير عما يجيش في أعماقهم، فليس متوهما أن الشاعر الشعبي ضعيف الثقافة، جاهل، أمي، بما يعني أنه لا
www.alquds.co.uk