مقتطف محمود شاهين - قصة الخلق.. الفصل الثاني.

(2) هل جاء الوجود من العدم ؟
فوجئ محمود أبو الجدايل بسيدة جميلة ستجري معه اللقاء. شكرالله في سريرته أن جمال النساء لم يعد يسلبه عقله ، بعد أن عرف بعضهن في شبابه وحتى في رجولته وشيخوخته.. وتذكر للحظات أسوأ موقف له مع النساء في ريعان مراهقته ، حين حاول أن يتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة في جمعية الشبان المسيحية في القدس، وفي الحقيقة لم تكن رغبته في تعلم الضرب على الآلة الكاتبة أكثر من رغبته في التقرب إلى الفتاة الجميلة التي قيل أنها تعلم التنضيد على الآلة. كان جمالها يبهره ، ويتمنى لو يتاح له أن يراها ولو لدقائق كل يوم :

"جلست الفتاة على كرسي أمام الآلة الكاتبة وأوقفت محمود أبو الجدايل خلفها وجعلته يمد يديه من فوق كتفيها . ضربت أمامه جملة كانت مكتوبة على ورقة مشبوكة بالآلة " كانت البنت تكتب الكتاب السياسي الشمالي " وألقت يديها فوق يديه ووضعتهما على سطر الحروف لتمسك أصابعه اصبعا اصبعا وتعلمه كيف يضربها، لم يعد يفقه شيئا، وهو يغرق في جمالها ولمسات يديها وشم رائحة عطرها، وحين انتحت وأجلسته مكانها وطلبت إليه أن يكتب الجملة راح ينقرعلى الحروف بعشوائية دون أن يفكر ولو في كلمة واحدة من الجملة . ألقت الفتاة نظرة دهشة عليه ، وما لبثت أن انصرفت لتقول لمدير المؤسسة حسبما توقع " أي جحش هذا الذي أرسلتموه لي ، لم يفقه شيئا مما قلته له ، وأشك في أنه سيتعلم شيئا في حياته " فوجئ محمود بالمدير يدخل عليه ليقول له : هذا العمل لا يصلح لك يا محمود "
"وهكذا انصرف محمود أبو الجدايل يجرجر أذيال الخيبة ويلعن عقله ، الذي انهار أمام جمال الفتاة وطريقتها المثيرة في التدريس، بحيث لم يعد يفقه شيئا مما تقوله " ورغم أنه لم يعرف ما قالته المعلمة للمدير، إلا أنه أدرك فحواه. وهي في الحقيقة ليست إلا سكرتيرة المدير نفسه ، وأن وظيفتها الرسمية ليست تعليم الضرب على الآلة الكاتبة . لكن المدير الطيب " أبو جابي" حاول تلبية رغبة هذا الفتى ، ولم يعرف أنه سيخذله!"
- أهلا وسهلا أستاذ محمود!
هتفت السيدة ( أسيل القمر ) وهي تجلس على أريكة في مواجهة محمود أبو الجدايل ، وتقدم نفسها له .
- أهلا بك !
- هل تحب أن تشرب شيئا قبل أن نبدأ اللقاء أستاذ محمود.
- أشكرك شربت في البيت . يمكن أن نبدأ .
أعطى المخرج الإشارة لبدء التصوير . شرعت أسيل في تقديم محمود أبو الجدايل للجمهور :
" علم من أعلام الثقافة العربية . صدر له عشرات المؤلفات في الرواية والقصة والشعر والفلسفة والبحث والنقد ، وهو فنان تشكيلي أيضا ، رسم أكثر من أحد عشر ألف لوحة ، له منها قرابة ثمانية آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا في العالم . أثارت كتبه ومقالاته ومقولاته على صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت جدلا واسعا في أوساط المثقفين، وردود فعل متباينة بين مؤيد ومعجب ومعارض ومجادل. تعرض لمحاولة اغتيال نجا منها بإعجوبة ، وما زالت تهديدات الأصوليين تلاحقه لاتهامه بالإلحاد، رغم أنه يعتبر نفسه مؤمنا صوفيا. يختلف محمود أبو الجدايل عن غيره من الباحثين والفلاسفة والأدباء والنقاد ، في أنه يسعى بالدرجة الأولى إلى فهم الوجود والقائم به والغاية منه ، وتقديم تصور جديد له، وليس إلى مجرد نقد الماضي وما جاء به العقل البشري على مر العصور. وقد توصل بذلك إلى فهم حديث للوجود والخلق والخالق، استنادا إلى العلم والمنطق وحتى بعض المفاهيم المثالية للخلق، إضافة إلى اجتهاده وتأملاته . وننوه إلى أن حوارنا مع الأستاذ محمود سيمتد إلى حلقات، وسنجري في نهاية بثها حلقة خاصة للإجابة عن أسئلة المشاهدين . ويمكن لمن يهمهم الأمر من المشاهدين ، أن يدونوا ملاحظاتهم وأسئلتهم خلال مشاهدة الحلقات "

-أستاذ محمود أبو الجدايل، فيلسوف الأدب والفن بلا منازع : أهلا ومرحبا بك في " أفق المعرفة "

- أهلا بك .. وشكرا لهذا التقديم ألذي آمل أن أكون على قدر مقبول من المستوى الذي وضعني فيه.. وشكرا لأفق المعرفة التي أتا حت لي هذا اللقاء للتعريف بفلسفتي. متمنيا لقناتكم دوام التقدم والازدهار في آفاق المعرفة الانسانية .

- استاذ محمود . يكثر الحديث بين المثقفين عن الوجود والعدم دون التوصل إلى إجابات قاطعة ونتائج مرضية ، فهل جاء الوجود من العدم ؟

- عفواً، السؤال خطأ !

فوجئت أسيل القمر بالإجابة. تساءلت:

- أف! لماذا ؟

- لأن العدم نقيض الوجود ، أي لا شيئ على الاطلاق، فكيف يأتي منه وجود، وكيف يمكن لسائل أن يسأل سؤالا كسؤالك ؟

- هل لك أن توضح لي ، فأنا أشعر أن سؤالي ليس خطأ !

- لنفترض أنك تعيشين في بلدة نائية ، ليس فيها جزار، لكنك حصلت على لحم بطريقة ما ، فهل يمكن أن يسألك أحد أبناء البلدة الذين يعرفون أنه لا يوجد في البلدة جزار" هل أتيت باللحم من الجزار؟ "

- أكيد سؤال كهذا من قبل انسان يعرف أنه لا يوجد في البلدة جزار، ليس منطقيا ! لكن ما هو السؤال المنطقي في هذه الحال؟

- من أين أتيت باللحم ؟

- وفي مسألتنا يتوجب علي أن أسأل : من أين جاء الوجود ؟

- صحيح !

- لكن ماذا سنقول لبشرما يرون أن الوجود جاء من عدم ؟

- نقول لهم شغلوا عقولكم فأنتم مخطئون! فأساطير الخلق القديمة كالبابلية، وحتى الكتب المعتبرة سماوية، تقول إن الحياة جاءت من الماء " وجعلنا من الماء كل شيء حيّ .. " فالعدم لم يكن موجودا كما لا يمكن إيجاده!

- لا يمكن إيجاده ؟!

- أجل ؟

- ألا يمكن إحالة جسم مادي ما إلى عدم ؟

- مستحيل ! فما بالك بالوجود كله ؟

- لنأخذ حبة قمح مثلا ، ونسحقها . ألم نحلها بالانسحاق إلى عدم ؟

- أبدا.. مسحوق حبة القمح ليس عدما . وهذا المسحوق إذا ما عجناه وخبزناه ، أو سلقناه مع كمية من طحين القمح ، وأكلناه ، سيمنح أجسادنا مادة وطاقة ، رغم أننا قتلناه بسحقه وبتعريضه لحرارة عالية كعجين ، وسلقه كحبوب أو طحين . ويمكن القول إن حبة القمح لم تمت رغم أننا قتلناها بسحقها ، بل تحولت إلى مادة وطاقة في حياة جديدة !

- يا إلهي ! إذا كانت هذه هي الحال مع حبة القمح فكيف ستكون عليه مع الانسان ، ألا يعني ذلك أن موته ليس ذهابا في العدم واللاشيء؟

- أجل موت الانسان بداية لدورة جديدة في حياة جديدة كي لا يفنى الانسان ولا تفنى الحياة ! فجسم الانسان مكون من مادة وطاقة . والطاقة لا تدمر ولا تفنى وهي قابلة للتحول إلى أشكال مادية مختلفة. وحسب فهمي : الإنسان بعد موته تحل مادة جسده ( المادية) في مادة الوجود لإغنائها، وتحل طاقة جسده غير الطقمادية ، في طاقة الخلق العقلانية القائمة بالخلق !

أطبقت أسيل بيديها على صفحتي رأسها ، حين وجدت أن الحوار مع محمود أبو الجدايل قد يكون أصعب بكثير مما تخيلته :

- يا إلهي أنت تضعنا أمام أسئلة صعبة ومعقدة ، فماذا تعني بالطقمادية وطاقة الخلق العقلانية القائمة بالخلق؟

- الطقمادية مصطلح اشتققته من مفردتي الطاقة والمادة للإشارة إليهما ككيان واحد حسب معادلة آينشتاين،الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء. فالطاقة والمادة شيء واحد وليس شيئين! وطاقة الخلق العقلانية هي الطاقة (غيرالطقمادية) السارية في الخلق ، التي يتم الخلق بواسطتها، فهي طاقة لا تنطبق عليها شروط ومواصفات الطقمادية ، إنها القدرة على الخلق التي لم تتوصل العلوم إلى معرفتها الحقيقية حتى اليوم .

- هل هي الألوهة ؟

- حسب مفهوم ديني يمكن أن تحمل ألوهة أو تكون الله أو ما يقابله في لغات أخرى ، وحسب مفهوم فلسفي يمكن أن تكون العلة الأولى ، أو المحرك الأول ، أو غير ذلك ، كما أعتقد أنا، أي طاقة غير طقمادية .

- يبدو أن الحديث في هذه المسألة يحتاج وحده إلى حلقة كاملة ، لذلك سنؤجل الحديث عنه إلى زمن آخر، وخاصة إذا لم تتضح أبعاده خلال حواراتنا، ولنعد إلى موضوعنا . قلت أن الخلق جاء من الماء، لكن الماء لم يكن بداية الخلق ، يمكن أنه كان بداية خلق ما اعتبر كائنات حية ، فماذا عن الخلق قبل ذلك ألم يأت من عدم ؟

- كلا ، أتى من هذه الطاقة العقلانية غيرالمنظورة وغير الطقمادية، أطلق عليها أيضا الهيولى البدئية.

- وماذا عمّن يقولون أن الوجود أوالخلق جاء من خالق أو إله ؟

- لقد اتفقنا على أن يكون اللقاء حول فلسفتي للوجود والغاية منه ، وليس حول فلسفات وعقائد وأديان البشر، على أية حال يمكنني القول إجابة عن سؤالك : للبشر الحق في أن يفكروا حسبما يعتقدون ، فالإشكالية ليست هنا، بل في ما هو الخالق ، أي ما هي ماهيته وجوهره وأين وماذا كان قبل عملية الخلق، وماذا يريد من الخلق ، وهل هو منزه عنه ؟!

- هل هذا يعني أنكم تقرّون بوجود خالق ؟

- أجل . هناك عملية خلق قائمة منذ قرابة أربعة عشر مليارعام ولا بد من وجود قائم بالخلق فيها !!

- إذن ! استاذ محمود أبو الجدايل : من أين جاء الوجود ؟

- الوجود جاء من طاقة عقلانية أزلية غير طقمادية، تتصف بالوعي والحكمة. كانت كامنة في ما يشبه الفراغ الزائف عند الفيزيائيين، وفكرت ربما لملايين السنين في أن توجد نفسها في وجود ترى نفسها فيه ، وتظهر وتتجسد فيه ، وفي الوقت نفسه يكون قادرا على الخلق، بما في ذلك خلق نفسه بنفسه عبرطاقتها العظيمة السارية فيه .

- ماذا تقصد بعقلانية ، هل كان لدى هذه الطاقة عقل .

- كل حديثنا كان عن عقل. الطاقة بحد ذاتها عقل ، أو العقل هو الطاقة ذاتها . ويمكن القول إن الوجود جاء من عقل أزلي كامن. وأستخدم مفردة الطاقة لتسهيل الفهم ، كون مفردة الطاقة تعني القدرة من ضمن ما تعنيه ، والقدرة لا يمكن أن تتم دون عقل.

- وإذا لجأنا إلى مفهوم ديني ، يمكن القول حسب هذا الفهم : إن الخالق موجود في كل كائن مهما كان ، وأنه بدوره خالق.

- أجل بدوره خالق، إنما خالق محدود الفعل لأن ( الألوهة ) بالكمال الذي بلغته، ليست قائمة بكليتها فيه ، بل بجزء يسير جدا جدا منها ، يمنحها القدرة على خلق نفسها بنفسها ، وعلى عمل ما تحتاج إليه لتحافظ على بقائها وتطورها . ولو أننا أخذنا الانسان مثلا كأرقى الكائنات، فإن قدرته على خلق نفسه وتطورها، كانت أعظم ما نتج عن عملية الخلق. ومع ذلك ليس في مقدور الانسان مثلا أن يخلق كائنات حية ، أو يخلق كوناً.

- وبما أننا في زمن انتشار الفيروسات بين فترة وأخرى هل يمكن القول إن الفيروسات تخلق نفسها بنفسها ؟!

- أجل تخلق نفسها بنفسها بتوظيف طاقة الخلق السارية فيها !

- دون أن تتحكم الطاقة بها؟

- أجل ! طاقة الخلق لا تتحكم بما يخلق إن كان في اتجاه الخير أو اتجاه الشر، المواد التي ينتج عنها الخلق لها دور مهم في المسألة ، ثم يأتي دورالمخلوق الذي يتكون.

- وهذا ما يقودنا إلى أسئلة مختلفة ، لكن سنتركها إلى وقت آخر حتى لا نخرج عن صلب الموضوع.

- لقد خرجنا كثيرا وتشعبت التساؤلات والإجابات، وهذا يغني الموضوع كما أظن.

- أكيد. وما هو الفراغ الزائف الذي كانت هذه الطاقة أو العقل يكمن فيه ؟

- حسب ما توصلت إليه علوم الفيزياء أن هذا الفراغ لم يكن فراغا، لإمكانية نشوء فقاعة منه يمكن أن ينشأ عنها كون . وقد اعتبرته قوانين الفيزياء فراغا لعدم احتوائه على عناصر مادية وأبعاد زمكانية، أي زمان ومكان ، لكن في زمن لاحق تم تجاوز هذه المسألة ، حين اكتشف حسب نظريات الفيزياء الكمومية ما اعتبر تاكيونات ، كانت تكمن في هذا الفراغ ، وفي الأعوام الأخيرة تم اكتشاف جسيم ينتج عن هذه التاكيونات، أطلق عليه "بوزون هيغز " نسبة إلى عالم الفيزياء البريطاني بيترهيغزالحاصل على جائزة نوبل 2013 ، وقد أطلق عالم الفيزياء الأمريكي "ليون ليدرمان " الحائز على نوبل عام 1988 على هذا البوزون اسم "جسيم الإله " متجاوزا بذلك الفكر الفلسفي المادي وحتى العلمي، اللذين لا يعتقدان بوجود إله أو خالق وخلق .

- بماذا يعتقدان اذن ؟

- يعتقدان بتحولات المادة والطاقة ، ولا يريان في هذا التحول خلقاً بل وجود طاقة متحولة من شكل إلى آخر.

- وأنت ماذا ترى ؟

- أرى أن عملية التحول خلق وإبداع . ليس للقائم بالخلق فقط بل للابداع الإنساني أيضا ، فأنا أراه خلقا، ولا استثني خلق الكائنات الأخرى من نبات وحيوان وغيرهما.. لكل كائن في الوجود دور ينبغي أن يلعبه إن سلبا وإن ايجابا !

- وما هو هذا البوزون وهل تم اثبات وجوده ؟

- البوزون جسيم افتراضي مسؤول عن إكساب الجسيمات الأولية كالإكترون والبروتون والنيوترون كتلتها عبر تفاعلها مع مجال هيغز، وقد تم رصده عمليا عام 2012 بنسبة عالية جدا تجاوزت 99% في مصادم الهادرونات الكبير الموجود في مختبر سرن في سويسرا، الذي تصل فيه سرعة البروتونات إلى ما يقارب سرعة الضوء. لذلك أسماه ليدرمان " جسيم الإله "

- وهل تعتبره أنت كذلك ؟

- أبدا !

- ماذا تعتبره إذن ؟

- أعتبره نتاجا أوليا للتصورالافتراضي للعقل الطاقوي القائم بالخلق في الهيولى البدئية!

- وهل هذا التصور هو الذي نشأ عنه الوجود .

- أجل الوجود نشأ عن تصورافتراضي في العقل الطاقوي، لكن ثمة تحولات ومراحل مر بها هذا التصور إلى أن حدث الانفجار الكبيروما بعده. ومن هنا بدأ بث العقل الكوني في الذرات والجسيمات دون الذرية التي يتألف منها الوجود، والتي أصبحت سارية في الكون والكائنات كلها فيما بعد.

- هل في الامكان تعريف العقل الطاقوي أو الطاقة العقلانية وما علاقتها بالطاقات المعروفة لدينا التي تنظم الوجود ؟

- إن أفضل تعريف لهذه الطاقة هي أنها طاقة عقلانية عظيمة غير طقمادية، تتصف بالوعي والحكمة، ولا يضاهيها أي طاقة أخرى، ويصعب على العقل البشري- ولو حتى الآن- سبر واكتشاف ماهيتها ! فهي ليست إحدى القوتين النوييتين وليست الجاذبية كما انها ليست الكهرومغناطيسية ، ولا تنطبق عليها مواصفات الطقمادية، كما أسلفنا، هي طاقة الطاقات كلها ، وعقل العقول كلها، التي جاء منها الوجود، وكل شيء، على الاطلاق، ومآل كل شيء إليها ، فهي لا تفنى ولا تزول.

- من أوجدها!

- هي أوجدت نفسها بنفسها لنفسها منذ الأزل وما تزال توجد نفسها بنفسها لنفسها.

- هذه الفكرة تحتاج إلى حلقات أيضا. هل هي إله أو رب أو خالق ؟

- قد تكون إلها وقد تكون أعظم من إله ، مع أن هذه مفردات لغوية حديثة جدا أطلقها العقل البشري على الخالق القائم بالوجود، بعد اختراع اللغات من زمن قريب جدا لا يتجاوز ستة آلاف عام ، وقد تقبل بها هذه الطاقة أو لا تقبل. علما أنني أستخدم لغة تميز بينها وبين العقل البشري لتسهيل الفهم ، فالعقل البشري جزء من عقلها وما ينتج عنه يمكن اعتباره ناتجا عنها .. وهذا موضوع يحتاج وحده إلى حلقة وربما أكثر لاستيعابه.

- استاذ محمود كل إجابة لك تقودنا إلى كثير من الأسئلة التي قد لا تنتهي. هل تؤمن أنت بوجود إله أو آلهة، اعذرني إذا كان السؤال مكررا ؟

- أؤمن بوجود خالق قد يقبل أن يكون إلها أولا يقبل، كونه مجرد عقل طاقوي عظيم ، يمكن أن يكون أكبر من كل المفردات والتعابير أن تعبر عنه ، رغم أن هذه التعابير والمفردات واللغات كلها، لم تتم دون طاقته العظمى السارية في الكون والكائنات ، ويمكن اعتبارها لغته؟

- أليس لديه لغة محددة ؟

- ليس لديه لغة محددة رغم اعتبار اللغات كلها لغته لأنها تمت بطاقته؟

- هل يتكلم اللغات كلها في هذه الحال؟

- لا يتكلم ولا لغة منها في الوقت الذي يتكلم بها كلها .

- كيف لم أفهم ؟!

- هو كطاقة لا يتكلم لغة محددة لكن على لسان خلقة ( وجوده ) يتكلم اللغات كلها ، فخلقه جزء منه كما أسلفنا ويسري بطاقته العظيمة في كل كائن فيه .

- يا إلهي ! أين تقودنا أستاذ محمود ؟

- أنا أجيب عن أسئلتك فقط ، دون أن أفكر في الاتجاه الذي ستقودك إليه إجاباتي، مع أنني أطمح أن أقودك إلى فهم فلسفتي!

- استفسارآخرحول الموضوع، هل أنت ربوبي ؟ أي تؤمن بوجود مدبر للوجود ؟

- يمكن القول أنني ربوبي صوفي إنما على طريقتي ، فأنا أختلف مع الربوبيين والمتصوفة في مفهومي للخالق أو القائم بالخلق. وأختلف مع الفلاسفة المثاليين أيضا من سقراط وافلاطون وأرسطو مرورا بابن عربي واسبينوزا وهيغل وكانط إلى آخر الفلاسفة المحدثين.

- في هذه الحال كيف تجيبني عن غاية الخالق من الخلق؟

- أخيرا وصلنا كما يبدو إلى السؤال الجوهري. الخالق خلق الخلق ليرى ذاته الطاقوية العقلانية الحكيمة مجسدة في كائنات يتمتع بها! أي يتمتع برؤية نفسه ، فليس من الخلق أن يبقى مجرد عقل طاقوي دون تجسد في مادة تنبض بالحياة والجمال والحب . ولولا هذا التجسد لما عرف نفسه جيدا، ولما عرفناه نحن. هذه غاية أولى ، أما الغاية الثانية فهي أن يقوم هذا التجسد الممثل في الكائنات وبشكل خاص الكائن الأرقى ، أي الانسان ، مشاركته في عملية الخلق لبلوغ غاياته . وفي هذه الحال تصبح عملية الخلق تكاملية بينه وبين ما يتجسد فيه . وبمعنى ديني كما عبرت كثيرا : تكاملية بين الخالق والمخلوق .

- وما هي غاياته ؟

- إقامة حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. ودون هذا الخلق لا يمكن لهذا العقل الخالق أن يحقق ما يريد ، فهو كطاقة عقلانية لا يبني مدنا وجسورا ولا يشق طرقا ، ولا يقيم حضارة ، فكان لا بد من خلق يتجسد فيه ليحقق ما يطمح إليه .

- وهل حققت الكائنات والانسان ذلك ؟

- حقق الإنسان جزءا يسيرا جدا كبناء المدن واختراع اللغات واكتشاف بعض طاقات الكون وتوظيفها ، وإيجاد بعض القيم، وغير ذلك من المكتشفات والاختراعات والسلوكيات والمنظومات الضرورية للحياة .

- وماذا عن قيم الخير والعدل والمحبة ؟

- للأسف ما يزال الانسان بعيدا جدا عن تحقيق هذه الغايات بأسمى معانيها . حتى أنه لم يدرك الغاية الحقيقية من وجوده ، وبالتالي لا يدرك نفسه كجزء من ذات إلهية أو ذات كونية .

- وماذا عن الكائنات الأخرى ، ماذا حققت ؟

- الكائنات الأخرى من حيوان ونبات وكل ما في الطبيعة من كواكب ونجوم وأنهار ومحيطات وبحار، تقوم بدورها في عملية الخلق على أكمل وجه عكس الانسان الضال !!

- هل تعتقد أن هذا التجسد في عملية الخلق وصل من حيث الشكل إلى أرقى ما هو ممكن ؟

- إلى ما هو ممكن حتى اليوم وخاصة في الوجود الكوني، أما في الوجود الانساني مثلا، فالشكل المنشود قد يكون أجمل وأرقى بكثير مما هو عليه اليوم .

- هل من الممكن تقديم تصور له ؟

- ربما يكون شكل الانسان كالملائكة الذين تتحدث عنهم الكتب الدينية .

- ومتى يمكن الوصول إلى ذلك ؟ ربما بعد مليون سنة وربما أكثربكثير .

- هل هذا يعني أن عملية الخلق وتجسدها ما تزال في بداياتها؟

- بل إنها ما تزال تحبو مقارنة بعمرالوجود البالغ أربعة عشر مليار سنة . فإذا كان خلق الكائنات الحية لم يتم إلا منذ بضع ملايين من السنين من هذا الزمن الهائل ، وأن خلق الانسان (العاقل) لم يتم إلا من قرابة أربعين ألف سنة، فإن الخلق الاقرب إلى المنشود قد يحتاج إلى مليارات السنين وليس مجرد ملايين.

- لماذا العاقل بين قوسين ؟

- لأن الانسان العاقل بالمطلق ، أي الكامل لم يوجد بعد ، والعقل البشري ما يزال يرزح تحت نير التخلف العقلي والفكري والعقائدي!

- هل هذا يعني أن عملية الخلق والتجسد عملية متطورة وليست ثابتة ومنتهية ؟

- أكيد .

- وأنك تعتقد بذلك ؟

- أجل .

- كيف تتم عملية الخلق لتتجسد في مواد وأشكال مختلفة تعبر عن وجود العقل الطاقوي القائم بالخلق فيها .

- العقل الطاقوي كما أسلفنا طاقة سارية في الخلق ومتجسدة فيه، تتصف بالوعي والحكمة. وقد توصلت إلى وضع قانون بعد ملايين التجارب، يتم به الخلق . فالعقل الطاقوي الخالق لا يقف على رأس كل جسيم مادي ليحيله إلى ما يريد، بخلطه وتفاعله مع جسيمات أخرى ، لقد وضع قانونا تخلق الكائنات نفسها بنفسها عبره ، بأن بث طاقته العقلية في أساس الجسيمات والذرات التي يتشكل منها الوجود، أي جعل الكائنات توجد نفسها بنفسها، كما أوجد هو نفسه بنفسه لنفسه منذ الأزل ، إنما دون تجسد ، بل مجرد عقل طاقوي مطلق لا يمكن تحديد ومعرفة ماهيته إلا من قبله نفسه . لذلك يقف العقل البشري حتى اليوم عاجزا عن اكتشاف سرهذا الاعجاز .

- هل يمكن اعطاء فكرة عن هذا القانون ؟

- لقد سبق وأن لخصت هذا القانون نظرياً بمفردات قليلة تحتاج إلى شرح مطول :

" الكائنات كلها من الجماد إلى البكتيريا إلى الفيروسات إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق العقلانية الكلية السارية في الكون التي أطلق عليها البشر اسم الله أو ما يقابلها في لغات اخرى . . فإذا كانت العناصر المادية إيجابية تنتج عنها طاقة ايجابية ينتج عنها خلق إيجابي ، وإذا كانت العناصرالمادية سلبية ينتج عنها خلق سلبي ، قد يكون ضارّاً، وإذا كانت المادة مزيجا من السلب والإيجاب غير المتكافئ ، قد ينجم عنها خلق مشوه غير قابل للبقاء. ونظرتنا إلى الوجود تشير إلى تفوق المادة الإيجابية على المادة السلبية ، بدليل وجود الجمال والبقاء والتطور والرقي في عملية الخلق إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه خلال ما يقرب من أربعة عشر مليارعام من عمر الوجود "

- كالعادة فجرت أمامي عشرات الاسئلة، لكن زمن الحلقة انتهى. سأترك ذلك للحلقة القادمة وما بعدها من أفق المعرفة . شكرا استاذ محمود أبو الجدايل !

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...