سعيد محمود - عن كتاب " في الشعر الجاهلي"

سمع البعض منا عن كتاب " في الشعر الجاهلي" الذي كتبه عميد الأدب العربي في عشرينيات القرن الماضي، ولكنهم ربما لا يعرفون شيئا عن محتواه. كل ما يعرفونه أن الأزهر رفض ما ذهب إليه طه حسين في كتابه جملة وتفصيلا ، وكلفوا شيخ أزهري هو خليل حسنين (الطالب بالقسم العالى بالأزهر) برفع دعوة ضده يتهمونه فيها بالإساءة للقرآن والإسلام. وبعد ذلك ارسل شيخ الجامع الأزهر تقريراً أعده علماء الأزهر يتهمون فيه طه حسين بالطعن في القرآن الكريم ورأى هؤلاء العلماء أن ما كتبه طه حسين من أن الشعر العربي منحول وغير حقيقي يحيل، في حقيقة الأمر للنص الديني ذاته. بناء على تلك الاتهامات تمت محاكمة طه حسين .ولكن النيابة قررت حفظ أوراق القضية إداريا. السؤال هنا: لماذا انتفض الأزهر على طه حسين؟ الإجابة هي لأن جوهر الأفكار التي جاء بها في هذا الكتاب العلامة يمكن أن تؤدي لفقدان الأزهر ذاته لمبرر وجوده لو انتشرت بين العموم. من هذه الأفكار أن الشعر لم يكتب في العصر الجاهلي وإنما كتب في العصر العباسي ونسب إلى شعراء لا وجود حقيقي لهم في التاريخ وأن الخلفاء العباسيين فعلوا ذلك ليثبتوا قواعد حكمهم ويستعبدوا الناس باسم الدين وباسم اللغة العربية تلك اللغة التي تحدث بها الرسول وأهله الذين هم اسلاف العباسيين والذي كتب بها الشعراء المزيفون شعرهم المنحول. ومن الآراء التي أثارت ثائرة الأزهركذلك ما قاله طه حسين في كته وأنه لا يمكن الاستدلال على وجود إبراهيم واسماعيل التاريخي من خلال ما جاء بشأنهما في القرأن. هذه هي الأفار الأساسية لكتاب" في الشعر الجاهلي" والكتاب موجود في المكتبات ولعل هناك نسخ له " أون لاين" لم يروم قراءته بالكامل.
. اللافت للنظر في محاكمة طه حسين أن وكيل النيابه الذي حقق معه وهو" محمد بك نور" رئيس نيابة مصر، قد كتب مرافعة رائعة يرى الكثيرون أنها لا تقل في البلاغة ونصاعة الأسلوب عن نصاعة أسلوب كتاب في الشعر الجاهلي ذاته. وفيما يلي نص هذه المرافعة التي أعيد قراءتها من آن لآخر كلما صادفتها استمتاعا بأسلوبها البليغ والرصين، وهو استمتاع لا يقلل منه سوى الحزن على ما آل إليه مستوى وكلاء نيابة وقضاة اليوم ومنهم قاضي محكمة حسني مبارك المستشار أحمد رفعت الذي كنا نفترض نظراً لمظهره الوقور ورصانته البادية أن جهبذ من جهابذة اللغة ثم اكتشفنا عندما بداوا يقرأ حيثيات الحكم أنه مستواه لا يزيد عن مستوى طالب بليد في الإعدادية لما حفلت به قراءته من العشرات من الأخطاء سواء في النطق أو التشكيل أو قواعد اللغة العربية.

.................................

ملحق قرار النيابة في قضية كتاب (في الشعر الجاهلي)
نص بيان الإتهام
نحن محمد نور رئيس نيابة مصر
من حيث أنه بتاريخ 30 مايو سنة 1926م تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر لسعادة النائب العمومي يتهم فيه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنه ألف كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" ونشره على الجمهور وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم إلى آخر ما ذكره في بلاغه .
وتاريخ 5 يونيو سنة 1926م أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر لسعادة النائب العمومي خطابا يبلغ به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسن المدرس بالجامعة المصرية أسماه "في الشعر الجاهلي" كذب فيه القرآن صراحة ، وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نسبه الشريف وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى ، ويطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجحة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة وقد أرفق بهذا البلاغ صورة من تقرير أصحاب الفضيلة العلماء الذي أشار إليه في كتابه . وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1921 تقدم إلينا بلاغ آخر من حضرة "عبد الحميد البنان" أفندي عضو مجلس النواب ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي - وهو دين الدولة - بعبارات صريحة واردة في كتابه سنبينه في التحقيقات .
وحيث أنه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري قد أرجأنا التحقيق إلى ما بعد عودته . فلما عاد بدأنا التحقيق بتاريخ 19أكتوبر سنة 1926م فأخذنا أقوال المبلغين جملة بالكيفية المذكورة بمحضر التحقيق ثم استجوبنا المؤلف . وبعد ذلك أخذنا في دراسة الموضوع بقدر ما سمحت لنا الحالة .
وحيث أنه اتضح من أقوال المبلغين أنهم ينسبون للمؤلف أنه طعن على الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه :
الأول: أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن الكريم في أخباره عن إبراهيم وإسماعيل حيث ذكر في ص 26 من كتابه " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا . ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن من جهة أخرى" إلى آخر ما جاء في هذا الصدد .
الثاني : ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعا وأنه في كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله ، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه عن النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا من حيث نسبه فقال في ص 72 من كتابه : "ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش ، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون عبد مناف صفوة بني قصي وأن يكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية كلها" . وقالوا إن تعدي المؤلف بالتعريض بنسب النبي صلى الله عليه وسلم والتحقير من قدره تعدّ على الدين وجرم عظيم يسيء إلى المسلمين والإسلام فهو قد اجترأ على أمر لم يسبقه إله كافر ولا مشرك .
الرابع : أن الأستاذ المؤلف أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم إذ يقول في ص80 : "أما المسلمون فقد أرادوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل" .. إلى أن يقول في ص81 : "وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان" .. إلى آخر ما ذكره في هذا الموضوع .
ومن حيث إن العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين الإسلامي إنما جاءت في كتاب في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله ، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضوعها والنظر إليها منفصلة ، وإنما الواجب توصلا إلى تقديرها تقديرا صحيحا بحثها حيث هي في موضوعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسئوليته تقديراً صحيحاً .وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها .
وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر
(فلذلك)
تحفظ الأوراق إداريا




https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2821864258043470&id=100006597690272
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...