مقدمة ديوان حامد طاهر الصادر بالقاهرة1984
هاجرت أسرتى من الريف إلى القاهرة فى نهاية الثلاثينات : أبى ، وأمى ، وخمس بنات ، وأربعة أبناء . ولا يمكن أن أقول إن أبى كان ريفياً بمعنى الكلمة . فقد ورث عن والده حوالى عشرة أفدنة من أجود الأراضى الزراعية بالدقهلية : كان يؤجرها تارة ، ويرهنها أحياناً ، دون أن يعمل بيديه فى الحقل . ومن حكاياته لنا عرفت أنه لم يألف حياة الريف قط ، وإنما كان نزوعه دائماً إلى حياة المدينة ، لهذا كان كثير السفر إلى مدينة المنصورة لأدنى مناسبة .
ومن الطبيعى أن يتحين أبى الفرصة ليهاجر بتلك الأسرة الكبيرة العدد إلى القاهرة ، حيث استأجر مسكناً بجوار القلعة ، فى حى الخليفة . ونظراً لقلة الموارد ، دفع بإخوتى الثلاثة الكبار (السيد ، محمد ، منير) إلى تعلم صناعة الحقائب ، وحافظات الجيب الجلدية بعد محاولات متعثرة فى المدارس ، خرجوا منها بتعلم القراءة والكتابة .
وعندما أتقن إخوتى " الصنعة " فتح أبى لهم مصنعاً صغيراً على مقربة من بوابة المتولى بالغورية . وزاد المكسب باضطراد . وشعرت الأسرة المهاجرة بنوع من الاستقرار النسبى ، الذى لم يؤرقه حينئذ إلا غارات الحرب العالمية الثانية ، والتى كانت القاهرة أحياناً مسرحاً لها ، مما حدا بالأسرة إلى أن تنتقل إلى مسكن أكثر اتساعاً ومتانة فى شارع الدرب الأحمر .
ولدت فى هذا الشارع ، فى الثامن من إبريل سنة 1943 . فصرت عاشر الأبناء . ومن العجيب أننى مازلت أحتفظ جيداً بمنظر الغارات التى وقت على مدينة القاهرة ، أثناء حرب فلسطين سنة 1948 : صفارات الإنذار ، والأضواء الكاشفة ، واللجوء إلى المساجد الضخمة بدلاً من المخابئ ، وابتهالات أبى وأمى بصوت عالٍ مضطرب طيلة انطفاء النور ، ثم عودتنا بعد ذلك إلى المنزل ، و"سدة النفس" عن الطعام الكثير ، الذى كان يتم إعداده على نحو جيد ، بسبب وجود خمس بنات يعملن جميعاً بكفاءة وانتظام لهذا الغرض .
كان لميلادى فى تلك الظروف وقع كبير فى الأسرة كلها . فأنا الأصغر أو آخر العنقود كما يقولون . وأبى يشملنى بعطف خاص ، ويصحبنى أحياناً إلى أكبر مساجد القاهرة كالأزهر والحسين والسيدة زينب لسماع الشيخ محمد رفعت ، وأحياناً أخرى إلى نادى السعديين ، الذى كان عضواً فيه ، للتسليم على النقراشى باشا ، وقد رأيته – ذات مرة – يستقبله بترحاب شديد .
وفى إحدى المرات ، زادت حدة الغارات على القاهرة ، وتداعى المنزل الملتصق تماماً بمنزلنا ، توفى فيه بعض من نعرفه ، فاضطرت الأسرة إلى الرحيل إلى مدينة المنصورة – وليس قرية أبى (الدنابيق) أو قرية أمى (سلامون) – وهناك استأجرنا شقة فاخرة فى حى راق. وأذكر أننى تعرفت ، فى ذلك الحى ، على بعض الأصدقاء من أبناء العائلات الموسرة ، وكنت أذهب بصحبتهم للتفرج على لعب الأطفال المعروضة بمحلات شارع السكة الجديدة : كالقطارات ، والحيوانات المصنوعة من العاج ، والجنود المصنوعين من البرونز – وهى أشياء لم أرها بعد ذلك إلا فى بعض الأحياء القديمة بباريس ، عندما سافرت إليها فى السبعينات.
وضعت الحرب أوزارها ، فعدنا إلى القاهرة، ثم ما لبثنا أن انتقلنا إلى منطقة الدرّاسة شمال حى الحسين : وهى منطقة جيدة التخطيط ، نظيفة وهادئة ، وسكانها غالباً من الموظفين والطبقة المتوسطة ، وهم عموماً أكثر انطواءاً من أهالى الدرب الأحمر ، ونساؤهم أكثر تحفظاً . وفى المنزل رقم 8 بشارع الملك المنصور ، أقمنا ما يقرب من خمس عشرة سنة : اخوتى الكبار يعملون فى حجرة واسعة بالمنزل ، واخواتى البنات مخصصات لأعمال البيت . وأخى الأكبر مباشرة (أحمد) قرر أبى أن يرسله إلى الأزهر ، لأنه لم يكن يثق كثيراً فى التعليم المدنى .أما أنا فقد التحقت بمدرسة الجمالية : مدرسة عتيقة ولها تقاليدها . وقد أحببتها ، وصادقت فيها زملاء كنا نتزاور فى المنازل خلال الأجازات . وكان ترتيبى على الفصل يتراوح بين الثانى والرابع . وفيها أحببت اللغة العربية ، لأن الظروف أتاحت لنا أستاذاً ممتازاً (اسمه عبدالحليم) خصنى بعنايته ، وكان يختارنى للقراءة أمام المفتشين ، مما زاد من مسئوليتى واهتمامى بدروسه .
كانت مدرسة الجمالية غاية فى النظافة . وكنا نقضى بها أطول النهار ، من الثامنة صباحاً إلى الخامسة بعد الظهر . وفيها نتناول وجبة غداء كاملة . ونسعد بفسحة تصل إلى ساعة ونصف ، نمارس فيها شتى الهوايات . وفى كل يوم جمعة رحلة إلى أحد معالم القاهرة . وأناشيد الصباح ، وتلك اللوحة الجملية الخط التى كانت معلقة فى إحدى الردهات ، مكتوب فيها " دولة الظلم ساعة ، ودولة العدل إلى قيام الساعة " . والمسابقات الثقافية ، والرياضية وتوزيع الجوائز . . والمدرسون مهتمون والناظر حازم وحنون . .
وفجأة قرر أبى أن أترك هذه المدرسة ، وأن ألحق بأخى فى الأزهر . وبكيت كثيراً ، واستعطفت فلم يقبل رجائى .
وكان على أن أحفظ قدراً من القرآن الكريم فى مسجد المستعلى بالله (القائم حتى الآن) عند الشيخ سيد ، وهو شبه كفيف ، ظل يعاملنى بقسوة، حتى اضطرنى لرشوته ببعض الهدايا المنزلية ، فاطمأن لى ، بل إنه كان يفوت لى أحياناً بعض الواجبات .
حفظت حوالى ثلثى القرآن الكريم . ودخلت امتحان القبول بالأزهر . ومن العجيب أننى نجحت فيه رغم تشددهم فى ضرورة حفظ القرآن كله . أما الذى يبدو أنه شفع لى : فهو أننى قرأت أمام لجنة الامتحان فقرة من الجريدة اليومية بأداء جيد ، كنت متعوداً عليه فى مدرسة الجمالية .
كانت فرحة أبى بالغة بنجاحى فى الأزهر . وعلى الفور ، اصطحبنى ليشترى لى عمامة وكاكولا من حى المؤيد . ولم يجد البائع على مقاسى شيئاً مناسباً ، فأوصى أبى بشراء مقاس أكبر ، ودله على ترزى لكى يضبطه على جسمى الصغير . وأذكر أننى كنت أصغر " شيخ " فى معهد القاهرة الدينى ، وأننى كنت موضع سخرية عم إبراهيم ، بقال شارعنا ، الذى كان يترك زبائنه عندما يرانى ، ويخرج من المحل صائحاً : أهلاً يا شيخ حامد .." أو " مع السلامة يا فضيلة الشيخ"..
صرت أتحاشى رؤية أصدقاء مدرسة الجمالية . وكان قد أصبح لى أصدقاء جدد فى منطقة الدراسة . وهناك فى شارع بدر ، قضيت أجمل سنوات عمرى على الإطلاق : لعب الكرة الشراب ، والعسكر والحرامية ، والسبع طوبات . . ثم الحب الأول الذى عزف فى النفس أحلى أغانيه العذبة .
كان أصدقائى فى منطقة الدراسة هم الإخوة الصغار لأصدقاء أخى أحمد . أى أننا كنا نمثل جيلين متعاقبين ، ومع ذلك كنا غير منفصلين . بعض الألعاب كانت تقتضى أن نشترك فيها جميعاً ، أو يشترك فيها عدد محدود من الجيل الأصغر . وكنت أنا دائماً من بينهم .
وعلى ناصية شارع بدر ، كان لنا اجتماع شبه دائم ، ليلاً ونهاراً . وأجمل سهرات شهر رمضان هى التى قضيتها على هذه الناصية . كنا نخوض فى كل شئ . ونحلم بأشياء بعيدة . . بعيدة جداً . ومازلت أذكر أن أحد الأصحاب أخبرنا ذات يوم ، ونحن وقوف على تلك الناصية ، بوفاة الشاعر إيليا أبوماضى .
أما مكوجى الناصية المقابلة ، فقد سمعت من مذياعه البيان الأول لثورة 23 يولية سنة 1952 . وغمرنى يومها شعور غريب ، فكأننى كنت أنتظرها .
الواقع أن أسرتنا فى منطقة الدراسة قد عانت كثيراً من الضائقات المالية المتعاقبة . وكانت أحياناً تستدين . وكنت أشهد هذا بمرارة ، كما كنت أدرك أسبابه : بعد استقرارنا فى القاهرة ، أصبح منزلنا " مزاراً " مألوفاً جداً لأهالى قرية أبى ، وقرية أمى على السواء : أقارب ، وأصدقاء قدامى، ومعارف من قريب ، وحتى من بعيد . . ونصب أبى من نفسه كفيلاً لكل هؤلاء : يعد للوافد منهم مكاناً يبيت فيه ، ثم يسأله فى الصباح عن سبب زيارته للقاهرة ، ويسعى معه فى قضاء حاجته ، ثم يعطيه قدراً من المال للاستعانة به عليها . وما أكثر ما كان يبعث بأحد إخوتى الكبار لكى يوصل " صاحبنا " إلى محطة مصر , و "يقطع له التذكرة...
ومن المدهش أن معظم هؤلاء الزائرين لم يحفظوا وداً ، ولا معروفاً . وكانت تبلغنا عنهم مواقف منافية لما قدمناه إليهم فى القاهرة . والأكثر غرابة أن أبى كان يسمع ، ويغضى : متجاهلاً حيناً، وغاضباً حيناً آخر ، وفى كل الحالات : ما كان واحد من أسرته يقدر أن يوجه له كلمة عتاب .
أما أصدقاء منطقة الدراسة ، فكانت عائلاتهم – كما قلت – من الطبقة المتوسطة، أو الموظفين : وهى عائلات أكثر استقراراً ، على الأقل من ناحية ميزانيتها الشهرية ، فهناك أوقات معلومة لشراء أدوات المدرسة للأولاد ، وملابس العام الجديد، والاستعداد اللائق للأعياد والمناسبات . وعلى العكس من ذلك تماماً كانت أسرتنا : ربما تسعد وحدها فى غير الأعياد ، ولكنها قلما تشارك الناس فى مناسباتهم السعيدة .
أحسست بأننى من الطبقة التى جاءت ثورة يولية لإنصافها . وقد زاد من هذا الإحساس أن أبناء العائلات المجاورة أظهروا اشمئزازهم من تلك الفوضى التى قام بها الجيش ، فقلب بها الأوضاع السائدة ، والتقاليد المستقرة .
وكان هناك سبب خاص زاد من إحساسى بالغربة فى تلك الفترة ، وهو أن نوع دراستى كان مختلفاً تماماً عن دراسة أصدقائى . فمعظمهم يدرسون فى المدارس الأجنبية كالليسيه ، والمدرسة الإنجليزية ، والمدرسة الألمانية ، كما يدرسون اللغات الأجنبية ، ويتغنون أمامى فى أغلب الأوقات ببعض أناشيدها . وأنا أدرس فى معهد القاهرة الدينى : النحو العربى ، والصرف ، والتجويد ، والفقه (على المذهب الحنفى) لهذا كان لى حياتان : إحداهما مع هؤلاء الأصدقاء ، أجاريهم فيها ، وأحاول جاهداً أن أستوعب ما يتحدثون عنه، وأتقبله منهم ، والحياة الأخرى لى وحدى : أنطوى فيها على نفسى ، وألزمها بحفظ أشياء لم تكن فى ذلك الوقت مفهومة ، ولا حتى مقبولة من عقلى الصغير .
ومرة أخرى . . أحسست أن ثورة يولية سوف تنصفنى من تلك الطبقة ، ومن أبنائها المتميزين عنى فى كل شئ : فى المستوى الاجتماعى ، وفى طبيعة التعليم ، وفى الثقافة العامة ، ومع ذلك فإننى لم أكرهم قط ، بل ظللت أحبهم ، وأميز حتى الآن وجوههم ومواقفهم الكريمة معى ، ولا أكاد أذكر لواحد منهم – على كثرة عددهم – موقفاً أساء فيه إلىّ . .
كانت المواد جافة فى الأزهر إلى حد بعيد ، وخاصة فى المرحلة الابتدائية . ويوم أعارنى صديقى محفوظ عزام قصة سيف بن ذى يزن (فى أربعة مجلدات) لم أتركها حتى أكملت قراءتها . بل إننى كنت أقرأها فى الفصل ، مخفياً إياها عن الأساتذة . وأذكر فى هذا المجال ، أن أستاذ مادة الفقه كان يدعونى دائماً لكى أقرأ من الكتاب بصوت عال ، ثم يقوم هو بالتعليق عليه فقرة فقرة (وهى طريقة التدريس التى كانت متبعة فى الأزهر) وقد حرصت مع ذلك على أن أستمر فى قراءة سيف بن ذى يزن ، عندما أنتهى من قراءة كل فقرة من المتن ، دون أن يلاحظ الأستاذ شيئاً غير عادى ، وكذلك باقى زملائى فى الفصل .
وكان المعهد الدينى يضم الكثير من الطلاب المكفوفى البصر ، أو شبه المكفوفين . ولهؤلاء : امتحاناتهم الخاصة (التى تتم شفوياً بالطبع) ، كما كانت لهم حلقاتهم الخاصة . ولا أدرى ما الذى شدنى فى ذلك الوقت إلى زمالتهم ، والمذاكرة لهم ، ومعايشة مشكلاتهم ، والاستمتاع أحياناً بنوادرهم . أذكر أن الشيخ (عصفور) راهن أحد زملائه على أن يأكل فى وجبة واحدة سبعة أرغفة مع الطعمية والسلاطات.. ومضى التحدى أمام الجميع إلى نهايته ، وانتصر الشيخ عصفور علناً على منافسه، ولكنه رجانى بعد ذلك أن أصحبه إلى "ميضة" الجامع الأزهر لكى يفرغ جميع ما ازدرده فى الرهان ، وراح يبكى ..
أما المرحلة الثانوية ، فقد انفرج فيها الباب قليلاً ، بإدخال مادة الأدب العربى فى المقررات الدراسية . وهنا امتد أمامى أفق واسع . وأوسع منه أن أخى الأكبر أحمد ، كان قد بدأ يستعير من دار الكتب المصرية ، بباب الخلق ، مؤلفات المنفلوطى والرافعى والزيات . . وكنت ألتهم معه ، وأحياناً قبله ، هذه المؤلفات.
ثم عرفت الطريق بنفسى إلى دار الكتب ، وحملت بعض أصدقاء منطقة الدراسة الموسرين على الذهاب معى إلى قاعة المطالعة ، ليقرأوا فى مجلدات مجلة سمير ، أو سندباد . . بينما أقرأ أنا فى مجلدات الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى . والحيوان للجاحظ . .
وبدأت أميل إلى الشعر . . وأشعر فى أعماقى بقوة تدفعنى إلى قوله . ورحت أحاول تقليد ما أقرأ بكلام ركيك غير مستقيم الوزن ، لكنه مطرد القافية . . وبمرور الوقت ، درست علم العروض بالأزهر ، فأخذت أقيس به ما أكتب ، ووجدت بعضه موزوناً ، ففرحت كثيراً . .
ومن أحداث ثورة يوليه التى كان لها تأثير مباشر على أسرتنا الصغيرة ، أنها أصدرت قراراً بحل الأوقاف الأهلية . وبذلك أتاحت لأصحابها أن يتصرفوا فيها بالشراء والبيع . وفرح أبى كثيراً بهذا القرار . لكن أمى لم تكن كذلك . وفى صفقة غير متعادلة : باع أبى عشرة الأفدنة التى كانت موقوفة بأرض الدقهلية ، ليشترى بثمنها مائة فدان صحراوية فى أرض الفيوم . . وكان مشروعاً هائلاً لو أنه نجح . . لكن نجاحه كان بحاجة إلى قدر كبير من التخطيط الكافى ، والتمويل المنتظم.
وذات يوم ، قرر أبى بدوره أن تنتقل الأسرة كلها إلى الفيوم لتقيم فى المنزل الكبير الذى بناه وسط الأرض ، تمهيداً لزراعتها ، وأن يتوقف إخوتى الكبار عن العمل فى مهنة الجلود ليساعدوه فى أعمال " العزبة " الجديدة . . وبالفعل انتقلنا . وهناك عشنا حوالى ثلاث سنوات قاحلة ، لم تخرج فيها الأرض لنا سوى بعض الخضروات . .
كنت أقضى الساعات الطويلة منفرداً فوق سطح منزل الفيوم ، حيث كان فى مقدورى أن أشاهد على البعد " بحيرة قارون " ، الشديدة الزرقة، وسط الرمال الصفراء المترامية . . وكانت تمر بى لحظات أشعر فيها أننى جزء من هذه الطبيعة الخالدة ، والساكنة تماماً من حولى . وفكرت فى أشياء كثيرة : الدين ، والمجتمع ، ومغامرة أبى التى تتداعى أمام عينى . . وأخيراً كنت ألجأ إلى الشعر ، أحاول أن أكتبه فيستعصى علىّ ، وأحس بمرارة شديدة لابتعادى عن دار الكتب ، وعن موطن ذكرياتى فى الدراسة . . وكثيراً ما كنت أحس بأننى مقبل على نهاية العالم . وبالفعل كانت المنطقة التى نعيش فيها على طرف الصحراء الغربية. .
لكننى وأخى أحمد وابن أخى وجيه كنا أسعد حظاً من باقى أفراد الأسرة المعزولة . فقد كنا نسافر إلى القاهرة مرتين فى كل عام : واحدة للدراسة ، والأخرى لأداء الامتحان . وذات يوم بلغ بى التمرد غايته ، فأعلنت لأول مرة أننى لن أعود إلى الفيوم ، وسوف أبقى فى القاهرة وحدى . وعندما هددونى بقطع المصاريف ، جابهتهم بأننى سأعمل فى الأجازة . . وأثار هذا التصرف العنيد باقى إخوتى ، فقرروا جميعاً العودة واستئناف عملهم من جديد ، بعد أن تحقق لهم فشل تجربة الفيوم .
عدنا مرة أخرى إلى الدرب الأحمر ، واستأجرنا منزلاً فى أول شارع باب الوزير ، وهو الشارع الوحيد الذى يؤدى إلى المدافن الواقعة فى حضن القلعة . وفى مشربية هذا البيت العتيق ، كنت أقضى الساعات الطويلة ، قارئاً فى كتاب ، أو متأملاً فى مصير الموتى الذاهبين على مقرهم الأخير ، ومشيعيهم العائدين بخطوات منهكة ، وأذرع مدلاة . .
لكن أجمل ما فى تلك الفترة كان هو قربى من دار الكتب . . أذهب إليها كل يوم ، بيدى قلم وكراسة ، ومعى سندوتش للغداء ، وأجلس فى قاعة المطالعة ، أو فى قاعة المخطوطات من التاسعة صباحاً حتى الخامة أو السادسة مساء . . كنت أقرأ بدون نظام ، أو بالأحرى كنت نهماً لمعرفة كل شئ . وكلما وجدت إشارة عن كتاب أو ديوان شعر لم أهدأ حتى أطلبه ، وأقرأه ، وأسجل منه فى كراستى الصغيرة بعض العبارات . .
وفى سنة 1961 ، دخل فصلنا أستاذ جديد لتدريس مادة الأدب العربى . وفوجئت بأنه لا يرتدى الزى الأزهرى المعهود . كان هو السيد أحمد صقر ، المحقق الكبير ، والذى كان مغضوباً عليه من الأزهريين فعاقبوه بالتدريس فى المرحلة الابتدائية ، ثم شمله العفو قليلاً فانتقل إلى المرحلة الثانوية !
أحدث هذا الرجل انقلاباً هاماً فى حياتى . فقد طرح عل الطلاب سؤالاً مثيراً :
- ماذا قرأ كل منكم فى الأجازة الصيفية ؟
وتعددت الإجابات المضحكة : " كنت ألعب الطاولة مع زملائى بالقرية " ، "كنت أساعد أبى فى الحقل " ، " أعدت قراءة كتاب الفقه " ، " كنت أقرأ الجريدة فى دوار العمدة " . . ولم يصل الدور إلىّ . فلم أجب . ولم يسمع منى الأستاذ شيئاً فى ذلك اليوم . لكنه ثار ثورة عارمة على كل من أجابوا ، واصفاً إياهم بأنهم " خشب مسندة " ثم راح يشرح لهم أن الثقافة العامة شئ ، والمقررات الدراسية شئ آخر تماماً .
كان هذا رأيى الذى آمنت به منذ سنوات ، ولم أجرؤ أن أفاتح فيه أحداً من زملائى بالأزهر . وها هو الرجل الجرئ يعلنه بصراحة ، ويحاسب عليه . . يومها أحسست أننى سأكون تلميذه المفضل ، بل صديقه .
ولم نلبث أن التقينا . ودعانى إلى منزله بشارع محمد على حيث أطلعنى على حجرة مكتبه التى تمتلئ بأندر المخطوطات ، والمطبوعات النفيسة . وهناك حدثنى عن أنه يمتلك طبعة دار الكتب أو طبعة بولاق من كتاب كذا وكذا . . فعلمت أن الكتب مستويات . وهناك علمنى كيف أحترم "الكتاب" ، وأقلب صفحاته بقدسية ، دون أن يعنى هذا عدم نقدى لمؤلفه . وباختصار كان هذا الرجل هو الثورة التى حدثت أمامى داخل الأزهر .
عن طريق السيد صقر ، الذى شجعنى على كتابة الشعر ، تعرفت فى فصوله الأخرى على صديقىْ الطريق الشعرى : محمد حماسة عبداللطيف، وأحمد درويش . كان كل منهما يسلك – منفرداً – نفس الطريق الذى أسلكه . ولم تقف فى سبيل تعارفنا السريع عقبة . فبدأت بيننا صداقة عميقة ، مازالت مستمرة حتى اليوم .
تميزت هذه الصداقة بطابع خاص . فقد قامت على أن ثلاثتنا نكتب الشعر ، وبذلك فنحن مختلفون عن باقى الزملاء فى المعهد الدينى . ثم إننا نقرأ كتباً ثقافية كثيرة غير الكتب المقررة ، وهذا يزيد من توحدنا . وصار كل واحد منا ما أن يكتب قصيدة حتى يسرع إلى زميليه ليطلعهما عليها: وهما ينقدان ، ويصححان ، وأحياناً يغيران بعض الكلمات . . من أجل أن تظهر قصيدة صاحبهما أمام " الآخرين " متماسكة وجيدة .
كان أحمد درويش يسكن فى شبرا ، وحماسة فى السيدة زينب ، وأنا فى الدرب الأحمر.. ومع الوقت صارت هذه الأحياء الثلاثة مألوفة لنا جميعاً . . نتبادل الزيارات فيها سيراً على الأقدام ، ولا يكاد يمر يوم أو اثنان بدون لقاء ثنائى أو ثلاثى. . وأحياناً ما كنا نبتعد قليلاً فنعبر حى جاردن سيتى الهادئ إلى شاطئ النيل ، الذى كان يحلو لنا أن ننظر طويلاً فى مائه !
وفى الأجازات الصيفية ، كنا نتبادل الرسائل. وأية رسائل ! ! كل واحدة عبارة عن أربع صفحات فلوسكاب مليئة كاملاً ، وشعراً ، وأخباراً أدبية . . وكان حماسة منتظماً معى . وأذكر أن والده ، رحمه الله ، شاهد فى يده ، ذات يوم ، إحدى رسائلى إليه، فعلق مبتسماً : "إن هذه جريدة ، وليست رسالة" .. كنت بحاجة إلى أن أقول لحماسة كل ما يدور حولى فى القاهرة ، كما كنت أحب أن أسمع كثيراً عن تطوره الشعرى .
فى ذلك الوقت ، لم يعد لى أصدقاء شارع ، أو ناصية . فمنذ انتقالنا للمرة الثالثة إلى الدرب الأحمر ، انقطعت صلتى تدريجياً بمنطقة الدرّاسة وصارت بالنسبة لى كعبة أحلام ، أحج إليها كلما غلبنى الشوق إلى ذكرى لحظات عزيزة على القلب، محفورة بقوة فى الأعماق . ولا أخفى أن هذه الزيارات مازالت تتكرر حتى اليوم ، على الرغم من اختلاف المنطقة بمبانيها ، وشوارعها ، والناس الذين كانوا يسكنون فيها .
عكفت فى سنوات المرحلة الثانوية ، التى كانت تمتد فى الأزهر إلى خمس سنوات ، على قراءة كمية كبيرة من دواوين الشعر العربى ، القديم والحديث ، ولم يبهرنى فى العصر الجاهلى سوى طرفة بن العبد ، بقصائده المحكمة البناء والعميقة الأفكار . أما كل من عنترة وامرئ القيس فقد كنت معجباً بهما كشخصيات أسطورية عربية ، أكثر من كونهما شاعرين حقيقيين . كذلك أعجبنى شعر عمر بن أبى ربيعة ، ومجنون ليلى وكثير عزة وفضلت – لنفسى – جريراً على الفرزدق . . كما أحببت البحترى أكثر من أبى تمام . . وقرأت ابن الرومى أكثر من مرة ، وكذلك أبا نواس وأبا العتاهية ، وحفظت كثيراً لبشار بن برد ، أما المتنبى فقد كان أخلص أصدقائى . ومازلت حتى اليوم أحتفظ بديوانه على مكتبى ، أنظر فيه من وقت لآخر . وكذلك أعجبت بأبى فراس الحمدانى ، والشريف الرضى . . هذا بالإضافة إلى الشعراء الأقل شهرة ، والذين كنت أقرأ لهم مقطوعات متناثرة فى كتب الأدب والتاريخ
ومن العصر الحديث ، قرأت البارودى كأنه "مقرر دراسى" ، وكذلك حافظ إبراهيم ، أما شوقى فقد كان صديقى الثانى بعد المتنبى . وعشت فترة طويلة مع شعراء المهجر ، وخاصة إيليا أبوماضى، وأحببت كثيراً شعر الأخطل الصغير وتأثرت به . . وهناك شاعر اسمه فوزى المعلوف قرأت له قصيدة "على بساط الريح" فلم يفتر اعجابى به حتى اليوم . وكان لأبى القاسم الشابى وقع خاص فى نفسى . . كما قضيت وقتاً طويلاً جداً مع قصائد نزار قبانى .
إننى أترك الكثير جداً من أسماء الشعراء الذين أعجبت بهم لأقول إن من ذكرته هنا ، ومن لم أذكره . . كانوا يعيشون معى فى حياة فعلية ، وكنت أحس وأنا أقرأ لكل منهم أنه إنما يخاطبنى أنا وحدى ، ويحدثنى منفرداً عن همومه وآلامه.
وفى تلك الأثناء ، أهدانى السيد صقر كتاب (الموازنة بين الطائيين) للآمدى بتحقيقه : وتفرغت له ، قرأته بإمعان ، وبدأت أتحسس طريقى إلى النقد العربى القديم، لكن الناقد الذى أعجبنى كثيراً كان هو عبدالعزيز الجرجانى صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبى وخصومه).
وكنت قد عرفت طرقى إلى سور الأزبكية . وأذكر أننى كنت أقضى حوله النهار بأكمله ، متنقلاً من بائع كتب إلى آخر ، ومقلباً فى آلاف الكتب الملقاه على الرصيف ، ومشترياً بقروشى القليلة أحدها . . ويحضرنى الآن أننى اشتريت كتاب (كليلة ودمنة) بقرشين ، وحملته بحرص إلى مقعد منعزل فى حديقة الأزبكية لكى أكمله طيلة يوم واحد .كما أتاح لى سور الأزبكية أن أطلع على كثير من الروايات المترجمة عن الإنجليزية ، والفرنسية ، والروسية . . وعندما قرأت لهمنجواى " العجوز ولابحر " حدث انقلاب فى داخلى ، كذلك آنا كارنينا لتولستوى ، والجريمة والعقاب لديستوفسكى.. أما بؤساء هيجو، وآلام فرتر، وبول وفرجينى فقد كانت تبكينى كثيراً.
أحببت الرافعى ، وصحبته أكثر مما صحبت المازنى والزيات والمنفلوطى
وبالنسبة لأحمد أمين . . لخصت لى مؤلفاته القيمة كل ما كنت أقرأه متناثراً فى الأدب العربى والتاريخ . أما طه حسين والعقاد فقد احترمتهما معاً، وقد ظلا فى رأيى متساويين فى القيمة ، أرى فيها وجهين مختلفين من وجوه الثقافة العربية الحديثة .
وذات يوم ، اقترح علينا السيد صقر أن نقوم بزيارة منزل العقاد . وحرصاً منه على لفت انتباه الكاتب الكبير أوصانا – حماسة وأحمد درويش وأنا – أن نكتب له قصائد تحية . . وبالفعل كتب كل واحد منا قصيدة ، وذهبنا على ندوة العقاد بمصر الجديدة ، وكانت أول مرة أشاهد فيها تلك الضاحية الجميلة ، وهناك قدمنا أنفسنا للعقاد ، وألقينا قصائدنا أمامه ، وسعد الرجل بها كثيراً ، ونهض فصافح كلاً منا ، ثم راح يسألنا عن دراستنا ومعاهدنا فأخبرناه أننا من الأزهر ، فراح يتحدث عنه وعن مستقبله – وكان يكتب أيامها كتابه عن الشيخ محمد عبده – لكنه أوصانا صراحة بأن نلتحق بدار العلوم ، فهى أكثر ملائمة لمواهبنا الأدبية .
وفى نهاية الندوة التى تحولت تماماً لصالحنا، قال لنا العقاد " احتفظوا جيداً يا أولاد بأستاذكم هذا .. فإنه رجل مجهول القدر فى هذا البلد ". وقد كان تأثر السيد صقر بهذه الكلمة بالغاً.. وأثارت فيه مشاعر كثيرة ، فقرر أن يكون اليوم تاريخياً ، وصحبنا إلى منزل صديقه الأستاذ محمود شاكر . . وهناك فوجئت بالأسماء التى كنت أقرأ لها فى دار الكتب : ناصر الدين الأسد ، عبدالله الطيب ، إحسان عباس . . يجلسون حول الأستاذ شاكر فى احترام شديد ، وتوقير بالغ لكل كلمة ينطق بها .
كان وجودنا – ونحن فتيان – يبعث فى قلوب هؤلاء الكتاب الكبار نوعاً من الحنين إلى الشباب . وقد نجحنا يومها فى حمل الأستاذ شاكر على إنشاد قصيدته القوية " القوس العذراء " وهى ثورة نفس مثقفة على كل ما حولها . وأذكر أنه فى أثناء الإنشاد ضاق بأزرار قميصه ، ففتحها بعنف قائلاً :
- لاحظوا يا أبنائى أن الشعر العربى قد خلق للإنشاد ، وأنه لا يصلح معه هذه الملابس الإفرنجية الضيقة . .
كان بالفعل يوماً ثقافياً حافلاً ، جعلنى أشعر أننى اخترت الطريق الصحيح لحياتى : القراءة ، وكتابه الشعر .
كلفنى الأستاذ السيد صقر بنسخ عدد غير قليل من المخطوطات القديمة ، حتى تمرست بحل مشكلات خطوطها الصعبة . ومازلت أذكر أننى نسخت له كتاب "الإلماع " للقاضى عياض ، وهو مكتوب بخط مغربى خالٍ من النقط ، وفى وضع متهرئ للغاية. وقد كان نسخ مثل هذا المخطوط يجعلنى أحس بأننى أعرف مالا يعرفه الآخرون من القراء ، بل من المتخصصين أنفسهم . وهذا كان يمنحنى بعض الزهو ، ويزودنى بقدرة شجاعة على النقد . .
ومن مكتبة السيد صقر ، استعرت بعض أمهات التراث العربى : البيان والتبيين للجاحظ ، وزهر الآداب للحصرى ، والعقد الفريد لابن عبدربه، وغيرها . وعلى يديه تعلمت فن التحقيق ، ومقابلة النسخ ، وتمييز الخطوط ، وتخريج الأحاديث، والأبيات الشعرية النادرة .
وإذا كان السيد صقر هو الذى هوّن بعض أيام الأزهر ، فقد كان هناك متنفَّس آخر ، يتمثل فى الندوة الأسبوعية التى كانت تعقد فى جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس ، ونحرص على حضورها بانتظام ، مستمعين إلى محاضرة فى الدين، أو الأدب . . أو ندوة شعرية يشترك فيها عبدالله شمس الدين ، وملك عبدالعزيز ، ولورا الأسيوطى ، ومحمد بدر الدين ، ومحمد العزب ، ومحمود الماحى . .
وكان هذا الأخير شاعراً تقليدياً ممتازاً . اختطفه الموت وهو شاب . وقد غنت له أم كلثوم قصيدة كتبها لها عن جمال عبدالناصر . كنت شديد الإعجاب بهذا الشاعر، وقد تعرفت عليه ، وقرأ بعض قصائدى وعلق عليها ، ولست أدرى لماذا كنت أحس بأنه دائم القلق ، متوجس كالطائر ، ولم ينقض وقت طويل حتى سمعت نبأ وفاته ، فأحزننى كثيراً .
عقب انتهاء المرحلة الثانوية ، قررت أنا وأحمد وحماسة أن نترك الأزهر – على غير رضا السيد صقر – إلى دار العلوم . وكانت تختار مائة طالب فقط من أوائل الحاصلين على الثانوية الأزهرية ، وكنا فى المقدمة . .
كلية دار العلوم بالنسبة لى بداية مرحلة هامة . قد حققت فيها معظم تصوراتى وأحلامى الشعرية ، ونعمت فيها برعاية أساتذة كبار يقدرون الموهبة الشعرية ، ويعملون على صقلها . . كما أننى التقيت فى أول يوم دخلتها بوجه ملائكى لازمنى طويلاً ، وكنت أستمد منه لطاقتى الشعرية زاداً متجدداً . .
كل المقررات الدراسية فى دار العلوم كنت على معرفة سابقة بها : إما عن طريق أخى أحمد الذى دخلها قبلى بثلاث سنوات ، أو عن طريق قراءاتى الخاصة بدار الكتب . لكنها تميزت ببعض الجديد . فهناك د. غنيمى هلال الذى حدثنا عن النقد الأدبى الحديث ، كما تكلم معنا ، لأول مرة ، عن الأدب المقارن ، ود. محمود قاسم الذى كشف لنا عن قواعد المنهج الحديث فى الفكر والعلوم ، ود. تمام حسن الذى قدم لنا مناهج البحث الحديثة فى دراسة اللغة العربية . بالإضافة إلى أساتذة الكلاسيكيات العربية من أمثال د. بدوى طبانة ، د. أحمد الحوفى ، د. طاهر درويش ، الشاعر على الجندى . .
فى السنة الأولى بدار العلوم ، اشتركت مع حماسة وأحمد درويش ، فى الندوة الشعرية التى كانت تعقد أسبوعياً بالكلية ، ويسهم فى التعليق عليها واحد من أساتذة الأدب بها . ولاحظت أننا تميزنا عن غيرنا بسرعة.
واقترب موعد امتحان آخر العام ، ومع ذلك أعلن عن مسابقة لاختيار شاعرين على مستوى جامعة القاهرة كلها ليمثلاها فى أسبوع شباب الجامعات الذى عقد بجامعة أسيوط سنة 1963 . واختيرت قصيدتى مع قصيدة لمعيد بالكلية ، هو الأستاذ سعد مصلوح . وغامرت بالسفر غير عابئ بالدراسة أو الامتحان . فقد كنت أحس – يومها – أننى أسير فى الطريق الذى اخترته لنفسى ، أو بمعنى آخر ، الذى اختارتنى له المقادير .
وكان أسبوعاً ثقافياً حافلاً ، قابلت فيه الشعراء محمود غنيم ، وأحمد رامى ، ومحمود حسن إسماعيل . . وحاولت الاقتراب بصفة خاصة من هذا الأخير الذى كنت أعجب بشعره ، لكنه كان شديد النفور من الناس . .
ومن ناحية أخرى ، كان المجلس الأعلى للفنون والآداب نشيطاً فى تلك الفترة، فأكثر من المسابقات الأدبية ، وكنا نقدم فيها قصائدنا كل عام، ونفوز بأكثر من جائزة، حتى لفت هذا ، فى إحدى المرات ، نظر يوسف السباعى ، فقال لنا :
- أنتم حتخلصوا كل الجوائز اللى قدامى . .
كنا مدفوعين إلى الكتابة أحياناً فى الموضوعات القومية ، لأنها الموضوعات المطلوبة فى المسابقات . لكننا لم نتخل أبداً عن فنناً الشعرى الخالص ، فتابعنا بوعى حركة التجديد المهجرى ، وأفدنا منها كثيراً ، كما استوعبنا بسرعة حركة الشعر الحر، ورحنا نكتب به ، مع تفردنا بالكتابة فى الشكل التقليدى القديم .
أعجبنا كثيراً بصلاح عبدالصبور ، وربما أكثر منه بعبدالمعطى حجازى ، فى مصر ، وبالسياب فى العراق . . أما أدونيس ، قد ظل بعيداً عن أذواقنا
وهناك شاعر مازلنا نقدر فنه الأصيل حتى اليوم ، وهو محمد الفيتورى . وقد صادقناه لفترة ، وكان يعجب بما نقول ، ويشجعنا كثيراً ، لكنه ما كان يظهر بيننا حتى يختفى بسرعة .
وكان أمل دنقل شاعراً ناشئاً ، أذكر أن صلاح عبدالصبور أرسله إلى منزلنا بالدرب الأحمر ذات يوم لكى يبلغنى أنهم اختارونى من بين 11 شاعراً لأمثل مصر فى مهرجان الشعر التاسع . وكان المطلوب أن ألقى قصيدة " شجرة التوت " وكان صلاح قد سمعها منى فى إحدى ندوات دار العلوم، وأعجب بها ، وأحب أن ألقيّها أمام الشاعر عزيز أباظة ، حتى يطلعه على لون من الشعر العمودى مكتوب بأسلوب الشعر الحر على حد قوله .
أحببت كثيراً شعر أمل دنقل ، وكنت أطلعه على معظم ما أكتبه ، واستنشده آخر أعماله . والسبب أنه أقام فترة طويلة عند صديق مشترك لنا هو الشاعر مسعد إسماعيل فى غرفة، خففة الظل ، كانت ملتقى لنا بحى السيدة زينب . . لكننا لم نكن راضين تماماً عن أسلوب حياة أمل دنقل : السهر حتى الصباح ، وقضاء وقت طويل بلا قراءة على قهوة ريش ، والتدخين بشراهة ، والبوهيمية التى كنا نعتبر دائماً أنها مفتعلة فى شرقنا العربى .
فى دار العلوم ، وفى ندوتها الأسبوعية ، تعلمنا الكثير عن فن الشعر : الصورة الشعرية ، والخيال الشعرى ، والدفقة الشعورية ، والتطور الداخلى للقصيدة ، والمعادل الموضوعى ، كما عرفنا معنى الخطابية ، والجهر والهمس ، ومواقف الإنشاد ، والتأثير بالصورة . . الخ ولكننى لابد أن أعترف بأن هذه الأمور ما كانت تقال فى المحاضرات الدراسية ، وإنما كانت تقتصر على ندوتنا الأسبوعية.
إننى أحيى كل من علمونا هذه الأمور ، سواء من الأساتذة فى ذلك الوقت كالدكتور أحمد هيكل ، والمرحوم د. عبدالحكيم بلبع ، ود. محمود الربيعى ، أم من المعيدين اللامعين الذين أصبحوا الآن أساتذة مثل د. صلاح فضل ، ود. على عشرى، ود. محمد عيد ، ود. محمد فتوح.
وتعرفت فى دار العلوم على صديق جاء من معهد طنطا الدينى ، وهو حسن البندارى ، كاتب قصة قصيرة ، لكنه تقبل التطور بسرعة ، وراح يطبقه إلى أبعد مدى. فبدأ يكتب القصة بأسلوب " تيار الوعى " على غرار جيمس جويس ، وفرجينيا وولف . وبسرعة أيضاً دخل فى مجموعتنا الثلاثية، فأضاف لها بعداً جديداً . فقد أصبح من اللازم أن نقرأ قصصه ، وأن نشترك فى التعليق عليها ، ومازلنا حتى اليوم نختلف معاً أو نتفق : حول إبداعه القصصى المتميز .
كنت دائماً أحب الفن القصصى ، وقد أفدت منه كثيراً فى قصائدى ، ومن الواضح أننى استخدمت بعض عناصره المتمثلة فى الحوار ، والمفاجأة ، والحبكة ، وأسلوب السرد . وقد تمشى هذا طبيعياً مع مفهومى للقصيدة على أنها بناء موضوعى . صحيح أنه يخرج من الذات الموغلة فى خصوصيتها ، ولكنه ما أن يتشكل على الورق حتى ينفصل عنها ، وبالتالى يصبح محتاجاً إلى أن يتقوّم بذاته ، وأن يعمل يحيويته الداخلية .
عندما التحقنا بدار العلوم قال لى أحد المعيدين : " إن الشعر لا يدر كسباً . بل إنه طرق الفقر . فعليك بالاجتهاد فى الدراسة ، ولا تدع هذا الفن الشيطانى يذهب بك بعيداً " وقد وعيت نصيحته بصورة مختلفة ، لم يقصدها بالتأكيد . فقد حرصت أيضاً على التفوق الدراسى ، ويرجع الفضل فى ذلك إلى صديقى محمد حماسة وأحمد درويش . وفى السنة الرابعة ، حصلنا ثلاثتنا على الليسانس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى . وبذلك حطمنا أسطورة أن الشعراء لا يجيدون المذاكرة ، والتى كانت شائعة فى الكلية . وممن يستشهد بهم فى هذا المجال : هاشم الرفاعى الذى كان يرسب فى مادة النحو، ومحمد الفيتورى الذى لم يكمل دراسته بدار العلوم..
الشعر وعى . . والشاعر مسئول وملتزم بل ومنضبط . إنه فى رأيى مبدع نظام ، ومخترع بنية لغوية وكيان شعورى متناسق الأطراف والزوايا . . هكذا فهمنا الشعر من تراثنا العربى ، ولم يضللنا عن هذا المفهوم ما قرأناه من النظريات النقدية الحديثة ، بل إنها عمقت وعينا به .
كان صديقى محمد حماسة شغوفاً بامتلاك مكتبة متكاملة . فكان حريصاً على اقتناء سلسلة أعلام العرب ، وتراث الإنسانية ، والمسرح العالمى، والألف كتاب . . الخ ، وكنت حريصاً بدورى على قراءة ذلك كله عنده ، ومعه . . ومازلت أذكر المناقشات الطويلة التى كنا نديرها حول أحد الموضوعات فى الآداب العالمية ، دون أن تكون لدينا أدنى معرفة بلغة أجنبية .
لكن فى دار العلوم تقليداً طيباً ، هو أن تبعث، من وقت لآخر ، بمجموعة من أبنائها المعيدين إلى الخارج ، للحصول على الدكتوراه فى الجامعات الغربية . وقد أتيح لنا ونحن طلاب أن نلتقى بإحدى هذه الموجات العائدة لتوها من أوربا : د. الطاهر أحمد مكى العائد من أسبانيا ، ود. محمود الربيعى ، د. حمدى السكوت ، د. عبدالحكيم حسان ، د. السعيد بدوى. العائدين من إنجلترا . . وما أسرع ما اقتربنا منهم ، وأفسحوا بدورهم لنا مكاناً فى مجموعتهم . وفى جلساتهم الخاصة ، كنا نصغى بخشوع وشوق إلى كل ما يقولون ، عن ذلك العالم البعيد ، فى الجانب الآخر من البحر المتوسط . .
تخرجنا من الكلية سنة 1967 ، وهى سنة النكسة المشئومة . وتم تكليفنا معيدين : كلٌ فى قسم مختلف : حماسة فى قسم النحو ، وأحمد درويش فى قسم النقد والبلاغة ، وأنا فى قسم الفلسفة الإسلامية . ولم يسخط أحدنا على هذا التوزيع ، بل على العكس ، وجده ملبياً لحاجة فى نفسه ، وملائماً لشئ خفىّ فى أعماقه .
لم تمنعنا طبيعة الوظيفة الجديدة عن الاستمرار فى أداء دورنا الشعرى فى الكلية ، وخارجها . فقد شاركنا الأجيال اللاحقة لنا فى جميع الندوات ، وأكاد أقول : إننا كنا أكثر التصاقاً بهم ، وتشجيعاً لهم . وأذكر من هؤلاء الشاعرين :مسعد إسماعيل ، وعبداللطيف عبدالحليم .
وكان عبدالرحمن الشرقاوى قد كتب مسرحيته الشعرية " الفتى مهران " وكتب صلاح عبدالصبور " مأساة الحلاج " . . وأعجبت كثيراً بهذين العملين . . وآمنت بدور المسرح الشعرى ، فكتبت ثلاث مسرحيات بالشعر الحر : الأولى بعنوان "درويش السقا" وهى تصور استئثار محمد على بالسلطة بعد توليه حكم مصر بمساعدة الشعب ، وقد مثلها فرق التمثيل بدار العلوم ، كما أعيد عرضها فى القاعة الكبرى بجامعة القاهرة ، والثانية بعنوان " أربعة رجال فى خندق " عن انسحاب الجيش المصرى من سيناء عقب نكسة 1967 ، وقد مثلت أيضاً بدار العلوم . . والثالثة بعنوان " الأشجار ترتفع من جديد " وموضوعها المقاومة الفلسطينية فى مدينة غزة . وقد نشرتها جميعاً بعنوان " ثلاث مسرحيات شعرية".
وفى سنة 1970 جندت فى الجيش . وتصادف أنهم طلبوا دفعة من ذوى المؤهلات العليا تتعلم اللغة الروسية ليصبح أفرادها مترجمين بين الخبراء الروس ، والضباط المصريين . وعلى الفور ، رحبت بالانضمام إلى هذه الدفعة . وكان معظمها من المعيدين فى شتى الجامعات المصرية.
وفى تلك الأثناء ، توفيت أمى : وكانت أول صدمة موت يشهدها منزلنا منذ ولدت . ولم أستطع البكاء ، واختزنت الحزن العميق لأيام عديدة ، كتبت فى نهايتها قصيدة " المساءٌ الذى ألعنهُ" التى نفثت بها بعض ما بى . لكننى وجدت فى دراسة اللغة الروسية ملاذاً آخر ، أدفن فيه أحزانى . وكانت مُدرسة فصلنا إليانا باريسى امرأة فاضلة ، كبيرة السن ، وغاية فى حسن الخلق . عاملتنى منذ اللحظة الأولى كابن ، واختصتنى دون زملائى بالكثير من عطفها ، وكانت تتمنى أن أترجم ، بعد أن عرفت أنى شاعر ، بوشكين إلى اللغة العربية ، لأنها لاحظت أن الناس هنا لا يعرفونه. والواقع أنى أحرزت تقدماً كبيراً فى تعلم اللغة الروسية ، تلك اللغة الرشيقة التى يجهلها معظم المثقفين العربى ، مع أنها أقرب روحاً إلى روح اللغة العربية، والأدب المكتوب بها – قبل ثورة 1917 – أشد صلة بحالة العالم العربى الحديث .
كنت أقضى معظم أوقات فراغى فى الجيش ، فى ترجمة بعض المقطوعات الشعرية الروسية ، أو القصص القصيرة . وقد زاد ما ترجمته من القصص على عشر، نشرت ما ترجمته منها فى كتابى " قصص عالمية " .
كنت قد وجدت فى اللغة الروسية فرصة لتعويض الثغرة الهائلة فى ثقافتى . ولأن دراستى للإنجليزية فى كل من الأزهر ودار العلوم كانت دائماً هزيلة ، فإننى وجدت فى تلك اللغة الجديدة تعويضاً عما فاتنى ، لا سيما وأن تدريسها لنا كان قوياً، ومركزاً ، وأثمر نتائجه الملموسة فى وقت قصير جداً .
بعد خروجى من الجيش سنة 1972 ، قويت صلتى بأستاذى الدكتور محمود قاسم ، عميد الكلية حينئذ ، ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بها . كان أستاذاً عظيماً بمعنى الكلمة . فهو يقرب تلميذه مع حفظ حدود أستاذيته ، ويشجعه فى الوقت الذى يلومه فيه على التقصير ، ويظهر أمامه أنه لا يرضى عن الهفوة الصغيرة فى البحث العلمى ، فيحث الطالب على أن يتجنب الأخطاء الكبرى . وكان مهتماً بمحيى الدين بن عربى ، فجعلنى أدرس للماجستير موضوعاً عنه وقد قرأت معه ، وعلى مقربه منه كتاب " الفتوحات المكية " ، تلك الموسوعة الروحية الضخمة التى تضم شتات التراث الدينى كله .
ومن خلال ابن عربى تعرّفت على التراث الصوفى فى الإسلام ، وهو كنز لم يكتشف بعد . . ومن المؤسف أنه مطمور وسط حشد هائل من الخرافات ، والآراء المسبقة .
كان الدكتور قاسم هو معلمى الثانى ، بعد السيد صقر . ومازلت أعتبره الثورة الثانية التى بلورت الكثير من أفكارى فى دار العلوم .
وفى لحظات من الصفو الروحى بين الأستاذ وتلميذه ، كان د. قاسم – رغم نزعته العقلية الصارمة – يوصينى بألا أترك كتابة الشعر .
الصدفة وحدها هى التى أتاحت لى فرصة السفر إلى فرنسا . فقد ظهر إعلان بالجرائد ، يقول إن من ينطبق عليه كذا وكذا من الشروط يتقدم . وهذه أماكن البعثات وموضوعاتها . وقدمت ، فقبلت .
وكانت هذه البعثة ، من ناحية أخرى ، فرصة لإتمام إجراءات زواجى . فقد صحبت زوجتى فى اليوم السادس من الزفاف إلى باريس ، دون أن يعرف أحدنا كلمة فرنسية واحدة . وكانت تجربة صعب ورائعة ، خضناها معاً ، وقد مضى عام كامل، قبل أن أكتب قصيدة " باريس " التى أسجل فيها لحظة نزولنا إلى مطار أورلى . .
فى باريس رأيت العالم كله . وعشت حوالى سبع سنوات فى بيئة تموج بالحركة ، والحيوية ، والتحدى . . لا شئ يقف . المتوقف ميت ، والبطئ محكوم عليه . . الجميع مسرع . وجديد اليوم قديم غداً . والاختراع هدف الجميع ، والمحاولة مستمرة . .
وكانت أصعب الأيام تلك التى رحت أتعلم فيها اللغة بعقل كبير ، ولسان طفل صغير . . لكنى تذرعت بالصبر ، وكافحت اليأس والملل ، وأخيراً بدأت أقرأ . . وأذكر أننى كدت أطير فرحاً عندما انتهيت من قراءة رواية " الغريب " لألبير كامى دفعة واحدة ، على غرار ما كنت أفعل فى قراءة رواية باللغة العربية .
وفى كل من مكتبة جامعة السروبون التى التحقت بها ، والمكتبة الوطنية بباريس انفتحت عيناى على كنوز العالم الفكرية والأدبية . .
وهكذا عودت نفسى أن أقسم قراءاتى بين الفلسفة والأدب . . وشعرت بأننى فى حاجة لكى أطلع الآخرين على ما أقرأه وحدى . وفتحت لى مجلة " البيان " الكويتية صفحاتها . ولما لبثت أن كلفنى رئيس تحريرها د. سليمان الشطى بأن أكتب للمجلة " رسالة أوربا " كل شهر . وقد ألزمنى هذا بكثرة القراءة ، وتنويعها بأقصى قدر ممكن ، إلى حد أننى كنت ألتقط بعض الأحداث الثقافية من الراديو والتلفزيون الفرنسيين . . وكلاهما جامعة ثقافية حية ومتطورة .
وفى باريس ، التقيت بمعظم المستشرقين الذين كنت أقرأ لهم بعض ما ترجم إلى العربية : هنرى لاوست ، وشارل بيللا ، وهنرى كوربان . . وروجر أرنالديز الذى أشرف على رسالتى فى السوربون.
وفى باريس أيضاً ، عرفت طريقى إلى اليونسكو . وهناك كلفونى بترجمة عدة أبحاث فرنسية إلى اللغة العربية . ولا أخفى أننى لم أستطع أن أمسك دمعتين صغيرتين ، وأنا أصعد ذات يوم أسانسير اليونسكو ، متذكراً ذلك القارئ الصغير الذى كان يعبر شارع الدرب الأحمر ، وهو فى طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق..
وفى باريس ، التقيت بأستاذى القديم فتحى عبدالمنعم . درّس لنا مادة التفسير والحديث بالأزهر. وكان ممتازاً ، لم يمنعه كف بصره عن التأنق فى ملبسه ، كما أنه كان لا يرتدى الزى الأزهرى المعهود . وأذكر أنه حدثنا ذات يوم فى الفصل عن طموحه إلى أن يكون : طه حسين الثانى.. وأعتقد أنه كانت لديه كل المقومات ليكون كذلك .
استقبلنى فتحى عبدالمنعم كصديق . وكنا نتزاور . وهو إنسان على درجة عالية من الثقافة والرومانسية : وفى جلساته ، كنا نتحدث عن نهضة الشرق ، وتقدم العالم الغربى ، ونتذوق بعض آيات من القرآن الكريم ، وكان يحلو له أن يتطرق لذكر لقائه بأم كلثوم عندما زارت باريس ، وهو يذكر كل كلمة جرت فى هذا اللقاء . . وهكذا كان حديثه مفيداً وممتعاً .
وقبل أن يغادر باريس إلى القاهرة ، كتبت له قصيدة تحية ، وقد أصرّ على أن أسجلها له على شريط كاسيت . وعلى الرغم من عدم احتفاظى غالباً بقصائد المناسبات، فقد حرصت على أن أنشرها فى الديوان : ذكرى وفاء لهذا الرجل الذى اختطفه الموت فجأة ، وكنت أتمنى أن ألتقى به مرة أخرى فى القاهرة .
لم يكن فى فرنسا ما صدمنى كثيراً . وكأننى من قراءاتى عنها ، وتخيلى لها كنت أراها للمرة الثانية . الشىء الوحيد الذى كان يبهرنى هو ذلك التقدم التكنولوجى الهائل فى وسائل المواصلات الدقيقة . أما البحيرات والغابات ، والقصور ، والتماثيل، والبيوت القديمة فى الشوارع العتيقة فقد كان مرآها يؤكد فى عينى تلك الصورة القديمة التى حفظتها لها فى ذهنى .
لقد كتب توفيق الحكيم عن رحلته إلى باريس ، ومن قبله رفاعة الطهطاوى ، وفيما بعد يحيى حقى . . ولم يتحدث واحد من هؤلاء عن منظرسيئ رأيته فى باريس، وأعترف بأنه كان يملؤنى بالغضب والاشمئزاز : فى فناء الكوليج دى فرانس، بجوار جامعة السوربون ، يوجد تمثال ضخم لشامبليون الذى حل رموز حجر رشيد، وإحدى قدميه موضوعة تماماً فوق رأس فرعون مصرى .. طبعاً الفنان الذى صنع هذا التمثال المنفِّر أراد أن يقول إن شامبليون قد سيطر على الحضارة المصرية القديمة بحله رموز اللغة الهيروغليفية .. ولكنه عبر عن هذا المعنى بأسلوب يثير الاشمئزاز لدى أى مصرى ، يعتز بماضيه .
وعندما زارنى فى باريس صديقى العزيز د. السعيد بدوى ، اصطحبته إلى هذا المكان ، ورأى التمثال معى ، وأعتقد أنه شاركنى نفس الشعور.
وأنا الآن أنشر هذه الملاحظة ، فربما يعيد الفرنسيون النظر فى هذا التمثال – أو حتى فى مكانه – خاصة وأنه يتوسط فناء أعرق معهد علمى فى فرنسا كلها ، ويقصده العلماء من شتى بقاع العالم.
عدت من فرنسا فى بداية 1981 ، بعد أن حصلت على دكتوراه الدولة فى الفلسفة بمرتبة الشرف الأولى . وكان لأستاذى المستشرق الكبير أرنالديز أكبر الفضل فى رعايتى . وهو عالم جم التواضع ، واسع المعرفة بالثقافات اليونانية ، والألمانية ، والفارسية فضلاً عن العربية ، وقد وجهنى لنقاط هامة تتعلق ببحثى فى كل هذه الثقافات. كما كان يعاملنى معاملة خاصة ، فقد كانت كل لقاءاتى معه لا تتم إلا فى منزله . إننى أدين له بالكثير ، وأعتبره وجهاً مضيئاً لفرنسا كلها .
بدأت التدريس فى دار العلوم . ورحت ألقى على الطلاب محاضرات فى مناهج البحث ، التى كان يدرسها لنا المرحوم د. محمود قاسم ، كما درست لهم موضوعات متفرقة من الأخلاق الإسلامية ، والتصوف الإسلامى ، والفلسفة الإسلامية .
ومع ذلك ، فقد ظل الشعر هو هوايتى الأولى. ولم أترك الفلسفة تطغى عليه فى يوم من الأيام ، بل على العكس ، كما قلت للشاعر الصديق الأستاذ فاروق شوشة، فى حديث إذاعى ، إننى أعتبر الفلسفة تعطى عندى بعداً أكثر عمقاً وخصوبة ، وإننى أستغلها لصالحه ، كما أننى من ناحية أخرى أفضل أن أتناول القضايا الفلسفية بروح شعرية .
لكننى لا أنكر أن الرحلة إلى فرنسا قد أثرت فى تصورى للشعر كثيراً . وأولى علامات هذا التأثير أنها قيدت قلمى عن كتابة الشعر إلى حد كبير . والواقع أن مفهومى للشعر قد تغير كثيراً بعد قراءتى أعلام الشعراء الفرنسيين من أمثال أراجون، وبول إلوار ، وجاك بريفيير الذى نشرت له عدة قصائد مترجمة فى مجلة البيان الكويتية .
إن القصيدة لدى أى من هؤلاء الشعراء موضوع قائم بذاته . . بناء متكامل ، له معماره الخاص به ، وله خطوطه الهندسية الدقيقة ، وله روحه الذى يسرى فى أوردته وشرايينه . ثم هى بعد ذلك كله عمل مرتبط بصاحبه ، وبتطوره الفكرى والنفسى ، وأهم من ذلك بموقفه الأيديولوجى .
إننى هنا لا أتحدث فقط عن الشعراء الفرنسيين ، بل الشعراء الغربيين عموماً، الذين قرأت لهم ، وأعجبت بهم وترجمت لهم أحياناً .
الشاعر الغربى يصنع من قصيدته تمثالاً ، ثم يقوم بإزالة آثار الصنعة عنه ، حتى يبدو كأنه غير مصنوع . وهذا هو السر الذى يُرجَى اكتشافه.
الشاعر الغربى يجعل من قصيدته تحليلاً نفسياً دقيقاً ومتدرجاً ، يتوقف فيه طويلاً عند مناطق التأثير ، ويتجاوز مناطق كثيرة ، مهملة أو عديمة القيمة . وهو يفعل ذلك عن وعى غير محسوس ، أو هكذا يبدو للقارئ .
الشاعر الغربى حر تماماً فى تناول موضوعه ، حر تماماً فى التعبير عنه ، حر تماماً فى تقديمه للناس ، لكن هذه الحرية المتعددة الأوجه محكومة بتراث طويل من النقد الصارم ، والتقاليد الأدبية الراسخة ، التى يعتبر الشاعر نفسه مسئولاً عن احترامها ، وعن كونه استمراراً لها .
ثم إننى ألاحظ أن الشاعر الغربى يتمتع بطبيعة غنية ، قد تكون أحياناً قاسية ، ولكنها غنية جداً ، كما أنه على صلة مباشرة مع هذه الطبيعة ، فالشاعر الذى يسكن المدينة لا يبعد عنه الريف كثيراً . إنه على قيد خطوات منه ، يزوره فى رحلته الأسبوعية ، ويومياً لو أراد .
كما أن ظاهرة المطر الغزير ، التى تشمل أوربا كلها ، وتستتبعها مجموعة أخرى من الظواهر الهامة ، تعمل عملها الفعال فى تكوينات شعرية بالغة العمق والتأثير . . إن فصول السنة الأربعة أكثر وضوحاً فى الغرب منها فى الشرق . ولذلك فإن إحساس الشاعر الشرقى بها أقل حدة ، وبالتالى فإن إحساسه بالزمن عموماً أقل وضوحاً.
وفى النهاية لا ينبغى أن نغفل عامل البيئة الثقافية المتيقظة لكل ما يظهر من إنتاج أدبى . فالقارئ مهتم ، والناقد متتبع ، وأجهزة الإعلام ، التى تطورت كثيراً فى الآونة الأخيرة ، لا تكاد تترك صغيرة إلا أشارت إليها ، وكأنها تحس بأن مسئوليتها تكمن فى ألا يفوتها شئ !
وأصرح فأقول إننى أصبحت أخشى من كتابة الشعر ، بعد أن عشت فى هذا الجو فترة طويلة . ولكنى أعود فأقول لنفسى : إن واقعى مختلف ، فالقارئ المهتم نادر ، والناقد المتتبع مفقود ، وأجهزة الإعلام أقل من المستوى الأدبى بكثير ، وإن كانت متفوقة فى ميادين أخرى ، لذلك فعندما أكتب قصيدة أكتبها لنفسى . ولا أكاد أطُلع عليها إلا خاصة الأصدقاء ، وأحياناً أتكاسل ، فأخفيها بين أوراقى ، وربما مضى الزمن ففقدتها فى زحمة العمل والحياة .
لقد سبق أن نشرت مع صديقىّ : أحمد درويش ، ومحمد حماسة مجموعتين شعريتين : الأولى بعنوان (ثلاثة ألحان مصرية) صدرت عن الهيئة العامة للكتاب بوزارة الثقافة المصرية سنة 1970 ، وقدم لها الأستاذ الدكتور أحمد هيكل . وهى تضم لى سبع قصائد عمودية . وقد ظلت هذه المجموعة حبيسة فى مكاتب الهيئة إلى أن أطلقها من عقالها الشاعر صلاح عبدالصبور . وأذكر أنهم أعطونى مكافأة خمسين جنيهاً ، خصمت منها الضرائب حوالى ستة عشر جنيهاً . . ثم ما لبثت مصلحة الضرائب أن طالبتنى بضرائب أخرى عنها، وأدرجت اسمى فى ملفاتها على أننى "مؤلف أشعار"!.
أما المجموعة الثانية ، فكانت بعنوان (نافذة فى جدار الصمت) ، 1974 صدرت عن مكتبة الشباب التى أساءت توزيعها ، وقد كتب مقدمتها الأستاذ الدكتور محمود الربيعى . ورغم أنه نبَّه النقاد إلى بعض التجارب الناجحة لدى الشعراء الشبان الثلاثة ، فإن أحداً لم يستجب لهذا التنبيه . وظلت المجموعة معروفة فقط من بعض الأصدقاء ، وبعض طلاب دار العلوم .
فإذا أضفت إلى ما سبق ، أن كثيراً من أخطاء الطباعة قد وقعت فى المجموعتين ، ولا سيما المجموعة الثانية . . تبيَّن أن إعادة نشر قصائدهما قد أصبح واجباً علىّ . ثم وجدتنى مدفوعاً إلى أن أضم إليها كل ما كتبته من قصائد سابقة عليها ، أم تالية لها . وجعلتها فى ثلاثة أقسام : قسم اخترت فيه عدداً قليلاً من شعر المرحلة الأولى ، وقسم المرحلة المتوسطة الذى ارتبط بدار العلوم ، ثم القسم الأخير الذى كتب فى باريس وما بعدها .
وقد وجدت من غير المعقول أن أطلق على كل هذه القصائد اسم قصيدة واحدة، كما يفعل شعراء عصرنا . فأنا لا أنوى أن أنشر فى كل عام ديواناً . . لهذا "أطلقت عليها عنوان " ديوان حامد طاهر " مستنداً إلى تراثنا الشعرى فى الثلاثينات والأربعينيات من هذا القرن ، عندما كان الشعراء يفعلون ذلك ، دون أدنى حساسية !
بقى أن يكون هناك هدف محدد من نشر كتاب على الناس ، وأسارع فأقول : إننى لا أتوجه بهذا الديوان إلى النقاد ، فأنا يائس منهم . ولا إلى أجهزة الإعلام فأنا زاهد فيها . . وإنما إلى القراء الذين يحبون الشعر ، أو الشعراء الشبان الذين يحبون القراءة . . ولابد أننى واجد فى هؤلاء بعض من ينفعل ، أو يستجيب ، أو يقضى وقتاً طيباً . .
www.hamedtaher.com
هاجرت أسرتى من الريف إلى القاهرة فى نهاية الثلاثينات : أبى ، وأمى ، وخمس بنات ، وأربعة أبناء . ولا يمكن أن أقول إن أبى كان ريفياً بمعنى الكلمة . فقد ورث عن والده حوالى عشرة أفدنة من أجود الأراضى الزراعية بالدقهلية : كان يؤجرها تارة ، ويرهنها أحياناً ، دون أن يعمل بيديه فى الحقل . ومن حكاياته لنا عرفت أنه لم يألف حياة الريف قط ، وإنما كان نزوعه دائماً إلى حياة المدينة ، لهذا كان كثير السفر إلى مدينة المنصورة لأدنى مناسبة .
ومن الطبيعى أن يتحين أبى الفرصة ليهاجر بتلك الأسرة الكبيرة العدد إلى القاهرة ، حيث استأجر مسكناً بجوار القلعة ، فى حى الخليفة . ونظراً لقلة الموارد ، دفع بإخوتى الثلاثة الكبار (السيد ، محمد ، منير) إلى تعلم صناعة الحقائب ، وحافظات الجيب الجلدية بعد محاولات متعثرة فى المدارس ، خرجوا منها بتعلم القراءة والكتابة .
وعندما أتقن إخوتى " الصنعة " فتح أبى لهم مصنعاً صغيراً على مقربة من بوابة المتولى بالغورية . وزاد المكسب باضطراد . وشعرت الأسرة المهاجرة بنوع من الاستقرار النسبى ، الذى لم يؤرقه حينئذ إلا غارات الحرب العالمية الثانية ، والتى كانت القاهرة أحياناً مسرحاً لها ، مما حدا بالأسرة إلى أن تنتقل إلى مسكن أكثر اتساعاً ومتانة فى شارع الدرب الأحمر .
ولدت فى هذا الشارع ، فى الثامن من إبريل سنة 1943 . فصرت عاشر الأبناء . ومن العجيب أننى مازلت أحتفظ جيداً بمنظر الغارات التى وقت على مدينة القاهرة ، أثناء حرب فلسطين سنة 1948 : صفارات الإنذار ، والأضواء الكاشفة ، واللجوء إلى المساجد الضخمة بدلاً من المخابئ ، وابتهالات أبى وأمى بصوت عالٍ مضطرب طيلة انطفاء النور ، ثم عودتنا بعد ذلك إلى المنزل ، و"سدة النفس" عن الطعام الكثير ، الذى كان يتم إعداده على نحو جيد ، بسبب وجود خمس بنات يعملن جميعاً بكفاءة وانتظام لهذا الغرض .
كان لميلادى فى تلك الظروف وقع كبير فى الأسرة كلها . فأنا الأصغر أو آخر العنقود كما يقولون . وأبى يشملنى بعطف خاص ، ويصحبنى أحياناً إلى أكبر مساجد القاهرة كالأزهر والحسين والسيدة زينب لسماع الشيخ محمد رفعت ، وأحياناً أخرى إلى نادى السعديين ، الذى كان عضواً فيه ، للتسليم على النقراشى باشا ، وقد رأيته – ذات مرة – يستقبله بترحاب شديد .
وفى إحدى المرات ، زادت حدة الغارات على القاهرة ، وتداعى المنزل الملتصق تماماً بمنزلنا ، توفى فيه بعض من نعرفه ، فاضطرت الأسرة إلى الرحيل إلى مدينة المنصورة – وليس قرية أبى (الدنابيق) أو قرية أمى (سلامون) – وهناك استأجرنا شقة فاخرة فى حى راق. وأذكر أننى تعرفت ، فى ذلك الحى ، على بعض الأصدقاء من أبناء العائلات الموسرة ، وكنت أذهب بصحبتهم للتفرج على لعب الأطفال المعروضة بمحلات شارع السكة الجديدة : كالقطارات ، والحيوانات المصنوعة من العاج ، والجنود المصنوعين من البرونز – وهى أشياء لم أرها بعد ذلك إلا فى بعض الأحياء القديمة بباريس ، عندما سافرت إليها فى السبعينات.
وضعت الحرب أوزارها ، فعدنا إلى القاهرة، ثم ما لبثنا أن انتقلنا إلى منطقة الدرّاسة شمال حى الحسين : وهى منطقة جيدة التخطيط ، نظيفة وهادئة ، وسكانها غالباً من الموظفين والطبقة المتوسطة ، وهم عموماً أكثر انطواءاً من أهالى الدرب الأحمر ، ونساؤهم أكثر تحفظاً . وفى المنزل رقم 8 بشارع الملك المنصور ، أقمنا ما يقرب من خمس عشرة سنة : اخوتى الكبار يعملون فى حجرة واسعة بالمنزل ، واخواتى البنات مخصصات لأعمال البيت . وأخى الأكبر مباشرة (أحمد) قرر أبى أن يرسله إلى الأزهر ، لأنه لم يكن يثق كثيراً فى التعليم المدنى .أما أنا فقد التحقت بمدرسة الجمالية : مدرسة عتيقة ولها تقاليدها . وقد أحببتها ، وصادقت فيها زملاء كنا نتزاور فى المنازل خلال الأجازات . وكان ترتيبى على الفصل يتراوح بين الثانى والرابع . وفيها أحببت اللغة العربية ، لأن الظروف أتاحت لنا أستاذاً ممتازاً (اسمه عبدالحليم) خصنى بعنايته ، وكان يختارنى للقراءة أمام المفتشين ، مما زاد من مسئوليتى واهتمامى بدروسه .
كانت مدرسة الجمالية غاية فى النظافة . وكنا نقضى بها أطول النهار ، من الثامنة صباحاً إلى الخامسة بعد الظهر . وفيها نتناول وجبة غداء كاملة . ونسعد بفسحة تصل إلى ساعة ونصف ، نمارس فيها شتى الهوايات . وفى كل يوم جمعة رحلة إلى أحد معالم القاهرة . وأناشيد الصباح ، وتلك اللوحة الجملية الخط التى كانت معلقة فى إحدى الردهات ، مكتوب فيها " دولة الظلم ساعة ، ودولة العدل إلى قيام الساعة " . والمسابقات الثقافية ، والرياضية وتوزيع الجوائز . . والمدرسون مهتمون والناظر حازم وحنون . .
وفجأة قرر أبى أن أترك هذه المدرسة ، وأن ألحق بأخى فى الأزهر . وبكيت كثيراً ، واستعطفت فلم يقبل رجائى .
وكان على أن أحفظ قدراً من القرآن الكريم فى مسجد المستعلى بالله (القائم حتى الآن) عند الشيخ سيد ، وهو شبه كفيف ، ظل يعاملنى بقسوة، حتى اضطرنى لرشوته ببعض الهدايا المنزلية ، فاطمأن لى ، بل إنه كان يفوت لى أحياناً بعض الواجبات .
حفظت حوالى ثلثى القرآن الكريم . ودخلت امتحان القبول بالأزهر . ومن العجيب أننى نجحت فيه رغم تشددهم فى ضرورة حفظ القرآن كله . أما الذى يبدو أنه شفع لى : فهو أننى قرأت أمام لجنة الامتحان فقرة من الجريدة اليومية بأداء جيد ، كنت متعوداً عليه فى مدرسة الجمالية .
كانت فرحة أبى بالغة بنجاحى فى الأزهر . وعلى الفور ، اصطحبنى ليشترى لى عمامة وكاكولا من حى المؤيد . ولم يجد البائع على مقاسى شيئاً مناسباً ، فأوصى أبى بشراء مقاس أكبر ، ودله على ترزى لكى يضبطه على جسمى الصغير . وأذكر أننى كنت أصغر " شيخ " فى معهد القاهرة الدينى ، وأننى كنت موضع سخرية عم إبراهيم ، بقال شارعنا ، الذى كان يترك زبائنه عندما يرانى ، ويخرج من المحل صائحاً : أهلاً يا شيخ حامد .." أو " مع السلامة يا فضيلة الشيخ"..
صرت أتحاشى رؤية أصدقاء مدرسة الجمالية . وكان قد أصبح لى أصدقاء جدد فى منطقة الدراسة . وهناك فى شارع بدر ، قضيت أجمل سنوات عمرى على الإطلاق : لعب الكرة الشراب ، والعسكر والحرامية ، والسبع طوبات . . ثم الحب الأول الذى عزف فى النفس أحلى أغانيه العذبة .
كان أصدقائى فى منطقة الدراسة هم الإخوة الصغار لأصدقاء أخى أحمد . أى أننا كنا نمثل جيلين متعاقبين ، ومع ذلك كنا غير منفصلين . بعض الألعاب كانت تقتضى أن نشترك فيها جميعاً ، أو يشترك فيها عدد محدود من الجيل الأصغر . وكنت أنا دائماً من بينهم .
وعلى ناصية شارع بدر ، كان لنا اجتماع شبه دائم ، ليلاً ونهاراً . وأجمل سهرات شهر رمضان هى التى قضيتها على هذه الناصية . كنا نخوض فى كل شئ . ونحلم بأشياء بعيدة . . بعيدة جداً . ومازلت أذكر أن أحد الأصحاب أخبرنا ذات يوم ، ونحن وقوف على تلك الناصية ، بوفاة الشاعر إيليا أبوماضى .
أما مكوجى الناصية المقابلة ، فقد سمعت من مذياعه البيان الأول لثورة 23 يولية سنة 1952 . وغمرنى يومها شعور غريب ، فكأننى كنت أنتظرها .
الواقع أن أسرتنا فى منطقة الدراسة قد عانت كثيراً من الضائقات المالية المتعاقبة . وكانت أحياناً تستدين . وكنت أشهد هذا بمرارة ، كما كنت أدرك أسبابه : بعد استقرارنا فى القاهرة ، أصبح منزلنا " مزاراً " مألوفاً جداً لأهالى قرية أبى ، وقرية أمى على السواء : أقارب ، وأصدقاء قدامى، ومعارف من قريب ، وحتى من بعيد . . ونصب أبى من نفسه كفيلاً لكل هؤلاء : يعد للوافد منهم مكاناً يبيت فيه ، ثم يسأله فى الصباح عن سبب زيارته للقاهرة ، ويسعى معه فى قضاء حاجته ، ثم يعطيه قدراً من المال للاستعانة به عليها . وما أكثر ما كان يبعث بأحد إخوتى الكبار لكى يوصل " صاحبنا " إلى محطة مصر , و "يقطع له التذكرة...
ومن المدهش أن معظم هؤلاء الزائرين لم يحفظوا وداً ، ولا معروفاً . وكانت تبلغنا عنهم مواقف منافية لما قدمناه إليهم فى القاهرة . والأكثر غرابة أن أبى كان يسمع ، ويغضى : متجاهلاً حيناً، وغاضباً حيناً آخر ، وفى كل الحالات : ما كان واحد من أسرته يقدر أن يوجه له كلمة عتاب .
أما أصدقاء منطقة الدراسة ، فكانت عائلاتهم – كما قلت – من الطبقة المتوسطة، أو الموظفين : وهى عائلات أكثر استقراراً ، على الأقل من ناحية ميزانيتها الشهرية ، فهناك أوقات معلومة لشراء أدوات المدرسة للأولاد ، وملابس العام الجديد، والاستعداد اللائق للأعياد والمناسبات . وعلى العكس من ذلك تماماً كانت أسرتنا : ربما تسعد وحدها فى غير الأعياد ، ولكنها قلما تشارك الناس فى مناسباتهم السعيدة .
أحسست بأننى من الطبقة التى جاءت ثورة يولية لإنصافها . وقد زاد من هذا الإحساس أن أبناء العائلات المجاورة أظهروا اشمئزازهم من تلك الفوضى التى قام بها الجيش ، فقلب بها الأوضاع السائدة ، والتقاليد المستقرة .
وكان هناك سبب خاص زاد من إحساسى بالغربة فى تلك الفترة ، وهو أن نوع دراستى كان مختلفاً تماماً عن دراسة أصدقائى . فمعظمهم يدرسون فى المدارس الأجنبية كالليسيه ، والمدرسة الإنجليزية ، والمدرسة الألمانية ، كما يدرسون اللغات الأجنبية ، ويتغنون أمامى فى أغلب الأوقات ببعض أناشيدها . وأنا أدرس فى معهد القاهرة الدينى : النحو العربى ، والصرف ، والتجويد ، والفقه (على المذهب الحنفى) لهذا كان لى حياتان : إحداهما مع هؤلاء الأصدقاء ، أجاريهم فيها ، وأحاول جاهداً أن أستوعب ما يتحدثون عنه، وأتقبله منهم ، والحياة الأخرى لى وحدى : أنطوى فيها على نفسى ، وألزمها بحفظ أشياء لم تكن فى ذلك الوقت مفهومة ، ولا حتى مقبولة من عقلى الصغير .
ومرة أخرى . . أحسست أن ثورة يولية سوف تنصفنى من تلك الطبقة ، ومن أبنائها المتميزين عنى فى كل شئ : فى المستوى الاجتماعى ، وفى طبيعة التعليم ، وفى الثقافة العامة ، ومع ذلك فإننى لم أكرهم قط ، بل ظللت أحبهم ، وأميز حتى الآن وجوههم ومواقفهم الكريمة معى ، ولا أكاد أذكر لواحد منهم – على كثرة عددهم – موقفاً أساء فيه إلىّ . .
كانت المواد جافة فى الأزهر إلى حد بعيد ، وخاصة فى المرحلة الابتدائية . ويوم أعارنى صديقى محفوظ عزام قصة سيف بن ذى يزن (فى أربعة مجلدات) لم أتركها حتى أكملت قراءتها . بل إننى كنت أقرأها فى الفصل ، مخفياً إياها عن الأساتذة . وأذكر فى هذا المجال ، أن أستاذ مادة الفقه كان يدعونى دائماً لكى أقرأ من الكتاب بصوت عال ، ثم يقوم هو بالتعليق عليه فقرة فقرة (وهى طريقة التدريس التى كانت متبعة فى الأزهر) وقد حرصت مع ذلك على أن أستمر فى قراءة سيف بن ذى يزن ، عندما أنتهى من قراءة كل فقرة من المتن ، دون أن يلاحظ الأستاذ شيئاً غير عادى ، وكذلك باقى زملائى فى الفصل .
وكان المعهد الدينى يضم الكثير من الطلاب المكفوفى البصر ، أو شبه المكفوفين . ولهؤلاء : امتحاناتهم الخاصة (التى تتم شفوياً بالطبع) ، كما كانت لهم حلقاتهم الخاصة . ولا أدرى ما الذى شدنى فى ذلك الوقت إلى زمالتهم ، والمذاكرة لهم ، ومعايشة مشكلاتهم ، والاستمتاع أحياناً بنوادرهم . أذكر أن الشيخ (عصفور) راهن أحد زملائه على أن يأكل فى وجبة واحدة سبعة أرغفة مع الطعمية والسلاطات.. ومضى التحدى أمام الجميع إلى نهايته ، وانتصر الشيخ عصفور علناً على منافسه، ولكنه رجانى بعد ذلك أن أصحبه إلى "ميضة" الجامع الأزهر لكى يفرغ جميع ما ازدرده فى الرهان ، وراح يبكى ..
أما المرحلة الثانوية ، فقد انفرج فيها الباب قليلاً ، بإدخال مادة الأدب العربى فى المقررات الدراسية . وهنا امتد أمامى أفق واسع . وأوسع منه أن أخى الأكبر أحمد ، كان قد بدأ يستعير من دار الكتب المصرية ، بباب الخلق ، مؤلفات المنفلوطى والرافعى والزيات . . وكنت ألتهم معه ، وأحياناً قبله ، هذه المؤلفات.
ثم عرفت الطريق بنفسى إلى دار الكتب ، وحملت بعض أصدقاء منطقة الدراسة الموسرين على الذهاب معى إلى قاعة المطالعة ، ليقرأوا فى مجلدات مجلة سمير ، أو سندباد . . بينما أقرأ أنا فى مجلدات الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى . والحيوان للجاحظ . .
وبدأت أميل إلى الشعر . . وأشعر فى أعماقى بقوة تدفعنى إلى قوله . ورحت أحاول تقليد ما أقرأ بكلام ركيك غير مستقيم الوزن ، لكنه مطرد القافية . . وبمرور الوقت ، درست علم العروض بالأزهر ، فأخذت أقيس به ما أكتب ، ووجدت بعضه موزوناً ، ففرحت كثيراً . .
ومن أحداث ثورة يوليه التى كان لها تأثير مباشر على أسرتنا الصغيرة ، أنها أصدرت قراراً بحل الأوقاف الأهلية . وبذلك أتاحت لأصحابها أن يتصرفوا فيها بالشراء والبيع . وفرح أبى كثيراً بهذا القرار . لكن أمى لم تكن كذلك . وفى صفقة غير متعادلة : باع أبى عشرة الأفدنة التى كانت موقوفة بأرض الدقهلية ، ليشترى بثمنها مائة فدان صحراوية فى أرض الفيوم . . وكان مشروعاً هائلاً لو أنه نجح . . لكن نجاحه كان بحاجة إلى قدر كبير من التخطيط الكافى ، والتمويل المنتظم.
وذات يوم ، قرر أبى بدوره أن تنتقل الأسرة كلها إلى الفيوم لتقيم فى المنزل الكبير الذى بناه وسط الأرض ، تمهيداً لزراعتها ، وأن يتوقف إخوتى الكبار عن العمل فى مهنة الجلود ليساعدوه فى أعمال " العزبة " الجديدة . . وبالفعل انتقلنا . وهناك عشنا حوالى ثلاث سنوات قاحلة ، لم تخرج فيها الأرض لنا سوى بعض الخضروات . .
كنت أقضى الساعات الطويلة منفرداً فوق سطح منزل الفيوم ، حيث كان فى مقدورى أن أشاهد على البعد " بحيرة قارون " ، الشديدة الزرقة، وسط الرمال الصفراء المترامية . . وكانت تمر بى لحظات أشعر فيها أننى جزء من هذه الطبيعة الخالدة ، والساكنة تماماً من حولى . وفكرت فى أشياء كثيرة : الدين ، والمجتمع ، ومغامرة أبى التى تتداعى أمام عينى . . وأخيراً كنت ألجأ إلى الشعر ، أحاول أن أكتبه فيستعصى علىّ ، وأحس بمرارة شديدة لابتعادى عن دار الكتب ، وعن موطن ذكرياتى فى الدراسة . . وكثيراً ما كنت أحس بأننى مقبل على نهاية العالم . وبالفعل كانت المنطقة التى نعيش فيها على طرف الصحراء الغربية. .
لكننى وأخى أحمد وابن أخى وجيه كنا أسعد حظاً من باقى أفراد الأسرة المعزولة . فقد كنا نسافر إلى القاهرة مرتين فى كل عام : واحدة للدراسة ، والأخرى لأداء الامتحان . وذات يوم بلغ بى التمرد غايته ، فأعلنت لأول مرة أننى لن أعود إلى الفيوم ، وسوف أبقى فى القاهرة وحدى . وعندما هددونى بقطع المصاريف ، جابهتهم بأننى سأعمل فى الأجازة . . وأثار هذا التصرف العنيد باقى إخوتى ، فقرروا جميعاً العودة واستئناف عملهم من جديد ، بعد أن تحقق لهم فشل تجربة الفيوم .
عدنا مرة أخرى إلى الدرب الأحمر ، واستأجرنا منزلاً فى أول شارع باب الوزير ، وهو الشارع الوحيد الذى يؤدى إلى المدافن الواقعة فى حضن القلعة . وفى مشربية هذا البيت العتيق ، كنت أقضى الساعات الطويلة ، قارئاً فى كتاب ، أو متأملاً فى مصير الموتى الذاهبين على مقرهم الأخير ، ومشيعيهم العائدين بخطوات منهكة ، وأذرع مدلاة . .
لكن أجمل ما فى تلك الفترة كان هو قربى من دار الكتب . . أذهب إليها كل يوم ، بيدى قلم وكراسة ، ومعى سندوتش للغداء ، وأجلس فى قاعة المطالعة ، أو فى قاعة المخطوطات من التاسعة صباحاً حتى الخامة أو السادسة مساء . . كنت أقرأ بدون نظام ، أو بالأحرى كنت نهماً لمعرفة كل شئ . وكلما وجدت إشارة عن كتاب أو ديوان شعر لم أهدأ حتى أطلبه ، وأقرأه ، وأسجل منه فى كراستى الصغيرة بعض العبارات . .
وفى سنة 1961 ، دخل فصلنا أستاذ جديد لتدريس مادة الأدب العربى . وفوجئت بأنه لا يرتدى الزى الأزهرى المعهود . كان هو السيد أحمد صقر ، المحقق الكبير ، والذى كان مغضوباً عليه من الأزهريين فعاقبوه بالتدريس فى المرحلة الابتدائية ، ثم شمله العفو قليلاً فانتقل إلى المرحلة الثانوية !
أحدث هذا الرجل انقلاباً هاماً فى حياتى . فقد طرح عل الطلاب سؤالاً مثيراً :
- ماذا قرأ كل منكم فى الأجازة الصيفية ؟
وتعددت الإجابات المضحكة : " كنت ألعب الطاولة مع زملائى بالقرية " ، "كنت أساعد أبى فى الحقل " ، " أعدت قراءة كتاب الفقه " ، " كنت أقرأ الجريدة فى دوار العمدة " . . ولم يصل الدور إلىّ . فلم أجب . ولم يسمع منى الأستاذ شيئاً فى ذلك اليوم . لكنه ثار ثورة عارمة على كل من أجابوا ، واصفاً إياهم بأنهم " خشب مسندة " ثم راح يشرح لهم أن الثقافة العامة شئ ، والمقررات الدراسية شئ آخر تماماً .
كان هذا رأيى الذى آمنت به منذ سنوات ، ولم أجرؤ أن أفاتح فيه أحداً من زملائى بالأزهر . وها هو الرجل الجرئ يعلنه بصراحة ، ويحاسب عليه . . يومها أحسست أننى سأكون تلميذه المفضل ، بل صديقه .
ولم نلبث أن التقينا . ودعانى إلى منزله بشارع محمد على حيث أطلعنى على حجرة مكتبه التى تمتلئ بأندر المخطوطات ، والمطبوعات النفيسة . وهناك حدثنى عن أنه يمتلك طبعة دار الكتب أو طبعة بولاق من كتاب كذا وكذا . . فعلمت أن الكتب مستويات . وهناك علمنى كيف أحترم "الكتاب" ، وأقلب صفحاته بقدسية ، دون أن يعنى هذا عدم نقدى لمؤلفه . وباختصار كان هذا الرجل هو الثورة التى حدثت أمامى داخل الأزهر .
عن طريق السيد صقر ، الذى شجعنى على كتابة الشعر ، تعرفت فى فصوله الأخرى على صديقىْ الطريق الشعرى : محمد حماسة عبداللطيف، وأحمد درويش . كان كل منهما يسلك – منفرداً – نفس الطريق الذى أسلكه . ولم تقف فى سبيل تعارفنا السريع عقبة . فبدأت بيننا صداقة عميقة ، مازالت مستمرة حتى اليوم .
تميزت هذه الصداقة بطابع خاص . فقد قامت على أن ثلاثتنا نكتب الشعر ، وبذلك فنحن مختلفون عن باقى الزملاء فى المعهد الدينى . ثم إننا نقرأ كتباً ثقافية كثيرة غير الكتب المقررة ، وهذا يزيد من توحدنا . وصار كل واحد منا ما أن يكتب قصيدة حتى يسرع إلى زميليه ليطلعهما عليها: وهما ينقدان ، ويصححان ، وأحياناً يغيران بعض الكلمات . . من أجل أن تظهر قصيدة صاحبهما أمام " الآخرين " متماسكة وجيدة .
كان أحمد درويش يسكن فى شبرا ، وحماسة فى السيدة زينب ، وأنا فى الدرب الأحمر.. ومع الوقت صارت هذه الأحياء الثلاثة مألوفة لنا جميعاً . . نتبادل الزيارات فيها سيراً على الأقدام ، ولا يكاد يمر يوم أو اثنان بدون لقاء ثنائى أو ثلاثى. . وأحياناً ما كنا نبتعد قليلاً فنعبر حى جاردن سيتى الهادئ إلى شاطئ النيل ، الذى كان يحلو لنا أن ننظر طويلاً فى مائه !
وفى الأجازات الصيفية ، كنا نتبادل الرسائل. وأية رسائل ! ! كل واحدة عبارة عن أربع صفحات فلوسكاب مليئة كاملاً ، وشعراً ، وأخباراً أدبية . . وكان حماسة منتظماً معى . وأذكر أن والده ، رحمه الله ، شاهد فى يده ، ذات يوم ، إحدى رسائلى إليه، فعلق مبتسماً : "إن هذه جريدة ، وليست رسالة" .. كنت بحاجة إلى أن أقول لحماسة كل ما يدور حولى فى القاهرة ، كما كنت أحب أن أسمع كثيراً عن تطوره الشعرى .
فى ذلك الوقت ، لم يعد لى أصدقاء شارع ، أو ناصية . فمنذ انتقالنا للمرة الثالثة إلى الدرب الأحمر ، انقطعت صلتى تدريجياً بمنطقة الدرّاسة وصارت بالنسبة لى كعبة أحلام ، أحج إليها كلما غلبنى الشوق إلى ذكرى لحظات عزيزة على القلب، محفورة بقوة فى الأعماق . ولا أخفى أن هذه الزيارات مازالت تتكرر حتى اليوم ، على الرغم من اختلاف المنطقة بمبانيها ، وشوارعها ، والناس الذين كانوا يسكنون فيها .
عكفت فى سنوات المرحلة الثانوية ، التى كانت تمتد فى الأزهر إلى خمس سنوات ، على قراءة كمية كبيرة من دواوين الشعر العربى ، القديم والحديث ، ولم يبهرنى فى العصر الجاهلى سوى طرفة بن العبد ، بقصائده المحكمة البناء والعميقة الأفكار . أما كل من عنترة وامرئ القيس فقد كنت معجباً بهما كشخصيات أسطورية عربية ، أكثر من كونهما شاعرين حقيقيين . كذلك أعجبنى شعر عمر بن أبى ربيعة ، ومجنون ليلى وكثير عزة وفضلت – لنفسى – جريراً على الفرزدق . . كما أحببت البحترى أكثر من أبى تمام . . وقرأت ابن الرومى أكثر من مرة ، وكذلك أبا نواس وأبا العتاهية ، وحفظت كثيراً لبشار بن برد ، أما المتنبى فقد كان أخلص أصدقائى . ومازلت حتى اليوم أحتفظ بديوانه على مكتبى ، أنظر فيه من وقت لآخر . وكذلك أعجبت بأبى فراس الحمدانى ، والشريف الرضى . . هذا بالإضافة إلى الشعراء الأقل شهرة ، والذين كنت أقرأ لهم مقطوعات متناثرة فى كتب الأدب والتاريخ
ومن العصر الحديث ، قرأت البارودى كأنه "مقرر دراسى" ، وكذلك حافظ إبراهيم ، أما شوقى فقد كان صديقى الثانى بعد المتنبى . وعشت فترة طويلة مع شعراء المهجر ، وخاصة إيليا أبوماضى، وأحببت كثيراً شعر الأخطل الصغير وتأثرت به . . وهناك شاعر اسمه فوزى المعلوف قرأت له قصيدة "على بساط الريح" فلم يفتر اعجابى به حتى اليوم . وكان لأبى القاسم الشابى وقع خاص فى نفسى . . كما قضيت وقتاً طويلاً جداً مع قصائد نزار قبانى .
إننى أترك الكثير جداً من أسماء الشعراء الذين أعجبت بهم لأقول إن من ذكرته هنا ، ومن لم أذكره . . كانوا يعيشون معى فى حياة فعلية ، وكنت أحس وأنا أقرأ لكل منهم أنه إنما يخاطبنى أنا وحدى ، ويحدثنى منفرداً عن همومه وآلامه.
وفى تلك الأثناء ، أهدانى السيد صقر كتاب (الموازنة بين الطائيين) للآمدى بتحقيقه : وتفرغت له ، قرأته بإمعان ، وبدأت أتحسس طريقى إلى النقد العربى القديم، لكن الناقد الذى أعجبنى كثيراً كان هو عبدالعزيز الجرجانى صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبى وخصومه).
وكنت قد عرفت طرقى إلى سور الأزبكية . وأذكر أننى كنت أقضى حوله النهار بأكمله ، متنقلاً من بائع كتب إلى آخر ، ومقلباً فى آلاف الكتب الملقاه على الرصيف ، ومشترياً بقروشى القليلة أحدها . . ويحضرنى الآن أننى اشتريت كتاب (كليلة ودمنة) بقرشين ، وحملته بحرص إلى مقعد منعزل فى حديقة الأزبكية لكى أكمله طيلة يوم واحد .كما أتاح لى سور الأزبكية أن أطلع على كثير من الروايات المترجمة عن الإنجليزية ، والفرنسية ، والروسية . . وعندما قرأت لهمنجواى " العجوز ولابحر " حدث انقلاب فى داخلى ، كذلك آنا كارنينا لتولستوى ، والجريمة والعقاب لديستوفسكى.. أما بؤساء هيجو، وآلام فرتر، وبول وفرجينى فقد كانت تبكينى كثيراً.
أحببت الرافعى ، وصحبته أكثر مما صحبت المازنى والزيات والمنفلوطى
وبالنسبة لأحمد أمين . . لخصت لى مؤلفاته القيمة كل ما كنت أقرأه متناثراً فى الأدب العربى والتاريخ . أما طه حسين والعقاد فقد احترمتهما معاً، وقد ظلا فى رأيى متساويين فى القيمة ، أرى فيها وجهين مختلفين من وجوه الثقافة العربية الحديثة .
وذات يوم ، اقترح علينا السيد صقر أن نقوم بزيارة منزل العقاد . وحرصاً منه على لفت انتباه الكاتب الكبير أوصانا – حماسة وأحمد درويش وأنا – أن نكتب له قصائد تحية . . وبالفعل كتب كل واحد منا قصيدة ، وذهبنا على ندوة العقاد بمصر الجديدة ، وكانت أول مرة أشاهد فيها تلك الضاحية الجميلة ، وهناك قدمنا أنفسنا للعقاد ، وألقينا قصائدنا أمامه ، وسعد الرجل بها كثيراً ، ونهض فصافح كلاً منا ، ثم راح يسألنا عن دراستنا ومعاهدنا فأخبرناه أننا من الأزهر ، فراح يتحدث عنه وعن مستقبله – وكان يكتب أيامها كتابه عن الشيخ محمد عبده – لكنه أوصانا صراحة بأن نلتحق بدار العلوم ، فهى أكثر ملائمة لمواهبنا الأدبية .
وفى نهاية الندوة التى تحولت تماماً لصالحنا، قال لنا العقاد " احتفظوا جيداً يا أولاد بأستاذكم هذا .. فإنه رجل مجهول القدر فى هذا البلد ". وقد كان تأثر السيد صقر بهذه الكلمة بالغاً.. وأثارت فيه مشاعر كثيرة ، فقرر أن يكون اليوم تاريخياً ، وصحبنا إلى منزل صديقه الأستاذ محمود شاكر . . وهناك فوجئت بالأسماء التى كنت أقرأ لها فى دار الكتب : ناصر الدين الأسد ، عبدالله الطيب ، إحسان عباس . . يجلسون حول الأستاذ شاكر فى احترام شديد ، وتوقير بالغ لكل كلمة ينطق بها .
كان وجودنا – ونحن فتيان – يبعث فى قلوب هؤلاء الكتاب الكبار نوعاً من الحنين إلى الشباب . وقد نجحنا يومها فى حمل الأستاذ شاكر على إنشاد قصيدته القوية " القوس العذراء " وهى ثورة نفس مثقفة على كل ما حولها . وأذكر أنه فى أثناء الإنشاد ضاق بأزرار قميصه ، ففتحها بعنف قائلاً :
- لاحظوا يا أبنائى أن الشعر العربى قد خلق للإنشاد ، وأنه لا يصلح معه هذه الملابس الإفرنجية الضيقة . .
كان بالفعل يوماً ثقافياً حافلاً ، جعلنى أشعر أننى اخترت الطريق الصحيح لحياتى : القراءة ، وكتابه الشعر .
كلفنى الأستاذ السيد صقر بنسخ عدد غير قليل من المخطوطات القديمة ، حتى تمرست بحل مشكلات خطوطها الصعبة . ومازلت أذكر أننى نسخت له كتاب "الإلماع " للقاضى عياض ، وهو مكتوب بخط مغربى خالٍ من النقط ، وفى وضع متهرئ للغاية. وقد كان نسخ مثل هذا المخطوط يجعلنى أحس بأننى أعرف مالا يعرفه الآخرون من القراء ، بل من المتخصصين أنفسهم . وهذا كان يمنحنى بعض الزهو ، ويزودنى بقدرة شجاعة على النقد . .
ومن مكتبة السيد صقر ، استعرت بعض أمهات التراث العربى : البيان والتبيين للجاحظ ، وزهر الآداب للحصرى ، والعقد الفريد لابن عبدربه، وغيرها . وعلى يديه تعلمت فن التحقيق ، ومقابلة النسخ ، وتمييز الخطوط ، وتخريج الأحاديث، والأبيات الشعرية النادرة .
وإذا كان السيد صقر هو الذى هوّن بعض أيام الأزهر ، فقد كان هناك متنفَّس آخر ، يتمثل فى الندوة الأسبوعية التى كانت تعقد فى جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس ، ونحرص على حضورها بانتظام ، مستمعين إلى محاضرة فى الدين، أو الأدب . . أو ندوة شعرية يشترك فيها عبدالله شمس الدين ، وملك عبدالعزيز ، ولورا الأسيوطى ، ومحمد بدر الدين ، ومحمد العزب ، ومحمود الماحى . .
وكان هذا الأخير شاعراً تقليدياً ممتازاً . اختطفه الموت وهو شاب . وقد غنت له أم كلثوم قصيدة كتبها لها عن جمال عبدالناصر . كنت شديد الإعجاب بهذا الشاعر، وقد تعرفت عليه ، وقرأ بعض قصائدى وعلق عليها ، ولست أدرى لماذا كنت أحس بأنه دائم القلق ، متوجس كالطائر ، ولم ينقض وقت طويل حتى سمعت نبأ وفاته ، فأحزننى كثيراً .
عقب انتهاء المرحلة الثانوية ، قررت أنا وأحمد وحماسة أن نترك الأزهر – على غير رضا السيد صقر – إلى دار العلوم . وكانت تختار مائة طالب فقط من أوائل الحاصلين على الثانوية الأزهرية ، وكنا فى المقدمة . .
كلية دار العلوم بالنسبة لى بداية مرحلة هامة . قد حققت فيها معظم تصوراتى وأحلامى الشعرية ، ونعمت فيها برعاية أساتذة كبار يقدرون الموهبة الشعرية ، ويعملون على صقلها . . كما أننى التقيت فى أول يوم دخلتها بوجه ملائكى لازمنى طويلاً ، وكنت أستمد منه لطاقتى الشعرية زاداً متجدداً . .
كل المقررات الدراسية فى دار العلوم كنت على معرفة سابقة بها : إما عن طريق أخى أحمد الذى دخلها قبلى بثلاث سنوات ، أو عن طريق قراءاتى الخاصة بدار الكتب . لكنها تميزت ببعض الجديد . فهناك د. غنيمى هلال الذى حدثنا عن النقد الأدبى الحديث ، كما تكلم معنا ، لأول مرة ، عن الأدب المقارن ، ود. محمود قاسم الذى كشف لنا عن قواعد المنهج الحديث فى الفكر والعلوم ، ود. تمام حسن الذى قدم لنا مناهج البحث الحديثة فى دراسة اللغة العربية . بالإضافة إلى أساتذة الكلاسيكيات العربية من أمثال د. بدوى طبانة ، د. أحمد الحوفى ، د. طاهر درويش ، الشاعر على الجندى . .
فى السنة الأولى بدار العلوم ، اشتركت مع حماسة وأحمد درويش ، فى الندوة الشعرية التى كانت تعقد أسبوعياً بالكلية ، ويسهم فى التعليق عليها واحد من أساتذة الأدب بها . ولاحظت أننا تميزنا عن غيرنا بسرعة.
واقترب موعد امتحان آخر العام ، ومع ذلك أعلن عن مسابقة لاختيار شاعرين على مستوى جامعة القاهرة كلها ليمثلاها فى أسبوع شباب الجامعات الذى عقد بجامعة أسيوط سنة 1963 . واختيرت قصيدتى مع قصيدة لمعيد بالكلية ، هو الأستاذ سعد مصلوح . وغامرت بالسفر غير عابئ بالدراسة أو الامتحان . فقد كنت أحس – يومها – أننى أسير فى الطريق الذى اخترته لنفسى ، أو بمعنى آخر ، الذى اختارتنى له المقادير .
وكان أسبوعاً ثقافياً حافلاً ، قابلت فيه الشعراء محمود غنيم ، وأحمد رامى ، ومحمود حسن إسماعيل . . وحاولت الاقتراب بصفة خاصة من هذا الأخير الذى كنت أعجب بشعره ، لكنه كان شديد النفور من الناس . .
ومن ناحية أخرى ، كان المجلس الأعلى للفنون والآداب نشيطاً فى تلك الفترة، فأكثر من المسابقات الأدبية ، وكنا نقدم فيها قصائدنا كل عام، ونفوز بأكثر من جائزة، حتى لفت هذا ، فى إحدى المرات ، نظر يوسف السباعى ، فقال لنا :
- أنتم حتخلصوا كل الجوائز اللى قدامى . .
كنا مدفوعين إلى الكتابة أحياناً فى الموضوعات القومية ، لأنها الموضوعات المطلوبة فى المسابقات . لكننا لم نتخل أبداً عن فنناً الشعرى الخالص ، فتابعنا بوعى حركة التجديد المهجرى ، وأفدنا منها كثيراً ، كما استوعبنا بسرعة حركة الشعر الحر، ورحنا نكتب به ، مع تفردنا بالكتابة فى الشكل التقليدى القديم .
أعجبنا كثيراً بصلاح عبدالصبور ، وربما أكثر منه بعبدالمعطى حجازى ، فى مصر ، وبالسياب فى العراق . . أما أدونيس ، قد ظل بعيداً عن أذواقنا
وهناك شاعر مازلنا نقدر فنه الأصيل حتى اليوم ، وهو محمد الفيتورى . وقد صادقناه لفترة ، وكان يعجب بما نقول ، ويشجعنا كثيراً ، لكنه ما كان يظهر بيننا حتى يختفى بسرعة .
وكان أمل دنقل شاعراً ناشئاً ، أذكر أن صلاح عبدالصبور أرسله إلى منزلنا بالدرب الأحمر ذات يوم لكى يبلغنى أنهم اختارونى من بين 11 شاعراً لأمثل مصر فى مهرجان الشعر التاسع . وكان المطلوب أن ألقى قصيدة " شجرة التوت " وكان صلاح قد سمعها منى فى إحدى ندوات دار العلوم، وأعجب بها ، وأحب أن ألقيّها أمام الشاعر عزيز أباظة ، حتى يطلعه على لون من الشعر العمودى مكتوب بأسلوب الشعر الحر على حد قوله .
أحببت كثيراً شعر أمل دنقل ، وكنت أطلعه على معظم ما أكتبه ، واستنشده آخر أعماله . والسبب أنه أقام فترة طويلة عند صديق مشترك لنا هو الشاعر مسعد إسماعيل فى غرفة، خففة الظل ، كانت ملتقى لنا بحى السيدة زينب . . لكننا لم نكن راضين تماماً عن أسلوب حياة أمل دنقل : السهر حتى الصباح ، وقضاء وقت طويل بلا قراءة على قهوة ريش ، والتدخين بشراهة ، والبوهيمية التى كنا نعتبر دائماً أنها مفتعلة فى شرقنا العربى .
فى دار العلوم ، وفى ندوتها الأسبوعية ، تعلمنا الكثير عن فن الشعر : الصورة الشعرية ، والخيال الشعرى ، والدفقة الشعورية ، والتطور الداخلى للقصيدة ، والمعادل الموضوعى ، كما عرفنا معنى الخطابية ، والجهر والهمس ، ومواقف الإنشاد ، والتأثير بالصورة . . الخ ولكننى لابد أن أعترف بأن هذه الأمور ما كانت تقال فى المحاضرات الدراسية ، وإنما كانت تقتصر على ندوتنا الأسبوعية.
إننى أحيى كل من علمونا هذه الأمور ، سواء من الأساتذة فى ذلك الوقت كالدكتور أحمد هيكل ، والمرحوم د. عبدالحكيم بلبع ، ود. محمود الربيعى ، أم من المعيدين اللامعين الذين أصبحوا الآن أساتذة مثل د. صلاح فضل ، ود. على عشرى، ود. محمد عيد ، ود. محمد فتوح.
وتعرفت فى دار العلوم على صديق جاء من معهد طنطا الدينى ، وهو حسن البندارى ، كاتب قصة قصيرة ، لكنه تقبل التطور بسرعة ، وراح يطبقه إلى أبعد مدى. فبدأ يكتب القصة بأسلوب " تيار الوعى " على غرار جيمس جويس ، وفرجينيا وولف . وبسرعة أيضاً دخل فى مجموعتنا الثلاثية، فأضاف لها بعداً جديداً . فقد أصبح من اللازم أن نقرأ قصصه ، وأن نشترك فى التعليق عليها ، ومازلنا حتى اليوم نختلف معاً أو نتفق : حول إبداعه القصصى المتميز .
كنت دائماً أحب الفن القصصى ، وقد أفدت منه كثيراً فى قصائدى ، ومن الواضح أننى استخدمت بعض عناصره المتمثلة فى الحوار ، والمفاجأة ، والحبكة ، وأسلوب السرد . وقد تمشى هذا طبيعياً مع مفهومى للقصيدة على أنها بناء موضوعى . صحيح أنه يخرج من الذات الموغلة فى خصوصيتها ، ولكنه ما أن يتشكل على الورق حتى ينفصل عنها ، وبالتالى يصبح محتاجاً إلى أن يتقوّم بذاته ، وأن يعمل يحيويته الداخلية .
عندما التحقنا بدار العلوم قال لى أحد المعيدين : " إن الشعر لا يدر كسباً . بل إنه طرق الفقر . فعليك بالاجتهاد فى الدراسة ، ولا تدع هذا الفن الشيطانى يذهب بك بعيداً " وقد وعيت نصيحته بصورة مختلفة ، لم يقصدها بالتأكيد . فقد حرصت أيضاً على التفوق الدراسى ، ويرجع الفضل فى ذلك إلى صديقى محمد حماسة وأحمد درويش . وفى السنة الرابعة ، حصلنا ثلاثتنا على الليسانس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى . وبذلك حطمنا أسطورة أن الشعراء لا يجيدون المذاكرة ، والتى كانت شائعة فى الكلية . وممن يستشهد بهم فى هذا المجال : هاشم الرفاعى الذى كان يرسب فى مادة النحو، ومحمد الفيتورى الذى لم يكمل دراسته بدار العلوم..
الشعر وعى . . والشاعر مسئول وملتزم بل ومنضبط . إنه فى رأيى مبدع نظام ، ومخترع بنية لغوية وكيان شعورى متناسق الأطراف والزوايا . . هكذا فهمنا الشعر من تراثنا العربى ، ولم يضللنا عن هذا المفهوم ما قرأناه من النظريات النقدية الحديثة ، بل إنها عمقت وعينا به .
كان صديقى محمد حماسة شغوفاً بامتلاك مكتبة متكاملة . فكان حريصاً على اقتناء سلسلة أعلام العرب ، وتراث الإنسانية ، والمسرح العالمى، والألف كتاب . . الخ ، وكنت حريصاً بدورى على قراءة ذلك كله عنده ، ومعه . . ومازلت أذكر المناقشات الطويلة التى كنا نديرها حول أحد الموضوعات فى الآداب العالمية ، دون أن تكون لدينا أدنى معرفة بلغة أجنبية .
لكن فى دار العلوم تقليداً طيباً ، هو أن تبعث، من وقت لآخر ، بمجموعة من أبنائها المعيدين إلى الخارج ، للحصول على الدكتوراه فى الجامعات الغربية . وقد أتيح لنا ونحن طلاب أن نلتقى بإحدى هذه الموجات العائدة لتوها من أوربا : د. الطاهر أحمد مكى العائد من أسبانيا ، ود. محمود الربيعى ، د. حمدى السكوت ، د. عبدالحكيم حسان ، د. السعيد بدوى. العائدين من إنجلترا . . وما أسرع ما اقتربنا منهم ، وأفسحوا بدورهم لنا مكاناً فى مجموعتهم . وفى جلساتهم الخاصة ، كنا نصغى بخشوع وشوق إلى كل ما يقولون ، عن ذلك العالم البعيد ، فى الجانب الآخر من البحر المتوسط . .
تخرجنا من الكلية سنة 1967 ، وهى سنة النكسة المشئومة . وتم تكليفنا معيدين : كلٌ فى قسم مختلف : حماسة فى قسم النحو ، وأحمد درويش فى قسم النقد والبلاغة ، وأنا فى قسم الفلسفة الإسلامية . ولم يسخط أحدنا على هذا التوزيع ، بل على العكس ، وجده ملبياً لحاجة فى نفسه ، وملائماً لشئ خفىّ فى أعماقه .
لم تمنعنا طبيعة الوظيفة الجديدة عن الاستمرار فى أداء دورنا الشعرى فى الكلية ، وخارجها . فقد شاركنا الأجيال اللاحقة لنا فى جميع الندوات ، وأكاد أقول : إننا كنا أكثر التصاقاً بهم ، وتشجيعاً لهم . وأذكر من هؤلاء الشاعرين :مسعد إسماعيل ، وعبداللطيف عبدالحليم .
وكان عبدالرحمن الشرقاوى قد كتب مسرحيته الشعرية " الفتى مهران " وكتب صلاح عبدالصبور " مأساة الحلاج " . . وأعجبت كثيراً بهذين العملين . . وآمنت بدور المسرح الشعرى ، فكتبت ثلاث مسرحيات بالشعر الحر : الأولى بعنوان "درويش السقا" وهى تصور استئثار محمد على بالسلطة بعد توليه حكم مصر بمساعدة الشعب ، وقد مثلها فرق التمثيل بدار العلوم ، كما أعيد عرضها فى القاعة الكبرى بجامعة القاهرة ، والثانية بعنوان " أربعة رجال فى خندق " عن انسحاب الجيش المصرى من سيناء عقب نكسة 1967 ، وقد مثلت أيضاً بدار العلوم . . والثالثة بعنوان " الأشجار ترتفع من جديد " وموضوعها المقاومة الفلسطينية فى مدينة غزة . وقد نشرتها جميعاً بعنوان " ثلاث مسرحيات شعرية".
وفى سنة 1970 جندت فى الجيش . وتصادف أنهم طلبوا دفعة من ذوى المؤهلات العليا تتعلم اللغة الروسية ليصبح أفرادها مترجمين بين الخبراء الروس ، والضباط المصريين . وعلى الفور ، رحبت بالانضمام إلى هذه الدفعة . وكان معظمها من المعيدين فى شتى الجامعات المصرية.
وفى تلك الأثناء ، توفيت أمى : وكانت أول صدمة موت يشهدها منزلنا منذ ولدت . ولم أستطع البكاء ، واختزنت الحزن العميق لأيام عديدة ، كتبت فى نهايتها قصيدة " المساءٌ الذى ألعنهُ" التى نفثت بها بعض ما بى . لكننى وجدت فى دراسة اللغة الروسية ملاذاً آخر ، أدفن فيه أحزانى . وكانت مُدرسة فصلنا إليانا باريسى امرأة فاضلة ، كبيرة السن ، وغاية فى حسن الخلق . عاملتنى منذ اللحظة الأولى كابن ، واختصتنى دون زملائى بالكثير من عطفها ، وكانت تتمنى أن أترجم ، بعد أن عرفت أنى شاعر ، بوشكين إلى اللغة العربية ، لأنها لاحظت أن الناس هنا لا يعرفونه. والواقع أنى أحرزت تقدماً كبيراً فى تعلم اللغة الروسية ، تلك اللغة الرشيقة التى يجهلها معظم المثقفين العربى ، مع أنها أقرب روحاً إلى روح اللغة العربية، والأدب المكتوب بها – قبل ثورة 1917 – أشد صلة بحالة العالم العربى الحديث .
كنت أقضى معظم أوقات فراغى فى الجيش ، فى ترجمة بعض المقطوعات الشعرية الروسية ، أو القصص القصيرة . وقد زاد ما ترجمته من القصص على عشر، نشرت ما ترجمته منها فى كتابى " قصص عالمية " .
كنت قد وجدت فى اللغة الروسية فرصة لتعويض الثغرة الهائلة فى ثقافتى . ولأن دراستى للإنجليزية فى كل من الأزهر ودار العلوم كانت دائماً هزيلة ، فإننى وجدت فى تلك اللغة الجديدة تعويضاً عما فاتنى ، لا سيما وأن تدريسها لنا كان قوياً، ومركزاً ، وأثمر نتائجه الملموسة فى وقت قصير جداً .
بعد خروجى من الجيش سنة 1972 ، قويت صلتى بأستاذى الدكتور محمود قاسم ، عميد الكلية حينئذ ، ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بها . كان أستاذاً عظيماً بمعنى الكلمة . فهو يقرب تلميذه مع حفظ حدود أستاذيته ، ويشجعه فى الوقت الذى يلومه فيه على التقصير ، ويظهر أمامه أنه لا يرضى عن الهفوة الصغيرة فى البحث العلمى ، فيحث الطالب على أن يتجنب الأخطاء الكبرى . وكان مهتماً بمحيى الدين بن عربى ، فجعلنى أدرس للماجستير موضوعاً عنه وقد قرأت معه ، وعلى مقربه منه كتاب " الفتوحات المكية " ، تلك الموسوعة الروحية الضخمة التى تضم شتات التراث الدينى كله .
ومن خلال ابن عربى تعرّفت على التراث الصوفى فى الإسلام ، وهو كنز لم يكتشف بعد . . ومن المؤسف أنه مطمور وسط حشد هائل من الخرافات ، والآراء المسبقة .
كان الدكتور قاسم هو معلمى الثانى ، بعد السيد صقر . ومازلت أعتبره الثورة الثانية التى بلورت الكثير من أفكارى فى دار العلوم .
وفى لحظات من الصفو الروحى بين الأستاذ وتلميذه ، كان د. قاسم – رغم نزعته العقلية الصارمة – يوصينى بألا أترك كتابة الشعر .
الصدفة وحدها هى التى أتاحت لى فرصة السفر إلى فرنسا . فقد ظهر إعلان بالجرائد ، يقول إن من ينطبق عليه كذا وكذا من الشروط يتقدم . وهذه أماكن البعثات وموضوعاتها . وقدمت ، فقبلت .
وكانت هذه البعثة ، من ناحية أخرى ، فرصة لإتمام إجراءات زواجى . فقد صحبت زوجتى فى اليوم السادس من الزفاف إلى باريس ، دون أن يعرف أحدنا كلمة فرنسية واحدة . وكانت تجربة صعب ورائعة ، خضناها معاً ، وقد مضى عام كامل، قبل أن أكتب قصيدة " باريس " التى أسجل فيها لحظة نزولنا إلى مطار أورلى . .
فى باريس رأيت العالم كله . وعشت حوالى سبع سنوات فى بيئة تموج بالحركة ، والحيوية ، والتحدى . . لا شئ يقف . المتوقف ميت ، والبطئ محكوم عليه . . الجميع مسرع . وجديد اليوم قديم غداً . والاختراع هدف الجميع ، والمحاولة مستمرة . .
وكانت أصعب الأيام تلك التى رحت أتعلم فيها اللغة بعقل كبير ، ولسان طفل صغير . . لكنى تذرعت بالصبر ، وكافحت اليأس والملل ، وأخيراً بدأت أقرأ . . وأذكر أننى كدت أطير فرحاً عندما انتهيت من قراءة رواية " الغريب " لألبير كامى دفعة واحدة ، على غرار ما كنت أفعل فى قراءة رواية باللغة العربية .
وفى كل من مكتبة جامعة السروبون التى التحقت بها ، والمكتبة الوطنية بباريس انفتحت عيناى على كنوز العالم الفكرية والأدبية . .
وهكذا عودت نفسى أن أقسم قراءاتى بين الفلسفة والأدب . . وشعرت بأننى فى حاجة لكى أطلع الآخرين على ما أقرأه وحدى . وفتحت لى مجلة " البيان " الكويتية صفحاتها . ولما لبثت أن كلفنى رئيس تحريرها د. سليمان الشطى بأن أكتب للمجلة " رسالة أوربا " كل شهر . وقد ألزمنى هذا بكثرة القراءة ، وتنويعها بأقصى قدر ممكن ، إلى حد أننى كنت ألتقط بعض الأحداث الثقافية من الراديو والتلفزيون الفرنسيين . . وكلاهما جامعة ثقافية حية ومتطورة .
وفى باريس ، التقيت بمعظم المستشرقين الذين كنت أقرأ لهم بعض ما ترجم إلى العربية : هنرى لاوست ، وشارل بيللا ، وهنرى كوربان . . وروجر أرنالديز الذى أشرف على رسالتى فى السوربون.
وفى باريس أيضاً ، عرفت طريقى إلى اليونسكو . وهناك كلفونى بترجمة عدة أبحاث فرنسية إلى اللغة العربية . ولا أخفى أننى لم أستطع أن أمسك دمعتين صغيرتين ، وأنا أصعد ذات يوم أسانسير اليونسكو ، متذكراً ذلك القارئ الصغير الذى كان يعبر شارع الدرب الأحمر ، وهو فى طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق..
وفى باريس ، التقيت بأستاذى القديم فتحى عبدالمنعم . درّس لنا مادة التفسير والحديث بالأزهر. وكان ممتازاً ، لم يمنعه كف بصره عن التأنق فى ملبسه ، كما أنه كان لا يرتدى الزى الأزهرى المعهود . وأذكر أنه حدثنا ذات يوم فى الفصل عن طموحه إلى أن يكون : طه حسين الثانى.. وأعتقد أنه كانت لديه كل المقومات ليكون كذلك .
استقبلنى فتحى عبدالمنعم كصديق . وكنا نتزاور . وهو إنسان على درجة عالية من الثقافة والرومانسية : وفى جلساته ، كنا نتحدث عن نهضة الشرق ، وتقدم العالم الغربى ، ونتذوق بعض آيات من القرآن الكريم ، وكان يحلو له أن يتطرق لذكر لقائه بأم كلثوم عندما زارت باريس ، وهو يذكر كل كلمة جرت فى هذا اللقاء . . وهكذا كان حديثه مفيداً وممتعاً .
وقبل أن يغادر باريس إلى القاهرة ، كتبت له قصيدة تحية ، وقد أصرّ على أن أسجلها له على شريط كاسيت . وعلى الرغم من عدم احتفاظى غالباً بقصائد المناسبات، فقد حرصت على أن أنشرها فى الديوان : ذكرى وفاء لهذا الرجل الذى اختطفه الموت فجأة ، وكنت أتمنى أن ألتقى به مرة أخرى فى القاهرة .
لم يكن فى فرنسا ما صدمنى كثيراً . وكأننى من قراءاتى عنها ، وتخيلى لها كنت أراها للمرة الثانية . الشىء الوحيد الذى كان يبهرنى هو ذلك التقدم التكنولوجى الهائل فى وسائل المواصلات الدقيقة . أما البحيرات والغابات ، والقصور ، والتماثيل، والبيوت القديمة فى الشوارع العتيقة فقد كان مرآها يؤكد فى عينى تلك الصورة القديمة التى حفظتها لها فى ذهنى .
لقد كتب توفيق الحكيم عن رحلته إلى باريس ، ومن قبله رفاعة الطهطاوى ، وفيما بعد يحيى حقى . . ولم يتحدث واحد من هؤلاء عن منظرسيئ رأيته فى باريس، وأعترف بأنه كان يملؤنى بالغضب والاشمئزاز : فى فناء الكوليج دى فرانس، بجوار جامعة السوربون ، يوجد تمثال ضخم لشامبليون الذى حل رموز حجر رشيد، وإحدى قدميه موضوعة تماماً فوق رأس فرعون مصرى .. طبعاً الفنان الذى صنع هذا التمثال المنفِّر أراد أن يقول إن شامبليون قد سيطر على الحضارة المصرية القديمة بحله رموز اللغة الهيروغليفية .. ولكنه عبر عن هذا المعنى بأسلوب يثير الاشمئزاز لدى أى مصرى ، يعتز بماضيه .
وعندما زارنى فى باريس صديقى العزيز د. السعيد بدوى ، اصطحبته إلى هذا المكان ، ورأى التمثال معى ، وأعتقد أنه شاركنى نفس الشعور.
وأنا الآن أنشر هذه الملاحظة ، فربما يعيد الفرنسيون النظر فى هذا التمثال – أو حتى فى مكانه – خاصة وأنه يتوسط فناء أعرق معهد علمى فى فرنسا كلها ، ويقصده العلماء من شتى بقاع العالم.
عدت من فرنسا فى بداية 1981 ، بعد أن حصلت على دكتوراه الدولة فى الفلسفة بمرتبة الشرف الأولى . وكان لأستاذى المستشرق الكبير أرنالديز أكبر الفضل فى رعايتى . وهو عالم جم التواضع ، واسع المعرفة بالثقافات اليونانية ، والألمانية ، والفارسية فضلاً عن العربية ، وقد وجهنى لنقاط هامة تتعلق ببحثى فى كل هذه الثقافات. كما كان يعاملنى معاملة خاصة ، فقد كانت كل لقاءاتى معه لا تتم إلا فى منزله . إننى أدين له بالكثير ، وأعتبره وجهاً مضيئاً لفرنسا كلها .
بدأت التدريس فى دار العلوم . ورحت ألقى على الطلاب محاضرات فى مناهج البحث ، التى كان يدرسها لنا المرحوم د. محمود قاسم ، كما درست لهم موضوعات متفرقة من الأخلاق الإسلامية ، والتصوف الإسلامى ، والفلسفة الإسلامية .
ومع ذلك ، فقد ظل الشعر هو هوايتى الأولى. ولم أترك الفلسفة تطغى عليه فى يوم من الأيام ، بل على العكس ، كما قلت للشاعر الصديق الأستاذ فاروق شوشة، فى حديث إذاعى ، إننى أعتبر الفلسفة تعطى عندى بعداً أكثر عمقاً وخصوبة ، وإننى أستغلها لصالحه ، كما أننى من ناحية أخرى أفضل أن أتناول القضايا الفلسفية بروح شعرية .
لكننى لا أنكر أن الرحلة إلى فرنسا قد أثرت فى تصورى للشعر كثيراً . وأولى علامات هذا التأثير أنها قيدت قلمى عن كتابة الشعر إلى حد كبير . والواقع أن مفهومى للشعر قد تغير كثيراً بعد قراءتى أعلام الشعراء الفرنسيين من أمثال أراجون، وبول إلوار ، وجاك بريفيير الذى نشرت له عدة قصائد مترجمة فى مجلة البيان الكويتية .
إن القصيدة لدى أى من هؤلاء الشعراء موضوع قائم بذاته . . بناء متكامل ، له معماره الخاص به ، وله خطوطه الهندسية الدقيقة ، وله روحه الذى يسرى فى أوردته وشرايينه . ثم هى بعد ذلك كله عمل مرتبط بصاحبه ، وبتطوره الفكرى والنفسى ، وأهم من ذلك بموقفه الأيديولوجى .
إننى هنا لا أتحدث فقط عن الشعراء الفرنسيين ، بل الشعراء الغربيين عموماً، الذين قرأت لهم ، وأعجبت بهم وترجمت لهم أحياناً .
الشاعر الغربى يصنع من قصيدته تمثالاً ، ثم يقوم بإزالة آثار الصنعة عنه ، حتى يبدو كأنه غير مصنوع . وهذا هو السر الذى يُرجَى اكتشافه.
الشاعر الغربى يجعل من قصيدته تحليلاً نفسياً دقيقاً ومتدرجاً ، يتوقف فيه طويلاً عند مناطق التأثير ، ويتجاوز مناطق كثيرة ، مهملة أو عديمة القيمة . وهو يفعل ذلك عن وعى غير محسوس ، أو هكذا يبدو للقارئ .
الشاعر الغربى حر تماماً فى تناول موضوعه ، حر تماماً فى التعبير عنه ، حر تماماً فى تقديمه للناس ، لكن هذه الحرية المتعددة الأوجه محكومة بتراث طويل من النقد الصارم ، والتقاليد الأدبية الراسخة ، التى يعتبر الشاعر نفسه مسئولاً عن احترامها ، وعن كونه استمراراً لها .
ثم إننى ألاحظ أن الشاعر الغربى يتمتع بطبيعة غنية ، قد تكون أحياناً قاسية ، ولكنها غنية جداً ، كما أنه على صلة مباشرة مع هذه الطبيعة ، فالشاعر الذى يسكن المدينة لا يبعد عنه الريف كثيراً . إنه على قيد خطوات منه ، يزوره فى رحلته الأسبوعية ، ويومياً لو أراد .
كما أن ظاهرة المطر الغزير ، التى تشمل أوربا كلها ، وتستتبعها مجموعة أخرى من الظواهر الهامة ، تعمل عملها الفعال فى تكوينات شعرية بالغة العمق والتأثير . . إن فصول السنة الأربعة أكثر وضوحاً فى الغرب منها فى الشرق . ولذلك فإن إحساس الشاعر الشرقى بها أقل حدة ، وبالتالى فإن إحساسه بالزمن عموماً أقل وضوحاً.
وفى النهاية لا ينبغى أن نغفل عامل البيئة الثقافية المتيقظة لكل ما يظهر من إنتاج أدبى . فالقارئ مهتم ، والناقد متتبع ، وأجهزة الإعلام ، التى تطورت كثيراً فى الآونة الأخيرة ، لا تكاد تترك صغيرة إلا أشارت إليها ، وكأنها تحس بأن مسئوليتها تكمن فى ألا يفوتها شئ !
وأصرح فأقول إننى أصبحت أخشى من كتابة الشعر ، بعد أن عشت فى هذا الجو فترة طويلة . ولكنى أعود فأقول لنفسى : إن واقعى مختلف ، فالقارئ المهتم نادر ، والناقد المتتبع مفقود ، وأجهزة الإعلام أقل من المستوى الأدبى بكثير ، وإن كانت متفوقة فى ميادين أخرى ، لذلك فعندما أكتب قصيدة أكتبها لنفسى . ولا أكاد أطُلع عليها إلا خاصة الأصدقاء ، وأحياناً أتكاسل ، فأخفيها بين أوراقى ، وربما مضى الزمن ففقدتها فى زحمة العمل والحياة .
لقد سبق أن نشرت مع صديقىّ : أحمد درويش ، ومحمد حماسة مجموعتين شعريتين : الأولى بعنوان (ثلاثة ألحان مصرية) صدرت عن الهيئة العامة للكتاب بوزارة الثقافة المصرية سنة 1970 ، وقدم لها الأستاذ الدكتور أحمد هيكل . وهى تضم لى سبع قصائد عمودية . وقد ظلت هذه المجموعة حبيسة فى مكاتب الهيئة إلى أن أطلقها من عقالها الشاعر صلاح عبدالصبور . وأذكر أنهم أعطونى مكافأة خمسين جنيهاً ، خصمت منها الضرائب حوالى ستة عشر جنيهاً . . ثم ما لبثت مصلحة الضرائب أن طالبتنى بضرائب أخرى عنها، وأدرجت اسمى فى ملفاتها على أننى "مؤلف أشعار"!.
أما المجموعة الثانية ، فكانت بعنوان (نافذة فى جدار الصمت) ، 1974 صدرت عن مكتبة الشباب التى أساءت توزيعها ، وقد كتب مقدمتها الأستاذ الدكتور محمود الربيعى . ورغم أنه نبَّه النقاد إلى بعض التجارب الناجحة لدى الشعراء الشبان الثلاثة ، فإن أحداً لم يستجب لهذا التنبيه . وظلت المجموعة معروفة فقط من بعض الأصدقاء ، وبعض طلاب دار العلوم .
فإذا أضفت إلى ما سبق ، أن كثيراً من أخطاء الطباعة قد وقعت فى المجموعتين ، ولا سيما المجموعة الثانية . . تبيَّن أن إعادة نشر قصائدهما قد أصبح واجباً علىّ . ثم وجدتنى مدفوعاً إلى أن أضم إليها كل ما كتبته من قصائد سابقة عليها ، أم تالية لها . وجعلتها فى ثلاثة أقسام : قسم اخترت فيه عدداً قليلاً من شعر المرحلة الأولى ، وقسم المرحلة المتوسطة الذى ارتبط بدار العلوم ، ثم القسم الأخير الذى كتب فى باريس وما بعدها .
وقد وجدت من غير المعقول أن أطلق على كل هذه القصائد اسم قصيدة واحدة، كما يفعل شعراء عصرنا . فأنا لا أنوى أن أنشر فى كل عام ديواناً . . لهذا "أطلقت عليها عنوان " ديوان حامد طاهر " مستنداً إلى تراثنا الشعرى فى الثلاثينات والأربعينيات من هذا القرن ، عندما كان الشعراء يفعلون ذلك ، دون أدنى حساسية !
بقى أن يكون هناك هدف محدد من نشر كتاب على الناس ، وأسارع فأقول : إننى لا أتوجه بهذا الديوان إلى النقاد ، فأنا يائس منهم . ولا إلى أجهزة الإعلام فأنا زاهد فيها . . وإنما إلى القراء الذين يحبون الشعر ، أو الشعراء الشبان الذين يحبون القراءة . . ولابد أننى واجد فى هؤلاء بعض من ينفعل ، أو يستجيب ، أو يقضى وقتاً طيباً . .
تجربتى مع الشعر
أنشى هذا الموقع في إبريل 2004 يضم مجموعة من المؤلفات الأدبية والثقافية للشاعر والمفكر الدكتور حامد طاهر تم تطويره وتوسيعه فى يونيه 2010 ،