طلحة محمد - بنطلون جولييت.. قصة قصيرة

وجه قبيح من الوجوه الشّنيعــــــة للحرب تتواصل الدّول الشقيقة في صدّ الحرب عن من لسعتــْه ألسنــــة اللّهب الحارقــــة لتنال من الكل يوما بيوم في هذا السيـــّاق كان الواجب محتـــّما والموت أكثر من ذلك لمن حمل السلاح وبلغه النّــــداء والأجــل معا هناك في بلد الشّـــــهداء ألقى الزّعيــم خطابه الشّهيــــر يسعى إلى تحقيق الأمل أمل الحريّـــــة وعدم الخضوع بدافـــع الأنفة والضّمير والعرق النّفيــــس يدعو كل من حق عليه الصيّـــام أن يحمل السّلاح وعدم التّخلّـــف عن الواجب الوطني ليقفــوا جنبــا إلى جنب مع الإخــــوة الأشقّــــاء , وذلك ما كان فالكـــلّ يحمل على عاتقــه حمل المسؤولية الكبيرة للدّافع الدّيني واللّسان عربي .
لم يتخلّف أيّ منهم عن سربـــه وبادر الكلّ على متن الطائرات يهلّلـــون ويكبّرون ابتغاء السّبيليـــن النصر أو الشّهـــادة ذاك كان حال الطّبيب يحي الذي كان ضابطا في المستشفى العسكري في شرق البــــلاد .
لم يتوارى عن المشاركة في ما تنصّــــه مبادئــــه وتقّدســـــه أصوله كان ينوي القيام بدور مثالي كونـــــه طبيب وضابـــط لكن الظّروف لم تساعـــده ولم يسعفه الحظ في القيام بكل هذا لأنّ المرض حال بينـــــه وبين ذلك فقرّر الانسحاب وفي جوفــه الكثير من الحسرات .
صوت صفير القطـــــار تهكّــم الناس وتذمّرهم جــوّ رهيب يخنـــق الأنفـــاس حرارة الصّيــــف وكذا انخلاع القلـــوب من حرب محتومة هناك في حصن بابليون بالقرب من ميترو الأنفــاق كان الطبيب يحي في طريقه إلى النّيــــل ليأخذ استراحة ممّا هو فيه من الآلام كـان قـــــويّ البنيــــة تبدو عليه صفات البطوليــــّة ورباطـــة الجأش وكان عبوس الوجه إلى حـــــــد ما وبينما هو في انتظار القطار داهمت قّوات الجـــيش المكان وبدؤوا بالطّبيب وكأنّــه كان مستهدفا من قِبـــَلِهم إلاّ أنّه قاومهم بشدة حتى نالوا منه , أخـــرج من بذلته الخضراء المزركشـــــة الكثيـــــر من الأوراق وقدّمها لهم رآها أحد الضّباط قرأها بتمعــــّن ثم رمى بها في الأرض تأخذها الرّياح بين أرجل الواقفيـــن تمتم يحي بكلمات بذيئة بالكثيــــر من الاحتقار : ينعل جد ……ثم جــــرى وراء الأوراق التي رست عند أقـــــدام فتاة جميلــــة انحنت وقدّمت لـــــه الأوراق وهي تقول لا لا تقلق لم يحصل شيء شَكَـــرها وأراد الانصراف إلا أنّــها أرادت أن تنصفــــه بدلا من الملاييــــن الذين ظلموه وحكموا عليه حكم الجنـــدي الهارب من المعركــة ناولتــــه القليل من الخبز تسيل على أطرافه حمرة من طماطم وورقة كُتب عليها عنوانها ابتسم على غير عادته وشكرها بخجل ثم ركب القطار كان مكتظّا بالركّاب الكل يجزع الكل يغضب كلمات سوقيــــّة تترجم الكثّـير من الويلات وسط هذا الشّعب كان الطّبيــــب غير مرحّب به حتىّ في القطار ضلّ واقفــــا و الجميع يتأمل بذلتـــه الغريبة ويتمتمون مع بعضهم شيعا شيعا لم يكن مباليــــا بكل هذا فضميره لن يؤنبه يوما لأنّه كان بصدد القيام بالواجب الوطني وصل الى النّهر و ضلّ جالسا على حجر أسود مطأطئا رأسه على سلسلة ذهبيـــــّة يضعها بين صدره و بذلته يحبس الدموع وكأنّ الذّهب ليس بنفيس بقدر صاحبه .
الكثير من الأحزان غلبت هِمّــــته بعد عشرات التّجارب العبثيّة وغير المسؤولة صادف أن كانت هذه من أقسى التّجارب في حياته لفّ سيجارة تقليديــــــّة خرّب الكثير من عيـــــدان الثـّقاب ولم يحالفه الحظ حتى في أبسط الامور دار بعينيــه ليتعّرف على المكان قابله صيّاد يقتــات وبجانبـــه مهموم ينفث سمّه صوب الماء من فوق الرّوشيهات ويستأنس بزجاجـــة بيــرة وسيجارة حشيش عرف الطبيب أن المشكلة ليست مشكلتــــه وحده ضحك ودسّ ما يحوك في صدره على أمل أن ينصفـــه الزّمن وتحملـــــه الأمنيـّات من الحرية إلى التحرّر وبالرغم من كل هاتــــه المصاعب التي يواجهها الوحدة الغربى ومرض الرّبو الذي أزاحه عن واجبـــه رغما عنه كان هذا نـداء استغاثـــــة للعالم المهتريء ويرجو المساعدة من سي الهواري لعلاج أورامه المتراكمـــة لاستعادة الأمل والعيش حرّا وممارسة حياته بعيدا عن الألم الذي يلازمه ليلا نهار ويحرمه من مذاق الحياة الطبيعيــــــّة الآمنـــــة ناهيك عمّا يشكّله من هاجـــــــس يومي مؤلــــم وحزين لكل رفقائـــــه هناك في شمال إفريقيـــا بعد ان تداولت أخبـــــاره قرّر مغـــــادرة المكان دون بوصلــــة تدلـــّه عمّن يأويــــه وجد على طرف الحجارة المتراكمـــة هناك زجاجة ملفوفـــــة حملها وقرر أن تكون صيده الوافر ذهــــب مباشرة إلى بائع الفول والطّعمية إلا أنـــّه خذله هذه المرّة كغير العادة فقد رمى كل البقايا وبرّر موقفه بأنـــــّه قد نسيه ذهب الطّبيب مكتويّا بالنّـــيران الصديقة واليأس يحيطه من كل جانب لكنّ الأمل لم ينقطع حين أدخل يده في جيبــــه وجد عنوان تلك الحسناء التي دعته إلى بيتها أسرع في خطواته وهو يســــأل لم يلبث إلاّ أن وجد توصيلـــة إلى هناك مشى بين الأزقّــــــة وهو منهـــك منكسر الخاطر إلى أن وصــــل إلى صديقته في أرقى الأحيـــاء حي ”الجاردن سيتي” الذي يستــأنس بالميدان النّاصري في تاريخه والسّلطان محمد بن قلاوون في بطولاتـــه طرق الباب وأحسّ أن كل هذا محض خيال فتحت له تلك الحسناء وهي ترحّب به بطريقـــة جنونيّــــة وكأنّـــها تعرفه منذ أزمـــان دخل وهو على استحياء بسبب ملابسه الرثـــّة الملطــــّخة بدأ ضيافتـــــه بحمّام ساخــــــن وانتهىت بعشاء مثالي قرّرت صاحبتـــه المغادرة بسرعة وكأنّــها على موعد هام هــــم ّ ليخرح معها إلاّ أنـــّها رفعت صوتها وقالت إبق هنا لا سبيل لخروجك الآن دوريات الجيش في كل مكان لم يفكر في الأمركثيرا بسبب التّعــب استلقى على السّرير ينام نوما عميقا كان في أمسّ الحاجة إليه.
استيقظ صباحا على ريحة أذواق الأرقيلــــــة والموسيقى الشرقيّـــة فأحسّ أنّه في بلاد غير التي قد كان تأمــــّل الفيلا جيّدا دار في أرجائــــها ثم سكن إلى زجاجته فتحها ليجدها تحتوي على رسالة مكتوبــــة باللّغة اللاّتينية بدأ في قراءتها بالرغم من الأحرف الغيــــر واضحة وبينما هو غارق في ترجمته دخلت عليه الفتاة السّاحــــرة ”جولييت” المومس التي عاشت معظم حياتها بين أحضان الرّجال في خضم الأزمات والتحديّات طامعة في أن يخيط لها القدر بنطلون على مقاســــها كالذي ضاع منها مذ سنوات نظــــرت إليه تلفحه بنظرات غريبـــــة ترتدي فستانا أسود يزيدها أناقـــــة تفوح منه رائحة عطـــــر جذابة قبّلته بحرارة بقي في دهشـــة كبيـــــرة وهي تسأله عن الرّسالة أجابها رسالــــة عاشق قالت كيف قرأتها وهي باللاّتينية أجابـــــها بحزن شديد تعلّمت القليـــــل منها عندما كنت في الكليّة بدت عليها الحيرة وسألته أيضا في أي كلية درست أجابــــها بكل حقد لكل قلـــم درست في كليّة الطب حينها تيقنت كل اليقيــــــن أنّها قد وجدت البذلــــــة بأكملها وليس البنطلون فقط تجاهـــلت الأمر وتظاهرت أنّها لم تُعرْه اهتماما إلاّ بعد حلول اللّيـــل فقد جلســـت على كرسيّــــــها المتحرّك وهي تبرز مفاتنها فقد كانت ذات جسد سمباتيك ونهديــن كبيرين وأردافها بارزة ومتناسقة كان جسدها ظاهرا من ملابس نومها الشّفافـــة وأغلب صدرها عاري ترميــــــه بنظرات جامحة لم تتمالك نفسها وضحكت قائلة انت وسيم جدا انت قوي البنية لم يتمالك نفسه هو الآخر وقرّر أن يعرف ردّة فعلــها فنظراتها توحي له بأشيــــاء تشجّعـــه قرّر المحاولة لأنه لم يستطع أن يخفي رغبته اقتـــرب منها وفاجأها بقبلته السّريعة فالتفّت حوله وتركت له الأمر وهي تحاول بأناملها المرتعشة أن تبعده وهي تهمس في ضعف أنا لا أقدر على كل هذا وكأنه أول رجل يلمسها يتشبّــــث بها أكثر انفلتـــت من بين ذراعيه وهربت إلى حجرتها جلس بدوره على حافة السرير وجعلها بين ساقيـــه واقفة وهم في تقبيلها مجددا استسلمت مع آهات ناعمة ورقيقــة لبت رغبتــــــها معه ككـــــلّ الرجال نامت وهي تحدث نفسها متناقضـــة أنا قبلــت أن أعيش أكثر الحياة انحطاطا لأكْفُل نفسي هل أنا على صواب كانت تراهن بحاظـــرها على مستقبلها تخبر نفسها أن الدعّــارة مثل المخدّرات لابد منها والدقائق التي تمارس فيها الجنس هي الدقائق الأهم في الحياة لكن داخل روحها عذراء لم تفقد عذريتها مع فقدان عذرية الجسد , إنها تملك نظريّـــة خاصّة استلقت وهي تصدّق كلّ تلك الأكاذيب سكنت إلى صدره يقصّ عليها قصصه البطوليّـــة ويحدّثها عن مواجهاته إنّهم الرجال حين ينفردن بالنّــساء بدأ في روايتـــه المثيـــرة إبّان الحرب صوت الأجواق تلك القطعة الموسيقيـــة التي أدمنتـــها لقد مللتها من كثرة التّكرار حتى أصبحت لا أطيق ألحانها وذلك الكلاشنكوف الذي كنت ألمّـــعه ليل نهار لقد سأمت تربيـــته حتى بدت قوّتـــه تافهــة وعاديّــة أمّا تلك الأكلـــة الشعبيــّة التي كانت تلفّها لي أمي في منديلها فقد صارت بلا طعم وأصبحت تقتــل شهيّتي لقد قتلت شغفي بالاستهلاك فحتى تلك الرّسومات التي أهديتها لنفسي في جدران الزنزانات سئمت منّي نامت بكل طمأنينة تعي عظم الرجل الذي قد ملكت خرجــــت في الصّباح الباكر تنسج الكثيـــــــر من الأكاذيب لزوجها الطّاعن في السّن يزورها في كلّ أسبوع في شقّتــــه في ”باب زويلــة ”هربا من زوجته العجـــــــوز قصد الإنجاب مرّت الأيّام والأسابيع وجولييت بين طبيب مريض وملياردير يبحث عن وريث وفي ليلــة رأس السّنة اختارت الطّبيب وعلى أنغــــام الموسيقى تبادلا الهدايا وكانت ليلــــــة مثمرة فبعد شهرين عرفت أنّها حامل أحسّت بذنب كبير واعترتها حيرة شديدة بين تقديـــمه هديّــة لزوجها العجــــوز أم تقتلع الشّجــــرة الفاسدة من جذورها وكان الخيــار الثاني قرارها بدون تفكيـــــر قبل ذلك عادت إلى يحي الأسبيرين المسكّن لآلامها تشكوه همّها وخطأها عاتبها كثيرا على فعلتها ثم راح يردد بأعلى صوته ذاك ابني لا جدال أجبـــرها على البقاء في الفيلا لمـــــــّدة طويلــــة في تلك الايّـــام كانت الحرب قد انجلت وبدأت القيادة في تكريــــم الجنود والضّباط الأجانب الذين قد أبلوا بلاءا حسنا في الحرب ذهب مسرعا إلى سيناء في أمل أن ينتشلـــــه القدر مما قد زجّه فيـــــه وهناك سمع أحد القادة العسكريين بجنب الرئيس ينادي باسمه ليسلّمــــه وسام نجمــــة سيناء الذي يُقدّم للجنود البواسل حمـــل وسامـــه وهرع مسرعا على أمل اصطحاب عشيقتــــه ووريثه إلاّ أن الأمـــر كان قد انتهى فقـــد رمت بنفسها من أعلى الفيــــلا اقترب من الشّرطــــة وسيّارة الإسعاف والممرّضين يلملمون الأشلاء عاد مع خيباته المتتاليــــّة ركب في الطائرة الحربية على كرسي معلـــقّ يقصد بلد المليون والنصف مليون شهيد ليجد سي الهواري في انتظـــــــاره الذي لم يخذلـــــه .
التفاعلات: شنوف نادية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...