هاتفت لمى من صالون الاستوديو لأخبرها أنني فرغت من تسجيل الحلقة . كانت أسيل ما تزال معي . سألتني ماذا لدي . قلت لها "لا شيء أنتظر صديقتي لنذ هب لتناول الغداء" قالت:
- يسرني أن أدعوكما لتناول الغداء ، وسأكون شاكرة لو وافقتم .
- تشكري . لا أظن أن لمى ستوافق .
- لماذا؟
- لأنها كريمة جدا !
- وهل هذه مسألة تدعوها لأن ترفض دعوتي ؟
- هي لن ترفضها ، ستوافق شريطة أن تدفع هي ثمن الغداء !
ضحكت أسيل وهي تردد:
- أنبل وأجمل ضيوف يمكن أن يتخيلهم المرء.
لم يعرف محمود حينه ما إذا كانت أسيل القمر آنسة أم سيدة فسألها :
- عفوا لم أعرف بعد إن كانت محاورتي الجميلة آنسة أم سيدة ؟
- أشكرك أستاذ . أنا آنسة ، وأحب ذلك ، ولا أعرف إن كنت سأتخذ قرارا بالزواج ذات يوم .
رن الهاتف . أجاب محمود :
- وصلت لمى . هل ننزل أم أدعوها لتتعارفا.. ومن ثم نقرر إلى أين سنذهب.
- هذا أفضل .
******
حضرت لمى . قدم محمود أسيل القمر لها .. فوجئت لمى بجمال أسيل، غير أنها لم تبد ما يشير إلى ذلك .
- ماذا تشربين . سألت أسيل .
- ممكن قهوة سادا !
- وأنا أيضا.. قال محمود وتابع :
- أسيل تدعونا لتناول الغداء ما رأيك ؟
- موافقة بشرط أن أختار أنا المطعم وما يتبع ذلك !
- ماذا تقصدين ، ثم إن الآنسة قد تدعونا إلى بيتها !
- بل إلى مطعم أستاذ محمود وللآنسة لمى أن تختار أي مطعم ، أما ما بعد ذلك فهو عليّ كداعية ..
- حسنا لن نختلف.. هتفت لمى..
رن الهاتف . نظر محمود إلى الرقم . كان مجهول الاسم . أقفل الخط دون أن يجيب .
تساءلت لمى:
- لماذا لم تجب ؟
- رقم مجهول !
- أكيد واحد يريد أن يبلغك رسالة تهديد .
- لا أعرف . ربما اكتفوا بالرأس المقطوع!
لم تكن أسيل القمر قد عرفت بالرأس المقطوع بعد .
- اوه ! رأس مقطوع ؟ ماذا تقصد ؟
- ألقوا أمام باب بيتي رأسا مقطوعا الليلة الماضية !
- يا إلهي .. أي إجرام هذا؟
ثمة إشارة لصورة على الواتس.. فتح محمود الجهاز .. كانت صورة لثلاثة رؤوس بشرية مقطوعة إلى جانب ثلاث جثث. أقفل محمود الجهاز دون أن يتكلم .
- ماذا هناك حبيبي ؟
- لا شيء حبيبتي أحد أصدقاء الفيس بوك يصبح علي بوردة !
- أشك في أنك تقول الحقيقة حبيبي ومع ذلك سأصدقك .
- لكن أنا أحب أن أعرف إذا كان الأمر يتعلق بتهديد لننقل الخبر إلى العالم مع خبر الرأس المقطوع . هتفت أسيل .
- فتح محمود الجهاز على الصورة وقدمه لأسيل .
ندت عنها شهقة رعب وهي تغمض عينيها وتضع يدها اليسرى على صدرها وتعيد الجهاز إلى محمود بيدها اليمنى وهي تهتف " يا إلهي يا إلهي "
لم تحاول لمى أن ترى الصورة واكتفت بأن يخبرها محمود بأنها جثث لقتلى ..
فكر محمود في تغيير رقم هاتفه للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر . اقترحت أسيل أن ينشر خبر عن هذه التهديدات . وافق محمود لكن بعد أن يخرجوا من المبنى حتى لا يعرف المجرمون أنه موجود فيه .
دخلت أسيل إلى استوديو الأخبار بعد أن عرفت من محمود التفاصيل المطلوبة وأخبرت محررا أن يقوم بصياغة الخبر لنشره بعد خروجهم .
****
- إلى أين تقوديننا حبيبتي ؟
- إلى منتزه الملك لقمان والملكة نور السماء !
- مجنونة ! لكن دون ملوكية وموائد ملكية ! هتف محمود وهو يضحك .
- في هذا العالم المجنون لا يليق إلا الجنون !
تساءلت أسيل :
- ما قصة الملكية هذه ؟
- قصة جنونية لمن يريد أن يهرب من جنون العالم إلى جنونه الشخصي! سنطلعك عليها في المطعم . أجابت لمى !
****
شاهد موظف الاستقبال أمام باب المنتزه السيارة وهي تدخل الساحة أمام المنتزه فعرف من فيها. سارع إلى أخبار مدير المنتزه ، الذي طلب إلى العاملين أن يصطفوا لا ستقبال محمود أبو الجدايل ومن معه.
كان المنتزه يعج بالعديد من العائلات والضيوف . فقد أصبح من أشهر المنتزهات في الأردن بعد الدعاية التي اكتسبها من زيارة محمود أبو الجدايل ولمى ، وتمثيلهما دور ملك وملكة وإقامة مائدة ملكية لهما .
رحب المدير بالضيوف أمام باب المنتزه . ودعاهم إلى الدخول. فوجئوا بالعاملين يصطفون على جانبي المدخل للترحيب بهم .. صافح محمود رئيس الندل وبعض العاملين لتجاوز الهالة التي شاء المدير رسمها لهم ، بينما اكتفت لمى بالابتسام والتحية بإشارة من يدها .
افردت لهم مائدة خاصة على شرفة تعلو شاطىء البحر، حيث كان بعض الشباب والفتيات يسبحون .
هتفت أسيل متسائلة :
- شوقتموني لمعرفة قصة الملوكية والمائدة الملكية ؟
- أخبريها يا لمى !
- يحب محمود أحيانا أن يخرج من العالم الواقعي الكريه ليعيش في عالمه الأدبي المتخيل، ومن أحب الشخصيات له شخصية الملك لقمان وشخصية أخرى لأديب يحيله الله إلى ابن له ، وهما شخصيتان ابتدعهما في عملين أدبيين له . وحين جئنا لتناول الغداء هنا أحببت أن أخرجه من أجواء الواقع إلى عالم خياله ، فخاطبته على أنه الملك لقمان ، سرّ محمود للمسألة فراح يخاطبني على أنني مليكته نور السماء .. وبناء عليه طلبت مائدة ملكية مهولة . تنبه العمال إلى أننا نتخاطب كملك وملكة فاحتاروا في أمرنا ، ولم يجدوا مفرا من مخاطبتنا كملك وملكة.
- أمر مدهش فعلا .. اجعلاني وصيفة شرف للملكة إذا قررتما أن تعيشا الحالة ثانية !
- ماذا تأمرون جلالتكم ؟ هتف رئيس الندل وهو يقف إلى جانب محمود .
ضحك محمود وهو يجيب :
- لا ملوكية هذا اليوم ولا موائد ملكية !
- تأمر أستاذ محمود !
- أظن أننا سنبدأ بكأس من البيرة وسنرى فيما بعد ماذا سنأكل !
وافقت الآنستان على الطلب .
- أمر مؤسف أنني لن أعيش حال وصيفة الشرف دون غداء ملوكي!
- بل أنت ملكة شرف دون ملوكية ! هتف محمود مازحا!
- أنا بغار حبيبي! ولا أريد ملكة ثانية معي تنافسني عليك!
ضم محمود لمى :
- تسلم لي الغيورة على شيخوختي!
فيما أسيل تضحك وهي تهتف " خلص بلا ملكية استاذ محمود"
حضرت البيرة ... شربوا نخب لقائهم .. ألقى محمود نظرة على البحر وكاد أن يسرح مع ذكرياته فيه لولا أن أسيل سألت :
- استاذ محمود هل يمكن أن نتحاور خارج الحوارات الرسمية المصورة؟
- طبعا ممكن ، لكن لا تزجي بالأديان في الحوار!
- لكن هذا الكلام ليس للنشر!
- أظن أنك كإعلامية قد تنشريه ذات يوم .
- لكني قرات لك بعض الكتابات في نقد الأديان التي قد تكون من المحرمات !
- صحيح .. في بدايات كتاباتي كنت مهووسا بنقد الأديان المختلفة .. حتى المتصوفة لم يسلموا من نقدي كابن عربي مثلا.
- ونقدك للتوراة ، ألم تقرأها قراءة نقدية في مؤلف من عشرة أجزاء.
- بلى التوراة وغيرها أيضا كتبت الكثير.
- أكثرما أعجبني من هذه الأجزاء ، قراءة سفر التكوين وسفر أيوب . لكني أحب الآن أن أسألك حول مسألة أخرى تقلقني .
- ما هي ؟
- أكيد عن الله واستنادا إلى حوارنا وما قرأت لك !
- اسألي!
- هل لك أن توضح لي أكثر لماذا أراد الخالق أن يتجسد في الوجود وفي الانسان بشكل خاص مع أنه مجرد طاقة أو عقل طاقي أو طاقوي حسب تعبيرك في بعض كتاباتك، بغض النظر إن كان إلها أو لم يكن؟
(حضر رئيس الندل لتسجيل طلب الغداء.. اتفقوا على شواء منوع ومقبلات مختلفة)
شرع محمود في إجابة أسيل :
- تصوري لو أن الخالق كعقل طاقوي ظل كامنا إلى الأبد ولم ينبعث ويتمظهر ويشرع في التجسد.. لما كان هناك وجود، ولما تمكن الخالق كعقل رؤية نفسه في أجسام وأشكال وكائنات مختلفة . وبالتالي لفقد أي معنى لوجوده . لذلك ظل يعمل بدأب إلى أن توصل لخلق الانسان بعد مليارات السنين ، ليرى نفسه على الوجه الذي سيبلغ به كمالا ما ، قد يرضى عنه أكثر . تطرقت في بعض مقالاتي عن وجود الخالق المشروط بوجود خلق . فدون خلق لا نعرف إن كان هناك خالق . ودون خالق لا يمكن أن يكون هناك خلق. ودون لغة لا يمكن أن نقدم رؤية وفهما وفلسفة للوجود وللخالق نفسه .
- ماذا لو كان الخالق غير ما عرفته المعتقدات والفلسفات، كالطبيعة مثلا ؟
- بعض الفلسفات المادية وبعض الفهم العلماني تطرق إلى الخلق الطبيعي الذي يتم بفعل الطبيعة نفسها، لكن هذا الفهم لم يجب عما إذا كانت الطبيعة تملك عقلا يتم به الخلق ، وعلى هذا القدر من التنظيم ، الذي لولاه لانهار الكون. الوقوف على الاعتقاد بأن الخلق طبيعي وعشوائي حسب بعض المجتهدين، دون معرفة من أين جاءت الطبيعة، وكيف وبماذا تتم عملية الخلق فيها، مسألة خاطئة . يمكن أن تكون العشوائية قد مرت بمرحلة ما أو مراحل من عملية الخلق لكنها لم تبق عشوائية ، وهذا العشوائية يمكن أنها كانت تجارب للعقل الخالق الساري في ذرات. من هنا ندرك لماذا استمرت عملية الخلق مليارات السنين. لو كانت عملية الخلق تتم بتنفيذ فوري لما أخذت أكثر من بضع سنين أو حتى أيام، حسب الخلق التوراتي الذي حدث من أقل من ستة آلاف عام ، وتم في ستة أيام فقط ، ليستريح الله في اليوم السابع، ويظل مستريحا إلى يومنا!
- ابتسمت أسيل دون أن تعلق. وتابعت متسائلة :
- ألم يكن لهذا العقل جسم وشكل ؟
- كان مجرد طاقة غير طقمادية جوهرها العقل والحكمة، ليس لها شكل ، ولا يمكن أن ترى إلا بتحولها وتمظهرها في كائن مادي، وكانت وراء كل من المكان والزمان والصفات ، لذلك اعتبر بعض الفلاسفة وجودها وجودا إلهياً أوجد نفسه من عدم. وهو في الحقيقة لم يكن كذلك، وإن كان أقرب إلى العدم من وجهة نظري، كونه فوق التصور . وقد اعتبرت هذه الحالة حالة هيولى بدئية كامنة .. وتوقعت أن كمونها دام لمليارات السنين ، إلى أن اكتمل تصورها المبدئي للخلق، فانبثقت بإظهار نفسها إلى الوجود ، لتصبح طاقة كونية، في محاولة لرؤية نفسها من حالة التصورالعقلية المتخيلة ، إلى حالة مبدئية من التجسد، دامت في تطور لمليارات السنين، وما تزال، إلى أن بلغت أرقى تجسد لها في الانسان ، الذي شكل حالة أولية لطموحها دون أن يكون ما توصلت إليه ذروة الطموح، فالعقل الخالق، أو الطاقة الخالقة لم تتوقف عن اشغال الخيال لايجاد تصور أرقى للوجود الانساني يمكن تنفيذه. لأنه أولا وأخيرا وجودها نفسه .
هذه الفكرة اعتمدها بعض المتصوفة كابن عربي، لكنه قدمها برؤية مختلفة، كون الالوهة أرادت أن ترى نفسها ، فتجلت في الوجود، دون أن يكون التجلي هي ، فأبقى على الألوهة منزهة عن الوجود . كما أن التجلي قد تم وانتهى الأمر، وأن عملية الخلق اكتملت . وهذا ما لا أعتقد به .. عملية الخلق ما تزال في بداياتها بل وقلت أنها ما تزال تحبو، وأن غاياتها لم تتحقق بعد .
- يبدو لي أستاذ محمود أن حوارنا سيكون صعبا على المشاهد .
- بالعكس! فلسفتي ليست معقدة على الاطلاق ! ربما لأنني لست معقدأً إلى حد يصعب فهمي ! طبعا الانسان العادي قد لا يهتم بالأمر، فهو حوار يخص المهتمين وليس للعامة.
- هل يمكن اعتبار الوجود بالنسبة إلى الخالق، كاللوحة بالنسبة للفنان ؟
- لكن ليس أي لوحة وليس أي فنان . نحن مع الخالق أمام لوحة كونية حيّة لا يحدها شكل ولا حجم ولا لون ، فهي تحاكي المطلق في كل شيئ. بينما لوحة الفنان محدودة في كل شيء.
والأصعب من ذلك أن لوحة الفنان رسمت من مواد متوفرة للفنان ، بينما لوحة الخالق كانت مجرد صورة مبدئية في عقل الخالق كان ينبغي عليه أن يوفر لها المواد الضرورية للخلق، لذلك استغرق رسمها مليارات السنين ولم تنته بعد .
- يا إلهي لا أستطيع تصور ذلك !
- بل تستطيعين . فأنت لا تفعلين شيئا قبل أن تفكري.
- مشكلتنا أننا لا نشعر أننا نفكرقبل أن نقدم على عمل ما . فلو لم نفكر في الأكل لما كنا هنا اليوم !
- هذه مشكلة بسيطة أمامنا ، فما بالك بمن يريد أن يخلق وجودا من مجرد فكرة ، لا تستند إلى وجود مادي لتحقيقها . مجرد حقل طاقوي مضغوط لا يمكن رؤيته بالعين المجردة !
- هنا يتوقف عقلي أمام ما هو أكبر من قدرته على الاستيعاب!
- بل ومن قدرة العقل البشري الذي لم يعرف الحقيقة أو ما هو أقرب إليها حتى يومنا
اكتظت المائدة بالشواء والسلطات والمقبلات ..
- هيا إلى الطعام . ولنترك الحوار إلى حينه . هتف محمود .
*****
- يسرني أن أدعوكما لتناول الغداء ، وسأكون شاكرة لو وافقتم .
- تشكري . لا أظن أن لمى ستوافق .
- لماذا؟
- لأنها كريمة جدا !
- وهل هذه مسألة تدعوها لأن ترفض دعوتي ؟
- هي لن ترفضها ، ستوافق شريطة أن تدفع هي ثمن الغداء !
ضحكت أسيل وهي تردد:
- أنبل وأجمل ضيوف يمكن أن يتخيلهم المرء.
لم يعرف محمود حينه ما إذا كانت أسيل القمر آنسة أم سيدة فسألها :
- عفوا لم أعرف بعد إن كانت محاورتي الجميلة آنسة أم سيدة ؟
- أشكرك أستاذ . أنا آنسة ، وأحب ذلك ، ولا أعرف إن كنت سأتخذ قرارا بالزواج ذات يوم .
رن الهاتف . أجاب محمود :
- وصلت لمى . هل ننزل أم أدعوها لتتعارفا.. ومن ثم نقرر إلى أين سنذهب.
- هذا أفضل .
******
حضرت لمى . قدم محمود أسيل القمر لها .. فوجئت لمى بجمال أسيل، غير أنها لم تبد ما يشير إلى ذلك .
- ماذا تشربين . سألت أسيل .
- ممكن قهوة سادا !
- وأنا أيضا.. قال محمود وتابع :
- أسيل تدعونا لتناول الغداء ما رأيك ؟
- موافقة بشرط أن أختار أنا المطعم وما يتبع ذلك !
- ماذا تقصدين ، ثم إن الآنسة قد تدعونا إلى بيتها !
- بل إلى مطعم أستاذ محمود وللآنسة لمى أن تختار أي مطعم ، أما ما بعد ذلك فهو عليّ كداعية ..
- حسنا لن نختلف.. هتفت لمى..
رن الهاتف . نظر محمود إلى الرقم . كان مجهول الاسم . أقفل الخط دون أن يجيب .
تساءلت لمى:
- لماذا لم تجب ؟
- رقم مجهول !
- أكيد واحد يريد أن يبلغك رسالة تهديد .
- لا أعرف . ربما اكتفوا بالرأس المقطوع!
لم تكن أسيل القمر قد عرفت بالرأس المقطوع بعد .
- اوه ! رأس مقطوع ؟ ماذا تقصد ؟
- ألقوا أمام باب بيتي رأسا مقطوعا الليلة الماضية !
- يا إلهي .. أي إجرام هذا؟
ثمة إشارة لصورة على الواتس.. فتح محمود الجهاز .. كانت صورة لثلاثة رؤوس بشرية مقطوعة إلى جانب ثلاث جثث. أقفل محمود الجهاز دون أن يتكلم .
- ماذا هناك حبيبي ؟
- لا شيء حبيبتي أحد أصدقاء الفيس بوك يصبح علي بوردة !
- أشك في أنك تقول الحقيقة حبيبي ومع ذلك سأصدقك .
- لكن أنا أحب أن أعرف إذا كان الأمر يتعلق بتهديد لننقل الخبر إلى العالم مع خبر الرأس المقطوع . هتفت أسيل .
- فتح محمود الجهاز على الصورة وقدمه لأسيل .
ندت عنها شهقة رعب وهي تغمض عينيها وتضع يدها اليسرى على صدرها وتعيد الجهاز إلى محمود بيدها اليمنى وهي تهتف " يا إلهي يا إلهي "
لم تحاول لمى أن ترى الصورة واكتفت بأن يخبرها محمود بأنها جثث لقتلى ..
فكر محمود في تغيير رقم هاتفه للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر . اقترحت أسيل أن ينشر خبر عن هذه التهديدات . وافق محمود لكن بعد أن يخرجوا من المبنى حتى لا يعرف المجرمون أنه موجود فيه .
دخلت أسيل إلى استوديو الأخبار بعد أن عرفت من محمود التفاصيل المطلوبة وأخبرت محررا أن يقوم بصياغة الخبر لنشره بعد خروجهم .
****
- إلى أين تقوديننا حبيبتي ؟
- إلى منتزه الملك لقمان والملكة نور السماء !
- مجنونة ! لكن دون ملوكية وموائد ملكية ! هتف محمود وهو يضحك .
- في هذا العالم المجنون لا يليق إلا الجنون !
تساءلت أسيل :
- ما قصة الملكية هذه ؟
- قصة جنونية لمن يريد أن يهرب من جنون العالم إلى جنونه الشخصي! سنطلعك عليها في المطعم . أجابت لمى !
****
شاهد موظف الاستقبال أمام باب المنتزه السيارة وهي تدخل الساحة أمام المنتزه فعرف من فيها. سارع إلى أخبار مدير المنتزه ، الذي طلب إلى العاملين أن يصطفوا لا ستقبال محمود أبو الجدايل ومن معه.
كان المنتزه يعج بالعديد من العائلات والضيوف . فقد أصبح من أشهر المنتزهات في الأردن بعد الدعاية التي اكتسبها من زيارة محمود أبو الجدايل ولمى ، وتمثيلهما دور ملك وملكة وإقامة مائدة ملكية لهما .
رحب المدير بالضيوف أمام باب المنتزه . ودعاهم إلى الدخول. فوجئوا بالعاملين يصطفون على جانبي المدخل للترحيب بهم .. صافح محمود رئيس الندل وبعض العاملين لتجاوز الهالة التي شاء المدير رسمها لهم ، بينما اكتفت لمى بالابتسام والتحية بإشارة من يدها .
افردت لهم مائدة خاصة على شرفة تعلو شاطىء البحر، حيث كان بعض الشباب والفتيات يسبحون .
هتفت أسيل متسائلة :
- شوقتموني لمعرفة قصة الملوكية والمائدة الملكية ؟
- أخبريها يا لمى !
- يحب محمود أحيانا أن يخرج من العالم الواقعي الكريه ليعيش في عالمه الأدبي المتخيل، ومن أحب الشخصيات له شخصية الملك لقمان وشخصية أخرى لأديب يحيله الله إلى ابن له ، وهما شخصيتان ابتدعهما في عملين أدبيين له . وحين جئنا لتناول الغداء هنا أحببت أن أخرجه من أجواء الواقع إلى عالم خياله ، فخاطبته على أنه الملك لقمان ، سرّ محمود للمسألة فراح يخاطبني على أنني مليكته نور السماء .. وبناء عليه طلبت مائدة ملكية مهولة . تنبه العمال إلى أننا نتخاطب كملك وملكة فاحتاروا في أمرنا ، ولم يجدوا مفرا من مخاطبتنا كملك وملكة.
- أمر مدهش فعلا .. اجعلاني وصيفة شرف للملكة إذا قررتما أن تعيشا الحالة ثانية !
- ماذا تأمرون جلالتكم ؟ هتف رئيس الندل وهو يقف إلى جانب محمود .
ضحك محمود وهو يجيب :
- لا ملوكية هذا اليوم ولا موائد ملكية !
- تأمر أستاذ محمود !
- أظن أننا سنبدأ بكأس من البيرة وسنرى فيما بعد ماذا سنأكل !
وافقت الآنستان على الطلب .
- أمر مؤسف أنني لن أعيش حال وصيفة الشرف دون غداء ملوكي!
- بل أنت ملكة شرف دون ملوكية ! هتف محمود مازحا!
- أنا بغار حبيبي! ولا أريد ملكة ثانية معي تنافسني عليك!
ضم محمود لمى :
- تسلم لي الغيورة على شيخوختي!
فيما أسيل تضحك وهي تهتف " خلص بلا ملكية استاذ محمود"
حضرت البيرة ... شربوا نخب لقائهم .. ألقى محمود نظرة على البحر وكاد أن يسرح مع ذكرياته فيه لولا أن أسيل سألت :
- استاذ محمود هل يمكن أن نتحاور خارج الحوارات الرسمية المصورة؟
- طبعا ممكن ، لكن لا تزجي بالأديان في الحوار!
- لكن هذا الكلام ليس للنشر!
- أظن أنك كإعلامية قد تنشريه ذات يوم .
- لكني قرات لك بعض الكتابات في نقد الأديان التي قد تكون من المحرمات !
- صحيح .. في بدايات كتاباتي كنت مهووسا بنقد الأديان المختلفة .. حتى المتصوفة لم يسلموا من نقدي كابن عربي مثلا.
- ونقدك للتوراة ، ألم تقرأها قراءة نقدية في مؤلف من عشرة أجزاء.
- بلى التوراة وغيرها أيضا كتبت الكثير.
- أكثرما أعجبني من هذه الأجزاء ، قراءة سفر التكوين وسفر أيوب . لكني أحب الآن أن أسألك حول مسألة أخرى تقلقني .
- ما هي ؟
- أكيد عن الله واستنادا إلى حوارنا وما قرأت لك !
- اسألي!
- هل لك أن توضح لي أكثر لماذا أراد الخالق أن يتجسد في الوجود وفي الانسان بشكل خاص مع أنه مجرد طاقة أو عقل طاقي أو طاقوي حسب تعبيرك في بعض كتاباتك، بغض النظر إن كان إلها أو لم يكن؟
(حضر رئيس الندل لتسجيل طلب الغداء.. اتفقوا على شواء منوع ومقبلات مختلفة)
شرع محمود في إجابة أسيل :
- تصوري لو أن الخالق كعقل طاقوي ظل كامنا إلى الأبد ولم ينبعث ويتمظهر ويشرع في التجسد.. لما كان هناك وجود، ولما تمكن الخالق كعقل رؤية نفسه في أجسام وأشكال وكائنات مختلفة . وبالتالي لفقد أي معنى لوجوده . لذلك ظل يعمل بدأب إلى أن توصل لخلق الانسان بعد مليارات السنين ، ليرى نفسه على الوجه الذي سيبلغ به كمالا ما ، قد يرضى عنه أكثر . تطرقت في بعض مقالاتي عن وجود الخالق المشروط بوجود خلق . فدون خلق لا نعرف إن كان هناك خالق . ودون خالق لا يمكن أن يكون هناك خلق. ودون لغة لا يمكن أن نقدم رؤية وفهما وفلسفة للوجود وللخالق نفسه .
- ماذا لو كان الخالق غير ما عرفته المعتقدات والفلسفات، كالطبيعة مثلا ؟
- بعض الفلسفات المادية وبعض الفهم العلماني تطرق إلى الخلق الطبيعي الذي يتم بفعل الطبيعة نفسها، لكن هذا الفهم لم يجب عما إذا كانت الطبيعة تملك عقلا يتم به الخلق ، وعلى هذا القدر من التنظيم ، الذي لولاه لانهار الكون. الوقوف على الاعتقاد بأن الخلق طبيعي وعشوائي حسب بعض المجتهدين، دون معرفة من أين جاءت الطبيعة، وكيف وبماذا تتم عملية الخلق فيها، مسألة خاطئة . يمكن أن تكون العشوائية قد مرت بمرحلة ما أو مراحل من عملية الخلق لكنها لم تبق عشوائية ، وهذا العشوائية يمكن أنها كانت تجارب للعقل الخالق الساري في ذرات. من هنا ندرك لماذا استمرت عملية الخلق مليارات السنين. لو كانت عملية الخلق تتم بتنفيذ فوري لما أخذت أكثر من بضع سنين أو حتى أيام، حسب الخلق التوراتي الذي حدث من أقل من ستة آلاف عام ، وتم في ستة أيام فقط ، ليستريح الله في اليوم السابع، ويظل مستريحا إلى يومنا!
- ابتسمت أسيل دون أن تعلق. وتابعت متسائلة :
- ألم يكن لهذا العقل جسم وشكل ؟
- كان مجرد طاقة غير طقمادية جوهرها العقل والحكمة، ليس لها شكل ، ولا يمكن أن ترى إلا بتحولها وتمظهرها في كائن مادي، وكانت وراء كل من المكان والزمان والصفات ، لذلك اعتبر بعض الفلاسفة وجودها وجودا إلهياً أوجد نفسه من عدم. وهو في الحقيقة لم يكن كذلك، وإن كان أقرب إلى العدم من وجهة نظري، كونه فوق التصور . وقد اعتبرت هذه الحالة حالة هيولى بدئية كامنة .. وتوقعت أن كمونها دام لمليارات السنين ، إلى أن اكتمل تصورها المبدئي للخلق، فانبثقت بإظهار نفسها إلى الوجود ، لتصبح طاقة كونية، في محاولة لرؤية نفسها من حالة التصورالعقلية المتخيلة ، إلى حالة مبدئية من التجسد، دامت في تطور لمليارات السنين، وما تزال، إلى أن بلغت أرقى تجسد لها في الانسان ، الذي شكل حالة أولية لطموحها دون أن يكون ما توصلت إليه ذروة الطموح، فالعقل الخالق، أو الطاقة الخالقة لم تتوقف عن اشغال الخيال لايجاد تصور أرقى للوجود الانساني يمكن تنفيذه. لأنه أولا وأخيرا وجودها نفسه .
هذه الفكرة اعتمدها بعض المتصوفة كابن عربي، لكنه قدمها برؤية مختلفة، كون الالوهة أرادت أن ترى نفسها ، فتجلت في الوجود، دون أن يكون التجلي هي ، فأبقى على الألوهة منزهة عن الوجود . كما أن التجلي قد تم وانتهى الأمر، وأن عملية الخلق اكتملت . وهذا ما لا أعتقد به .. عملية الخلق ما تزال في بداياتها بل وقلت أنها ما تزال تحبو، وأن غاياتها لم تتحقق بعد .
- يبدو لي أستاذ محمود أن حوارنا سيكون صعبا على المشاهد .
- بالعكس! فلسفتي ليست معقدة على الاطلاق ! ربما لأنني لست معقدأً إلى حد يصعب فهمي ! طبعا الانسان العادي قد لا يهتم بالأمر، فهو حوار يخص المهتمين وليس للعامة.
- هل يمكن اعتبار الوجود بالنسبة إلى الخالق، كاللوحة بالنسبة للفنان ؟
- لكن ليس أي لوحة وليس أي فنان . نحن مع الخالق أمام لوحة كونية حيّة لا يحدها شكل ولا حجم ولا لون ، فهي تحاكي المطلق في كل شيئ. بينما لوحة الفنان محدودة في كل شيء.
والأصعب من ذلك أن لوحة الفنان رسمت من مواد متوفرة للفنان ، بينما لوحة الخالق كانت مجرد صورة مبدئية في عقل الخالق كان ينبغي عليه أن يوفر لها المواد الضرورية للخلق، لذلك استغرق رسمها مليارات السنين ولم تنته بعد .
- يا إلهي لا أستطيع تصور ذلك !
- بل تستطيعين . فأنت لا تفعلين شيئا قبل أن تفكري.
- مشكلتنا أننا لا نشعر أننا نفكرقبل أن نقدم على عمل ما . فلو لم نفكر في الأكل لما كنا هنا اليوم !
- هذه مشكلة بسيطة أمامنا ، فما بالك بمن يريد أن يخلق وجودا من مجرد فكرة ، لا تستند إلى وجود مادي لتحقيقها . مجرد حقل طاقوي مضغوط لا يمكن رؤيته بالعين المجردة !
- هنا يتوقف عقلي أمام ما هو أكبر من قدرته على الاستيعاب!
- بل ومن قدرة العقل البشري الذي لم يعرف الحقيقة أو ما هو أقرب إليها حتى يومنا
اكتظت المائدة بالشواء والسلطات والمقبلات ..
- هيا إلى الطعام . ولنترك الحوار إلى حينه . هتف محمود .
*****