الغزل في الشعر العربي يكاد يكون فنّاً رجاليّاً، أو يميل إلى أن يكون كذلك، وكان العاشقان اللذان يجهران بحبّهما يمنعان من الزواج، وبالتالي، قلّ أن نجد شعراً غزلياً عربياً نسائياً، ولكن في الأندلس كان الأمر مختلفاً. في الأندلس نجد أشعار تغزل للمرأة؛ فهل كان مردّ ذلك أنّ مجتمع الأندلس (من 710 إلى 1472م) تبلور كمركزٍ ثقافي مستنير، يأتي إليه الأدباء والمثقفون من كلّ مكان، جالبين معهم أدبهم وتاريخهم، ليمتزجوا ويكوّنوا معاً ثقافة متعدّد الثقافات؟ هذا ما تقترحه الدكتورة أمال موسى محمد نور، رئيسة قسم اللغة العربية بجامعة الرباط الوطني، في دراسة لها عن "الفن البلاغي في نونية ابن زيدون". أنتجت الأندلس لنا شعراً غزلياً نسائياً، استطاعت فيه الشاعرة الأندلسيّة أن تتغزّل بحبيبها علناً، لا بالغزل العفيف فقط، وإنما بالغزل الماجن أيضاً، وفي السطور التالية نلقي الضوء على بعض هؤلاء الشاعرات وقصص حبهن، وأشعارهن الغزليّة، بحسب ما تناولتها دراسة دكتوراه بعنوان "شاعرات الأندلس من عصر الإمارة إلى نهاية عصر الموحّدين"، للباحثة بجامعة الجزائر سهيلة عبريق. خَلُصَتْ عبريق إلى أن المرأة الأندلسيّة قلبت بحبّها المفاهيم المتعارف عليها، فبعد أن كانت هي الطريدة في قصص الحب، أصبحت هي المطارِدة، وكانت ولّادة بنت المستكفي أشهر من نهج هذا النهج، ومن بعدها حفصة الركونية. وأوضحت سهيلة أن تغزّل الشاعرات الأندلسيات لم يكن فقط عفيفاً، وإنما شمل الغزل الماجن أيضاً؛ فلم تبخل الشاعرة الأندلسية في غزلها على من تحب، بما يشتهيه. ومن الناحية الاجتماعيّة، جسّدت لنا لوحات الغزل النسائي الأندلسيّة، معاني الصراع الطبقي التي تحدّاها الحب، والتي تجلّت في قصتين سنذكرهما.
حفصة الركونية الأندلسية
كانت حفصة الركونية (1135-1191) أو حفصة بنت الحاج، من أعلام غرناطة، وتواترت المصادر على أنها كانت "جميلة ذات حَسَبٍ ومالِ" وهي صفات متعارف عليها بالمصادر القصد منها الدلالة على تمتع الشخصية بمعايير عصرها. كما يقال أنها كانت جيّدة الشعر سريعة البديهة، حتى وصفها بعضهم بـ"أستاذة وقتها". كانت حفصة شديدة الحب للوزير أبي جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد، الذي بادلها حباً بحب، وقد كان غزلها في بداياته متشحاً بالاحتشام، إذ قالت: سَلام يفتح عَن زهرَة الكمام وَيُنْطِقُ وُرْقَ الغُصُونْ عَلَى نَازِحٍ قَدْ ثَوَى فِي الحَشَا وَإِنْ كَانَ تُحْرَمُ مِنْهُ الجُفُونْ فَلا تَحْسَبُوا البُعْدَ يُنْسِيكُمُ فَذَلِكَ وَاللهِ مَا لَا يَكُونْ عواطف الشاعرة في هذه المقطوعة الشعرية، بدتْ وكأنها لا تخصّ أحداً، إذ تغزّلت فيها بحبيبها وهو بعيد عنها. ولكن بعد ذلك لم تعد الشاعرة العاشقة تكتفي بـ"سلام يفتح في زهره الكمام..."، حيث بدأت اللقاءات بينها وبين حبيبها، في بساتين غرناطة، كلقائهما الشهير في بستان حور مؤمل، الذي قضى فيه الحبيبان أمتع الأوقات، يتبادلان الحبّ، فلما حان وقت التفرق قال الوزير: رعى الله ليلاً لم يرح بمذمم عشية وأرانا بحور مؤمل وقد خفقت من نحو نجد أريحة إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل ترى الروض مسروراً بما قد بدا له عناق وضم وارتشاف مقبل فردّت حفصة برنّة متشائمة، خوفاً من الغيرة والحسد، وقالت: لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا ولكنه أبدى لنا الغلّ والحسد ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ولا غرّد القمري إلا لما وجد فلا تحسنن الظنّ الذي أنت أهله فما هو في كل المواطن بالرشد وعلى هذا النحو نرى أن الغزل تطوّر تطوراً في مضمونه وشكله، وأن البيئة لها أثر قوي في شكله، وأن البيئة بجميع ملابساتها كان لها أثر قوي في ذلك، فقد استعملت حفصة أدوات الطبيعة ذاتها، التي اتخذها الشاعر لتشاركه في علاقته حبيبته. ولعلّ ما يميّز هذا الحوار الشعري، أنه وليد اللحظة والتجربة، أي لم يأت بعد تكلّف وأناة. وتجدر الإشارة إلى أن خوف حفصة كان مبرراً، ذلك أن عين الأمير المولّه كانت تراقبها، فقد نافس أمير غرناطة أبو سعيد بن عثمان بن عبد المؤمن بن علي، الوزير أبا جعفر، في حبّ حفصة. ويستبدّ الشوق بحفصة فتبعث برسالة إلى حبيبها، وتذكّره أن ثغرها معين عذب، وذوائبها ظلّ وارف له، كما تجعل من نفسها "بثينة" ومن حبيبها "جميل" صاحبا قصّة الحب الأسطوريّة العربيّة... فتقول: أزورُكَ أمْ تزورُ؟ فإنّ قلبـي إلى ما تشتهي أبداً يميلُ فثغري مــوردٌ عـــذبٌ زُلال وفرعُ ذؤابتي ظِل ظليلُ وقد أملتُ أن تظما وتُضحي إذا وافى إليك بي المقيلُ فعجلْ بالجوابِ فما جميلٌ إباؤُك عن بثينةَ يا جميلُ وبهذه الأبيات تمثل حفصة الريادة في هذا اللون، الذي أضحت فيه المرأة عاشقة لا معشوقة، متلهفة لا متلهّف عليها، مقدمة ألواناً من الإغراء لحبيبها، موضّحة أنها ستقبله بثغرها، وهما مستتران خلف ضفائرها. وردّ بن سعيد على حبيبته فقال: أجلكم ما دام بي نهضة عن أن تزوروا إن وجدت السبيل ما الروض زواراً ولكنما يزوره هب النسيم العليل وتفقد حفصة كبريائها مرة أخرى، إذ كانت في حبها في منتهى الرعونة، قولاً، وسلوكاً، فبدلاً من أن تكون طريدة النظرات والرغبات، تقصد بنفسها منتجع الحبيب، وتقول له: زائرٌ قَـد أتى بجيـد الغــزال مطلع تحتَ جنحه للهلالِ بلحاظ مِن سحر بابلَ صيغت ورضابٍ يفوقُ بنت الدوالي يفضح الورد ما حوى منه خدّ وكذا الثغر فاضحٌ للآلي ما ترى في دخولهِ بعد إذنٍ أو تراه لعارض في اِنفصالِ أَتراكم بإذنهِ مســعـفـيـهِ أَم لَكم شاغل من الأشغالِ ويتجلّى في المقطوعة تغزّل الشاعرة في نفسها، وهو لون من ألوان الغزل النسوي الأندلسي، إذ تصف حفصة هنا جيدها وحسن لحاظها، وجمال خدها، وعذوبة ريقها، وفي هذا دعوة صريحة لوصال الحبيب. فالحبّ الحقيقي عند حفصة لا يقوم على الحرمان، بل هو المشاركة الفعلية المتبادلة، ولهذا كانت تغري أبا جعفر كلما أحسّت برود الحب داخله. وفي مرّة دبّت الغيرة في قلبها، بعد علمها أن أبا جعفر أعجب بجارية سوداء وأقام معها لأيام، فكتبت إليه حفصة: يا أظرف الناس قبل حال أوقعه وسطه القدر عشقت سوداء مثل ليل بدائع الحسن قد ستر لا يظهر البشر في دجاها كلا ولا يبصر الخفر بالله قل لي وأنت أدرى بكل من هام في الصور من الذي قبّل روضاً لا نور فيه ولا زهر فردّ عليها أبو جعفر معتذراً، ومبرراً ذلك بخلل اعتراه بسبب غياب حفصة عنه: عدمت صبحي فاسودّ عشقي وانعكس الفكر والنظر إن لم تلح يا نعيم روحي فكيف لا تفسد الفكر وكان حظ أبو جعفر أفضل من حظ ابن زيدون الذي عشق ولّادة بنت المستكفي – سيأتي ذكرهما لاحقاً-، إذ قبلت حفصة اعتذاره. ورغم مسامحته، إلا أن حفصة ظلّت تغار على أبي جعفر، إذ قالت له: أغــار عليـــك مـن رقيبـي ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبّأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني وتتغزّل حفصة في أبي جعفر تغزلاً يفوق تغزّل الرجال في النساء، إذ تقول: ثنائي على تلك الثنايا لأنني أقول على علم وأنطق عن خبر وأنصفها لا أكــذب الله إنني رشفت بها ريقاً أرق من الخمر وإن كانت معاني حفصة غير جديدة على ألسنة الشعراء، إلا أنها جديدة على ألسنة "الشاعرات"، حيث تهجم على معاني العشق والهيام، مصرّحة غير ملمّحة ولا مكنية؛ فلم نعهد قبلها مثلاً شاعرة، تتغزّل في ثنايا حبيبها، أو ريقه. وعلا صوت حفصة بحب أبي جعفر بعد مماته، إذ تفوّق عليه غريمه في حب حفصة وقتله، فقالت حفصة: ولو لم يكن نجا لــمــا كـان ناظري وقد غبت عنه مظلما بعد نوره سلام على تلك المحاسن من شج تناءت بنعماه وطيب سروره وقالت أيضا في نغمة حزينة، وكأنها تريد من الناس أن يسألوا عن حال حبيبها، الذي خلف بقلبها الخفقان وبعينيها الدموع، فقالت: سلوا البارق الخفاق والليل ساكن أظل بأحبابي يذكرني وهنا لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة وأمطرني منهل عارضه الجفنا هذه الأبيات قد يكون مكانها "الرثاء" ولكنها تحمل في طياتها نفس النسيب الخاص بالغزل، حيث مزجت حفصة بين الحب والطبيعة، وهي تشير إلى مآثر من تحب، فشكلت معانيها غزلاً رثائياً.
ولّادة بنت المستكفي
كانت ولّادة بنت المستكفي (٩٩٤م – ١٠٩١)، ابنة الخليفة الأموي المستكفي بالله من أعلام الغزل النسائي الأندلسي. ارتبطت بالوزير والشاعر ابن زيدون، وكانت جميلة فوصفها ابن زيدون قائلاً: صاغها الله من فضّة خالصة، وتوّج رأسها بشعر كالتبر اصفرارا، وهي بديعة مهوى القرط، ممشوقة القوام، بارزة الصدر، دقيقة الخصر، رقيقة البشرة، فاتنة العينين. بحسب ما ينقل حمدان حجاجي في كتابه "محاضرات في الشعر الأندلسي". ويقول عنها ابن بسام الشنتريني في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة": "وكانت من نساء أهل زمانها واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، و حسن منظور ومخبر، وحلاوة مورد و مصدر". ويضيف: "كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يغشوا أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها". ولولّادة باعٌ في الغزل إذ تقول لابن زيدون: ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي فإنّي رأيت الليل أكتم للسرِّ وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ وفي البيتين جرأة، فولادة ستذهب إلى ابن زيدون في بيته، ليلاً، في أوّل لقاء بينهما، وستذهب له كعاشقة لا كشاعرة شهيرة. كانت ولًادة وابن زيدون يقضيان أوقات عامرة بالرومانسية، وفي نهاية موعد من هذه المواعيد، قالت في ليونة ورقة: ودّعَ الصبــرَ محــبٌّ ودّعَـــكْ ذائعٌ منْ سرّهِ ما استودَعَكْ يقرَعُ السّنَّ على أنْ لمْ يكنْ زَادَ في تِلْكَ الخُطَى، إذْ شَيّعَكْ يا أخــا البـدرِ سنـــاءً وســناً حفظَ اللهُ زماناً أطلعَكْ إنْ يَطُلْ، بَعْدَكَ، لَيلي، فلَكَمْ كنت أشكُو قِصَرَ اللّيْلِ مَعَكْ ويبدو أن الشوق طال بينها وبين حبيبها في مرة، فقالت: أ لا هَل لـنـا مـن بعـد هذا التفرّق سبيلٌ فيشكو كلّ صبّ بما لقي وَقد كنت أوقات التزاورِ في الشتا أبيتُ على جمرٍ من الشوق محرقِ فَكيفَ وقد أمسيت في حال قطعة لَقد عجّل المقدور ما كنت أتّقي تمرُّ الليالي لا أرى البين ينقضي وَلا الصبر من رقّ التشوّق معتقي سَقى اللَه أرضاً قد غدت لك منزلاً بكلّ سكوب هاطل الوبل مغدقِ وقد تخطّت ولّادة بهذه الأبيات مفهوماً قديماً، إذ عادة يكون التوسّل من الرجل والتذلّل من شيم المرأة، ولكن ولّادة تجاوزت ذلك، وتوسّلت من حبيبها فرصة تتيح لها أن تشكو همّها، إذ لم تعد تقوى على الصبر. وتبعد ولادة عن نفسها شبهة معاشرة ابن زيدون جنسياً، فتقول: إني وإن نظـر الأنــام لبهجتــي كظباء مكة صيدهنّ حرام يحسبن من لين الكلام فواحشاً ويصدّهن عن الخنا الإسلام إلا أن خلافاً وقع بين ولادة وابن زيدون، فرفضت أن تعود ولّادة إليه، رغم توسّلاته لها، والتي أدّت إلى كتابته لقصيدته الشهيرة النونية.
نزهون بنت القلاعي الغرناطية
هي ليست أميرة كولّادة وأيضاً ليست بجارية، بل كانت من الأناس العاديين، عاشت بغرناطة في القرن الثاني عشر الميلادي (عصر المرابطين)،ووصفها ابن الأبار، في كتابه "التكملة لكتاب الصلة"، بأنها: "كانت صاحبة فكاهة ودعابة وكانت ماجنة". أحبها الوزير أبو بكر بن سعيد وشغف بمراسلتها، وقاده غرامه وغيرته من كثرة صداقاتها بالرجال،إلى أن يكتب لها معاتباً: يا من له ألف خلّ من عاشق وصديق أراك خليت للناس منزلاً في الطريق فردّت عليه بشعر يؤكّد مكانته في قلبها: حـللت أَبــا بكــرٍ محلّاً منـعـتــهُ سِواك وهل غير الحبيبِ له صدري وَإِن كان لي كم من حبيبٍ فإنّما يقدّم أهل الحقّ حبّ أبي بكرِ ويتجلى إبداع نزهون هنا اتخاذها التاريخ الإسلامي مجالاً لتصوير شعورها، عن تخييرها لحبيبها عن الجميع، فلفظة أبي بكر تنصرف إلى صاحب النبي محمد المفضّل، وفقا للاعتقاد السنّي، كما تنصرف إلى الوزير في نفس الوقت. وتزداد جرأة نزهون عندما تتغنّى بمباهج الحبيب، وتصف ليلة قضتها معه، مستخدمة أسلوب التصغير للتحبيب وإبراز الجمال، حيث غفلت عين الرقيب وسهت.. فتقول: لله درُّ اللّيالي ما أُحيسنها وما أُحيسن منها ليلةَ الأحَدِ لو كُنت حاضرنا فيها وقدْ غفلتْ عينُ الرقيب فلم تنظرْ إلى أحدِ أبصرتَ شمس الضُّحى في ساعدَيْ قمرٍ بل ريمَ خازمةٍ في ساعدَيْ أسدٍ ويبدو في المقطوعة أن نزهون تحكي هنا حكاية وقعت، وتصف فيها ليلة الأحد كأجمل ليلة، لأنها جمعتها بمن تحب، ويبرز أيضاً في الشعر حب نزهون للطبيعة (الأسد، القمر، الشمس، الريم)، كما هو شائع في الشعر الأندلسي.
أم الكرام وأنس القلوب حب يتجاوز الطبقات الاجتماعية
في الأندلس كسر الحب الحواجز الاجتماعيّة، ونقل لنا ذلك الشعر الغزلي، وهنا نذكر قصتين سارتا في مسارين متضادين، إحداهما لشاعرة ذات سلطة عشقت فتى عادياً، والأخرى لجارية (شاعرة) عشقت وزيراً وعشقها.
قصتا عشق أم الكرام وأنس القلوب حب يتجاوز الطبقات الاجتماعية
القصّة الأولى لأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، (القرن الحادي عشر الميلادي) ابنة ملك ألمرية. قال عنها الأديب أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في المغرب: كانت تنظم الشعر، وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار، وقالت فيه الموشحات، بحسب كتاب "نزهة الجلساء في أشعار النساء" للسيوطي.وكان والدها و٣ من إخوتها شعراء مشهورين. ومن شعرها في السمار، ذاك الفتى الذي لم يكن يليق بها اجتماعياً، كونها أميرة وهو من العامّة، بل من العاملين لدى والدها: يا معشرَ النَاسِ أَلاَ فاعجبوا مِمَّا جَنَتْهُ لوعَةُ الحُبِّ لولاهُ لم ينزلَّ ببدرِ الدُجَى من أفْقِهِ العلوي للتُّرْبِ حَسْبي بمن أهواهُ لو أنَّه فارَقَني تابَعَهُ قلبي نلاحظ هنا أن الأميرة لم تقو على ممانعة الحب، ولم تصبر على اللوعة والاشتياق له، فقلبها رفض كل شيء إلا الحب، ولعل هذا ما دفعها للقول: أَلا ليتَ شِعري هل سبيل لخلوةٍ ينزّه عنها سمع كلّ مراقبِ وَيا عجباً أشتاقُ خـلوة مــن غدا وَمثواهُ ما بين الحشا والترائبِ تصرخ أم الكرام طالبة الخلوة بحبيبها. ومن يكون هذا الحبيب؟ إنه فتى من فتيان قصر أبيها! وبقدر ما يحمل البيتان من جرأة بقدر ما يحملان أيضاً صناعة فنيّة دقيقة، فقد كان لأم الكرام يد طولى في فن التوشيح، بحسب كتاب "الشعر النسوي في الأندلس" لمحمد المنتصر الريسوزي. ومن الاتجاه الآخر، وفي القرن العاشر الميلادي، عشقت الجارية أنس القلوب جارية المنصور بن أبي عامر (الحاكم الفعلي للخلافة الأموية في عهد هشام المؤيد بالله)، الوزير الكاتب بن أبي المغيرة بن حزم. ونذكر كيف كانت هي والوزير يبعثان برسائل الحبّ الشعريّة أمام المنصور، بطريقة مشفّرة، يفهمانها هما فقط؛ حيث تغنّت أنس القلوب في حضرة الوزير وبن أبي عامر، وقالت: قدمَ الليلُ عند سيرِ النهار وَبدا البدرُ مثل نصفِ سِوَارِ فكأنّ النهار صـفحــة خــدّ وكأنَّ الظلام خطّ عذارِ وكـأنَّ الكؤوسَ جــامد مــاء وكأنّ المدام ذائب نارِ نَظري قد جنى عليَّ ذنوباً كيف ممّا جنَته عيني اِعتذاري يا لقومي تعجّبوا من غزالٍ جائر في محبّتي وهو جاري ليت لو كان لي إليهِ سبيل فأقضّي من حبّه أوطاري فلما أكملت غناءها السلس المتأثر بالطبيعة ردّ عليها ابن المغيرة، وكان قد تفاعل معها: كيف كيفَ الوصولُ للأقمار بين سُمْر القنا وبيضِ الشفارِ؟ لو علمنا بأن حبَّكَ حـقٌّ لطلبنا الحياة مِنكَ بثـارِ وإذا ما الكرامُ همُّوا بشيءٍ خاطروا بالنفوسِ في الأخطارِ ويكشف هذا الحوار الغزلي عن اختلاف طبيعة الغزل لديهما؛ فأنس القلوب بعثت رسالتها الغزلية رمزاً – ربما خوفاً من سيّدها – وظلّ ما تتمنّاه مرتبطاً بأداة التمني "ليت": ليت لو كان إليه سبيل فأقضي من حبه أوطاري. أما لوحة ابن المغيرة الغزلية، فارتبطت بالشجاعة والإقدام في سبيلها، حتى ولو لم يسمها، وقد يرجع اختلاف أسلوبهما إلى الظروف الاجتماعيّة المحيطة بكل منهما، فهي جارية وهو وزير. شاعرات أخريات المقام هنا يتسع لذكر الكثيرات، ومنهن حفصة بنت حمدون الجحارية (القرن العاشر الميلادي)، التي قالت: يا وحشَتي لأحبّتي يا وحشة مُتماديَه يا لـيـلة ودّعـتـهـم يا ليلة هيَ ما هيَه وفي البيتين لا تكتفي حفصة بالغزل العفيف، بل تتذكّر لقائها بحبيبها ليلاً، وتتشوّق لهذا الحبيب، حتى وإن تحدثت بصيغة الجمع عن هذا الحبيب. ونذكر أيضاً أم العلاء بنت يوسف الحجازية (القرن الحادي عشر الميلادي)، التي وجدناها تتغزّل بحياء المرأة ودلالها، فتقول: كلُّ ما يصدرُ منكــــــــم حسنُ وبعلــــــياكم تحلى الزمنُ تعطف العينُ على منظركـــــم وبذكراكم تلـــــــــذّ الأذنُ من يعش من دونكم في عمره فهو في نيل الأماني يُغبنُ ونلحظ في الأبيات حياء يجعل من تغزّل الشاعرة في حبيبها شيئاً أقرب إلى الحنان والإعجاب والمديح، وتؤكّد في بيتها الأول أن عين الرضا لا ترى العيب في الحبيب، وأن عين السخط تبدي كل المساوئ. وتقول أيضاً: لوْ لا مُنَافَرَةُ المُدامَةِ للصَّبَابةِ والغِنَا لَعَكَفْتُ بَيْنَ كُؤُوسِهَا وجَمَعْتُ أَسْبَابَ المُنَى ونستشفّ من البيتين شخصيّة أم علاء الهادئة، فقد منعتها المروءة من أن تكون مستهترة في حبها، أو جريئة في علاقتها، بل إنها منعتها من حضور مجالس اللهو والطرب. أما زينب بنت فروة المرية (القرن الحادي عشر الميلادي) فتقول وقد أحبّت ابن عمها المغيرة: يا أيــها الـراكبُ الغـادي لطيّـتـه عرّج أُنبّئك عن بعض الذي أجدُ ما عالج الناسُ من وجد تضمّنهم إلا ووجدي بهم فوق الذي وجدوا حسبي رضاه وأني في مسرّته وودّه آخر الأيام أجتهدُ وهنا نجد أن زينب اتخذت من الوقوف على الأطلال وذكر الرحلة، كتقنية شعرية، وسيلة لتجسيد مدى عنائها من حبيبها الذي تجتهد في كسب رضاه وودّه، وتعتدّ بأن وجدها به فوق كل وجد.
حفصة الركونية الأندلسية
كانت حفصة الركونية (1135-1191) أو حفصة بنت الحاج، من أعلام غرناطة، وتواترت المصادر على أنها كانت "جميلة ذات حَسَبٍ ومالِ" وهي صفات متعارف عليها بالمصادر القصد منها الدلالة على تمتع الشخصية بمعايير عصرها. كما يقال أنها كانت جيّدة الشعر سريعة البديهة، حتى وصفها بعضهم بـ"أستاذة وقتها". كانت حفصة شديدة الحب للوزير أبي جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد، الذي بادلها حباً بحب، وقد كان غزلها في بداياته متشحاً بالاحتشام، إذ قالت: سَلام يفتح عَن زهرَة الكمام وَيُنْطِقُ وُرْقَ الغُصُونْ عَلَى نَازِحٍ قَدْ ثَوَى فِي الحَشَا وَإِنْ كَانَ تُحْرَمُ مِنْهُ الجُفُونْ فَلا تَحْسَبُوا البُعْدَ يُنْسِيكُمُ فَذَلِكَ وَاللهِ مَا لَا يَكُونْ عواطف الشاعرة في هذه المقطوعة الشعرية، بدتْ وكأنها لا تخصّ أحداً، إذ تغزّلت فيها بحبيبها وهو بعيد عنها. ولكن بعد ذلك لم تعد الشاعرة العاشقة تكتفي بـ"سلام يفتح في زهره الكمام..."، حيث بدأت اللقاءات بينها وبين حبيبها، في بساتين غرناطة، كلقائهما الشهير في بستان حور مؤمل، الذي قضى فيه الحبيبان أمتع الأوقات، يتبادلان الحبّ، فلما حان وقت التفرق قال الوزير: رعى الله ليلاً لم يرح بمذمم عشية وأرانا بحور مؤمل وقد خفقت من نحو نجد أريحة إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل ترى الروض مسروراً بما قد بدا له عناق وضم وارتشاف مقبل فردّت حفصة برنّة متشائمة، خوفاً من الغيرة والحسد، وقالت: لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا ولكنه أبدى لنا الغلّ والحسد ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ولا غرّد القمري إلا لما وجد فلا تحسنن الظنّ الذي أنت أهله فما هو في كل المواطن بالرشد وعلى هذا النحو نرى أن الغزل تطوّر تطوراً في مضمونه وشكله، وأن البيئة لها أثر قوي في شكله، وأن البيئة بجميع ملابساتها كان لها أثر قوي في ذلك، فقد استعملت حفصة أدوات الطبيعة ذاتها، التي اتخذها الشاعر لتشاركه في علاقته حبيبته. ولعلّ ما يميّز هذا الحوار الشعري، أنه وليد اللحظة والتجربة، أي لم يأت بعد تكلّف وأناة. وتجدر الإشارة إلى أن خوف حفصة كان مبرراً، ذلك أن عين الأمير المولّه كانت تراقبها، فقد نافس أمير غرناطة أبو سعيد بن عثمان بن عبد المؤمن بن علي، الوزير أبا جعفر، في حبّ حفصة. ويستبدّ الشوق بحفصة فتبعث برسالة إلى حبيبها، وتذكّره أن ثغرها معين عذب، وذوائبها ظلّ وارف له، كما تجعل من نفسها "بثينة" ومن حبيبها "جميل" صاحبا قصّة الحب الأسطوريّة العربيّة... فتقول: أزورُكَ أمْ تزورُ؟ فإنّ قلبـي إلى ما تشتهي أبداً يميلُ فثغري مــوردٌ عـــذبٌ زُلال وفرعُ ذؤابتي ظِل ظليلُ وقد أملتُ أن تظما وتُضحي إذا وافى إليك بي المقيلُ فعجلْ بالجوابِ فما جميلٌ إباؤُك عن بثينةَ يا جميلُ وبهذه الأبيات تمثل حفصة الريادة في هذا اللون، الذي أضحت فيه المرأة عاشقة لا معشوقة، متلهفة لا متلهّف عليها، مقدمة ألواناً من الإغراء لحبيبها، موضّحة أنها ستقبله بثغرها، وهما مستتران خلف ضفائرها. وردّ بن سعيد على حبيبته فقال: أجلكم ما دام بي نهضة عن أن تزوروا إن وجدت السبيل ما الروض زواراً ولكنما يزوره هب النسيم العليل وتفقد حفصة كبريائها مرة أخرى، إذ كانت في حبها في منتهى الرعونة، قولاً، وسلوكاً، فبدلاً من أن تكون طريدة النظرات والرغبات، تقصد بنفسها منتجع الحبيب، وتقول له: زائرٌ قَـد أتى بجيـد الغــزال مطلع تحتَ جنحه للهلالِ بلحاظ مِن سحر بابلَ صيغت ورضابٍ يفوقُ بنت الدوالي يفضح الورد ما حوى منه خدّ وكذا الثغر فاضحٌ للآلي ما ترى في دخولهِ بعد إذنٍ أو تراه لعارض في اِنفصالِ أَتراكم بإذنهِ مســعـفـيـهِ أَم لَكم شاغل من الأشغالِ ويتجلّى في المقطوعة تغزّل الشاعرة في نفسها، وهو لون من ألوان الغزل النسوي الأندلسي، إذ تصف حفصة هنا جيدها وحسن لحاظها، وجمال خدها، وعذوبة ريقها، وفي هذا دعوة صريحة لوصال الحبيب. فالحبّ الحقيقي عند حفصة لا يقوم على الحرمان، بل هو المشاركة الفعلية المتبادلة، ولهذا كانت تغري أبا جعفر كلما أحسّت برود الحب داخله. وفي مرّة دبّت الغيرة في قلبها، بعد علمها أن أبا جعفر أعجب بجارية سوداء وأقام معها لأيام، فكتبت إليه حفصة: يا أظرف الناس قبل حال أوقعه وسطه القدر عشقت سوداء مثل ليل بدائع الحسن قد ستر لا يظهر البشر في دجاها كلا ولا يبصر الخفر بالله قل لي وأنت أدرى بكل من هام في الصور من الذي قبّل روضاً لا نور فيه ولا زهر فردّ عليها أبو جعفر معتذراً، ومبرراً ذلك بخلل اعتراه بسبب غياب حفصة عنه: عدمت صبحي فاسودّ عشقي وانعكس الفكر والنظر إن لم تلح يا نعيم روحي فكيف لا تفسد الفكر وكان حظ أبو جعفر أفضل من حظ ابن زيدون الذي عشق ولّادة بنت المستكفي – سيأتي ذكرهما لاحقاً-، إذ قبلت حفصة اعتذاره. ورغم مسامحته، إلا أن حفصة ظلّت تغار على أبي جعفر، إذ قالت له: أغــار عليـــك مـن رقيبـي ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبّأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني وتتغزّل حفصة في أبي جعفر تغزلاً يفوق تغزّل الرجال في النساء، إذ تقول: ثنائي على تلك الثنايا لأنني أقول على علم وأنطق عن خبر وأنصفها لا أكــذب الله إنني رشفت بها ريقاً أرق من الخمر وإن كانت معاني حفصة غير جديدة على ألسنة الشعراء، إلا أنها جديدة على ألسنة "الشاعرات"، حيث تهجم على معاني العشق والهيام، مصرّحة غير ملمّحة ولا مكنية؛ فلم نعهد قبلها مثلاً شاعرة، تتغزّل في ثنايا حبيبها، أو ريقه. وعلا صوت حفصة بحب أبي جعفر بعد مماته، إذ تفوّق عليه غريمه في حب حفصة وقتله، فقالت حفصة: ولو لم يكن نجا لــمــا كـان ناظري وقد غبت عنه مظلما بعد نوره سلام على تلك المحاسن من شج تناءت بنعماه وطيب سروره وقالت أيضا في نغمة حزينة، وكأنها تريد من الناس أن يسألوا عن حال حبيبها، الذي خلف بقلبها الخفقان وبعينيها الدموع، فقالت: سلوا البارق الخفاق والليل ساكن أظل بأحبابي يذكرني وهنا لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة وأمطرني منهل عارضه الجفنا هذه الأبيات قد يكون مكانها "الرثاء" ولكنها تحمل في طياتها نفس النسيب الخاص بالغزل، حيث مزجت حفصة بين الحب والطبيعة، وهي تشير إلى مآثر من تحب، فشكلت معانيها غزلاً رثائياً.
ولّادة بنت المستكفي
كانت ولّادة بنت المستكفي (٩٩٤م – ١٠٩١)، ابنة الخليفة الأموي المستكفي بالله من أعلام الغزل النسائي الأندلسي. ارتبطت بالوزير والشاعر ابن زيدون، وكانت جميلة فوصفها ابن زيدون قائلاً: صاغها الله من فضّة خالصة، وتوّج رأسها بشعر كالتبر اصفرارا، وهي بديعة مهوى القرط، ممشوقة القوام، بارزة الصدر، دقيقة الخصر، رقيقة البشرة، فاتنة العينين. بحسب ما ينقل حمدان حجاجي في كتابه "محاضرات في الشعر الأندلسي". ويقول عنها ابن بسام الشنتريني في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة": "وكانت من نساء أهل زمانها واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، و حسن منظور ومخبر، وحلاوة مورد و مصدر". ويضيف: "كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يغشوا أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها". ولولّادة باعٌ في الغزل إذ تقول لابن زيدون: ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي فإنّي رأيت الليل أكتم للسرِّ وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ وفي البيتين جرأة، فولادة ستذهب إلى ابن زيدون في بيته، ليلاً، في أوّل لقاء بينهما، وستذهب له كعاشقة لا كشاعرة شهيرة. كانت ولًادة وابن زيدون يقضيان أوقات عامرة بالرومانسية، وفي نهاية موعد من هذه المواعيد، قالت في ليونة ورقة: ودّعَ الصبــرَ محــبٌّ ودّعَـــكْ ذائعٌ منْ سرّهِ ما استودَعَكْ يقرَعُ السّنَّ على أنْ لمْ يكنْ زَادَ في تِلْكَ الخُطَى، إذْ شَيّعَكْ يا أخــا البـدرِ سنـــاءً وســناً حفظَ اللهُ زماناً أطلعَكْ إنْ يَطُلْ، بَعْدَكَ، لَيلي، فلَكَمْ كنت أشكُو قِصَرَ اللّيْلِ مَعَكْ ويبدو أن الشوق طال بينها وبين حبيبها في مرة، فقالت: أ لا هَل لـنـا مـن بعـد هذا التفرّق سبيلٌ فيشكو كلّ صبّ بما لقي وَقد كنت أوقات التزاورِ في الشتا أبيتُ على جمرٍ من الشوق محرقِ فَكيفَ وقد أمسيت في حال قطعة لَقد عجّل المقدور ما كنت أتّقي تمرُّ الليالي لا أرى البين ينقضي وَلا الصبر من رقّ التشوّق معتقي سَقى اللَه أرضاً قد غدت لك منزلاً بكلّ سكوب هاطل الوبل مغدقِ وقد تخطّت ولّادة بهذه الأبيات مفهوماً قديماً، إذ عادة يكون التوسّل من الرجل والتذلّل من شيم المرأة، ولكن ولّادة تجاوزت ذلك، وتوسّلت من حبيبها فرصة تتيح لها أن تشكو همّها، إذ لم تعد تقوى على الصبر. وتبعد ولادة عن نفسها شبهة معاشرة ابن زيدون جنسياً، فتقول: إني وإن نظـر الأنــام لبهجتــي كظباء مكة صيدهنّ حرام يحسبن من لين الكلام فواحشاً ويصدّهن عن الخنا الإسلام إلا أن خلافاً وقع بين ولادة وابن زيدون، فرفضت أن تعود ولّادة إليه، رغم توسّلاته لها، والتي أدّت إلى كتابته لقصيدته الشهيرة النونية.
نزهون بنت القلاعي الغرناطية
هي ليست أميرة كولّادة وأيضاً ليست بجارية، بل كانت من الأناس العاديين، عاشت بغرناطة في القرن الثاني عشر الميلادي (عصر المرابطين)،ووصفها ابن الأبار، في كتابه "التكملة لكتاب الصلة"، بأنها: "كانت صاحبة فكاهة ودعابة وكانت ماجنة". أحبها الوزير أبو بكر بن سعيد وشغف بمراسلتها، وقاده غرامه وغيرته من كثرة صداقاتها بالرجال،إلى أن يكتب لها معاتباً: يا من له ألف خلّ من عاشق وصديق أراك خليت للناس منزلاً في الطريق فردّت عليه بشعر يؤكّد مكانته في قلبها: حـللت أَبــا بكــرٍ محلّاً منـعـتــهُ سِواك وهل غير الحبيبِ له صدري وَإِن كان لي كم من حبيبٍ فإنّما يقدّم أهل الحقّ حبّ أبي بكرِ ويتجلى إبداع نزهون هنا اتخاذها التاريخ الإسلامي مجالاً لتصوير شعورها، عن تخييرها لحبيبها عن الجميع، فلفظة أبي بكر تنصرف إلى صاحب النبي محمد المفضّل، وفقا للاعتقاد السنّي، كما تنصرف إلى الوزير في نفس الوقت. وتزداد جرأة نزهون عندما تتغنّى بمباهج الحبيب، وتصف ليلة قضتها معه، مستخدمة أسلوب التصغير للتحبيب وإبراز الجمال، حيث غفلت عين الرقيب وسهت.. فتقول: لله درُّ اللّيالي ما أُحيسنها وما أُحيسن منها ليلةَ الأحَدِ لو كُنت حاضرنا فيها وقدْ غفلتْ عينُ الرقيب فلم تنظرْ إلى أحدِ أبصرتَ شمس الضُّحى في ساعدَيْ قمرٍ بل ريمَ خازمةٍ في ساعدَيْ أسدٍ ويبدو في المقطوعة أن نزهون تحكي هنا حكاية وقعت، وتصف فيها ليلة الأحد كأجمل ليلة، لأنها جمعتها بمن تحب، ويبرز أيضاً في الشعر حب نزهون للطبيعة (الأسد، القمر، الشمس، الريم)، كما هو شائع في الشعر الأندلسي.
أم الكرام وأنس القلوب حب يتجاوز الطبقات الاجتماعية
في الأندلس كسر الحب الحواجز الاجتماعيّة، ونقل لنا ذلك الشعر الغزلي، وهنا نذكر قصتين سارتا في مسارين متضادين، إحداهما لشاعرة ذات سلطة عشقت فتى عادياً، والأخرى لجارية (شاعرة) عشقت وزيراً وعشقها.
قصتا عشق أم الكرام وأنس القلوب حب يتجاوز الطبقات الاجتماعية
القصّة الأولى لأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، (القرن الحادي عشر الميلادي) ابنة ملك ألمرية. قال عنها الأديب أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في المغرب: كانت تنظم الشعر، وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار، وقالت فيه الموشحات، بحسب كتاب "نزهة الجلساء في أشعار النساء" للسيوطي.وكان والدها و٣ من إخوتها شعراء مشهورين. ومن شعرها في السمار، ذاك الفتى الذي لم يكن يليق بها اجتماعياً، كونها أميرة وهو من العامّة، بل من العاملين لدى والدها: يا معشرَ النَاسِ أَلاَ فاعجبوا مِمَّا جَنَتْهُ لوعَةُ الحُبِّ لولاهُ لم ينزلَّ ببدرِ الدُجَى من أفْقِهِ العلوي للتُّرْبِ حَسْبي بمن أهواهُ لو أنَّه فارَقَني تابَعَهُ قلبي نلاحظ هنا أن الأميرة لم تقو على ممانعة الحب، ولم تصبر على اللوعة والاشتياق له، فقلبها رفض كل شيء إلا الحب، ولعل هذا ما دفعها للقول: أَلا ليتَ شِعري هل سبيل لخلوةٍ ينزّه عنها سمع كلّ مراقبِ وَيا عجباً أشتاقُ خـلوة مــن غدا وَمثواهُ ما بين الحشا والترائبِ تصرخ أم الكرام طالبة الخلوة بحبيبها. ومن يكون هذا الحبيب؟ إنه فتى من فتيان قصر أبيها! وبقدر ما يحمل البيتان من جرأة بقدر ما يحملان أيضاً صناعة فنيّة دقيقة، فقد كان لأم الكرام يد طولى في فن التوشيح، بحسب كتاب "الشعر النسوي في الأندلس" لمحمد المنتصر الريسوزي. ومن الاتجاه الآخر، وفي القرن العاشر الميلادي، عشقت الجارية أنس القلوب جارية المنصور بن أبي عامر (الحاكم الفعلي للخلافة الأموية في عهد هشام المؤيد بالله)، الوزير الكاتب بن أبي المغيرة بن حزم. ونذكر كيف كانت هي والوزير يبعثان برسائل الحبّ الشعريّة أمام المنصور، بطريقة مشفّرة، يفهمانها هما فقط؛ حيث تغنّت أنس القلوب في حضرة الوزير وبن أبي عامر، وقالت: قدمَ الليلُ عند سيرِ النهار وَبدا البدرُ مثل نصفِ سِوَارِ فكأنّ النهار صـفحــة خــدّ وكأنَّ الظلام خطّ عذارِ وكـأنَّ الكؤوسَ جــامد مــاء وكأنّ المدام ذائب نارِ نَظري قد جنى عليَّ ذنوباً كيف ممّا جنَته عيني اِعتذاري يا لقومي تعجّبوا من غزالٍ جائر في محبّتي وهو جاري ليت لو كان لي إليهِ سبيل فأقضّي من حبّه أوطاري فلما أكملت غناءها السلس المتأثر بالطبيعة ردّ عليها ابن المغيرة، وكان قد تفاعل معها: كيف كيفَ الوصولُ للأقمار بين سُمْر القنا وبيضِ الشفارِ؟ لو علمنا بأن حبَّكَ حـقٌّ لطلبنا الحياة مِنكَ بثـارِ وإذا ما الكرامُ همُّوا بشيءٍ خاطروا بالنفوسِ في الأخطارِ ويكشف هذا الحوار الغزلي عن اختلاف طبيعة الغزل لديهما؛ فأنس القلوب بعثت رسالتها الغزلية رمزاً – ربما خوفاً من سيّدها – وظلّ ما تتمنّاه مرتبطاً بأداة التمني "ليت": ليت لو كان إليه سبيل فأقضي من حبه أوطاري. أما لوحة ابن المغيرة الغزلية، فارتبطت بالشجاعة والإقدام في سبيلها، حتى ولو لم يسمها، وقد يرجع اختلاف أسلوبهما إلى الظروف الاجتماعيّة المحيطة بكل منهما، فهي جارية وهو وزير. شاعرات أخريات المقام هنا يتسع لذكر الكثيرات، ومنهن حفصة بنت حمدون الجحارية (القرن العاشر الميلادي)، التي قالت: يا وحشَتي لأحبّتي يا وحشة مُتماديَه يا لـيـلة ودّعـتـهـم يا ليلة هيَ ما هيَه وفي البيتين لا تكتفي حفصة بالغزل العفيف، بل تتذكّر لقائها بحبيبها ليلاً، وتتشوّق لهذا الحبيب، حتى وإن تحدثت بصيغة الجمع عن هذا الحبيب. ونذكر أيضاً أم العلاء بنت يوسف الحجازية (القرن الحادي عشر الميلادي)، التي وجدناها تتغزّل بحياء المرأة ودلالها، فتقول: كلُّ ما يصدرُ منكــــــــم حسنُ وبعلــــــياكم تحلى الزمنُ تعطف العينُ على منظركـــــم وبذكراكم تلـــــــــذّ الأذنُ من يعش من دونكم في عمره فهو في نيل الأماني يُغبنُ ونلحظ في الأبيات حياء يجعل من تغزّل الشاعرة في حبيبها شيئاً أقرب إلى الحنان والإعجاب والمديح، وتؤكّد في بيتها الأول أن عين الرضا لا ترى العيب في الحبيب، وأن عين السخط تبدي كل المساوئ. وتقول أيضاً: لوْ لا مُنَافَرَةُ المُدامَةِ للصَّبَابةِ والغِنَا لَعَكَفْتُ بَيْنَ كُؤُوسِهَا وجَمَعْتُ أَسْبَابَ المُنَى ونستشفّ من البيتين شخصيّة أم علاء الهادئة، فقد منعتها المروءة من أن تكون مستهترة في حبها، أو جريئة في علاقتها، بل إنها منعتها من حضور مجالس اللهو والطرب. أما زينب بنت فروة المرية (القرن الحادي عشر الميلادي) فتقول وقد أحبّت ابن عمها المغيرة: يا أيــها الـراكبُ الغـادي لطيّـتـه عرّج أُنبّئك عن بعض الذي أجدُ ما عالج الناسُ من وجد تضمّنهم إلا ووجدي بهم فوق الذي وجدوا حسبي رضاه وأني في مسرّته وودّه آخر الأيام أجتهدُ وهنا نجد أن زينب اتخذت من الوقوف على الأطلال وذكر الرحلة، كتقنية شعرية، وسيلة لتجسيد مدى عنائها من حبيبها الذي تجتهد في كسب رضاه وودّه، وتعتدّ بأن وجدها به فوق كل وجد.