سمير غالي - إمام المعدان.. قصة قصيرة ..

وكأن الله احكم قبضتيه على مخانق الهور ، فلم تنفذ منذ سبعة ايام الى الناس نسمة.
نفقت الاسماك ، ونتقت الآلآف الباقية منها تلوذ بظلال الصرائف ، وماء الهور ماعاد يشربه حتى البقر . لقد نزلت الشمس حتى كادت تذيب القار الذي طليت به سفن الصيادين الصغيرة ، وذاب التمر ، فأمطر فوق رؤوس الناس دبساً في البساتين البعيدة ، وتساقط البرحي والقنطار تاركاً نواه معلقا في العذوق.
لم تفلح محاولات الجدة التي راحت تحشو شباك الصريفة بنبات العاقول المرشوش بالماء في اسكات الرضيع . كان وجهه قد ازرق لشدة البكاء ، وقد عجزت أمه من ان تجعله يلتقم حلمتيها النافرتين بالحليب . كذلك باءت محاولات بقية النسوة بالفشل . فلا ماء زمزم ، ولا الراية الممسوحة بقبر النبي ولاتراب الاضرحة البعيدة ولا عقد الاحجار المذخور لأكبر المصائب نفع في اسكاته.
ــ سيموت .. قالت اكبرهن ، وحملته في طبق الخوص وتوجهت به نحو السماء وأمه تنظر إليه بعيونٍ مدهوشة .
ــ يارب .. هذا ولد المسكينة . خذ الكحلاء بدلاً عنه ، وأشارت نحو بقرةٍ حلوبٍ تلوك قريباً منها ، لكن الطفل لم يكف عن البكاء ، وبدأت عيناه تبيضان ، وقد أسبل يديه ورجليه ، فشقت أمه ثوبها ونزعته ، وتلقفته من بين أياد النسوة ، وضمته إلى ثدييها فراحا ينزان حليب المرارة ، واقتحمت به الهور عارية وهي تصيح:
ــ يافحل الفحول .. يامعيد الشمس من الغروب ، أعد لي وليدي .
كانت شمس اليوم السابع من ــ طباخات الرطب تهبط خلال اعمدة دخان المواقد التي اضرمها المعدان لابعاد البعوض عن دوابهم . عندما شاهد الجميع غيمة تولد في السماء . غيمة لها شكل فارس يخب على جواده نحو الام وصغيرها ، فيمسح في طريقه فروة الهور الخضراء ، لتهتز اطراف القصب ، وتتبدد امام سنابك فرسه المهيبة اعمدة الدخان ، ويرتعش جلد الهور بنسمات باردة ، فيجفل من بين الاجمة طائر برهان احمر ، وتُطِلُّ برأسها سلحفاة ، وينق ضفدع ، وتلبط سمكة بنّي وتخور بقرة ، ولم يتلاشَ فارس الغيمة حتى تأكد من سكوت الطفل .


...........................................................................................
* البرحي والقنطار ــ اطيب انواع التمور العراقية وأترفها .. حيث انها تذوب في عذوقها وتساقط في الحر الشديد .
** طبّاخات الرطب ــ تسمية عراقية شعبية .. تطلق على سبعة ايام شديدة الحر .. تجيء في تموز .. يتحول فيها الرطب الى تمر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...