تدفقتْ في شراييني موجاتٌ من الهلع، حين أبصرتُ عينيه المسكونتين بالرعب، ووجهه المغمور بنافورة من دم، وجسمه المغطَّى بمساحة واسعة من الشحوب.. كان يتلمس طريقه بين أشجار البرتقال وقد أنهكه الإعياء.. يقتلع قدميه من لجَّة الرمل بصعوبة بالغة، ففاجأته بالوقوف أمامه، وبادرته بالسؤال:
- "عصفور!.. ابن الليل؟!"
افترتْ شفتاه ولم يحر إجابة، أومأ برأسه وهو يتهاوى مستنداً علي جذع شجرة، أسندته بساعدي قبل أن يقع، وأجلسته..
كان الصراخ المستنجد ما زال يجرح صمت الليل الكاذب، صراخ امرأة تستغيث، ورجل يزعق بصوت أجش:
- "يا خلق هوه.. أغيثوني.. جاموستي يا عالم؟".
عندما نهضتً من مرقدي عند حافة البستان، خاطفاً سلاحي الأميري، ومهرولاً أختصر الطريق بين الأشجار صوب الاستغاثة الملهوفة، خُيِّل إليَّ أنني رأيت أشباحاً تهرول خائفةً ومبتعدةً في الظلمة، رفعتُ بندقيتي في الهواء، وأطلقتُ عياراً نارياً، أخذ في طريقه كثيراً من الأوراق والأفرع، وأفزع الطيور النائمة التي راحت تتخبط بأجنحتها علي غير هُدى..
كان جالساً أمامي يلهث، والدماء ما زالتْ تنزف من وجهه الشاحب علي الرمال..
- "عصفور.. ماذا تفعل هنا؟.. ما الذي يحدث؟"
كانت الصرخات تتجاوب وتتقاطع مع صرخات أخرى من أماكن أخرى، صرخات تتنادى بالرد: إنها قادمة حالاً، صرخات تتواصل في صرخة واحدة كبرى، تهيب بكل القرية أن تخف سريعاً للنجدة..
- ما علامتك يا عصفور بهذا الصراخ؟ هل عُدت للسرقة مرَّةً أخرى؟ أكنت تخدع الكل عندما أعلنت توبتك وعودتك لفلاحة الأرض؟ سرقت من.. ومن الذي فعل بك هذا؟ كيف تمكنت من الهرب في ظلمة البستان؟..
الأسئلة تناوشني وهي تحوم حوله في الظلام، وهو قابع بعجز آلامه في الظلمة، وغضبي الأعمى يستبد إزاءه، أستطيع الآن لو أردتُ أن أصوب بندقيتي لرأسه، رصاصة بقرش صاغ واحد تخلص القرية من شروره وآثامه للأبد..
- "يموت الزمَّار وإصبعه يلعب.. أتظل لصاً حتى تموت وأنت تسرق؟"
نظر نحوي، وتحامل علي جذع الشجرة، وأشار بكفه في الظلمة، راحتْ عيناي مع إشارته، كان هناك جرمٌ ضخمٌ لحيوان بلون الليل، حيوان متوتر وعاجز بالحركة الملولة العمياء.. بغريزة الخوف من المجهول صوبتُ بندقيتي نحوه، لكن صوت عصفور لحقني:
- "جاموسة أبو إسماعيل.. خذها الله يسترك.. رجعها له".
إذن هذا هو صراخ أبو إسماعيل وزوجته، وهذه هي جاموستهم، وأنت أيَّها الجبان عدت لسرقة أهلك وناسك، كنت تخدعهم بتوبة زائفة..
اتجهتْ ماسورة البندقية تلقائياً صوب رأسه..
- "تسرق جاموسة الرجل الطيِّب الفقير يا عديم الرحمة والإنسانية؟.. رصاصة واحدة تريحنا منك.. لا من شاف ولا من درى.. ولاَّ آخذك عندهم كي يأكلوا لحمك قبل عظامك؟"
قاطعني صوته وهو يشرق بالبكاء:
- "أرجوك.. في عرضك.. بحق العيش والملح وزمالة العمر.. رجعها له".
- "عيش وملح وزمالة عمر؟!"
سمعتُ نهنهته، بكاء ندم أم خيبة أمل؟..
هل رثيت لحاله الصعبة، والدماء التي تسيل علي وجهه، إذا ما عرفوا أنه اللص، وضربه أحدهم ضربةً، سيروح فيها للموت..
تركته بجوار الشجرة، وأنا أعلق بندقيتي بكتفي، مشيت علي أطراف أصابعي حتى لا تجفل البهيمة الخرساء، أو تتخبط في عمى الليل بالأشجار..، وأفلحتُ بالإمساك بمقودها، سحبتها بهدوء بين مسالك الأشجار، وأنا أفكِّر في هذا العصفور اللعين..
- "عيش وملح وزمالة عمر؟!"..
عصافير النيل الدورية تسعى لأرزاقها في وضح النهار، وتحت عين الشمس، وتأوي لأعشاشها في الليل..، وعصفور الليل هذا يسعى لضحاياه تحت جنح الظلام يسلبهم شقاء أيامهم، ولا يترك لهم سوى الحسرات..
الصراخ لا ينقطع.. وأنا أسعى جاهداً للخروج إليهم..
- "عيش وملح وزمالة عمر؟!"..
صحيح كنا طفلين لأسرتين فقيرتين، نلعب سوياً، ونتجاور سوياً علي تختة مزدوجة بالفصل المدرسي، نلهو ونلعب ونتخاصم ونتصالح ككل الأطفال، لكنني أذكر الآن أنه لم يكن ككل الأطفال، ولا أعرف متى وكيف : تمكن داء السرقة منه وسكن دماءه؟.. كنا ككل الأطفال الفقراء، نعجز عن شراء الكثير من الأشياء التي نحتاجها، نتحايل من أجل تعويضها بأية وسيلة أخرى، لكنه، أبداً، لم يكن يهدأ له بال، حتى يحصل علي ما يريد عنوة أو بالسرقة، أشياء صغيرة لكنها كانت آنذاك كبيرة بالنسبة لنا : كراسة.. قلم.. برَّاية.. ألوان شمعية..، أتعجب، كيف لبدنه النحيل أن يتحمل كل هذا العقاب المتتالي من المعلمين مرة أو أبيه مرة أخرى أو أخوته مرات كثيرة؟!، وأندهش، كيف به يضحك كل هذا الضحك بعد كل " علقة " ينالها؟!، حتى أن ناظر المدرسة، بعد أن ألهب بطني قدميه بالخيزرانة في طابور الصباح، وهو مكبل بساعدي العم عبد العال فراش المدرسة قال:
- "هذا واد حلُّوف.. جلده جلد حلُّوف.. لا حس ولا شعور"..
أهتدي بالأصوات الصارخة والزاعقة، والجاموسة تمضي خلفي بالبستان الواسع بوجل، والليل أعمى، حتى بانتْ معالم الدور، أناس كثيرون، كأن القرية كلها، عن بكرة أبيها، قد أحاطتْ بدار "أبو إسماعيل"، كلوبات مضاءة وكشافات منيرة، العمدة والخفراء، "شبيب" قصاص الأثر ينحني وهو يفحص الأرض الرملية باحثاً عن أثر الأظلاف عليها، ليحدد لأي الاتجاهات يمضي خلف اللصوص، عندما اقتربت من حافة البستان، رأيت " شبيب " بخبرة يُحسد عليها يعدو عدواً خفيفاً في مواجهتي صوب البستان، وعندما خرجتُ بالجاموسة وأشرت لهم بكفِّي، كانوا قد أحاطوا بي مندهشين، علتْ صيحات الفرحة، ودوَّتْ الزغاريد وتطايرتْ في سماء القرية، ورأيتُ "أبو إسماعيل" وزوجته يتعلقان بعنق الجاموسة ويبكيان غير مصدقين، والجاموسة تزوم مطمئنة بعد أن خرجتْ للنور ورأت أصحابها..، فعلاً.. لا يعرف قيمة هذا الحيوان إلاَّ فلاَّح قراري مثل "أبو إسماعيل"، فلاَّح لا يعرف إلاَّ سكة غيطه وبيته، يعرف جاموسته التي تروي وتحرث وتزحف أرضه، وتسقيه لبنها كل صبح، ويأكل من جبنها وسمنها، ويعلف نتاجها الصغير استعداداً لبيعه في المواسم الكبرى..
كنتُ شارداً عندما أحاطوني فجأة، ورفعوني علي أكتافهم، وراحوا يهتفون باسمي، ويمضون بي صوب العمدة، وأنزلوني أمامه..
- "بارك الله فيك يا بني.. هذا والله عشمنا فيك".
كان حضرة العمدة يقول لي ذلك، وهو يضمني لصدره، ويطبطب علي كتفيَّ..
والتفت للجمع المحيط بفخر، وأثنى علي شجاعتي، فلولا يقظتي ومطاردتي اللصوص وطلقات بندقيتي لكانوا لا قدَّر الله قد فروا بجاموسة المسكين..
كاد لساني يفلت من فمي، ويقول لهم : إن اللص قابع هناك تحت شجرة بالبستان.. اذهبوا إليه واسحبوه من شعره لغاية هنا وحاكموه..
لكن العمدة واصل القول، بأنه سيبلغ سعادة البيه مأمور مركز الشرطة بقصة شجاعتي، حتى يمنحني علاوة أو ترقية أو مكافأة، لأكون قدوة لزملائي الخفراء بالمركز كلّه..
أصر "أبو إسماعيل" أن يقدم لنا الشاي، حلاوة رجوع جاموسته العزيزة له، وأصررتُ أنا بعد هذا التكريم الحافل أن أقود الجاموسة حتى موضعها، وأربطها في وتدها أمام مزودها بالزريبة، هناك رأيت الثقب المبقور ببدن الجدار الطيني بالإبرة الحديدية، والتي أخرج منها اللص الجاموسة، وتعجبت كيف أخرج عصفور هذه الجاموسة الضخمة بمفرده من هذا الثقب؟، وساورتني الشكوك حول مقدرته..، وكان "أبو إسماعيل" يحكي لي كيف قلق وصحا من نومه فجأة، وكيف خرج من حجرته ليفك رغبة بوله، والهاجس الذي دعاه ليطل علي موضع الجاموسة بالزريبة، واكتشافه السرقة، ومن ثم صراخه في عز الليل..
لم يذكر أنه رأى أحداً أو اشتبك مع أحد اللصوص.. فمن الذي أصاب عصفور؟!..
عاد عصفور يركب رأسي.. كلامه عن العيش والملح والزمالة.. رجاؤه أن أرجع الجاموسة لصاحبها.. بكاؤه ونهنهته..
الليل عبر منتصفه بكثير عندما شكرت العمدة، وعندما قلت لـ "أبو إسماعيل" بتواضع:
- "أنا لا أفعل شيئاً يا عم غير الواجب.. ومالك الحلال رجع لك"
ونهضت مستأذنا للعودة لحصة حراستي.
ما أن تواريت عن أعينهم حتى قفزت للبستان، صوب الشجيرات التي تركت عندها عصفوراً، كلامه يطن بمسمعي: "عيش وملح وزمالة عمر؟! "..
خرجنا سوياً من المدرسة بعد الابتدائية، خرجتُ للفلاحة والأرض وخرج هو لعالم السرقة، كان سعيداً لتحرره من قيود المدرسة، وفشل أهله في إصلاحه، لأنه كان كثير الهروب للمدن البعيدة أو الموالد الكبيرة، يغيب بالشهور ثم يعود، يسرق ويقبض عليه، ويتعلم من اللصوص الكبار ليصير لصاً كبيراً، صار مشهوراً شهرة نجوم الكرة والفن، تباعدنا : أنا ابن النهار وهو ابن الليل، لم أكن أعتقد أن الليل يمكن أن يجمعنا في يوم ما، لكنه الليل فعلها، عندما سعى أبي رحمه الله، قبل وفاته للعمدة كي يتوسط لي للعمل خفيراً بالداخلية، ونجح مسعاه، وصرت حارساً لحصتي بالليل، وعاد عصفور يخايلني بسرقاته، لكنه، أبداً، لم يحاول السرقة من حصتي..
هل هو فعلاً : "العيش والملح وزمالة العمر؟! "..
أجفلتُ علي صوته الواهن يناديني :
- "تعال.. أنا انتظرك".
كان ينتظر مساعدتي، قلت له مشفقاً:
- ماذا فعل بك أبوك الليل وأنت ابنه المخلص؟
تمتم بصوت هامس ومعاتب:
- الله وحده يعلم
عاجلته بسؤال استنكاري :
- أمثلك يعرف الله ويخاف عقابه؟
ورفعته من تحت إبطه ومضيتُ به بين الأشجار وهو يردد :
- سامحك الله
كانت داره التي لم تعمرها امرأة قريبة من سور البستان..
ناولني المفتاح ودخلنا، علي فراشه المتواضع أشار لمصباح غازي أسرجته له، ووضعته علي إفريز النافذة، ساعدته في تنظيف جروحه وتطهيرها وتضميدها، كنت أفعل ذلك وهو يقول لي ما عصي علي فهمي..
كانوا لصوصاً من رفاقه القدامى، جاءوه وطلبوا منه مشاركتهم، لكنه رفض وحذرهم، تظاهروا بأنهم صرفوا النظر عن أمر السرقة، وغادروه، لكنه بحس اللص القديم عرف أنهم يخدعونه، لم يعرف وجهتهم، راح يبحث عنهم بأرجاء القرية حتى واجههم عند البستان بعد خروجهم من بيت " أبو إسماعيل " ومعهم الجاموسة، واشتبك معهم، وأصابوه وكادوا يقتلونه، لولا صراخ " أبو إسماعيل " وهرولتي لنجدته، والطلق الناري بين الأشجار وراء أشباحهم الفارة..
قلت له :
- الناس يعتقدون أنني البطل الذي طارد اللصوص وأعاد الجاموسة.. اعذرني.
- طبعاً أعذرك .. من يصدق لصاً قديماً؟
- واغتصبت حقك في التكريم
- بالعكس .. أنا مدين لك بحياتي.. لولا وصولك في الوقت المناسب لكانوا قد قتلوني.
عندما خرجتًُ من داره، كانت ظلمة آخر الليل كثيفة، الفجر يقترب من أبوابه، وأنا ما زلت أفكِّر فيما حدث..
إلى متى ظللتُ شارداً أحدق في الظلمة؟..
يا أهل قريتي الكرام: حارسكم الشجاع يعترف أمامكم بالحقيقة..
يا أهل قريتي الكرام: هذا الرجل "عصفور"، ابن الليل، المثخن بالجراح علي فراشه في هذه الدار، هو الذي أعاد الجاموسة لصاحبها "أبو إسماعيل"..
يا أهل قريتي الكرام..
يا أهل قريتي الكرام..
لم يسمعني أحدٌ من أهلي أو ناسي الكرام بالقرية..
لم يسمعني سوى أبينا الليل..
وأخيراً تسللتْ إلي المكان شظايا من الضوء الهارب عبر النافذة صوب الطريق، فقادت خطاي إلي خارج المكان، تلفتُ يمنة ويسرة، ثم غرستُ قامتي في بحر العتمة.
- "عصفور!.. ابن الليل؟!"
افترتْ شفتاه ولم يحر إجابة، أومأ برأسه وهو يتهاوى مستنداً علي جذع شجرة، أسندته بساعدي قبل أن يقع، وأجلسته..
كان الصراخ المستنجد ما زال يجرح صمت الليل الكاذب، صراخ امرأة تستغيث، ورجل يزعق بصوت أجش:
- "يا خلق هوه.. أغيثوني.. جاموستي يا عالم؟".
عندما نهضتً من مرقدي عند حافة البستان، خاطفاً سلاحي الأميري، ومهرولاً أختصر الطريق بين الأشجار صوب الاستغاثة الملهوفة، خُيِّل إليَّ أنني رأيت أشباحاً تهرول خائفةً ومبتعدةً في الظلمة، رفعتُ بندقيتي في الهواء، وأطلقتُ عياراً نارياً، أخذ في طريقه كثيراً من الأوراق والأفرع، وأفزع الطيور النائمة التي راحت تتخبط بأجنحتها علي غير هُدى..
كان جالساً أمامي يلهث، والدماء ما زالتْ تنزف من وجهه الشاحب علي الرمال..
- "عصفور.. ماذا تفعل هنا؟.. ما الذي يحدث؟"
كانت الصرخات تتجاوب وتتقاطع مع صرخات أخرى من أماكن أخرى، صرخات تتنادى بالرد: إنها قادمة حالاً، صرخات تتواصل في صرخة واحدة كبرى، تهيب بكل القرية أن تخف سريعاً للنجدة..
- ما علامتك يا عصفور بهذا الصراخ؟ هل عُدت للسرقة مرَّةً أخرى؟ أكنت تخدع الكل عندما أعلنت توبتك وعودتك لفلاحة الأرض؟ سرقت من.. ومن الذي فعل بك هذا؟ كيف تمكنت من الهرب في ظلمة البستان؟..
الأسئلة تناوشني وهي تحوم حوله في الظلام، وهو قابع بعجز آلامه في الظلمة، وغضبي الأعمى يستبد إزاءه، أستطيع الآن لو أردتُ أن أصوب بندقيتي لرأسه، رصاصة بقرش صاغ واحد تخلص القرية من شروره وآثامه للأبد..
- "يموت الزمَّار وإصبعه يلعب.. أتظل لصاً حتى تموت وأنت تسرق؟"
نظر نحوي، وتحامل علي جذع الشجرة، وأشار بكفه في الظلمة، راحتْ عيناي مع إشارته، كان هناك جرمٌ ضخمٌ لحيوان بلون الليل، حيوان متوتر وعاجز بالحركة الملولة العمياء.. بغريزة الخوف من المجهول صوبتُ بندقيتي نحوه، لكن صوت عصفور لحقني:
- "جاموسة أبو إسماعيل.. خذها الله يسترك.. رجعها له".
إذن هذا هو صراخ أبو إسماعيل وزوجته، وهذه هي جاموستهم، وأنت أيَّها الجبان عدت لسرقة أهلك وناسك، كنت تخدعهم بتوبة زائفة..
اتجهتْ ماسورة البندقية تلقائياً صوب رأسه..
- "تسرق جاموسة الرجل الطيِّب الفقير يا عديم الرحمة والإنسانية؟.. رصاصة واحدة تريحنا منك.. لا من شاف ولا من درى.. ولاَّ آخذك عندهم كي يأكلوا لحمك قبل عظامك؟"
قاطعني صوته وهو يشرق بالبكاء:
- "أرجوك.. في عرضك.. بحق العيش والملح وزمالة العمر.. رجعها له".
- "عيش وملح وزمالة عمر؟!"
سمعتُ نهنهته، بكاء ندم أم خيبة أمل؟..
هل رثيت لحاله الصعبة، والدماء التي تسيل علي وجهه، إذا ما عرفوا أنه اللص، وضربه أحدهم ضربةً، سيروح فيها للموت..
تركته بجوار الشجرة، وأنا أعلق بندقيتي بكتفي، مشيت علي أطراف أصابعي حتى لا تجفل البهيمة الخرساء، أو تتخبط في عمى الليل بالأشجار..، وأفلحتُ بالإمساك بمقودها، سحبتها بهدوء بين مسالك الأشجار، وأنا أفكِّر في هذا العصفور اللعين..
- "عيش وملح وزمالة عمر؟!"..
عصافير النيل الدورية تسعى لأرزاقها في وضح النهار، وتحت عين الشمس، وتأوي لأعشاشها في الليل..، وعصفور الليل هذا يسعى لضحاياه تحت جنح الظلام يسلبهم شقاء أيامهم، ولا يترك لهم سوى الحسرات..
الصراخ لا ينقطع.. وأنا أسعى جاهداً للخروج إليهم..
- "عيش وملح وزمالة عمر؟!"..
صحيح كنا طفلين لأسرتين فقيرتين، نلعب سوياً، ونتجاور سوياً علي تختة مزدوجة بالفصل المدرسي، نلهو ونلعب ونتخاصم ونتصالح ككل الأطفال، لكنني أذكر الآن أنه لم يكن ككل الأطفال، ولا أعرف متى وكيف : تمكن داء السرقة منه وسكن دماءه؟.. كنا ككل الأطفال الفقراء، نعجز عن شراء الكثير من الأشياء التي نحتاجها، نتحايل من أجل تعويضها بأية وسيلة أخرى، لكنه، أبداً، لم يكن يهدأ له بال، حتى يحصل علي ما يريد عنوة أو بالسرقة، أشياء صغيرة لكنها كانت آنذاك كبيرة بالنسبة لنا : كراسة.. قلم.. برَّاية.. ألوان شمعية..، أتعجب، كيف لبدنه النحيل أن يتحمل كل هذا العقاب المتتالي من المعلمين مرة أو أبيه مرة أخرى أو أخوته مرات كثيرة؟!، وأندهش، كيف به يضحك كل هذا الضحك بعد كل " علقة " ينالها؟!، حتى أن ناظر المدرسة، بعد أن ألهب بطني قدميه بالخيزرانة في طابور الصباح، وهو مكبل بساعدي العم عبد العال فراش المدرسة قال:
- "هذا واد حلُّوف.. جلده جلد حلُّوف.. لا حس ولا شعور"..
أهتدي بالأصوات الصارخة والزاعقة، والجاموسة تمضي خلفي بالبستان الواسع بوجل، والليل أعمى، حتى بانتْ معالم الدور، أناس كثيرون، كأن القرية كلها، عن بكرة أبيها، قد أحاطتْ بدار "أبو إسماعيل"، كلوبات مضاءة وكشافات منيرة، العمدة والخفراء، "شبيب" قصاص الأثر ينحني وهو يفحص الأرض الرملية باحثاً عن أثر الأظلاف عليها، ليحدد لأي الاتجاهات يمضي خلف اللصوص، عندما اقتربت من حافة البستان، رأيت " شبيب " بخبرة يُحسد عليها يعدو عدواً خفيفاً في مواجهتي صوب البستان، وعندما خرجتُ بالجاموسة وأشرت لهم بكفِّي، كانوا قد أحاطوا بي مندهشين، علتْ صيحات الفرحة، ودوَّتْ الزغاريد وتطايرتْ في سماء القرية، ورأيتُ "أبو إسماعيل" وزوجته يتعلقان بعنق الجاموسة ويبكيان غير مصدقين، والجاموسة تزوم مطمئنة بعد أن خرجتْ للنور ورأت أصحابها..، فعلاً.. لا يعرف قيمة هذا الحيوان إلاَّ فلاَّح قراري مثل "أبو إسماعيل"، فلاَّح لا يعرف إلاَّ سكة غيطه وبيته، يعرف جاموسته التي تروي وتحرث وتزحف أرضه، وتسقيه لبنها كل صبح، ويأكل من جبنها وسمنها، ويعلف نتاجها الصغير استعداداً لبيعه في المواسم الكبرى..
كنتُ شارداً عندما أحاطوني فجأة، ورفعوني علي أكتافهم، وراحوا يهتفون باسمي، ويمضون بي صوب العمدة، وأنزلوني أمامه..
- "بارك الله فيك يا بني.. هذا والله عشمنا فيك".
كان حضرة العمدة يقول لي ذلك، وهو يضمني لصدره، ويطبطب علي كتفيَّ..
والتفت للجمع المحيط بفخر، وأثنى علي شجاعتي، فلولا يقظتي ومطاردتي اللصوص وطلقات بندقيتي لكانوا لا قدَّر الله قد فروا بجاموسة المسكين..
كاد لساني يفلت من فمي، ويقول لهم : إن اللص قابع هناك تحت شجرة بالبستان.. اذهبوا إليه واسحبوه من شعره لغاية هنا وحاكموه..
لكن العمدة واصل القول، بأنه سيبلغ سعادة البيه مأمور مركز الشرطة بقصة شجاعتي، حتى يمنحني علاوة أو ترقية أو مكافأة، لأكون قدوة لزملائي الخفراء بالمركز كلّه..
أصر "أبو إسماعيل" أن يقدم لنا الشاي، حلاوة رجوع جاموسته العزيزة له، وأصررتُ أنا بعد هذا التكريم الحافل أن أقود الجاموسة حتى موضعها، وأربطها في وتدها أمام مزودها بالزريبة، هناك رأيت الثقب المبقور ببدن الجدار الطيني بالإبرة الحديدية، والتي أخرج منها اللص الجاموسة، وتعجبت كيف أخرج عصفور هذه الجاموسة الضخمة بمفرده من هذا الثقب؟، وساورتني الشكوك حول مقدرته..، وكان "أبو إسماعيل" يحكي لي كيف قلق وصحا من نومه فجأة، وكيف خرج من حجرته ليفك رغبة بوله، والهاجس الذي دعاه ليطل علي موضع الجاموسة بالزريبة، واكتشافه السرقة، ومن ثم صراخه في عز الليل..
لم يذكر أنه رأى أحداً أو اشتبك مع أحد اللصوص.. فمن الذي أصاب عصفور؟!..
عاد عصفور يركب رأسي.. كلامه عن العيش والملح والزمالة.. رجاؤه أن أرجع الجاموسة لصاحبها.. بكاؤه ونهنهته..
الليل عبر منتصفه بكثير عندما شكرت العمدة، وعندما قلت لـ "أبو إسماعيل" بتواضع:
- "أنا لا أفعل شيئاً يا عم غير الواجب.. ومالك الحلال رجع لك"
ونهضت مستأذنا للعودة لحصة حراستي.
ما أن تواريت عن أعينهم حتى قفزت للبستان، صوب الشجيرات التي تركت عندها عصفوراً، كلامه يطن بمسمعي: "عيش وملح وزمالة عمر؟! "..
خرجنا سوياً من المدرسة بعد الابتدائية، خرجتُ للفلاحة والأرض وخرج هو لعالم السرقة، كان سعيداً لتحرره من قيود المدرسة، وفشل أهله في إصلاحه، لأنه كان كثير الهروب للمدن البعيدة أو الموالد الكبيرة، يغيب بالشهور ثم يعود، يسرق ويقبض عليه، ويتعلم من اللصوص الكبار ليصير لصاً كبيراً، صار مشهوراً شهرة نجوم الكرة والفن، تباعدنا : أنا ابن النهار وهو ابن الليل، لم أكن أعتقد أن الليل يمكن أن يجمعنا في يوم ما، لكنه الليل فعلها، عندما سعى أبي رحمه الله، قبل وفاته للعمدة كي يتوسط لي للعمل خفيراً بالداخلية، ونجح مسعاه، وصرت حارساً لحصتي بالليل، وعاد عصفور يخايلني بسرقاته، لكنه، أبداً، لم يحاول السرقة من حصتي..
هل هو فعلاً : "العيش والملح وزمالة العمر؟! "..
أجفلتُ علي صوته الواهن يناديني :
- "تعال.. أنا انتظرك".
كان ينتظر مساعدتي، قلت له مشفقاً:
- ماذا فعل بك أبوك الليل وأنت ابنه المخلص؟
تمتم بصوت هامس ومعاتب:
- الله وحده يعلم
عاجلته بسؤال استنكاري :
- أمثلك يعرف الله ويخاف عقابه؟
ورفعته من تحت إبطه ومضيتُ به بين الأشجار وهو يردد :
- سامحك الله
كانت داره التي لم تعمرها امرأة قريبة من سور البستان..
ناولني المفتاح ودخلنا، علي فراشه المتواضع أشار لمصباح غازي أسرجته له، ووضعته علي إفريز النافذة، ساعدته في تنظيف جروحه وتطهيرها وتضميدها، كنت أفعل ذلك وهو يقول لي ما عصي علي فهمي..
كانوا لصوصاً من رفاقه القدامى، جاءوه وطلبوا منه مشاركتهم، لكنه رفض وحذرهم، تظاهروا بأنهم صرفوا النظر عن أمر السرقة، وغادروه، لكنه بحس اللص القديم عرف أنهم يخدعونه، لم يعرف وجهتهم، راح يبحث عنهم بأرجاء القرية حتى واجههم عند البستان بعد خروجهم من بيت " أبو إسماعيل " ومعهم الجاموسة، واشتبك معهم، وأصابوه وكادوا يقتلونه، لولا صراخ " أبو إسماعيل " وهرولتي لنجدته، والطلق الناري بين الأشجار وراء أشباحهم الفارة..
قلت له :
- الناس يعتقدون أنني البطل الذي طارد اللصوص وأعاد الجاموسة.. اعذرني.
- طبعاً أعذرك .. من يصدق لصاً قديماً؟
- واغتصبت حقك في التكريم
- بالعكس .. أنا مدين لك بحياتي.. لولا وصولك في الوقت المناسب لكانوا قد قتلوني.
عندما خرجتًُ من داره، كانت ظلمة آخر الليل كثيفة، الفجر يقترب من أبوابه، وأنا ما زلت أفكِّر فيما حدث..
إلى متى ظللتُ شارداً أحدق في الظلمة؟..
يا أهل قريتي الكرام: حارسكم الشجاع يعترف أمامكم بالحقيقة..
يا أهل قريتي الكرام: هذا الرجل "عصفور"، ابن الليل، المثخن بالجراح علي فراشه في هذه الدار، هو الذي أعاد الجاموسة لصاحبها "أبو إسماعيل"..
يا أهل قريتي الكرام..
يا أهل قريتي الكرام..
لم يسمعني أحدٌ من أهلي أو ناسي الكرام بالقرية..
لم يسمعني سوى أبينا الليل..
وأخيراً تسللتْ إلي المكان شظايا من الضوء الهارب عبر النافذة صوب الطريق، فقادت خطاي إلي خارج المكان، تلفتُ يمنة ويسرة، ثم غرستُ قامتي في بحر العتمة.