لا زال لم يحن بعد جني الثوم، وتفصلنا عنه خمسة عشر يوما، وعليه على المرأ أن يبقى بدون عمل كل تلك المدة أو أكثر، صديقي الذي يتوفر على أوراق العمل وتسوية قانونية، يمكنه البدء في العمل منذ أول يوم لبدإ الحصاد، أما أنا صاحب الرمادية المغربية، بدون تأشيرة فقد كان عبارة عن كناش مخزني لا قيمة له داخل وخارج المغرب، كان على أن انتظر أكثر عندما تتم عملية التعاقد مع أصحاب التسوية بحيث سيبقى لليد العاملة السوداء شيء من الحظ.. في تلك الخمسة عشر يوما التي تفصلنا عن الموسم، تبقى أمور تدبير العيش غير ممكنة تماما، لكن سياسة المنطقة، ولضمان موسم ناجح للجني، كانت تقوم على توفير بعض مواد الإستهلاك في المركز الإجتماعي للبلدية، بعض الحلوى، الأرز الطازج بالحليب ومادة القرفة، أو مع لحم الدجاج (لحم حرام بالتأكيد)، سردين وحليب، وإذا كنت تتوفر على سكن وأدوات الطبخ، كانوا يمدونك بمواد أخرى كالقطاني والزيت وغيرها للطبخ، ومع أن هذه الحالة كانت تعفينا نوعا ما من البحث عن الغذاء إلا أن الأمر كان مقلقا من حيث السكن اللائق والتدخين، كنا أوجدنا أعشاشا في مزبلة سيارات (chatarra) كل واحد منا جهز مكانا للنوم داخل علبة سيارة وذلك بتمديد المقاعد، كان صاحب المزبلة قد نبهنا في البداية إلى أنه لا يمانع على النوم بالعربات شريطة عدم إتلاف قطع الغيار المتبقية ، وهكذا كان مشكل النوم قد حل، إلا أن مشكل التدخين لا زال قائما، عندما كنت بإلخيدو، كان أمر الحصول على التدخين رائعا، تذهب إلى الأحياء الراقية وقد تجد علبة تدخين في بعض المرات، كما تجد بقايا سجائر كريمة تظهر طيبة البرجوازيين، حيث يدخنون فقط نصف سيجارة ويرمون نصفها، كما كنا نجدها في محطات وقوف حافلات النقل العمومي بسبب أن الكثير منها لم يدخنها المسافر بسبب الحضور الفجائي لحافلة النقل، كنا نعرف الأحياء الغنية والفقيرة فقط من بقايا السجائر.. في لاس بيدرونيراس، مدينة البؤس التي تذكرك بكل شيء قرأته عن الشخصية الأسطورية "دون كيخوتي دي لامانتشا"، كان اعتمادها على الثوم يوفر موسما واحدا فقط من العمل بينما باقي السنة ، كان الناس يشتغلون في حقولهم على زراعة القمح وإنتاج العنب وبيع الخمور الحمراء (النبيذ) وهي أعمال لا تحتاج يد عاملة غريبة. ويبدو من خلال تقييمنا للأحياء بإلخيدو أن مدينة لاس بيدرونيراس ينتمون إلى الطبقات الفقيرة ، لكن عندما تنظر إلى حقول الثوم الشاسعة تبدو لك المفارقة الأخرى، وباختصار لم تكن لاس توفر تلك الأصناف من بقايا السجائر، بل كان الناس يمتصونها عن آخرها وأكثر من ذلك يدخنون نوعا واحدا فقط التبغ الأسود.
في إحدى المساءات المظلمة، خرجنا نقتفي بعض الأثر للسجائر، ذهبنا إلى بعض الأحياء التي لم تطأها أقدام الغرباء مثلنا من لاقطي أعقاب السجائر بشكل كنت أعتقد أن كل الذين وصلوا إلى لاس بيدرونيراس في ظروف انتظار بداية موسم الجني هم أيضا في بحث حثيث مثلنا عن بقايا السجائر، لذلك قررنا البحث في أحياء خارج مركز المدينة، الأحياء التي لايطأها الغرباء، كانت هناك بعض الأزقة مظلمة، وكنا كلما رأينا شيئا ممددا أو علبة إلا ولامسناها للتأكد.. كان الحظ كبيرا مع صديقي، وجد نصف سيجار وليس سيجارة، وهذا طبعا سيوفر نفحا ثمينا له ولي في هذا المساء المدنس بالغرباء، بدأ يشعلها لينفث اول الطيبات ، لكن السيجار لا يصل طيبه ولا دخانه إلى فم صديقي، أمرته أن يقطع رأسها ربما لذلك لا تنفث، قطع رأسها ولم تنفث، ثم فكرنا في أمر آخر، هو أن نفتتها عند وصولنا إلى علبنا النومية حيث الشمع، ثم نفتتها ونحولها إلى سجائر لفافة، لكن ما أن دخلنا إلى نور عمود ضوئي حتى تفجر صاحبي باليأس،
ــ هل تعلم ماهذا؟ خراء كلب، قالها وهو غائظ يريد أن يتقيأ
كان بالفعل روثا يابسا لكلب، روث على شكل سيجار كوبي، يا إلهي كدت أنفجر بالضحك، بينما صاحبي بدأ يقزز أسنانه بشكل هستيري:
ــ أنت من خطرت له فكرة تدنيس أسناني، يا إلهي ،قطعت رأسها بأسناني، لا ليس هذا فقط، كنت أمتصه أيضا، أمتصه بشدة لعله ينفث.