كان عادل يقرض المسافة المتبقية باتجاه مدينته قرضاً. متحمساً، وشغوفاً بالآتي. لا يزال صوت زوجته يضغط على أعصابه، كان صوتاً آمراً، يحمل بموجاته لهجتها المعهودة. لهجة فيها شقاوة كارثية ومزلزلة:
" سأقتل... إن لم تجيء". لم يسمع الكلمة التي تبعت سأقتل. لكنه تكهن بمحتواها، وهي مجنونة تقوم بقتل نفسها!
لم يكن "عادل" من الذين يعنون بالأزمة المالية لا في أميركا ولا في الصين، ولا يعتبر نفسه ممن سيصيبه خيرا أو شراً إن تقدمت للسلطة معارضة أم بقي من هم ملتصقين في كراسي السلطة، و لا يعرف المعنى الدقيق لكلمة انتهازيين و هل: " يشبهون قطاع الطرق، أم يصعدون إلى جيوب الناس ببطء من غير جعجعة الأعراس؟!".
حياته تقريبا ككل الذين في عمره داخل الحي الذي نشأ به لولا بعض المحطات الاستثنائية: بضع سنين دراسة، يتحول بعدها للأعمال الحرة: ثلاثة أشهر في قبو صغير لتعبئة شرائح البطاطا في أكياس صغيرة، حيث يتم تسويقها للبقالات القريبة. بضعة أشهر أخرى في مصنع متواضع لتعبئة المياه الغازية. سنة كاملة في معمل خياطة كعامل مقص، فهذه الأعمال هي كل ما هو متوفر من صناعات ثقيلة وخفيفة في منطقته، إلا إذا أسقط من حسابه صناعة الأجبان والألبان التي تقوم بتصنيعها النساء في البيوت وتباع للمستهلكين.
حلم عادل في إحدى المرات حين كان في مرحلة الفوران النفسي، أن يرتقي ويصير عاملاً في مصنع كبير بعد أن حدّثه أحدهم عن المصانع الكبيرة في بلاد أخرى، وبعد أن أضفى ذلك الرجل صورة شديدة الرومانسية على العمال واستفاض أكثر فأكثر عن أزمان غابرة كانت فيها الثورات تشتعل ضد أصحاب المصانع، و قد صورهم ذلك الرجل –أصحاب المصانع- على صورة وحوش وديناصورات بربطات عنق أنيقة، تصارعها نقابات عمالية يقودها عمال من نوع السوبرمانات: لا يهادنون ولا يخافون!!
كانت قصص ذلك الرجل بمجملها تثير حماسة الفتى، وتنشر شذاها في كيانه كرائحة عطر فاخر الصنع، إلا أن حلمه بقي دون مستوى التحقق، بل إن من التقى بهم من العمال، كانوا يبيعون والدهم بحفنة صغيرة من القروش، ويضربون بعرض الحائط شرف الزمالة والتضامن، و هؤلاء العمال لم يهضمهم ولو بعد: " زجاجة كوكا كولا!".
ويا للمصيبة كم عليه أن يبذل من الجهد ليفهم جملة من نوع: " طبقة عاملة رثّة!"، لكنه فهم فيما بعد بأن هؤلاء العمال جبلوا على أن يكونوا كمية هائلة من القاذورات ترمى في وجه الدنيا.
حين صار في العشرين من العمر هبطت عليه معجزة إلهية سيشكر الله عليها حتى يوم القيامة، فقد توفرت له فرصة سفر لإحدى دول الخليج استقرت به كبائع في مول كبير.
في إحدى الإجازات الصيفية تزوج بفتاة من منطقته السكنية اعتماداً على الرأي القائل: "عندما يفقد الشاب حس الرؤية والسمع وفقدان الإحساس بمن حوله.. عليه بالزواج" وعادل طبق تلك القاعدة قبل أن يفقد شيئاً من حواسه!..
بزر بزرته الأولى في الإجازة الأولى. وجاء ابنه الثاني بعد إجازته الثانية. في الإجازة الثالثة تفرغ لانجاز البناء الثالث..
لم يعرف من المعارك أكثر من هذه الحكاية:
حين بلغ الخامسة والعشرين، وحين كان يعود من عمله مساء فاقداً قوته الجسدية التي تزلزل حياة كل شاب بعمره مع أشواق دفينة تعتمل أعماقه وتهوم فوق صدره، والتي تجعله عصبياً بطريقة غير محتملة، فإنه لم يلجأ..
للزواج من امرأة فيليبينة مقابل مبلغا من المال مُقدماً: قدره دينارين إلى ثلاث، ومؤخراً قدره: طرداً من المنزل والسرير، بل كان يلجأ لمشاهدة أفلام الكرتون وخاصة توم وجيري، وكان يضحك ويقهقه كالأطفال، ثم نقل أحد زملائه أن شيخاً له مكانة مرموقة: رأى من مجمل ما رأى كعالم في الدين: أن الشيطان يتجسد بالفأر جيري، وفي أقل احتمال فإن هذا الحيوان والشيطان شقيقان، ولأن عادل ما يزال يتمتع بالفطرة السليمة، فقد تصور أن أمر الشيخ لو كان دقيقاً لكان الدواء المخترع لعلاج الأمراض بعد إجراء التجارب على الفئران هي أيضاً ممسوسة بالشيطان فكيف إذا تتحسن الصحه والدواء في الأساس مسموم بأجزاء الشيطان وهو –الشيطان- لم نسمع أنه قدّم يوماً ما الخير لبني البشر؟!!
هكذا قال وهكذا تابع مشاهدة مغامرات توم وجيري.
و في حقيقة الأمر، فإن مصلحة عادل كانت تقوم على حسبة صغيرة: إما أن يدفع بالتخفيف عن جسده المنهك وجهده المضني خلال النهار بطريقة القهقهة لمغامرات توم وجيري، وإما أن يتورط بالارتباط بإحدى الخادمات الآسيويات المنتشرات في كل مكان، ويضيف شخصا آخر إلى قائمة أعبائه ممن يعتمدون عليه في تكاليف المعيشة، وهذا ما كان سيزيد بؤسه بؤساً.
وفي كل الأحوال كان الموقف من فتوى توم جيري بمتابعة المشاهدة أكبر معركة قام بها "عادل"، وإن كان التاريخ لا يسجل مثل هذه البطولات لمثل أناس كعادل لكن ذاكرته فعلت.
ما يزال يقرض المسافة التي بدأت تضيق نحو بيته وطفليه، يتسول استقرار المكان والمنزل ووجبات الطعام اللذيذة والعناية به، فقد تعب وملّ الغربة، وحين ذاك فإن بعض المنغصات لا تهم، و قليلاً من النقّ لا يميت الرجل، و بعضاً من اختلال مزاج المرأة قد ينشط الرتابة والملل في حياة الزوج، وزوجة مثل هذه التي تقول: سأقتل نفسي إن لم تجيء، صارت نادرة!.
نصف ساعة تبعده عن هذه الشقية. أكد مبتسما بصوت مرتفع قليلاًً: "شقية.. شقية!" فالعالم معها يتوسع، وكانت آخر إجازة قضاها مع زوجته ماجنة بالفعل، وما تزال تفاصيل الليل في فمه كمذاق الفستق الحلبي، وكان لجسدها يوم ذاك رائحة الصنوبر بحيث أن رائحتها التصقت بأنفه لفترة طويلة، وكان يمكنه أن يتشرب من مسامات جلدها لفترة طويلة بعملية إنقاذ لجسده من متاعب النهار وهواجس الليل.. وآه كم كان يمكنه أن يغرق فيه حتى الصباح وهو بعيد عنها، مع ذلك وفي نفس الليلة استيقظ وفوهة مسدسه ملصقا بجبينه؟!
أستيقظ وقتها مرعوباً. لقد أرعبه تعبير عينيها الواسعتين الجاحظتين، والذاهبتين في البعيد!! وعندما أبعد المسدس جانباً ضحكت ضحكة غريبة فعرف أنها تمزح!
سيعبّر "عادل" لها عن مشاعره بطريقة تحبها وتكرهها!! شاعرية وقاسية. نصف حالمة و نصف واقعية. تماما كطريقتها في التعبير عن نفسها حين تنزوي بعيداً عنه!
إنه في المنعطف المودي إلى بيته. في الشارع نفسه... سيدخل الآن على امرأته وطفليه ليأخذهم في أحضانه. سيمسّد بيده على شعرها ويقرصها تلك القرصة التي يعرف من خلالها أنه وصل حقاً، وبشكل نهائي.
فتح الباب بالمفتاح وشعر بالصمت يلفّ المكان، وكأنما دخل فجأة دائرة مريبة؟ قطع الصالة الكبيرة وانتابه إحساس كمن شرب زجاجتين من الألم؟ نادى على عائلته بأسمائهم والتقط أنفه رائحة كريهة, اتبع مصدرها وشعوره بالهلع يتفاقم، و كلما اقترب من غرفة نوم الأطفال ينسحب الدم من عروقه.
فتح باب الغرفة، بتوجس من يدخل كهفا...
ملاحظة: سأترككم تضعون نهاية مناسبة.
" سأقتل... إن لم تجيء". لم يسمع الكلمة التي تبعت سأقتل. لكنه تكهن بمحتواها، وهي مجنونة تقوم بقتل نفسها!
لم يكن "عادل" من الذين يعنون بالأزمة المالية لا في أميركا ولا في الصين، ولا يعتبر نفسه ممن سيصيبه خيرا أو شراً إن تقدمت للسلطة معارضة أم بقي من هم ملتصقين في كراسي السلطة، و لا يعرف المعنى الدقيق لكلمة انتهازيين و هل: " يشبهون قطاع الطرق، أم يصعدون إلى جيوب الناس ببطء من غير جعجعة الأعراس؟!".
حياته تقريبا ككل الذين في عمره داخل الحي الذي نشأ به لولا بعض المحطات الاستثنائية: بضع سنين دراسة، يتحول بعدها للأعمال الحرة: ثلاثة أشهر في قبو صغير لتعبئة شرائح البطاطا في أكياس صغيرة، حيث يتم تسويقها للبقالات القريبة. بضعة أشهر أخرى في مصنع متواضع لتعبئة المياه الغازية. سنة كاملة في معمل خياطة كعامل مقص، فهذه الأعمال هي كل ما هو متوفر من صناعات ثقيلة وخفيفة في منطقته، إلا إذا أسقط من حسابه صناعة الأجبان والألبان التي تقوم بتصنيعها النساء في البيوت وتباع للمستهلكين.
حلم عادل في إحدى المرات حين كان في مرحلة الفوران النفسي، أن يرتقي ويصير عاملاً في مصنع كبير بعد أن حدّثه أحدهم عن المصانع الكبيرة في بلاد أخرى، وبعد أن أضفى ذلك الرجل صورة شديدة الرومانسية على العمال واستفاض أكثر فأكثر عن أزمان غابرة كانت فيها الثورات تشتعل ضد أصحاب المصانع، و قد صورهم ذلك الرجل –أصحاب المصانع- على صورة وحوش وديناصورات بربطات عنق أنيقة، تصارعها نقابات عمالية يقودها عمال من نوع السوبرمانات: لا يهادنون ولا يخافون!!
كانت قصص ذلك الرجل بمجملها تثير حماسة الفتى، وتنشر شذاها في كيانه كرائحة عطر فاخر الصنع، إلا أن حلمه بقي دون مستوى التحقق، بل إن من التقى بهم من العمال، كانوا يبيعون والدهم بحفنة صغيرة من القروش، ويضربون بعرض الحائط شرف الزمالة والتضامن، و هؤلاء العمال لم يهضمهم ولو بعد: " زجاجة كوكا كولا!".
ويا للمصيبة كم عليه أن يبذل من الجهد ليفهم جملة من نوع: " طبقة عاملة رثّة!"، لكنه فهم فيما بعد بأن هؤلاء العمال جبلوا على أن يكونوا كمية هائلة من القاذورات ترمى في وجه الدنيا.
حين صار في العشرين من العمر هبطت عليه معجزة إلهية سيشكر الله عليها حتى يوم القيامة، فقد توفرت له فرصة سفر لإحدى دول الخليج استقرت به كبائع في مول كبير.
في إحدى الإجازات الصيفية تزوج بفتاة من منطقته السكنية اعتماداً على الرأي القائل: "عندما يفقد الشاب حس الرؤية والسمع وفقدان الإحساس بمن حوله.. عليه بالزواج" وعادل طبق تلك القاعدة قبل أن يفقد شيئاً من حواسه!..
بزر بزرته الأولى في الإجازة الأولى. وجاء ابنه الثاني بعد إجازته الثانية. في الإجازة الثالثة تفرغ لانجاز البناء الثالث..
لم يعرف من المعارك أكثر من هذه الحكاية:
حين بلغ الخامسة والعشرين، وحين كان يعود من عمله مساء فاقداً قوته الجسدية التي تزلزل حياة كل شاب بعمره مع أشواق دفينة تعتمل أعماقه وتهوم فوق صدره، والتي تجعله عصبياً بطريقة غير محتملة، فإنه لم يلجأ..
للزواج من امرأة فيليبينة مقابل مبلغا من المال مُقدماً: قدره دينارين إلى ثلاث، ومؤخراً قدره: طرداً من المنزل والسرير، بل كان يلجأ لمشاهدة أفلام الكرتون وخاصة توم وجيري، وكان يضحك ويقهقه كالأطفال، ثم نقل أحد زملائه أن شيخاً له مكانة مرموقة: رأى من مجمل ما رأى كعالم في الدين: أن الشيطان يتجسد بالفأر جيري، وفي أقل احتمال فإن هذا الحيوان والشيطان شقيقان، ولأن عادل ما يزال يتمتع بالفطرة السليمة، فقد تصور أن أمر الشيخ لو كان دقيقاً لكان الدواء المخترع لعلاج الأمراض بعد إجراء التجارب على الفئران هي أيضاً ممسوسة بالشيطان فكيف إذا تتحسن الصحه والدواء في الأساس مسموم بأجزاء الشيطان وهو –الشيطان- لم نسمع أنه قدّم يوماً ما الخير لبني البشر؟!!
هكذا قال وهكذا تابع مشاهدة مغامرات توم وجيري.
و في حقيقة الأمر، فإن مصلحة عادل كانت تقوم على حسبة صغيرة: إما أن يدفع بالتخفيف عن جسده المنهك وجهده المضني خلال النهار بطريقة القهقهة لمغامرات توم وجيري، وإما أن يتورط بالارتباط بإحدى الخادمات الآسيويات المنتشرات في كل مكان، ويضيف شخصا آخر إلى قائمة أعبائه ممن يعتمدون عليه في تكاليف المعيشة، وهذا ما كان سيزيد بؤسه بؤساً.
وفي كل الأحوال كان الموقف من فتوى توم جيري بمتابعة المشاهدة أكبر معركة قام بها "عادل"، وإن كان التاريخ لا يسجل مثل هذه البطولات لمثل أناس كعادل لكن ذاكرته فعلت.
ما يزال يقرض المسافة التي بدأت تضيق نحو بيته وطفليه، يتسول استقرار المكان والمنزل ووجبات الطعام اللذيذة والعناية به، فقد تعب وملّ الغربة، وحين ذاك فإن بعض المنغصات لا تهم، و قليلاً من النقّ لا يميت الرجل، و بعضاً من اختلال مزاج المرأة قد ينشط الرتابة والملل في حياة الزوج، وزوجة مثل هذه التي تقول: سأقتل نفسي إن لم تجيء، صارت نادرة!.
نصف ساعة تبعده عن هذه الشقية. أكد مبتسما بصوت مرتفع قليلاًً: "شقية.. شقية!" فالعالم معها يتوسع، وكانت آخر إجازة قضاها مع زوجته ماجنة بالفعل، وما تزال تفاصيل الليل في فمه كمذاق الفستق الحلبي، وكان لجسدها يوم ذاك رائحة الصنوبر بحيث أن رائحتها التصقت بأنفه لفترة طويلة، وكان يمكنه أن يتشرب من مسامات جلدها لفترة طويلة بعملية إنقاذ لجسده من متاعب النهار وهواجس الليل.. وآه كم كان يمكنه أن يغرق فيه حتى الصباح وهو بعيد عنها، مع ذلك وفي نفس الليلة استيقظ وفوهة مسدسه ملصقا بجبينه؟!
أستيقظ وقتها مرعوباً. لقد أرعبه تعبير عينيها الواسعتين الجاحظتين، والذاهبتين في البعيد!! وعندما أبعد المسدس جانباً ضحكت ضحكة غريبة فعرف أنها تمزح!
سيعبّر "عادل" لها عن مشاعره بطريقة تحبها وتكرهها!! شاعرية وقاسية. نصف حالمة و نصف واقعية. تماما كطريقتها في التعبير عن نفسها حين تنزوي بعيداً عنه!
إنه في المنعطف المودي إلى بيته. في الشارع نفسه... سيدخل الآن على امرأته وطفليه ليأخذهم في أحضانه. سيمسّد بيده على شعرها ويقرصها تلك القرصة التي يعرف من خلالها أنه وصل حقاً، وبشكل نهائي.
فتح الباب بالمفتاح وشعر بالصمت يلفّ المكان، وكأنما دخل فجأة دائرة مريبة؟ قطع الصالة الكبيرة وانتابه إحساس كمن شرب زجاجتين من الألم؟ نادى على عائلته بأسمائهم والتقط أنفه رائحة كريهة, اتبع مصدرها وشعوره بالهلع يتفاقم، و كلما اقترب من غرفة نوم الأطفال ينسحب الدم من عروقه.
فتح باب الغرفة، بتوجس من يدخل كهفا...
ملاحظة: سأترككم تضعون نهاية مناسبة.