( الفصل التاسع من قصة الخلق )
تأخرت قليلا عن موعد جلسة التصوير فدخلنا إلى الاستوديو ما أن وصلت . بدأت أسيل الكلام:
" أستاذ محمود توصلنا في الحلقة السابقة إلى نشأة الخلق بعد انبعاث العقل/ الخالق ، أو ما أطلق عليه العلماء الانفجار الكبير أو العظيم ، فما الذي حدث بعد ذلك ، كيف نشأ الكون "؟
- في الحقيقة الحديث عن عقل خالق وعن نشوء خلق بعد انبعاثه مسألة صعبة للغاية تطرقت لها علوم الفيزياء، ويمكن القول أنها توصلت إلى حقائق ممكنة لكنها ليست أكيدة وإن بدت صحيحة نظريا ، فنحن أمام عقل هائل العظمة يستطيع أن يجسد ما تخيله وإن على مراحل.. ويمكن تصور عظمة هذا العقل حين ننظر في عقل الانسان الصادر عنه. فالعقل البشري معجزة من أهم معجزات عملية الخلق، نستطيع عبره أن نفكر ونخترع ونقوم بما لا يخطر في البال، أي أن نكون مبدعين وخالقين كالخالق نفسه. علما أننا لا نعرف ماهية هذا العقل ، ولا نعرف جسما ماديا معروفا له ، أو حتى جسما ينتجه كالسمع بالنسبة للأذن ، أو البصر بالنسبة للعين ، وإن توقع العلماء أنه يصدر عن الدماغ، وليس عن القلب كما يذكر في بعض النصوص الدينية . ومع ذلك نقر بوجوده دون أن نراه ، كالعقل الخالق تماما ، فنحن نقر بوجود عقل خالق أو قائم بالخلق أو حتى إله ، دون أن نراه أو نعرف ماهيته حسب المعتقدات السماوية، ولا يمكن أن نعرفه إلا من خلقه ، والامر كذلك بالنسبة للعقل البشري. . يمكن تصور أن العقل البشري ينتج عن الدماغ والقلب والأعصاب ، أو عن الدماغ وحده ، لذلك لا يعتبر الميت ميتاً ما لم يتوقف دماغه عن العمل ، وليس بالنظر إلى الحال التي عليها قلبه. هذا في حال الانسان، فما هي الحال مع العقل الإلهي أو عقل الخالق، حيث لا دماغ ولا قلب ولا أعصاب ، وحتى لا زمان ولا مكان كما هي الحال قبل الانبعاث. فليس هناك ما يشجعنا لأن نعتقد أن للخالق شكل إنسان ، وأنه يملك دماغا وقلبا وأعصابا. فعقل الخالق مسألة مختلفة تماما، لأنه لا شكل له يمكن أن نعرفه، ولا زمان ومكان خارج زمكانه، لنفترض أنه موجود في مكان آخر وبشكل آخرلا نعرفه. وليس أمامنا في هذه الحال إلا أن نتخيل عقله بقدر ما حسب ثقافتنا ، وعلى ضوء من أنبأتنا به علوم الفيزياء، وخاصة الفيزياء الكمومية ، التي أثبتت لنا أن اهتزاز الكترونين بتوافق في حالة تناغم ، يُمَكِنُهما من أن يظلا في حالة تناغم موجي حتى لو فصلت بينهما مسافة كبيرة . وعلى الرغم من أن الإلكترونين قد يبعد أحدهما عن الآخر سنوات ضوئية فإن هناك موجة غير مرئية تربط بينهما كالحبل السرّي . ولو حدث شيء ما لأحد الإلكترونين فإن الشيء نفسه يحدث للإلكترون الثاني. هذا ما يطلق عليه " التواصل الكمومي " وهو المبدأ الذي ينص على أن الجسيمات التي تهتز بتناغم ، لها نوع من الاتصال العميق الذي يربطها بعضها ببعض. على ضوء هذه المعرفة يمكننا تصورعقل الخالق ، على أنه مسألة اعجازية بكل ما تعنيه الكلمة ، بحيث يمكنه أن يتواجد في كل زمكان، وفي كل كائن، من أصغرجسيم دون ذري، إلى أكبر مجرة ، دون أن يفقد أي جزيء في الوجود علاقته بكل الأجزاء الأخرى وعلاقته بالكون ككل . من هنا يأتي فهمنا للوجود الانساني وارتباطه بالوجود الكوني.
على ضوء هذه المفاهيم العلمية يمكننا النظر إلى نشأة الكون وإلى فهم التفاعلات التي تمت بعد لحظة الانبعاث، بين كواركات وفوتونات ولبتونات لينتج عنها بروتونات ونيوترونات ، وليدخل الالكترون في هذه العملية لتنشأ ذرة الهيدروجين ، ومن ثم الهيليوم ولتصبح مادة الكون الاولى 75% منها من ذرات الهيدروجين و 23% منها من ذرات الهيليوم . هذه العملية جرت في الثواني الاولى من الانبعاث ، أي أقل من دقيقة. العلماء يقسمونها بالثواني ويتابعون المسألة لما جرى خلال دقيقتين وما بعدهما! وكل ذلك يجري ضمن حرارة فائقة التصور وإن بردت نسبيا . وراحت تبرد وتمر بمراحل مديدة وعصور مختلفة إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه .. وقد تناول الفيزيائيون والجيولوجيون معظم هذه التطورات . لن ندخل في تفاصيل هذه التفاعلات لأنها تخص العلم الذي كشف معظمها، بينما حواراتنا تركز على الجانب الفلسفي في المسألة الوجودية برمتها، وإن كنا نستنير بهذه العلوم لإغناء رؤيتنا. ويمكن لم يرغب في معرفتها البحث عنها عبر الكتب أو شبكة النت . وقد أخبرنا العلم أن هذه التفاعلات دامت لملايين السنين حتى ظهرت ذرات متعادلة نجم عنها غازات وغبار تحولت عبر الأزمنة إلى غيوم أقرب إلى الضباب الكثيف. ويمكن تصور كم كانت هذه العملية شاقة ومعقدة حين نجد أن العملية استغرقت قرابة تسعة مليارات عام حتى اكتمل ظهورالكواكب والنجوم والمذنبات في بعض المجرات . وهذا رقم هائل جدا، ما دفع بعض العلماء للاعتقاد أن الوجود نشأ صدفة ، وأن كل ما يجري هو مجرد صدف ، وبالتالي لا غاية للوجود ، وهذا ما أختلف حوله مع العلماء. فكل ما نلمسه في الوجود يشير إلى أن للوجود غاية كما سبق وأن ذكرنا، والمؤسف أنه لا يمكن اثبات ذلك علميا ، لكنه ممكن بالاستدلال المنطقي. . وسنتطرق إلى ذلك بقدر ما في حينه ، أما عن الصدف ، فثمة احتمال كبير أن بعض عمليات الخلق كانت تتطلب من العقل/ الخالق أن يجري تجارب على ما يفكر فيه، لعدم وضوح قوانينها في عقله ، أو لخلل فيها، فينجح بعضها ويفشل بعضها الآخر، وربما حدثت ملايين التجارب ، حتى تم التوصل إلى ما هو ممكن أو إلى الأفضل .. يمكن الاستدلال على ذلك فيما بعد من مخلوقات حية كثيرة جدا، خلقت وانقرضت لعدم تكيفها مع بيئتها ، أو لعدم نجاح عملية خلقها من الأساس ، لأن قوانين الخلق كانت ما تزال تتشكل في عقل الخالق ، بل وما تزال ، أي أن الإطلاق في اكتمال قوانين الخلق لم يحدث بعد ، وقد لا يحدث ، فالقوانين تتطور باستمرار ، وعملية الخلق برمتها في تطور دائم . ولنا أن نتصور كم كانت العملية شاقة، حين نرى أن الشمس لم تكن قد شكلت قبل قرابة خمس مليارات عام، وأن كوكب الأرض لم يوجد إلا منذ قرابة أربعة مليارات ونصف عام ، أي أن قرابة تسعة مليارات عام لم يكن فيها كوكب الأرض.
- وهذا يشير إلى أن خلق الكون بمجراته وكواكبه ونجومه هو ما استغرق معظم هذا الزمن الهائل ، وأن خلق الكائنات الحية لم يأخذ إلا بضعة ملايين من السنين .
- أكيد ، وخاصة إذا ما عرفنا أن تشكل الخلية الحية لم يكن إلا من قرابة خمسمائة مليون سنة أو أكثر قليلا . وإن أوغل بعض العلماء في ما هو أبعد من ذلك. حين تحدثوا عن وجود سلف لكل الكائنات الحية قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة ، كان وحيد الخلية.
- أستاذ محمود . كما أسلفت أنت إن ما يهمنا من حوارنا هو الجانب الفلسفي ، أما الجوانب الأخرى من فيزيائية وجيولوجية وبيولوجية ، فلا تعنينا إلا من حيث الاستنارة بها . فما رأيك أن نتناول مسألة واحدة من مسائل كثيرة تعنينا وتعني المشاهدين .
- هذا جيد . تفضلي.
- بعد أن تناولنا مسألة جوهرية تتعلق بالوجود ومن أين جاء وكيف ، آن الأوان لأن ندخل في الحديث عن الغاية ، ورغم أنك تحدثت عن غاية تتلخص في بناء حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال ، إلا أن بعض المشاهدين الذين لا يرون أن للوجود غاية قد يتساءلون لماذا كان هناك غاية للوجود ، فلماذا حسب رأيك ؟
- لأنه لا معنى لوجود دون غاية ، في هذه الحال يصبح الوجود عبثيا ، وليس في الإمكان اعتبار العبث بحد ذاته غاية . فلماذا الخلق إذن إذا كان الأمر كذلك؟ ليكن الدمار! ولماذا التعب والشقاء وخلق الانسان ؟ ليذهب الانسان إلى الجحيم . ولماذا بناء حضارة ، وتحقيق قيم خير وعدل ومحبة وجمال ، لمن ستوجد هذه القيم السامية إذا لم يكن هناك كائن أو كائنات تحقق ذلك وتتمتع به ؟ إن كل ما نلمسه ونراه يشير إلى أن للوجود غاية ، وتحديدا هي ما ذكرته، ولا شيء غير ذلك . إن الوجود دون غاية لا معنى له على الإطلاق. ولولا ذلك لما كان هناك وجود، ولما كان وجود كما هو عليه اليوم من كون وكائنات ، ولما كنت أنا وأنت نجلس في هذا الاستوديو ونتحاور حول سر الخلق.
- ماذا عن معتقدات ترى أن الغاية من الخلق هي خدمة الخالق أو خدمة الآلهة وعبادتها .
- هذه بدايات تفكير العقل الانساني في البحث عن حقيقة الوجود والغاية منه . فهذا العقل لم يكن قادرا على فهم الوجود والغاية منه ومن يكمن خلفه .
- لكن موضوع العبادة ما يزال قائما لدى الكثير من المعتقدات .
- لأن الفهم البدائي نفسه ما يزال قائما لدى الكثير من المعتقدات ، وإن حض بعضها على العمل وخاصة عمل الخير . المشكلة أنها لم تكن منسجمة في طرحها ، فثمة ما يمكن أن يعتبر شرا في شرائعها ، مقابل ما هو خير، ولم تستطع التخلص من تناقضاتها، حتى يومنا ، فهي حمالة أوجه كما قيل عنها ، أو عن بعضها على الأقل ، وهنا تكمن مشكلتها. وهي في الحقيقة مشكلة العقل الذي أنتجها حسب ثقافة زمنه. الخالق في مفهومي لا يحتاج إلى عباده لأنه في هذه الحال يعبد نفسه .. عمل الخير وما يرقى بالإنسان هو بحد ذاته عبادة .
- طيب لو عدنا لفهمك ؟ لماذا ترى أن الغاية من الخلق أو من الوجود ، هي رؤية القائم بالخلق لذاته مجسدة في وجود تتحقق فيه القيم التي تحدثت عنها ؟
- لأنه لا يعقل أن يظل الخالق قابعا في حقيل طاقوي دون ذري لا يرى نفسه ولا يراه أحد، فوجوده على هذه الحال لا معنى له. وما ينطبق على هذه الحال ينطبق على القيم ، فالوجود الشكلاني لمجرد الظهور في أشكال مختلفة دون قيم ودون غاية ما نبيلة ، لا معنى له أيضا ، أما لماذا القيم السامية والنبيلة، لأن القائم بالخلق لا يمكن أن يكون غير ذلك ، مهما كان هذا القائم بالخلق ، حتى لو كان الوجود نفسه ، وهو كذلك ! لأن قيم الخير والعدل والمحبة والجمال قيم عليا لا يعلو عليها قيم ، فكيف، لمن يقوم بالخلق أن لا تكون هذه القيم قيمه ، وأن لا يسعى لتحقيقها في ذاته ، أو في وجوده ، أو في خلقه إن شئت ؟
- كيف يمكن تلمس هذه القيم في الوجود ؟
- في جمال الخلق في الكون والطبيعة أولا . وفي القليل من أعمال الخير والعدل والمحبة لدى الانسان ثانيا.
- لماذا الخلق الأول ( الجمال) يبدو أقرب إلى الكمال ، بينما الخلق الثاني لم يتحقق إلا القليل منه ؟
- لأن الخلق الأول تم بفعل القدرالأعلى من خلق الخالق نفسه ، أما الخلق الثاني فقد تم بفعل الكائنات بما فيها الإنسان الذي يسري في خلاياه قدر يسير من طاقة الخالق.
- لماذا قدر يسير؟ لماذا لم يضع الخالق طاقته أو قدرته على الخلق ، كلها في الإنسان ؟!
- لأن الخالق لو وضع طاقته كلها في انسان دون غيره ، لأصبح ندا للخالق نفسه ، ولأصبحنا أمام خالقين وليس خالق واحد، ولما بقي طاقة للإنسان الآخر وللكائنات الأخرى ، لكي تستطيع خلق نفسها ، ولكي تقوم بدورها في عملية الخلق. وفي بدء عملية الانبعاث لم يكن هناك انسان وحتى كون وكائنات .. الانسان جاء بعد أكثر من 13 مليار سنة .. ولك أن تتصوري كم المراحل التي مرت بها عملية الخلق ومقدار الطاقة التي وظفت فيها حتى وصلت إلى خلق الانسان الأول.
وما اختصارهذه المراحل إلى مرحلتين : خلق الكون وخلق الكائنات الحية ، إلا مجازفة وتجاوزا منا لمراحل عديدة. والمسألة ليست عملية وضع قدر من الطاقة في هذا الكائن أو ذاك. إنها عملية بعث وبث وسريان في الكون ، وتعابيرنا من وضع وخلق وخالق كلها تعابير مجازية لتسهيل الفهم ، واجتهاد قدرالإمكان لفهم هذه العملية المعقدة جدا . فنحن أولا وأخيرا أمام قائم بالخلق أو خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، ليرى ذاته مجسدة في أجمل ما يمكن تصوره من أشكال وكائنات ، وأرقى ما يمكن تحقيقه من قيم نبيلة وسامية.
- أليس هناك امكانية لأن تكون هناك حضارات في الكون تحقق فيها قدر أعلى من الجمال والقيم ، أكثر مما تحقق على كوكب الأرض البائس ؟
- في ملحمة الملك لقمان تحدثت عن حضارات راقية وحضارات بدائية في الكون ، فإمكانية أن يكون هناك حضارات أخرى في ترليونات الكواكب والمجرات ،مسألة واردة وممكنة . وفي كتابه فيزياء المستحيل يتطرق الفيزيائي ميشيو كاكو، إلى توقعات بعض العلماء بوجود عشرة آلاف كوكب في مجرة درب التبانة وحدها، قادرة على استقبال الحياة الذكية . وأنه يوجد منها بعض الكواكب المتحضرة جدا، على بعد مئات السنين الضوئية من الأرض. وإذا ما قورنت حضارتنا بحضارات هذه الكواكب، وخاصة النوع الأكثر تطورا منها، بمقياس استخدام الطاقة، فهي أكبر بكثيرمن مستوى الحضارة بيننا وبين النمل !! وهذا يعني أننا على كوكب الأرض ما نزال نعيش في مستوى حضارة أقل من نملية !! وقد ذكر كاكو ثلاثة أنواع من هذه الحضارات المتطورة في الفضاء، استنادا إلى عالم فيزياء روسي.
- كيف تصور تطورها ، ولماذا تطوراتها متفاوتة ومختلفة ؟
- تقوم المسألة على استغلال الطاقة باستخدام قوانين الفيزياء. ففي حضارات من النوع الأول يتم حصد طاقة كوكبية باستخدام الإشعاع الشمسي الذي يسقط على الكوكب جميعه. ويتم تطويع البراكين والتلاعب بالطقس ، والتحكم بالهزات الأرضية ، وبناء مدن في المحيطات.. إن طاقة الكوكب جميعها تدخل ضمن تحكم سكانها.
حضارات من النوع الثاني، وهي تلك التي تستطيع استخدام القدرة الكاملة لشمسها ، مما يجعلها أقوى بعشرة مليارات مرة من حضارة من النوع الأول . وهذا النوع من الحضارة هو حضارة خالدة، ولا يمكن لأي شيء معروف في العلوم، كالعصور الجليدية أو ارتطام النيازك أو حتى للمستعمرات العملاقة أن تحطمها . ويمكن لهذه الكائنات في حال كان نجمها الأم على وشك الانفجار، أن تنتقل إلى نظام نجمي آخر ، أو حتى أن تنقل كوكبها نفسه !!
- (يا رب الكون ماذا يختلف هؤلاء عن الله )؟! علقت أسيل .
- سبق وأن تحدثت في مقال لي عن إمكانيات عالم الفيزياء ، حيث يمكن تفتيت جسد الانسان إلى ذرات وإطلاقه في الفضاء عبر موجات ضوئية إلى كوكب آخر وتجميعه هناك ليعود إلى حالته الطبيعية الانسانية ، وربما عمل أكثر من نسخة من الإنسان نفسه إن شاء ذلك !
- يا إلهي ! وماذا عن الحضارة الثالثة هل نرى الله في أروع تمظهر وتجسد له ؟!
حضارات من النوع الثالث ، يمكن لها أن تستخدم طاقة مجرة بكاملها ، وهي أقوى بعشرة مليارات مرة من حضارات من النوع الثاني. ويمكنها استعمار واستغلال مليارات الأنظمة النجمية ، كما يمكن لسكانها استخدام الطاقة من الثقب الأسود في مركز مجرتهم ، وهم يتجولون بحرية في مسارات الفضاء ضمن مجرتهم .. يعني لا تستغربي إذا ما عرفت أن الإنسان في هذه الكواكب المتحضرة جدا ، يمكن أن يتناول فطوره على كوكب ، وغداءه على كوكب ثان يبعد مائة سنة ضوئية ، وعشاءه على كوكب ثالث يبعد مائة سنة ضوئية أخرى !
- يا إلهي ! هذا يعني أن حضارتنا ما تزال دون الصفر! ونتبجح بأننا متحضرون ونعرف الحقيقة المطلقة . مأساتنا فظيعة.
- للأسف نحن فائض حاجة ولا يستبعد أن ننقرض!
- يخطر لي سؤال الآن .
- ما هو ؟
- كيف يرى الله هذه الحضارات المتطورة وكيف يتمتع بها ؟
- أسيل أنت تنسين أو أنك لست مقتنعة بأننا أمام خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، ففي هذه الحال كيف يمكن لخالق موجود في كل كائن أن يرى ويتمتع ؟
- يرى بعيني الكائن أكيد !
- أجل عزيزتي فكل العيون عيونه ، فهو يرى بها ويتمتع بما يراه بها ، وهذا الأمر ينطبق على الحواس كلها . نحن من الله والوجود كله من الله ولا وجود إلا له ! وها أنا أوظف مفردة الله جل جلاله لإرضاء اخواننا المتدينيين ، ولا ينظرون إلي كملحد ، وإن اختلف مفهومي لماهية وجوهر الله والإلوهية بشكل عام .
- لكن ثمة ما هو محير في هذه الفلسفة. إذا كان الله هو نفسه طاقة الخلق السارية في انسان الفضاء وإنسان الأرض ، فلماذا تقدم وتطور بشكل مذهل في الفضاء وظل متخلفا على الأرض؟!
- ببساطة شديدة، لأن انسان الفضاء اعتمد على عقله ووظف طاقة الخلق الألوهية السارية في جسده على وجهها الأكمل، أي أنه جهد ليبلغ مستوى الألوهة نفسه ، بينما انسان الأرض لم يوظف عقله ولم يستغل طاقة الخلق السارية في جسده بالمستوى الممكن ، وبعض هذا الانسان ما يزال ينتظر الجنة الموعودة بعد موته ليحظى بحور العين ، ويعيش في راحة تامة إلى الأبد ، برعاية الله نفسه ، وما يوفره له من حياة راغدة !!
زفرت أسيل نفسا عميقا وهي تبتسم .. هتفت :
- هذا يعني أن احتمال انقراضنا وارد حسبما ذكرت !
- بل ووارد جدا ! فالله يريد انسانا يتجلى فيه، ويكون على مستوى الألوهة نفسها التي سيّرها في جسده! ليتمتع بجماله وجمال خلقه !
- ياه !! دائما تفجر في مخيلتي أسئلة كثيرة . لكن وقت الحلقة انتهى . شكرا أستاذ محمود ، وشكرا لمشاهدينا الأعزاء ، على أمل أن نلقاكم بخير في حلقتنا القادمة من أفق المعرفة ، لتعرفوا ما لم تعرفوه من قبل من فيلسوفنا وأديبنا الكبير محمود أبو الجدايل ! محدثتكم: أسيل القمر.
*****
تأخرت قليلا عن موعد جلسة التصوير فدخلنا إلى الاستوديو ما أن وصلت . بدأت أسيل الكلام:
" أستاذ محمود توصلنا في الحلقة السابقة إلى نشأة الخلق بعد انبعاث العقل/ الخالق ، أو ما أطلق عليه العلماء الانفجار الكبير أو العظيم ، فما الذي حدث بعد ذلك ، كيف نشأ الكون "؟
- في الحقيقة الحديث عن عقل خالق وعن نشوء خلق بعد انبعاثه مسألة صعبة للغاية تطرقت لها علوم الفيزياء، ويمكن القول أنها توصلت إلى حقائق ممكنة لكنها ليست أكيدة وإن بدت صحيحة نظريا ، فنحن أمام عقل هائل العظمة يستطيع أن يجسد ما تخيله وإن على مراحل.. ويمكن تصور عظمة هذا العقل حين ننظر في عقل الانسان الصادر عنه. فالعقل البشري معجزة من أهم معجزات عملية الخلق، نستطيع عبره أن نفكر ونخترع ونقوم بما لا يخطر في البال، أي أن نكون مبدعين وخالقين كالخالق نفسه. علما أننا لا نعرف ماهية هذا العقل ، ولا نعرف جسما ماديا معروفا له ، أو حتى جسما ينتجه كالسمع بالنسبة للأذن ، أو البصر بالنسبة للعين ، وإن توقع العلماء أنه يصدر عن الدماغ، وليس عن القلب كما يذكر في بعض النصوص الدينية . ومع ذلك نقر بوجوده دون أن نراه ، كالعقل الخالق تماما ، فنحن نقر بوجود عقل خالق أو قائم بالخلق أو حتى إله ، دون أن نراه أو نعرف ماهيته حسب المعتقدات السماوية، ولا يمكن أن نعرفه إلا من خلقه ، والامر كذلك بالنسبة للعقل البشري. . يمكن تصور أن العقل البشري ينتج عن الدماغ والقلب والأعصاب ، أو عن الدماغ وحده ، لذلك لا يعتبر الميت ميتاً ما لم يتوقف دماغه عن العمل ، وليس بالنظر إلى الحال التي عليها قلبه. هذا في حال الانسان، فما هي الحال مع العقل الإلهي أو عقل الخالق، حيث لا دماغ ولا قلب ولا أعصاب ، وحتى لا زمان ولا مكان كما هي الحال قبل الانبعاث. فليس هناك ما يشجعنا لأن نعتقد أن للخالق شكل إنسان ، وأنه يملك دماغا وقلبا وأعصابا. فعقل الخالق مسألة مختلفة تماما، لأنه لا شكل له يمكن أن نعرفه، ولا زمان ومكان خارج زمكانه، لنفترض أنه موجود في مكان آخر وبشكل آخرلا نعرفه. وليس أمامنا في هذه الحال إلا أن نتخيل عقله بقدر ما حسب ثقافتنا ، وعلى ضوء من أنبأتنا به علوم الفيزياء، وخاصة الفيزياء الكمومية ، التي أثبتت لنا أن اهتزاز الكترونين بتوافق في حالة تناغم ، يُمَكِنُهما من أن يظلا في حالة تناغم موجي حتى لو فصلت بينهما مسافة كبيرة . وعلى الرغم من أن الإلكترونين قد يبعد أحدهما عن الآخر سنوات ضوئية فإن هناك موجة غير مرئية تربط بينهما كالحبل السرّي . ولو حدث شيء ما لأحد الإلكترونين فإن الشيء نفسه يحدث للإلكترون الثاني. هذا ما يطلق عليه " التواصل الكمومي " وهو المبدأ الذي ينص على أن الجسيمات التي تهتز بتناغم ، لها نوع من الاتصال العميق الذي يربطها بعضها ببعض. على ضوء هذه المعرفة يمكننا تصورعقل الخالق ، على أنه مسألة اعجازية بكل ما تعنيه الكلمة ، بحيث يمكنه أن يتواجد في كل زمكان، وفي كل كائن، من أصغرجسيم دون ذري، إلى أكبر مجرة ، دون أن يفقد أي جزيء في الوجود علاقته بكل الأجزاء الأخرى وعلاقته بالكون ككل . من هنا يأتي فهمنا للوجود الانساني وارتباطه بالوجود الكوني.
على ضوء هذه المفاهيم العلمية يمكننا النظر إلى نشأة الكون وإلى فهم التفاعلات التي تمت بعد لحظة الانبعاث، بين كواركات وفوتونات ولبتونات لينتج عنها بروتونات ونيوترونات ، وليدخل الالكترون في هذه العملية لتنشأ ذرة الهيدروجين ، ومن ثم الهيليوم ولتصبح مادة الكون الاولى 75% منها من ذرات الهيدروجين و 23% منها من ذرات الهيليوم . هذه العملية جرت في الثواني الاولى من الانبعاث ، أي أقل من دقيقة. العلماء يقسمونها بالثواني ويتابعون المسألة لما جرى خلال دقيقتين وما بعدهما! وكل ذلك يجري ضمن حرارة فائقة التصور وإن بردت نسبيا . وراحت تبرد وتمر بمراحل مديدة وعصور مختلفة إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه .. وقد تناول الفيزيائيون والجيولوجيون معظم هذه التطورات . لن ندخل في تفاصيل هذه التفاعلات لأنها تخص العلم الذي كشف معظمها، بينما حواراتنا تركز على الجانب الفلسفي في المسألة الوجودية برمتها، وإن كنا نستنير بهذه العلوم لإغناء رؤيتنا. ويمكن لم يرغب في معرفتها البحث عنها عبر الكتب أو شبكة النت . وقد أخبرنا العلم أن هذه التفاعلات دامت لملايين السنين حتى ظهرت ذرات متعادلة نجم عنها غازات وغبار تحولت عبر الأزمنة إلى غيوم أقرب إلى الضباب الكثيف. ويمكن تصور كم كانت هذه العملية شاقة ومعقدة حين نجد أن العملية استغرقت قرابة تسعة مليارات عام حتى اكتمل ظهورالكواكب والنجوم والمذنبات في بعض المجرات . وهذا رقم هائل جدا، ما دفع بعض العلماء للاعتقاد أن الوجود نشأ صدفة ، وأن كل ما يجري هو مجرد صدف ، وبالتالي لا غاية للوجود ، وهذا ما أختلف حوله مع العلماء. فكل ما نلمسه في الوجود يشير إلى أن للوجود غاية كما سبق وأن ذكرنا، والمؤسف أنه لا يمكن اثبات ذلك علميا ، لكنه ممكن بالاستدلال المنطقي. . وسنتطرق إلى ذلك بقدر ما في حينه ، أما عن الصدف ، فثمة احتمال كبير أن بعض عمليات الخلق كانت تتطلب من العقل/ الخالق أن يجري تجارب على ما يفكر فيه، لعدم وضوح قوانينها في عقله ، أو لخلل فيها، فينجح بعضها ويفشل بعضها الآخر، وربما حدثت ملايين التجارب ، حتى تم التوصل إلى ما هو ممكن أو إلى الأفضل .. يمكن الاستدلال على ذلك فيما بعد من مخلوقات حية كثيرة جدا، خلقت وانقرضت لعدم تكيفها مع بيئتها ، أو لعدم نجاح عملية خلقها من الأساس ، لأن قوانين الخلق كانت ما تزال تتشكل في عقل الخالق ، بل وما تزال ، أي أن الإطلاق في اكتمال قوانين الخلق لم يحدث بعد ، وقد لا يحدث ، فالقوانين تتطور باستمرار ، وعملية الخلق برمتها في تطور دائم . ولنا أن نتصور كم كانت العملية شاقة، حين نرى أن الشمس لم تكن قد شكلت قبل قرابة خمس مليارات عام، وأن كوكب الأرض لم يوجد إلا منذ قرابة أربعة مليارات ونصف عام ، أي أن قرابة تسعة مليارات عام لم يكن فيها كوكب الأرض.
- وهذا يشير إلى أن خلق الكون بمجراته وكواكبه ونجومه هو ما استغرق معظم هذا الزمن الهائل ، وأن خلق الكائنات الحية لم يأخذ إلا بضعة ملايين من السنين .
- أكيد ، وخاصة إذا ما عرفنا أن تشكل الخلية الحية لم يكن إلا من قرابة خمسمائة مليون سنة أو أكثر قليلا . وإن أوغل بعض العلماء في ما هو أبعد من ذلك. حين تحدثوا عن وجود سلف لكل الكائنات الحية قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة ، كان وحيد الخلية.
- أستاذ محمود . كما أسلفت أنت إن ما يهمنا من حوارنا هو الجانب الفلسفي ، أما الجوانب الأخرى من فيزيائية وجيولوجية وبيولوجية ، فلا تعنينا إلا من حيث الاستنارة بها . فما رأيك أن نتناول مسألة واحدة من مسائل كثيرة تعنينا وتعني المشاهدين .
- هذا جيد . تفضلي.
- بعد أن تناولنا مسألة جوهرية تتعلق بالوجود ومن أين جاء وكيف ، آن الأوان لأن ندخل في الحديث عن الغاية ، ورغم أنك تحدثت عن غاية تتلخص في بناء حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال ، إلا أن بعض المشاهدين الذين لا يرون أن للوجود غاية قد يتساءلون لماذا كان هناك غاية للوجود ، فلماذا حسب رأيك ؟
- لأنه لا معنى لوجود دون غاية ، في هذه الحال يصبح الوجود عبثيا ، وليس في الإمكان اعتبار العبث بحد ذاته غاية . فلماذا الخلق إذن إذا كان الأمر كذلك؟ ليكن الدمار! ولماذا التعب والشقاء وخلق الانسان ؟ ليذهب الانسان إلى الجحيم . ولماذا بناء حضارة ، وتحقيق قيم خير وعدل ومحبة وجمال ، لمن ستوجد هذه القيم السامية إذا لم يكن هناك كائن أو كائنات تحقق ذلك وتتمتع به ؟ إن كل ما نلمسه ونراه يشير إلى أن للوجود غاية ، وتحديدا هي ما ذكرته، ولا شيء غير ذلك . إن الوجود دون غاية لا معنى له على الإطلاق. ولولا ذلك لما كان هناك وجود، ولما كان وجود كما هو عليه اليوم من كون وكائنات ، ولما كنت أنا وأنت نجلس في هذا الاستوديو ونتحاور حول سر الخلق.
- ماذا عن معتقدات ترى أن الغاية من الخلق هي خدمة الخالق أو خدمة الآلهة وعبادتها .
- هذه بدايات تفكير العقل الانساني في البحث عن حقيقة الوجود والغاية منه . فهذا العقل لم يكن قادرا على فهم الوجود والغاية منه ومن يكمن خلفه .
- لكن موضوع العبادة ما يزال قائما لدى الكثير من المعتقدات .
- لأن الفهم البدائي نفسه ما يزال قائما لدى الكثير من المعتقدات ، وإن حض بعضها على العمل وخاصة عمل الخير . المشكلة أنها لم تكن منسجمة في طرحها ، فثمة ما يمكن أن يعتبر شرا في شرائعها ، مقابل ما هو خير، ولم تستطع التخلص من تناقضاتها، حتى يومنا ، فهي حمالة أوجه كما قيل عنها ، أو عن بعضها على الأقل ، وهنا تكمن مشكلتها. وهي في الحقيقة مشكلة العقل الذي أنتجها حسب ثقافة زمنه. الخالق في مفهومي لا يحتاج إلى عباده لأنه في هذه الحال يعبد نفسه .. عمل الخير وما يرقى بالإنسان هو بحد ذاته عبادة .
- طيب لو عدنا لفهمك ؟ لماذا ترى أن الغاية من الخلق أو من الوجود ، هي رؤية القائم بالخلق لذاته مجسدة في وجود تتحقق فيه القيم التي تحدثت عنها ؟
- لأنه لا يعقل أن يظل الخالق قابعا في حقيل طاقوي دون ذري لا يرى نفسه ولا يراه أحد، فوجوده على هذه الحال لا معنى له. وما ينطبق على هذه الحال ينطبق على القيم ، فالوجود الشكلاني لمجرد الظهور في أشكال مختلفة دون قيم ودون غاية ما نبيلة ، لا معنى له أيضا ، أما لماذا القيم السامية والنبيلة، لأن القائم بالخلق لا يمكن أن يكون غير ذلك ، مهما كان هذا القائم بالخلق ، حتى لو كان الوجود نفسه ، وهو كذلك ! لأن قيم الخير والعدل والمحبة والجمال قيم عليا لا يعلو عليها قيم ، فكيف، لمن يقوم بالخلق أن لا تكون هذه القيم قيمه ، وأن لا يسعى لتحقيقها في ذاته ، أو في وجوده ، أو في خلقه إن شئت ؟
- كيف يمكن تلمس هذه القيم في الوجود ؟
- في جمال الخلق في الكون والطبيعة أولا . وفي القليل من أعمال الخير والعدل والمحبة لدى الانسان ثانيا.
- لماذا الخلق الأول ( الجمال) يبدو أقرب إلى الكمال ، بينما الخلق الثاني لم يتحقق إلا القليل منه ؟
- لأن الخلق الأول تم بفعل القدرالأعلى من خلق الخالق نفسه ، أما الخلق الثاني فقد تم بفعل الكائنات بما فيها الإنسان الذي يسري في خلاياه قدر يسير من طاقة الخالق.
- لماذا قدر يسير؟ لماذا لم يضع الخالق طاقته أو قدرته على الخلق ، كلها في الإنسان ؟!
- لأن الخالق لو وضع طاقته كلها في انسان دون غيره ، لأصبح ندا للخالق نفسه ، ولأصبحنا أمام خالقين وليس خالق واحد، ولما بقي طاقة للإنسان الآخر وللكائنات الأخرى ، لكي تستطيع خلق نفسها ، ولكي تقوم بدورها في عملية الخلق. وفي بدء عملية الانبعاث لم يكن هناك انسان وحتى كون وكائنات .. الانسان جاء بعد أكثر من 13 مليار سنة .. ولك أن تتصوري كم المراحل التي مرت بها عملية الخلق ومقدار الطاقة التي وظفت فيها حتى وصلت إلى خلق الانسان الأول.
وما اختصارهذه المراحل إلى مرحلتين : خلق الكون وخلق الكائنات الحية ، إلا مجازفة وتجاوزا منا لمراحل عديدة. والمسألة ليست عملية وضع قدر من الطاقة في هذا الكائن أو ذاك. إنها عملية بعث وبث وسريان في الكون ، وتعابيرنا من وضع وخلق وخالق كلها تعابير مجازية لتسهيل الفهم ، واجتهاد قدرالإمكان لفهم هذه العملية المعقدة جدا . فنحن أولا وأخيرا أمام قائم بالخلق أو خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، ليرى ذاته مجسدة في أجمل ما يمكن تصوره من أشكال وكائنات ، وأرقى ما يمكن تحقيقه من قيم نبيلة وسامية.
- أليس هناك امكانية لأن تكون هناك حضارات في الكون تحقق فيها قدر أعلى من الجمال والقيم ، أكثر مما تحقق على كوكب الأرض البائس ؟
- في ملحمة الملك لقمان تحدثت عن حضارات راقية وحضارات بدائية في الكون ، فإمكانية أن يكون هناك حضارات أخرى في ترليونات الكواكب والمجرات ،مسألة واردة وممكنة . وفي كتابه فيزياء المستحيل يتطرق الفيزيائي ميشيو كاكو، إلى توقعات بعض العلماء بوجود عشرة آلاف كوكب في مجرة درب التبانة وحدها، قادرة على استقبال الحياة الذكية . وأنه يوجد منها بعض الكواكب المتحضرة جدا، على بعد مئات السنين الضوئية من الأرض. وإذا ما قورنت حضارتنا بحضارات هذه الكواكب، وخاصة النوع الأكثر تطورا منها، بمقياس استخدام الطاقة، فهي أكبر بكثيرمن مستوى الحضارة بيننا وبين النمل !! وهذا يعني أننا على كوكب الأرض ما نزال نعيش في مستوى حضارة أقل من نملية !! وقد ذكر كاكو ثلاثة أنواع من هذه الحضارات المتطورة في الفضاء، استنادا إلى عالم فيزياء روسي.
- كيف تصور تطورها ، ولماذا تطوراتها متفاوتة ومختلفة ؟
- تقوم المسألة على استغلال الطاقة باستخدام قوانين الفيزياء. ففي حضارات من النوع الأول يتم حصد طاقة كوكبية باستخدام الإشعاع الشمسي الذي يسقط على الكوكب جميعه. ويتم تطويع البراكين والتلاعب بالطقس ، والتحكم بالهزات الأرضية ، وبناء مدن في المحيطات.. إن طاقة الكوكب جميعها تدخل ضمن تحكم سكانها.
حضارات من النوع الثاني، وهي تلك التي تستطيع استخدام القدرة الكاملة لشمسها ، مما يجعلها أقوى بعشرة مليارات مرة من حضارة من النوع الأول . وهذا النوع من الحضارة هو حضارة خالدة، ولا يمكن لأي شيء معروف في العلوم، كالعصور الجليدية أو ارتطام النيازك أو حتى للمستعمرات العملاقة أن تحطمها . ويمكن لهذه الكائنات في حال كان نجمها الأم على وشك الانفجار، أن تنتقل إلى نظام نجمي آخر ، أو حتى أن تنقل كوكبها نفسه !!
- (يا رب الكون ماذا يختلف هؤلاء عن الله )؟! علقت أسيل .
- سبق وأن تحدثت في مقال لي عن إمكانيات عالم الفيزياء ، حيث يمكن تفتيت جسد الانسان إلى ذرات وإطلاقه في الفضاء عبر موجات ضوئية إلى كوكب آخر وتجميعه هناك ليعود إلى حالته الطبيعية الانسانية ، وربما عمل أكثر من نسخة من الإنسان نفسه إن شاء ذلك !
- يا إلهي ! وماذا عن الحضارة الثالثة هل نرى الله في أروع تمظهر وتجسد له ؟!
حضارات من النوع الثالث ، يمكن لها أن تستخدم طاقة مجرة بكاملها ، وهي أقوى بعشرة مليارات مرة من حضارات من النوع الثاني. ويمكنها استعمار واستغلال مليارات الأنظمة النجمية ، كما يمكن لسكانها استخدام الطاقة من الثقب الأسود في مركز مجرتهم ، وهم يتجولون بحرية في مسارات الفضاء ضمن مجرتهم .. يعني لا تستغربي إذا ما عرفت أن الإنسان في هذه الكواكب المتحضرة جدا ، يمكن أن يتناول فطوره على كوكب ، وغداءه على كوكب ثان يبعد مائة سنة ضوئية ، وعشاءه على كوكب ثالث يبعد مائة سنة ضوئية أخرى !
- يا إلهي ! هذا يعني أن حضارتنا ما تزال دون الصفر! ونتبجح بأننا متحضرون ونعرف الحقيقة المطلقة . مأساتنا فظيعة.
- للأسف نحن فائض حاجة ولا يستبعد أن ننقرض!
- يخطر لي سؤال الآن .
- ما هو ؟
- كيف يرى الله هذه الحضارات المتطورة وكيف يتمتع بها ؟
- أسيل أنت تنسين أو أنك لست مقتنعة بأننا أمام خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه ، ففي هذه الحال كيف يمكن لخالق موجود في كل كائن أن يرى ويتمتع ؟
- يرى بعيني الكائن أكيد !
- أجل عزيزتي فكل العيون عيونه ، فهو يرى بها ويتمتع بما يراه بها ، وهذا الأمر ينطبق على الحواس كلها . نحن من الله والوجود كله من الله ولا وجود إلا له ! وها أنا أوظف مفردة الله جل جلاله لإرضاء اخواننا المتدينيين ، ولا ينظرون إلي كملحد ، وإن اختلف مفهومي لماهية وجوهر الله والإلوهية بشكل عام .
- لكن ثمة ما هو محير في هذه الفلسفة. إذا كان الله هو نفسه طاقة الخلق السارية في انسان الفضاء وإنسان الأرض ، فلماذا تقدم وتطور بشكل مذهل في الفضاء وظل متخلفا على الأرض؟!
- ببساطة شديدة، لأن انسان الفضاء اعتمد على عقله ووظف طاقة الخلق الألوهية السارية في جسده على وجهها الأكمل، أي أنه جهد ليبلغ مستوى الألوهة نفسه ، بينما انسان الأرض لم يوظف عقله ولم يستغل طاقة الخلق السارية في جسده بالمستوى الممكن ، وبعض هذا الانسان ما يزال ينتظر الجنة الموعودة بعد موته ليحظى بحور العين ، ويعيش في راحة تامة إلى الأبد ، برعاية الله نفسه ، وما يوفره له من حياة راغدة !!
زفرت أسيل نفسا عميقا وهي تبتسم .. هتفت :
- هذا يعني أن احتمال انقراضنا وارد حسبما ذكرت !
- بل ووارد جدا ! فالله يريد انسانا يتجلى فيه، ويكون على مستوى الألوهة نفسها التي سيّرها في جسده! ليتمتع بجماله وجمال خلقه !
- ياه !! دائما تفجر في مخيلتي أسئلة كثيرة . لكن وقت الحلقة انتهى . شكرا أستاذ محمود ، وشكرا لمشاهدينا الأعزاء ، على أمل أن نلقاكم بخير في حلقتنا القادمة من أفق المعرفة ، لتعرفوا ما لم تعرفوه من قبل من فيلسوفنا وأديبنا الكبير محمود أبو الجدايل ! محدثتكم: أسيل القمر.
*****