منذ ساعات وصديقه يُعانق ذاكرته، يأبى مُغادرتها يعبث بها ويبعثر كل محتويات غُرفتها..! صديقه كان يعمل في إحدى المنظمات الإغاثية… تتراءى أمامهُ صور لوجه صديقه الشارد وهو يَمرُّ على تلك الطرابيل والمرارة تسري في جسده وقلبه ليتفقد أحوال النازحين من الحرب..!
حربٌ لم تترك مكانًا إلا افترشتهُ وسلبت نضارته..، حربٌ سَرت في المدن والقرى والتباب وكأنها انسيابٌ من أبواب الجحيم التي فُتحت..! كم يؤلمهُ ذلك الرجل «صاحب الطربال الأزرق» يُقيم هو وزوجتهُ الذابلة وأطفالهُ الذين يتوسدون الحجارة كي ينالوا قسطًا من القسوة.. بل إنهم ينالون القسوة كُلها…لا يجدون حضنًا لهم سوى ذلك العراء..! داهمهُ الوجع المُضجر «ادعى الضجر ليرحل باحثًا عن زاوية يَحلُّ البكاء فيها» أراد البكاء بعيدًا عن الأنظار.. همّ بالمغادرة إلى اللامكان.. قادتهُ خُطاهُ إلى مبنى مُكفهر..! انطوى في تلك الزاوية وجاشت عيناه.. مر صديقه من أمام ذلك المبنى وسمع نحيبًا خافتًا، دخل إلى هُناك ووجده قد مسح دموعهُ ولكن اللمعة ما زالت تتحدث في عينيه..!
قال صديقه وقد تراكمت في صدره الزفرات: لا تقل لي كيف حدث ذلك لأنني لم أنم منذ البارحة، وتمنى قلبي التائهُ في الظلام الصراخ في كل القراصنة: دعوا مساكين الجبال يعيشون..!!
أأقول شيئًا؟ طوال الساعات الماضية وأنا أفكر بحل ينقذ هذه العائلة؛ كيف لهم أن يتدثروا بطربال ثبته الأب بمسامير صدئة إلى جدار ذلك السور الطويل الذي يخفي مبنى البرلمان المتعثر.. نعم يا صديقي، لقد أحسست بأن والدهم المصاب بثقب في القلب يتحدث بسعادة أحيانًا.. كان ينظر إلى أطفاله حين همس لي :«لقد هربنا…!!» البيوت التي تركنا بياضها طحنتها الدبابات والمدفعية؛ شوارع وبنايات وقرى تفتّت وتناثرت وتلاشت كما لو أنها الرماد.. كنت أرى ضحكته فأحس لثانية أن زعيق الانفجارات نهشت من عقله..
لن أُخفي عليك يا صديقي أنني في الحقيقة أجللته وأكبرته، لقد استطاع أن ينقذ هذه الطفولة من مخالب الارتطامات المهولة التي سببها بعض أفواه المدافع… حاول الفتى فك قيود صدره ومحاولة النهوض والهروب من تلك الزاوية المكفهرة..! إلا أن صديقه لحق به في أروقة المبنى، وحين انتهوا إلى حديقة خلفية قال: لا تخف يا صديقي رُبما سينتهي بنا الأمر إلى حديقة!!
ههه لكل نفق نهاية، ولكن ألا ترى بأننا في الظل المعتم لم نكن سوى أصوات؟ هل تتذكر الكهرباء العمومية كيف كانت تضيء الممرات والردهات وتعيننا على السير؟
حقًّا كل نفق يحتاج إلى إضاءة يا صديقي!! صمت الشاب المتحمس للعنة للحرب وكأن صبره قد نفد.. جلس على أحد الكراسي المتّسخة بالغبار وهو يردد: أعتقد بأن رجل الطربال شخص جبان، وعليه أن يحيا تحت الطربال طويلًا..!!
هه مخطئ أنت يا صديقي..
آه كم هو شجاع، لو رأيته لمرة واحدة وهو يتمزق في الجولة القريبة من قصر الرئاسة؛ مستنفرًا كل قواه الواهنة عارضًا المناديل الورقية على المارة..!
إنه العمل الوحيد والمتاح أمامه.. أنت لم تره لأنك لا تذهب بعيدًا عن الحي الذي تسكنه.. ولا تعتلف القات إلا مع الجوقة التي تناسب صوتك.. حين رأيته ظننت بأنني قد رأيته من قبل، وتذكرت أنه كان يعمل في إحدى المكتبات التي أحرقها القصف بمدينة تعز.. آه لو رأيته كيف يؤلب أطفاله وكأنه يلتقيهم أول مرّة.. لو رأيت كيف أخرج الخبز اليابس من كيس حراري وألقمه طفلته، التي نهضت من نومها للتو.. أعرف أنك تتململ، تريد أن تقول شيئًا، ولكن أرجوك لا تقل فقط تعال معي لزيارته..
تعال واسمع حكايات الآباء الذين قتلوا أبناءهم لمجرد أن اليأس دب في حياتهم.. أعرف جيدًا ما يدور في داخلك، وما تفكر! أعرف أنك تريد أن تقول: إنه ميت لا محالة؛ تريد أن تقول: لماذا يموت رجل الطربال في ساحة المعركة؟ ولكن يا صديقي أنت تجتزئه من عائلته، تقصيه من فلذات كبده.. تريد منعه من إيصال رسالته التي آمن بها، دعني أتخيل الآن هذه الأسرة المنكوبة العارية، وأولئك الأطفال الذين رأيتهم ذات ليل يحملون الحقائب المدرسية ينتظرون مولودًا خلال الأيام القادمة!!
ربما انتهى الكلام بينهما، لكن الحرب لا تزال مستمرة في ثرثرة تشبه حممًا بركانية، أو جحيمًا مفتوحة إلى الأبد.
اليمن
حربٌ لم تترك مكانًا إلا افترشتهُ وسلبت نضارته..، حربٌ سَرت في المدن والقرى والتباب وكأنها انسيابٌ من أبواب الجحيم التي فُتحت..! كم يؤلمهُ ذلك الرجل «صاحب الطربال الأزرق» يُقيم هو وزوجتهُ الذابلة وأطفالهُ الذين يتوسدون الحجارة كي ينالوا قسطًا من القسوة.. بل إنهم ينالون القسوة كُلها…لا يجدون حضنًا لهم سوى ذلك العراء..! داهمهُ الوجع المُضجر «ادعى الضجر ليرحل باحثًا عن زاوية يَحلُّ البكاء فيها» أراد البكاء بعيدًا عن الأنظار.. همّ بالمغادرة إلى اللامكان.. قادتهُ خُطاهُ إلى مبنى مُكفهر..! انطوى في تلك الزاوية وجاشت عيناه.. مر صديقه من أمام ذلك المبنى وسمع نحيبًا خافتًا، دخل إلى هُناك ووجده قد مسح دموعهُ ولكن اللمعة ما زالت تتحدث في عينيه..!
قال صديقه وقد تراكمت في صدره الزفرات: لا تقل لي كيف حدث ذلك لأنني لم أنم منذ البارحة، وتمنى قلبي التائهُ في الظلام الصراخ في كل القراصنة: دعوا مساكين الجبال يعيشون..!!
أأقول شيئًا؟ طوال الساعات الماضية وأنا أفكر بحل ينقذ هذه العائلة؛ كيف لهم أن يتدثروا بطربال ثبته الأب بمسامير صدئة إلى جدار ذلك السور الطويل الذي يخفي مبنى البرلمان المتعثر.. نعم يا صديقي، لقد أحسست بأن والدهم المصاب بثقب في القلب يتحدث بسعادة أحيانًا.. كان ينظر إلى أطفاله حين همس لي :«لقد هربنا…!!» البيوت التي تركنا بياضها طحنتها الدبابات والمدفعية؛ شوارع وبنايات وقرى تفتّت وتناثرت وتلاشت كما لو أنها الرماد.. كنت أرى ضحكته فأحس لثانية أن زعيق الانفجارات نهشت من عقله..
لن أُخفي عليك يا صديقي أنني في الحقيقة أجللته وأكبرته، لقد استطاع أن ينقذ هذه الطفولة من مخالب الارتطامات المهولة التي سببها بعض أفواه المدافع… حاول الفتى فك قيود صدره ومحاولة النهوض والهروب من تلك الزاوية المكفهرة..! إلا أن صديقه لحق به في أروقة المبنى، وحين انتهوا إلى حديقة خلفية قال: لا تخف يا صديقي رُبما سينتهي بنا الأمر إلى حديقة!!
ههه لكل نفق نهاية، ولكن ألا ترى بأننا في الظل المعتم لم نكن سوى أصوات؟ هل تتذكر الكهرباء العمومية كيف كانت تضيء الممرات والردهات وتعيننا على السير؟
حقًّا كل نفق يحتاج إلى إضاءة يا صديقي!! صمت الشاب المتحمس للعنة للحرب وكأن صبره قد نفد.. جلس على أحد الكراسي المتّسخة بالغبار وهو يردد: أعتقد بأن رجل الطربال شخص جبان، وعليه أن يحيا تحت الطربال طويلًا..!!
هه مخطئ أنت يا صديقي..
آه كم هو شجاع، لو رأيته لمرة واحدة وهو يتمزق في الجولة القريبة من قصر الرئاسة؛ مستنفرًا كل قواه الواهنة عارضًا المناديل الورقية على المارة..!
إنه العمل الوحيد والمتاح أمامه.. أنت لم تره لأنك لا تذهب بعيدًا عن الحي الذي تسكنه.. ولا تعتلف القات إلا مع الجوقة التي تناسب صوتك.. حين رأيته ظننت بأنني قد رأيته من قبل، وتذكرت أنه كان يعمل في إحدى المكتبات التي أحرقها القصف بمدينة تعز.. آه لو رأيته كيف يؤلب أطفاله وكأنه يلتقيهم أول مرّة.. لو رأيت كيف أخرج الخبز اليابس من كيس حراري وألقمه طفلته، التي نهضت من نومها للتو.. أعرف أنك تتململ، تريد أن تقول شيئًا، ولكن أرجوك لا تقل فقط تعال معي لزيارته..
تعال واسمع حكايات الآباء الذين قتلوا أبناءهم لمجرد أن اليأس دب في حياتهم.. أعرف جيدًا ما يدور في داخلك، وما تفكر! أعرف أنك تريد أن تقول: إنه ميت لا محالة؛ تريد أن تقول: لماذا يموت رجل الطربال في ساحة المعركة؟ ولكن يا صديقي أنت تجتزئه من عائلته، تقصيه من فلذات كبده.. تريد منعه من إيصال رسالته التي آمن بها، دعني أتخيل الآن هذه الأسرة المنكوبة العارية، وأولئك الأطفال الذين رأيتهم ذات ليل يحملون الحقائب المدرسية ينتظرون مولودًا خلال الأيام القادمة!!
ربما انتهى الكلام بينهما، لكن الحرب لا تزال مستمرة في ثرثرة تشبه حممًا بركانية، أو جحيمًا مفتوحة إلى الأبد.
اليمن