جمال الدين علي الحاج - عابر سبيل.. قصة قصيرة

لا يدري أي إحساس انتابه وهز بدنه; وهو منهمك في عمله ليندلق اللحن ويجرى على لسانه بتلك الطلاوة والحلاوة( لا شوفتن تبل الشوق ولا رد يطمن; أريتك تبقى طيب أنت أنا البي كلو هين). صعد على متن العربة التي يجرها حماره (المكادي) طيب المعشر; بعدما أفرغ آخر عبوة في برميل جارتهم (عيشة).
وهو مستلق على سريره في الحوش; والنسمة الطرية تداعب وجهه بلطف وذكر القمري العاشق المتأنق الذي راح يلف ويدور; يلح على رفيقة متمنعة بصوته الرخيم لكي تشاركه الرقص في سقف الغرفة على مرأى من الحدأة التي حامت بالجو; في تلك اللحظة شعر أن هذا اليوم مختلف. ها هي الآن جارته ( عيشة) تزف له البشرى: أخيرا. يضرب الحمار على عنقة برفق: كن مؤدبا ها.. عندما نقلها من موقف الحافلات إلى البيت بالعربة الجديدة. ليس من ثمة عربة جديدة هنا مجرد تعديلات طفيفة من ابتكاره يجريها بسرعة بعد نهاية عمله الصباحي الروتيني. جلب المياه من النيل وتوزيعها على البيوت. يرفع برميل المياه الفارغ; يضع مكانه لوحا خشبيا مفروشا بقطعة موكيت قديم ويثبته بمقابض حديد على إطار العربة.. يزيل اللوحة ( عابر سبيل) المعلقة بالخلف ويضع مكانها لوحة( تاكسي الغرام) المكتوبة بخط ركيك أيضا. الحمار (المكادي) هو نفسه وجهاز التسجيل القديم هو نفسه. فقط حين تجلس (سعاد) بجواره يتخدر شقه الأيمن; يغلق موجة إذاعة القرآن; يضع شريط الكاسيت الذي تحبه ويرفع الصوت للآخر; وكأنه يشهد العالم على هذا الحدث الاستثنائي الذي ينتظره مرتين في العام. في آخر زيارة لها مالت عليه والتقطت لهما صورة بهاتفها الجديد; لحظتها سرت في عروقه رعشة مجنونة وتورد وجهه الذي أحرقته أشعة الشمس. وأحس لأول مرة أنه رجل مهم. لابد أنها تحبه; هو لا يحتاج إلى دليل ملموس; لا يحتاج أن يضع صورتها على شاشة جامدة غبية; لديه درج خاص في قلبه يحتفظ فيه بكل صورها; منذ ذلك اليوم الذي ألقمته الحرف الأول بأصبعها السبابة من على الرمل في فمه عند شجرة ( الطنّدب) أعلى التل غرب القرية وهما يرعيان الأغنام صورتها لا تفارق خياله. شق في جيب الزمن منعه صعود السلم; فتعثر في أول عتبة بينما قفزت بعقلها لأعلى. هو ليس ناقما على الظروف ولا عليها لأنها تركته ورحلت. ضغط على جرحه ولم يشتك. حين يعضه الشوق; يخرج الصورة التي يريد; يتأملها; يتلفت حوله; يمرر أصبعه على خديها وشفتيها; يقبّلها بحنو ومن ثم يعيدها إلى مكانها في درج قلبه.
من فرط السعادة نسى( بلة) أخذ أتعابه. أربع عبوات كبيرات من مياه النيل الطيبة سكبها بحب في برميل جارته عيشة قبل أن يضع عليه الغطاء ويثبته بإحكام. هو غير متأكد من العدد حتى. ربما غافل نفسه وراوغ الحمار حين راح يقضم العشب وسكب عبوة فوق البيعة. لكنه لن يستطيع الإنكار أنه أهرق مياه كثيرة في غسل برميل جارته من الداخل والخارج: تستأهل. همهم للحمار. وضع يده على جيبه فشكه دبوس مفلس وجبان: لا تحرّن هكذا عيب يا أخي نأخذ من الولية ثمن الموية. إمام المسجد قال الناس شركاء في ثلاثة وبدأ بالموية. لا تقلق سنتدبر أمر الفطور يمكنك تناول القصب والبرسيم اليابس المتناثر في سوق القش وأنا سأدبر نفسي. لم يقل للحمار كيف. أضاف: ماله عيبه لي نعمة من كريم. المهم لا نتأخر على تمرة الفؤاد سعاد.
وتذكر أنه ذاهب إلى بيت سعدية الدلالية.. المرأة القاهرة كما يصفها. لسانها فالت كالفلقة بالأمس سلخت جلده:
- يا ولد; عبوة موية عكّرة ورائحتها جاز بعشرة ألف! يعشّرك التيس. ما في غير خمسة.
- يعشّرك حماري المكادي.
ويطلق ضحكة طويلة; يضرب الحمار على فخذه الأيمن بقبضة يده حينما يمر بجوار بيتها. وتمايل صوت المذيع في نشرة الأخبار مع العربة وهي تتلوى مع الدرب ( الحكومة الأمريكية ترجيء رفع العقوبات عن السودان).
إيه.. تطيّر عيشتنا. همهم: أنا رأيّ قلته للجماعة أمام الدكان.. أصلا وفود الحكومة طالعة ونازلة بلا فائدة ولو جئنا للحق أمريكا لو رفعت الحظر أو تركته هو الحال في حاله. لكن هو الواجب يحتم على المرء قول الحق. لابد أن يفهم العالم أنه نحن لسنا كما يدعون. حظنا نحس صح. غبش ومغبرين صح. فقراء جائز . لكن عمرنا ما كنا غدارين. وبدأ يسرد للحمار الذي لم يكن حاضرا وقتها( المسألة حلها بسيط جدا. نحن نعزم الرئيس الأمريكي عندنا هنا في القرية وعلى شرط تكون معه بنته. افن.. أيا.. إفانكا. ونذبح بكرتين وثورين دعول وكمين خروف حمري. ومثلهم تيس بلدي والعصر في الميدان أمام المسجد ندق النحاس; نعمل حفلة من أمها ما خمج. تغني رضا حريقة وشام الصحراء و حباب النيل. نرقص زين ونعرض زين.. وإفانكا وسطنا ترقص بالثوب السوداني وتشتت الشبال شمال ويمين). و شبت في جلده قشعريرة وشعر بذات النشوة التي شعر بها أمام الدكان; سحب طاقيته للأمام بالطريقة الدرامية نفسها; وضعها على حدود حاجبيه تماما كما فعل أمام الدكان( و أخوك يطير فوق ويندق في الأرض). والحمار يتلوى مع الدرب; أطلق ضحكة( هيع.. أمانة ما وقع راجل). صحيح أنهم سخروا منه أمام الدكان لكنه كان واثقا تمام الثقة أن ذلك هو الحل. بل كان على استعداد أن يذهب إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة وأي تجمع تافه في الكون يلقي خطابه ذاك باللغة نفسها و نبرة الصوت نفسها; ولا يطرف له جفن. بدا صدره طامحا بالشرف والكبرياء وهو يضرب عليه ويقول( وليه لا. أنا هيّن ولا مقطوع لين).
كانت سعاد قد ركبت بجواره بعد أن حمل الحقائب على سطح العربة; وشعر بالشعور نفسه حين اشتم عطرها قبل شهور ثلاثة وقبل ستة وقبل سنة وربما منذ ذلك اليوم الذي مالت عليه عند شجرة الطنّدب وهي تعلمه فك الخط على رمل التل. رائحة الدهن الذي وضعته لها أمها في شعرها لا تفارق ذاكرته. وربما لم تكن تدهن شعرها بذلك الدهن لكنها ذاكرة عاشق عريق. بدا يرتب أفكاره; يدير الكاسيت أولا على الأغنية التي تحب سعاد; وفي الأثناء يسرد لها الأخبار والقصص التي حدثت معه في غيابها; أم يتركها تحكي له عن حياتها في الجامعة. وقبل أن يستقر على رأي قاطعته سعاد بفرح صاخب: أخيرا جاء الرد. ربحت فرصة في برنامج الهجرة لأمريكا.
التفاعلات: علي صلاح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...