حسن القوطي رجل ناهز الستين، وهوايته السرية جمع السكاكين! حضرته من معالم شارع المطاعم. يزعمون أنه لا يعرف من صنعاء إلا هذا الشارع فقط، إذ لم يُر خارجه راكباً أو راجلاً قط. لذا يتهامسون في قفاه أنه ارتكب جريمة قتل في قريته، وفر متوارياً في أمعاء “شارع المطاعم” المغلق والمكتفي بذاته.
حتى لقبه الذي يُنادى به يبدو مزحة أكثر من كونه صالحاً للاستخدام كاسم لعائلة محترمة. وعلى ما يبدو فإنهم ينبزونه بهذا اللقب موحين بدلالات فاحشة، فـ”القوطي” كلمة تُطلق على العلبة الفارغة التي تستخدم ككوب للشاي.
يُقال إن اسمه الحقيقي غير معروف، كما لا يعرف أحد من أين ينحدر بالضبط، لأنه يذكر في كل مرة اسماً مختلفاً لمسقط رأسه. لكنه مع هذا محبوب من عموم زملائه العمال في الشارع، فهو أقدمهم ويعمل في المطعم الأكثر شهرة وفي تخصص نادر.. جميع الزبائن يشهدون له بأنه أفضل من يصنع “العصيدة” في شارع المطاعم بل والمدينة كلها.
عندما يُغلق المطعم أبوابه قرب منتصف الليل ينصرف جميع العمال باستثناء (حسن القوطي) الذي عقد اتفاقاً مع صاحب المطعم وورثته من بعده على أن يقوم بغسل أرضية المطعم ومسحها مقابل بياته.
أتى زبون وهو يحمل خبزه ملفوفاً بورق جريدة. بعد أن دفع الحساب وغادر، التقط (حسن القوطي) صفحة الجريدة المدعوكة وبسطها وراح يتظاهر بأنه يقرأ جاهلاً أنها باللغة الإنجليزية. لاحظتُ شيخ العصادين مخاوصة.. وجهه مستدير يخلو من التجاعيد، حليق الذقن والشاربين، أدعج العينين، شعره قصير أسود باستثناء فوديه لكأنما رأسه جبل مكلل بالثلوج قُلب إلى الأسفل، قصير القامة، قوي البنية، ويملك ذراعين مفتولين يليقان بمصارع.
بعد برهة سمعته يقهقه. سألته ما الأمر، فقال إن دولة “الخُلُوص” التي تم إنشاؤها في الصيف الماضي كحاجز بين دولتين إسلاميتين متعاديتين قد نشرت إعلاناً عن حاجتها إلى عدد ضخم من العمالة الماهرة في عدد لا يحصى من التخصصات.
انتبهتُ بكل حواسي وسألته إن كان العرض ما يزال سارياً، فقال: “نعم”. طلبتُ منه بحماس أن يبحث ما إذا كانوا يطلبون أدباءً. رأيته يمر بسبابته على القوائم وذكر لي أنهم يطلبون: خبراء تنمية بشرية، مبرمجين، خبراء سياسات، إداريين، إعلاميين، مهندسين، أطباء، معلمين، أكاديميين، عمال نظافة، جليسات أطفال، عمال طلاء، نجارين، حدادين، خادمات، كهربائيين، سباكين، خبازين، طهاة، ندل، أئمة وخطباء ودعاة، سائقين، ميكانيكيين، بقالين، حلاقين، خياطين، بوابين، عاملات كوافير ومساج ونتف شعر الساقين والمناطق الحساسة، بائعين جائلين، حواة وسحرة ومنجمين وقراء وقارئات فناجين.. الخ. كانت القوائم مفصلة بدقة وتضم مئات التخصصات المطلوبة، بل حتى أنهم طلبوا لصوصاً ونصابين لأجل جعلها تبدو دولة حقيقية! وأما المرتبات فكانت مغرية وبالدولار الأمريكي.
قلت: “ليس معقولاً أنهم لم يطلبوا أدباء.. ربما أنت لا تعرف الكلمة الصحيحة باللغة الإنجليزية”. بان الغضب في وجهه: “هذا التخصص غير مطلوب، لقد قرأت الإعلان جيداً”. داهمني الإحباط: “ولكن لماذا يستبعدون الأدباء؟؟”. وضع (حسن القوطي) رجلاً على رجل وتكلم كفيلسوف: “لعلهم يرون أن الأدب مهنة وضيعة!”. أغاظني جوابه فقررتُ مناكفته: “الكلام نفسه ينطبق عليك أنت أيضاً.. هل طلبوا عصادين؟”. تنحنح محرجاً: “لا”. قلت: “أرأيت.. أنت أيضاً تعمل في مهنة وضيعة لا تُشرّف تلك الدولة المولودة حديثاً.. كان عليك أن تتعلم صنع البيتزا أو اللازانيا أو إعداد شطائر الهامبورغر”. بعد هذا الهجوم الشرس انكمش (حسن القوطي) على نفسه: “العصيدة من الوجبات المهددة بالانقراض، والواجب الأخلاقي يُحتم عليهم أن يراعوا مثل هذه الأمور”. انفجرتُ ضاحكاً من تخريجات شيخ العصادين حتى أنه استحيا واحمرّت أذناه. سألته أين تعلم الإنجليزية فلم يُجب، ألححتُ عليه فنظر حواليه متأكداً من خلو المطعم ثم أسرّ لي بشيء لم يخطر لي على بال.. قال إنه يحمل شهادة ليسانس أدب إنجليزي من الجامعة الأمريكية ببيروت! فتحتُ فمي على مصراعيه وألجمتني الدهشة، سألني: “ما بك؟”. فصارحته بأنني كنت أحسبه أمياً! تأوه ورفع بصره إلى الأعلى وكأنه ينظر إلى الذي يعتصم بالأعالي، ثم أخبرني عن مغامرات شبابه في بيروت وعن غرامياته مع الكرديات، وكيف آل به الأمر ناشطاً قومياً كردياً ومناصراً للقضية الكردية! قال: “الكردية هي أجمل نساء الأرض وجهاً وروحاً.. جميع النساء أنوثتهن ناقصة، باستثناء الكردية أنوثتها كاملة”. سكتْ مستعيداً ذكرياته في سبعينات القرن الماضي. تابع وقد شرخ الحزن تقاطيعه: ” ولكنهن يفقدن جمالهن بسرعة كالورود التي تتفتح لأمد قصير ثم يعتريها الذبول.. ربما السبب أنهن بلا وطن يضمهن بحنان!”. تحدث عن قراءاته في الأديان، وكيف أخرجته تلك المطالعات من اليقين إلى الشك. قال إنه تعمق في المذاهب الإسلامية واكتشف أن وقته ذهب هدراً. ذكر أنه عمل صحافياً بعد تخرجه ونوى أن يستقر في بيروت، ولكن نشوب الحرب الأهلية أجبره على الإياب إلى أرض الأجداد.
سألته لماذا اختصر الوطن في جزء صغير منه – شارع المطاعم- واستغنى عن الحياة خارجه، قال إنه بعد عودته من بيروت حصل على وظيفة مرموقة في وزارة الإعلام وبمرتب خيالي، وكان الجميع يتوقع له مستقبلاً زاهياً، لكن حظه السعيد لم يدم.. بعد مقاومة شديدة رضخ وتكلم بصوت خفيض أنه أحب ابنة مسئول كبير في الدولة، وأنها هي الأخرى بادلته الحب، فكانا يلتقيان بعيداً عن العيون ثم انكشف أمرهما.. حسر رداءه عن ذراعيه وأراني ندوباً قديمة، كشف عن صدره وأبصرتُ آثار طعنات “الجنابي” تلوح خطوطاً بيضاء خالية من الشعر على جلده الأسمر. قال إنه تلقى سبع عشرة طعنة ورغم ذلك كتبت له حياة.
وجهتُ له سؤالاً حرجاً، انزعج ولكن انزعاجه تلاشى بسرعة وأخبرني باسمه. قلت له إن ذلك المسئول قد لاقى قتلة شنيعة، قال إنه يعرف ذلك. فسألته: “لماذا تختبئ إذاً؟”. قال وعيناه تترقرق فيهما الدموع: “لقد أحببتُ هذا المكان.. إن فيه روحاً تواسي الحزانى والمتعبين من الحياة. الذين يأتون إلى هذا الشارع هم غالباً أشخاص خسروا شيئاً ما.. وحين يجد المرء أمثاله تستريح نفسه وتهون عليه خسارته، إذ بعفوية ودون تخطيط يتقاسم أحزانه مع الآخرين وحتى دون قول كلمة واحدة. إنه شارع المهزومين! وليس بالضرورة أن يكون للهزيمة ذاك المعنى السلبي.. أحياناً يسعى الإنسان إلى الهزيمة بإرادته.. ولعل هذا هو خياره الذي يمليه عليه ضميره”.
اتكأ على مرفقيه وخبأ وجهه بين راحتيه وأُجهش بالبكاء. احترمتُ بكاءه ولم أنبس بحرف. ردد اسمها الصريح وهو ينوح بحرقة، ثم همهم بصوت لا يكاد يسمع أنها لم تكف عن حبه.. لم تتزوج.. ولم تيأس أبداً من أنه سيظهر في حياتها مجدداً ليطلب الزواج منها.
كاتب يمني، صنعاء
حتى لقبه الذي يُنادى به يبدو مزحة أكثر من كونه صالحاً للاستخدام كاسم لعائلة محترمة. وعلى ما يبدو فإنهم ينبزونه بهذا اللقب موحين بدلالات فاحشة، فـ”القوطي” كلمة تُطلق على العلبة الفارغة التي تستخدم ككوب للشاي.
يُقال إن اسمه الحقيقي غير معروف، كما لا يعرف أحد من أين ينحدر بالضبط، لأنه يذكر في كل مرة اسماً مختلفاً لمسقط رأسه. لكنه مع هذا محبوب من عموم زملائه العمال في الشارع، فهو أقدمهم ويعمل في المطعم الأكثر شهرة وفي تخصص نادر.. جميع الزبائن يشهدون له بأنه أفضل من يصنع “العصيدة” في شارع المطاعم بل والمدينة كلها.
عندما يُغلق المطعم أبوابه قرب منتصف الليل ينصرف جميع العمال باستثناء (حسن القوطي) الذي عقد اتفاقاً مع صاحب المطعم وورثته من بعده على أن يقوم بغسل أرضية المطعم ومسحها مقابل بياته.
أتى زبون وهو يحمل خبزه ملفوفاً بورق جريدة. بعد أن دفع الحساب وغادر، التقط (حسن القوطي) صفحة الجريدة المدعوكة وبسطها وراح يتظاهر بأنه يقرأ جاهلاً أنها باللغة الإنجليزية. لاحظتُ شيخ العصادين مخاوصة.. وجهه مستدير يخلو من التجاعيد، حليق الذقن والشاربين، أدعج العينين، شعره قصير أسود باستثناء فوديه لكأنما رأسه جبل مكلل بالثلوج قُلب إلى الأسفل، قصير القامة، قوي البنية، ويملك ذراعين مفتولين يليقان بمصارع.
بعد برهة سمعته يقهقه. سألته ما الأمر، فقال إن دولة “الخُلُوص” التي تم إنشاؤها في الصيف الماضي كحاجز بين دولتين إسلاميتين متعاديتين قد نشرت إعلاناً عن حاجتها إلى عدد ضخم من العمالة الماهرة في عدد لا يحصى من التخصصات.
انتبهتُ بكل حواسي وسألته إن كان العرض ما يزال سارياً، فقال: “نعم”. طلبتُ منه بحماس أن يبحث ما إذا كانوا يطلبون أدباءً. رأيته يمر بسبابته على القوائم وذكر لي أنهم يطلبون: خبراء تنمية بشرية، مبرمجين، خبراء سياسات، إداريين، إعلاميين، مهندسين، أطباء، معلمين، أكاديميين، عمال نظافة، جليسات أطفال، عمال طلاء، نجارين، حدادين، خادمات، كهربائيين، سباكين، خبازين، طهاة، ندل، أئمة وخطباء ودعاة، سائقين، ميكانيكيين، بقالين، حلاقين، خياطين، بوابين، عاملات كوافير ومساج ونتف شعر الساقين والمناطق الحساسة، بائعين جائلين، حواة وسحرة ومنجمين وقراء وقارئات فناجين.. الخ. كانت القوائم مفصلة بدقة وتضم مئات التخصصات المطلوبة، بل حتى أنهم طلبوا لصوصاً ونصابين لأجل جعلها تبدو دولة حقيقية! وأما المرتبات فكانت مغرية وبالدولار الأمريكي.
قلت: “ليس معقولاً أنهم لم يطلبوا أدباء.. ربما أنت لا تعرف الكلمة الصحيحة باللغة الإنجليزية”. بان الغضب في وجهه: “هذا التخصص غير مطلوب، لقد قرأت الإعلان جيداً”. داهمني الإحباط: “ولكن لماذا يستبعدون الأدباء؟؟”. وضع (حسن القوطي) رجلاً على رجل وتكلم كفيلسوف: “لعلهم يرون أن الأدب مهنة وضيعة!”. أغاظني جوابه فقررتُ مناكفته: “الكلام نفسه ينطبق عليك أنت أيضاً.. هل طلبوا عصادين؟”. تنحنح محرجاً: “لا”. قلت: “أرأيت.. أنت أيضاً تعمل في مهنة وضيعة لا تُشرّف تلك الدولة المولودة حديثاً.. كان عليك أن تتعلم صنع البيتزا أو اللازانيا أو إعداد شطائر الهامبورغر”. بعد هذا الهجوم الشرس انكمش (حسن القوطي) على نفسه: “العصيدة من الوجبات المهددة بالانقراض، والواجب الأخلاقي يُحتم عليهم أن يراعوا مثل هذه الأمور”. انفجرتُ ضاحكاً من تخريجات شيخ العصادين حتى أنه استحيا واحمرّت أذناه. سألته أين تعلم الإنجليزية فلم يُجب، ألححتُ عليه فنظر حواليه متأكداً من خلو المطعم ثم أسرّ لي بشيء لم يخطر لي على بال.. قال إنه يحمل شهادة ليسانس أدب إنجليزي من الجامعة الأمريكية ببيروت! فتحتُ فمي على مصراعيه وألجمتني الدهشة، سألني: “ما بك؟”. فصارحته بأنني كنت أحسبه أمياً! تأوه ورفع بصره إلى الأعلى وكأنه ينظر إلى الذي يعتصم بالأعالي، ثم أخبرني عن مغامرات شبابه في بيروت وعن غرامياته مع الكرديات، وكيف آل به الأمر ناشطاً قومياً كردياً ومناصراً للقضية الكردية! قال: “الكردية هي أجمل نساء الأرض وجهاً وروحاً.. جميع النساء أنوثتهن ناقصة، باستثناء الكردية أنوثتها كاملة”. سكتْ مستعيداً ذكرياته في سبعينات القرن الماضي. تابع وقد شرخ الحزن تقاطيعه: ” ولكنهن يفقدن جمالهن بسرعة كالورود التي تتفتح لأمد قصير ثم يعتريها الذبول.. ربما السبب أنهن بلا وطن يضمهن بحنان!”. تحدث عن قراءاته في الأديان، وكيف أخرجته تلك المطالعات من اليقين إلى الشك. قال إنه تعمق في المذاهب الإسلامية واكتشف أن وقته ذهب هدراً. ذكر أنه عمل صحافياً بعد تخرجه ونوى أن يستقر في بيروت، ولكن نشوب الحرب الأهلية أجبره على الإياب إلى أرض الأجداد.
سألته لماذا اختصر الوطن في جزء صغير منه – شارع المطاعم- واستغنى عن الحياة خارجه، قال إنه بعد عودته من بيروت حصل على وظيفة مرموقة في وزارة الإعلام وبمرتب خيالي، وكان الجميع يتوقع له مستقبلاً زاهياً، لكن حظه السعيد لم يدم.. بعد مقاومة شديدة رضخ وتكلم بصوت خفيض أنه أحب ابنة مسئول كبير في الدولة، وأنها هي الأخرى بادلته الحب، فكانا يلتقيان بعيداً عن العيون ثم انكشف أمرهما.. حسر رداءه عن ذراعيه وأراني ندوباً قديمة، كشف عن صدره وأبصرتُ آثار طعنات “الجنابي” تلوح خطوطاً بيضاء خالية من الشعر على جلده الأسمر. قال إنه تلقى سبع عشرة طعنة ورغم ذلك كتبت له حياة.
وجهتُ له سؤالاً حرجاً، انزعج ولكن انزعاجه تلاشى بسرعة وأخبرني باسمه. قلت له إن ذلك المسئول قد لاقى قتلة شنيعة، قال إنه يعرف ذلك. فسألته: “لماذا تختبئ إذاً؟”. قال وعيناه تترقرق فيهما الدموع: “لقد أحببتُ هذا المكان.. إن فيه روحاً تواسي الحزانى والمتعبين من الحياة. الذين يأتون إلى هذا الشارع هم غالباً أشخاص خسروا شيئاً ما.. وحين يجد المرء أمثاله تستريح نفسه وتهون عليه خسارته، إذ بعفوية ودون تخطيط يتقاسم أحزانه مع الآخرين وحتى دون قول كلمة واحدة. إنه شارع المهزومين! وليس بالضرورة أن يكون للهزيمة ذاك المعنى السلبي.. أحياناً يسعى الإنسان إلى الهزيمة بإرادته.. ولعل هذا هو خياره الذي يمليه عليه ضميره”.
اتكأ على مرفقيه وخبأ وجهه بين راحتيه وأُجهش بالبكاء. احترمتُ بكاءه ولم أنبس بحرف. ردد اسمها الصريح وهو ينوح بحرقة، ثم همهم بصوت لا يكاد يسمع أنها لم تكف عن حبه.. لم تتزوج.. ولم تيأس أبداً من أنه سيظهر في حياتها مجدداً ليطلب الزواج منها.
كاتب يمني، صنعاء